Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 3 أبريل 2023

ج. التوجيهات الإلهية للفرد المسلم من خلال القصص القرآني في سورة القصص المحامي الدكتور مسلم اليوسف



ج. التوجيهات الإلهية للفرد المسلم من خلال القصص القرآني في سورة القصص المحامي الدكتور مسلم اليوسف

القصص القرآني في سورة القصص

بقلم

المحامي الدكتور مسلم اليوسف

http://www.saaid.org/Doat/moslem

abokotaiba@hotmail.com

{ المقدمة }

الحمد لله حمداً كثيراً على نعمه التي لا تعد ولا تحصى , وصلى الله على رسولنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

وبعد :

إن الحياة على هذه الأرض بالنسبة للشاب العصري حياة صعبة كثيرة العقبات والمتاهات ولابد للمسلم الذي يبتغي حياة حسنة ونعيماً أبدياً في الآخرة من الأخذ بكل ما في القرآن الكريم من هدى ونور فيجعلها المقياس الذي يقيس أفعاله والمصباح الذي ينير دربه . لقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالة سمحة سهلة تتسع لكل مطالب الناس وتفي بمستلزمات الحياة سواء كان ذلك يتصل بتنظيم الدنيا أو الدين .

هذه الرسالة العظيمة فصلت بكل ما يتعلق بالشؤون الدينية الصرفة تفصيلاً دقيقاً يجعل المؤمن على بصيرة في أمره . وعلى هدى مستقيم وهي في الوقت نفسه قد أجملت ما يتعلق بتنظيم الدنيا واستغلال خيرات الكون لتتيح للمسلم سبيل التقدم والتطور .

ولكي يستطيع المسلم أن يتقدم ويتطور لابد له من دراسة القرآن دراسة عميقة وفق دراسة وفهم السلف الصالح . لذلك حاولت دراسة هذه السورة الكريمة دراسة موضعية , وحاولت أن استنتج ما في هذه السورة الكريمة من توجيهات إلهية للفرد المسلم من خلال قصصها الكريمة .

فقسمت البحث إلى ثلاثة أبواب وأعطيت كل باب منها عنواناً ملائماً لمضمون الآيات أيضاً قسمت كل باب منها إلى مباحث تلائم الموضوع , فكان البحث على النحو التالي :

الباب الأول : سبعة مباحث .

الباب الثاني : خمسة مباحث .

الباب الثالث : مبحثين فقط .

وبدأت تلك المباحث والأبواب بتمهيد عرفت فيه القصة لغة واصطلاحاً وبينت بعض خصائص القصة القرآنية وأهدافها , ثم بدأت بالباب الأول وأعطيته عنواناً ملائماً لموضوع الآيات وكذلك كانت باقي الأبواب .

(1/1)

أما عن طريقة معالجتي للأبحاث فكانت على النحو التالي :

لقد استعنت بأمهات كتب التفسير لفهم وشرح الآيات وكذلك استعنت ببعض الكتب الحديثة التي تعالج القصة عموماً والقصة القرآنية خصوصاً وحاولت جهدي أن استخلص التوجيهات الإلهية من الآيات فكان هذا البحث المتواضع .

وأخيراً ختمت البحث بخاتمة لخصت بها البحث وبينت أهميته للفرد المسلم فأرجو أن يكون عملي هذا لوجه الله تعالى مفيداً لعموم المسلمين .

والله من وراء القصد .

د. مسلم اليوسف

... حلب سورية

... هاتف : 00963955453111

{ التمهيد }

القصة فن من الفنون له مكانته العالية الشامخة في الآداب العالمية حتى اعتبارها كثير من النقاد المعاصرين " سيدة الآداب المنثور " دون ريب , لهذا اتخذها كبار الكتاب وسيلة للتعبير واشتهر عن طريقها معظم الأدباء العالميين .(1)

وليست هذه المكانة الهامة للقصة قاصرة على زمن معين دون سواه , بل هي كما يرى والترابن(2):

" أكثر الأنواع الأدبية فعالية في عصرنا الحديث بالنسبة للوعي الأخلاقي ذلك لأنها تجذب القارئ لتدمجه في الحياة المثلى التي يتصورها الكاتب كما تدعوه ليضع خلائقه تحت الاختبار , إلى جانب أنها تهبنا من المعرفة ما لا يقدر على هبته أي نوع أدبي سواها وتبسط أمامنا الحياة الإنسانية في سعة وامتداد وعمق وتنوع ".(3)

القصة لغة واصطلاحا واطلاقات القرآن الكريم عليها :

يستعمل القرآن الكريم في التعبير عن هذا اللون من موضوعاته الكلمات الدالة المعبرة عن الحقائق والمقاصد الضخمة التي تشتمل عليها .(4)

القصة لغة : نذكر من هذه الكلمات " قصص – قص أثر أي تتبعه .

قال تعالى : " فارتدا على آثارهما قصصاً " .

__________

(1) - سلام , محمد زعلوم , دراسات في القصة العربية الحديثة , القاهرة ص3 .

(2) - كتاب انكليزي .

(3) - المرجع السابق ص3 .

(4) - عتر , نور الدين , القرآن الكريم والدراسات الأدبية , جامعة دمشق , كلية الشريعة عام 1988 م0ص0220 .

(1/2)

والقصة : الآمر الحديث وقد اقتصيت الحديث : رويته على وجهه . والقصص , بكسر القاف جمع القصة التي تكتب والأقصوصة جمع أقاصيص القصة القصيرة .(1)

القصة اصطلاحاً : يعرف الأدباء المعاصرون القصة تعريفات شتى لعل أقربها إلى جوهر القصة الحديثة هي :

" حكاية نثرية طويلة تستمد من الخيال أو الواقع أو منهما معاً , وتبنى على قواعد معينة من الفن الكتابي ".(2)

أما القصص القرآني فهو من القصص الواقعي التاريخي كما صرح بذلك القرآن في آياته .(3)

خصائص القصة القرآنية وأهدافها :

إن أكثر خصائص القصة القرآنية وضوحاً هي :

أولاً – الإيجاز : إن خاصة الإيجاز المعجز فيما أورده القرآن الكريم من أخبار الأمم وقصص الرسل والأيام الغابرة من الخصائص الجديرة بأن تلفت نظر الباحث ليتعمق بها بكل ما فيها من آلام وآمال وعبر ومواقف عظيمة وعصبية .(4)

ثانياً – وحدة الغاية في كل ما ورد في القرآن الكريم من أخبار وأنباء وقصص(5)فهي دعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى . وهذه الغاية تتكون من عناصر أهمها :

1- أن الله واحد لا شريك له .

2- أن قدرة الله سبحانه وتعالى عظيمة غير متناهية .

3- أن الرسل عباد للرحمن يرسلهم على الناس لتهديهم إلى الدين القويم وهؤلاء الرسل أسرة واحدة يكمل بعضهم بعضاً .

4- أن هؤلاء الرسل لبشريتهم حينما يدعون الناس إلى الدين الصحيح يجدون صداً وعزوفاً , ثم لا يلبثان أن يصبحا عداوة وكرهاً .

5- أن الله جل جلاله يؤيد رسله بمعجزات لإثبات صدقهم .

6- أن الرسل يصبرون أمام جحود وعناد الكافرين(6).

__________

(1) - الجوهري , تجديد الصحاح في اللغة والعلوم دار الحضارة العربية بيروت مج 2/ 313 – 314 .

(2) - المرجع السابق ص 314 .

(3) - عتر , نور الدين , القرآن الكريم والدراسات الأدبية , ص 221 .

(4) - رضوان , فتحي , القصة القرآنية , القاهرة – دار الهلال 1978 م , ص 12 .

(5) - المرجع السابق ص 8 .

(6) - المرجع السابق ص 24 .

(1/3)

7- ولعل الغاية الكبرى والهدف الأعظم للقصة القرآنية هو :

إعجاز القرآن , وإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .

8- تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية نفوس صحبه وإخوانه من خلال نصر الله تعالى لرسله وأوليائه وزجر الضالين والمعاندين وزحزحتهم عن مواقفهم فتتأثر النفوس بحسب ما تحتاج إليه .

إذ يتولى عليها بيان نصر المؤمنين وخذلان الكافرين " وإحقاق الحق وإزهاق الباطل ويتكرر رفع راية العدل وسحق قوة الظلم من خلال القصص التي يذكرها القرآن , بل بما يقع فيه التصريح بهذا التنبيه وإثارة هذه العقبة في كثير من مناسبات القصص(1).

9- بث القيم الدينية الواضحة وترسيخ أسس الدين القويم بما يقع في طيات القصص من حوار ومواعظ يصغي إليها السامع ويتابعها القارئ سواء أكان موافقاً أو مخالفاً مؤمناً أو جاحداً لما في طبيعة القصص القرآنية من التشويق والإثارة .(2)

إن القرآن الكريم اصطفى من الأحداث التاريخية الهامة في حياة المخلوقات ما يخدم الدعوة الإسلامية ويرسخ عقيدتها ويوجه المسلم توجيهاً صحيحاً ويفتح للناس طرقاً للعبرة والعظة منها كما أنه تخير من هذه الأحداث ما رآه صالحاً لبناء الصورة المحققة لهذه الغاية .(3)

* ... * *

الباب الأول

موسى و فرعون

البحث الأول

طغيان فرعون

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى :

" طسم {1} تلك آيت الكتب المبين {2} نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون {3} إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناهم ويستحي نساهم إنه كان من المفسدين {4} ونريد أن نحق على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم الوارثين {5} ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهمان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون {6} .

__________

(1) - عتر , نور الدين , القرآن الكريم والدراسات الأدبية , ص222 .

(2) - المرجع السابق ص222.

(3) - الخطيب , عبد الكريم , القصص القرآني في منطوقه ومفهومه , بيروت لبنان 1975 ص 73 .

(1/4)

بين يدي هذه الآيات المعجزات التي فيها كثير من التوجيهات الإلهية للفرد المسلم تنير له دربه الذي قد يظلم وقد تكتنفه كثيراً من الصعوبات والأخطار والمهالك الجسدية والنفسية وغيرها ولولا رحمة الله سبحانه وتعالى علينا بإنزال هذه الآيات المباركات لتكون لنا شعلة من الضياء لتنير لنا درب السعادة والهناء ولكي تكون موجهاً للفرد المسلم في حياته الدنيوية وصعوباتها المختلفة .

لكانت حياة صعبة سوداء أليمة على عباد الله الصالحين .

قال تعالى :

" تلك آيات الكتب المبين " فهذا الكتاب واضح جلي للمؤمنين به كاشف " عن حقائق الأمور وعلم ما قد كان وما هو كائن "(1).

وهو مبين للذين آمنوا " الحق من الباطل والحلال من الحرام , وقصص الأنبياء ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم "(2). فهذه أخبار موسى عليه والسلام وفرعون تتلى على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم ليعتبر بما فيها من المواعظ والحكم المؤمنين(3).

فرعون طاغية كغيره من الطغاة في كل العصور والأزمان " تكبر وطغى"(4).

" وجاوز الحد في الظلم والعسف "(5).

واستكبر في البلاد وجعل أهلها فرقاً يقرب بعضها إليه ويسخر بعضها الآخر ويستضعف منهم بني إسرائيل فيذبح ذكورهم ويستبقي نساءهم(6).

" أنه كان من المفسدين " .

__________

(1) - ابن كثير , أبو الغداء إسماعيل , تفسير القرآن العظيم , دار الفكر , بيروت ج 3 / 379 .

(2) - القرطبي , أبو عبد الله محمد أحمد الأنصاري , الجامع لأحكام القرآن , الهيئة المصرية , العامة للكتاب 1987 , ج13 / 247 .

(3) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسيره القرآن الكريم , القاهرة 1992 م ص 575 .

(4) ابن جزي , محمد بن أحمد , تفسير ابن جوزي , دار الكتاب العربي , بيروت 1983 . ص 514 .

(5) - الخوارزمي الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن ص 575 .

(6) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن ص 575 .

(1/5)

لذلك اجترأ على قتل خلق كثير من أولاد بني إسرائيل لتصور فاسد(1).

لا يعني عن قضاء الله وقدره شيئاً إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون .

يقول تعالى : " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين " .

فالله جل جلاله أراد أن يتفضل على الذين استضعفهم فرعون وجنوده فجعلهم هداة إلى الخير(2). " وولاة وملوكاً(3)" . فهذه الآية الكريمة توجه المسلم إلى معرفة قدرة الله سبحانه وتعالى وأن أمره نافذ فإذا أراد خيراً بعبد فلا يمكن لأي مخلوق مهما كان على درجة عالية من العلم والقوة والبطش أن يقف سداً مانعاً لوصول الخير على ذلك المؤمن فعندما يقرأ المؤمن هذه الآية تسري في عروقه فتكون له سكناً ودواء ليواصل طريقه الشاق في هذا العصر الأليم الذي ضاع فيه أبناء هذا الدين ووقعوا في هاوية المادية ونسوا كتاب الله وسنة رسول الله ولم يعتبروا بما حصل للطغاة والمفسدين من أمثال فرعون وهامان وجنودهما " من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم "(4).

__________

(1) - البيضاوي , عبد الله بن عمر بن محمد بن علي , أبو الخير , ناصر الدين تفسير البيضاوي , دار المعرفة , ج2 / 209 .

(2) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن العظيم , ص 575 .

(3) - النسفي , أبو البركان عبد الله بن أحمد بن محمود , المسمى مدارك التنزيل وحقائق التأويل , دار الفكر , بيروت , ج2 / 226 .

(4) - البيضاوي , عبد الله بن عمر بن محمد بن علي , أبو الخير , ناصر الدين تفسير البيضاوي , ج2 / 209 , وانظر , الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي مفاتيح الغيب المعروف بالتفسير الكبير , الطبعة الثانية بالمطبعة العامرية الشرقية – 1324 هجرية .

ج / 6 / 425 .

(1/6)

فهذا نبي الله موسى قتل فرعون من أجله ألوفاً من أطفال بني إسرائيل ثم تربى على فراشه وفي داره أكل طعامه وشرب فكان أمر الله . فأهلك على يديه فرعون وآله " لتعلم أن رب السموات العلا هو القاهر الغالب العظيم القوي العزيز الشديد المحال الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن(1)" .

إن هذه الآيات البينات تبين لنا أن النسب والقرابة من الأنبياء والرسل لانتفع الذين كفروا , فهذا فرعون تبنى موسى ورباه في داره وعلى سريره فلم يغن ذلك عنه من الله شيئاً كذلك لا تنفعنا قرابتنا ونسبنا من رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إن لم نكن مؤمنين بالله ومحمد رسول الله .

ففرعون قد علا في الأرض يظلم ويستبد ويتخذ من رعيته سيوفاً يضرب بعضها بعضاً " وتلك عادة الطغيان في كل زمان ومكان لا يدع الرعية تتماسك وتتحاب خوفاً من تكتلها على إزالة سلطانه والقضاء على غطرسته "(2).

بيد أن الله جل جلاله قد قتله وجعله عبرة لمن يعتبر فتلك سنة الله سبحانه في الطغاة والجاحدين سمعناها من خلال فرعون وآله ورأيناها في رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام وعايشناها في حياتنا الحاضرة " فحياتنا الحاضرة أكبر شاهد وأوضح مثال فهي سنة مطردة يعامل الله بها كل من حاد عن طريقه وطغى "(3). أو أبعد الناس عن طريق الإسلام والهدى والرشاد .

لنأخذ بعض الآيات ولنحاول أن نستظل بها في هذا العصر الأليم .

قال تعالى : " نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون" ولكن من هم أولئك الذين يستطيعوا أن يستفيدوا من توجيهات تلك الآيات والخالق العظيم قد ذكرهم في كثير من الآيات . قال تعالى :

__________

(1) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل , تفسير القرآن العظيم ج3 / 380 .

(2) - شلتوت , محمود إلى القرآن الكريم , دار الهلال , 1964 , ص141 .

(3) - المرجع السابق ص 141 .

(1/7)

" ألم " ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين " الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يؤمنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون "(1).

وهكذا نرى أن الذين يستفيدون من الحكم والتوجيهات الإلهية هم الذين يؤمنون بالغيب بكل ما فيه وهم الذين يقيمون الصلاة ومما رزقهم ربهم ينفقون . وذكر البيان الإلهي أيضاً شروطاً أخرى هي الإيمان بجميع الكتب التي أنزلت قبل القرآن الكريم والإيمان اليقيني باليوم الآخر هؤلاء هم الذين يستفيدون من التوجيهات الإلهية المتواجدة في الآيات البينات .

قال تعالى :

" إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحي نساهم إنه كان من المفسدين " .

تأمل أخي المؤمن هذه الصورة المنقوشة في هذه الآية تجد لها بكل تأكيد نسخا في كل العصور على مر الأزمان فلكل عصر من العصور فرعون وفي هذا العصر الأليم ليس فرعونا واحداً بل فراعنة .

لقد تكاثر علينا الفراعنة حتى وجد في داخل كل منا فرعونه الخاص به يقاومه حيناً ويغلبه حينا ويغلب حيناً آخر .

الروح الفرعونية تسري في عروقنا مع الدماء تلوث دمانا وهوانا وأفكارنا وعقولنا . لقد اختلت مشيتنا وزاغ نظرنا وتلعثم لساننا . نسينا لغتنا أهملنا قرآننا وسنة نبينا , ركضنا مع الراكضين وزحفنا مع الزاحفين وغلبنا مع المغلوبين .

تاهوا وتهنا , ضاعوا فضعنا . قالوا فقلنا . فعلوا ما فعلينا , هجموا ما هجمنا , انتصروا ما انتصرنا . شلت أقدمنا ونشفت أقلامنا وتعفنت جروحنا ما بقى من أوصاف المهزومين صفة إلا ونسبت إلينا .

خططوا فنفذنا , ابتدعوا فاعتقدنا , قالوا فسمعنا وحفظنا .

__________

(1) - سورة البقرة , الآية – 1 – 5 .

(1/8)

ولكن لكل شيء نهاية ولكل فرعون موسى ألا حانت ساعتك يا فرعون هذا العصر . جميع الأمة من شبابها وكهولها , أطفالنا ونساها تنادي موسى العصر . لقد حان موعدك يا فرعون لقد حان موعدك يا فرعون .

لقد قتل فرعون الأبناء واستحي النساء وأفسد في الأرض ما أفسد استضعف البشر وجعلهم شيعاً .

وفراعنة هذا العصر يقلدون إمامهم الأكبر ذبحونا في البوسنة والهرسك قتلوا الأبناء وفتكوا بالنساء وأفسدوا في الأرض ما أفسدوا وها أنا الآن أتصفح كتاب أسمه " إستراتيجية التنصير في العالم الإسلامي "(1).

اقرأ فيه المؤامرات التي تحاك على جوهرة التوحيد الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله , المؤامرة تلو المؤامرة تنسج وتحاك في الخارج ثم تصدر إلينا ليشتريها المسلمون ونحن ههنا قاعدون متوكلون لا نحرك ساكناً .

أخي المؤمن : أنت ترى كم نحن مستضعفون في الأرض يذبح أبنونا في كل مكان وتستحي نسائنا وتمحى عقولنا وثقافتنا بأيدينا . ألم يحن بعد ساعة التأمل والتفكير .

أخي المؤمن : بدون تردد تعال نقول ونفعل ما قال الخالق العظيم في كتابه الكريم .

" فقل تعالوا ندع أبنانا وأبناكم ونسأكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين "(2).

" قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً من دون الله فإن تولوا فقالوا اشهدوا بأنا مسلمون "(3).

والله سبحانه وتعالى سيكون معنا , قال تعالى :

" ونريد أن يمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة وجعلهم الوارثين " .

فالله سبحانه وتعالى يمن على الذين اضعفوا في الأرض نجعلهم أئمة وجعلهم الوارثين .

__________

(1) - عمارة , محمد , إستراتيجية التنصير في العالم الإسلامي , مركز دراسات العالم الإسلامي الطبعة الأولى شتاء 1992 م .

(2) سورة آل عمران . الآية 61 .

(3) سورة آل عمران . الآية 63 .

(1/9)

ونحن أمة الإسلام استضعفنا في الأرض وحان موعد العودة إلى كتاب الله وسنة رسول الله ليمن الله علينا فيجعلنا أئمة ويجعلنا الوارثين كما فعل مع أجدادنا الصالحين .

أخي المسلم عد إلى كتاب الله وسنة رسول الله وسوف يمكن لنا الله تعالى الأرض مهما كان عدوما جباراً وقوياً فالله سبحانه وتعالى عز وجل

قال تعالى : " ونمكن لهم الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون " .

فالله سبحانه وتعالى مكن المستضعفين في الأرض فجعلهم أئمة يهدون إلى الخير بأمر ربهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .

ونحن أيضاً سيرضى علينا الخالق العظيم فيمكن لنا ديننا الذي أرضاه لنا فيجعلنا أئمة ندعو إلى الخير بالمعروف وننهى عن المنكر والله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء .

* * *

المبحث الثاني

كيد الظالمين في نحورهم

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى :

" وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين {7} فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزنا ً إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين {8} وقالت امرأت فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون {9} " .

بين أناملي هذه الآيات العظام المعجزات التي تحوي بين طياتها توجيهات لا تقوم بثمن لما فيها من النكث البلاغية والصور البيانية والحكم التي توجه المسلم نحو حياة أفضل وأسهل .

يقول جل جلاله :

" وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " .

روي أن فرعون لما أكثر من قتل مواليد بني إسرائيل خافت القبط أن يغني بني إسرائيل فيلون هم ما كانوا يلونه من الأعمال الوضيعة الشاقة .

(1/10)

فقالوا لفرعون إنه يوشك أن استمر هذا الحال أن يغني شيوخ بني إسرائيل وغلمانهم يقتلون نساؤهم لا يمكن أن يقمن بما تقوم به رجالهم من الأعمال الشاقة فيخلص إلينا ذلك فأمر بقتل الوالدان عاماً وتركهم عاماً فولد هارون في السنة التي يتركون فيها الولدان وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها الولدان(1).

وألهم الله سبحانه وتعالى أم موسى عليه السلام أن أرضعيه مطمئنة الفؤاد فإذا خشيت عليه من فرعون أن يعرف أمره ضعيه في صندوق وألقيه في النيل غير خائفة ولا محزونة . فقد تكفل الله بحفظه ورده إليها وأنه جل جلاله مرسله إلى بني إسرائيل(2).

والجدير بالذكر هنا أن قوله تعالى :

" وأوحينا إلى أم موسى ليس بوحي نبوه بل ألهمناها وقذفنا في قلبها فالنساء لا يمكن أن يكن مرسلات أو نبيات بل يمكن أن يكن صالحات ووليات .

فقذفته في اليوم خوفاً عليه وطمعاً في نجاته فأخذه أتباع فرعون ليتحقق ما قدره الله سبحانه وتعالى بأن يكون موسى عليه السلام هاديا ورسولاً للمؤمنين وعدوا لدوداً لفرعون وآله مثيراً لأحزانهم(3)وهادماً دنياهم ودينهم ففرعون وهامان وأمثالهم في كل مكان وزمان كانوا خاطئين في كل شيء " عاصين ربهم في أفعالهم " .

فعاقبهم الله سبحانه وتعالى فربى عدوهم ومزيل ملكهم ومن هو سبب هلاكهم على أيديهم(4).

__________

(1) - ابن كثير , أبو الغداء إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم ج 3/ 38 بتصرف .

(2) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم , ص 576 .

(3) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم , ص 576 .

(4) - النفسي , أبو البركات , عبد الله بن أحمد بن محمود , مدارك التنزيل وحقائق التأويل , ج2 / 227 . وأنظر , الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب , ج6 / 4225 .

(1/11)

" وقالت امرأت فرعون قرت عين لي ولك " . ذلك لما رأته قالت لزوجها هذا الطفل مبعث سرور لي ولك . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يحلف به لو أقر فرعون بأن يكون له قرة عين كما أقرت امرأته لهداة الله به كما هداها ولكنه أبى إلا للشقاء الذي كتبه الله عليه(1)" .

فهداها الله به وأسكنها الجنة بسببه عليه السلام فقبل فرعون ذلك وهو " على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه "(2). من دون أن يشعر بأن هلاكهم وفناء ملكهم على يديه(3). ذلك أن وعد الله حق فقد تكفل الله سبحانه تعالى لأم موسى بحفظه ورده إليها فكان أمر الله مفعولاً فرده إليها لتربية وتشبع عينيها منه ثم شب موسى وأرسل فكان رحمة لزوجة فرعون وحزناً لفرعون وأتباعه إلى يوم الدين .

أخي المسلم هيا بنا لنقف تحت ظلال هذه الآيات لنريح عقولنا ونستنبط ما نستطيع من توجيهات لعلها تكون لنا عوناً في هذا العصر المظلم .

قال الخالق العظيم :

" وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فالقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " .

توجهنا هذه الآية الكريمة بأن علينا إتباع أوامر الله سبحانه وتعالى مهما كانت حتى ولو ظاهرها خطر وفناء ذلك أن الله سبحانه وتعالى وعده حق فإذا وعد كان حق لقد أوحى إلى أم موسى أن ألقيه في اليم إذا خفت عليه ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك سالماً وجاعلوه من المرسلين فالخالق العظيم وعد أم موسى بسلامة موسى فكان وعده حق .

والله سبحانه وتعالى وعدنا بالنصر وإظهار الدين على كل الأديان ولوضع الكافرون المكائد والمصائد في عقول وطرق المسلمين .

__________

(1) - وانظر الخوارزمي , جار الله محمود , الكاشف , ج3 / 166 .

(2) - الخوارزمي , جار الله محمود , الكاشف ج3 / 166 .

(3) - ابن جزي , محمد بن أحمد بن جزي , تفسير ابن جزي ص 514 . وانظر مجمع البيان ج6 / 261 , وتفسير القرطبي ج13 / 254 .

(1/12)

حفروا الحفائر ووضعوا المصائد وخططوا الخطط ورجالهم نفذوا ما خططوا لهم بيد أن وعد الله حق فلا بد أن ينصرنا عليهم ولو كره الكافرون .

في الماضي البعيد احتلوا أرضنا واستعمروا شعبنا ونهبوا ثروتنا فاستطاع الأجداد بعون الله تعالى اقتلاعهم فوضعوا تلاميذهم من أبناء جلدتنا ورثوهم الضلال الذي يريدون فكان الذي كان وحصل الذي حصل بيعت فلسطين بأرخص الأسعار وفككت البلدان وفرقت على الطغاة والحاقدين .

ولكن هل نستسلم أو نيأس والله سبحانه وتعالى قد وعدنا بالنصر وإظهار دين الحق على كل الأديان .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" لا تزال عصابة من المسلمين يقاتلن على الحق ظاهرين على من ناوءاهم إلى يوم القيامة "(1).

وسنظل نؤمن بالله وبوعده وبنصره القريب . وقال تعالى :

" إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد "(2).

* * *

المبحث الثالث

إن وعد الله حق

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى :

" وأصبح فؤاد أم موسى فراغاً إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين { 10 } وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون { 11 } وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون { 12 } فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون {13}".

أمام عيني هذه الآيات الكرام التي تبرهن بأن وعد الله حق لا ريب فيه فهذه أم موسى قد أصبح فؤادها فارغاً " من كل شيء إلا ذكر موسى "(3).

__________

(1) - رواه المسلم .

(2) - سورة غافر – آية 51 .

(3) - أنظر ابن كثير , أبو الغداء إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم ج 3 / 381 .

43- القرطبي , أبو عبد الله محمد أحمد الأنصاري , الجامع لأحكام القرآن , ج13 / 255 .

(1/13)

لما دهمها من الجزع بوقوع ولدها في يد الطاغية فرعون ولكن رحمة الله واسعة فقد ربط على قلبها بالإيمان(1)ورزقها الصبر واليقين(2)لتكون من المؤمنين .

وقالت لأخته اتبعي أثره وخذي خبره وتطلبي شأنه من نواحي البلد فصبرت به عن بعد(3)وآل فرعون لا يشعرون بها { وحرمنا عليه المراضع من قبل } .

أي تحريما قدرياً ذلك لكرامته وعلو شأنه عليه السلام عند ربه عز وجل وصيانة له أن يرتضع غير ثدي أمه لأن الله سبحانه وتعالى جعل الرضاعة سبباً إلى رجوعه إلى أمه لترضعه وهي آمنة مطمئنة(4)

{ ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون } أي لتعالم بأن وعد الله حق بأنه سبحانه وتعالى سوف يرده إلى أمه لتقربه عينها وليطمئن فؤادها ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنه حق فيرتابون " وذلك لإعراضهم عن النظر في آيات الله سبحانه وتعالى "(5).

فالآيات السالفة توجهنا نحن شباب هذه الأمة لنسير سيراً منتظماً مستقيماً لا يهمنا في إتباع الحق والعمل به لومة لائم , إن الله جل جلاله يساعد المؤمنين وينقذهم من المهالك والصعاب ولعل أصدق مثال على ذلك قصة الصديقة أم موسى كادت لتبدي به لولا أن ربط الله سبحانه وتعالى على قلبها بالإيمان والنصر لتكون من المؤمنين المصدقين بوعد الله بأنه جل جلاله سيرده إليهما سالماً غانماً لتقربه عينها ويطمئن فؤادها .

لنقف عند بعض الآيات الكرام ولنستنتج ما بها من التوجيهات .

__________

(2) - ابن جزي , محمد بن أحمد , تفسير ابن جزي , ص514 .

(3) - القرطبي , أبو عبد الله محمد أحمد الأنصاري , الجامع لأحكام القرآن ج13 / 255 .

(4) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل , تفسير القرآن العظيم , ج3 / 381 .

(5) - الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب , ج6 / 429 , وانظر تفسير الكشاف ج3 / 168 ,

(1/14)

قال تعالى : " وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً وإن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين " . لنتأمل هذه الصورة التعبيرية الكريمة .

فهذه أم موسى قد أصبح فؤادها فارغاً من كل شيء غلا من ذكر موسى وتصوره بيد أن رحمة الله أوسع من كل شيء فقد رزقها الصبر واليقين لتكون من المؤمنين .

أخي المسلم كم سمعت من أم مجاهد ودعت ولدها الوداع الأخير ولولا فضل الله عليها ورحمته لأصبح مصيرها مجهولاً .

قال تعالى : " فرددناه إلى أمه كي تقرعينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون " .

نعم والله أكثر الناس لا يعلمون بأن وعد الله حق إذا ما أراد شيئاً أنه يقول له كن فيكون فنحن هاهنا ضعفاء تفترسنا الذئاب البشرية وتفتك بأجسادنا الجرائم التي زرعت فيها .

أرضنا محتلة ونفوسنا مستزلة ونحن ضعفاء على رغم من كثرتنا لا نملك من المال إلا القليل ومن السلاح إلا العتيق ولا نملك من القول إلا حروفه ومن الفعل إلا صوته .

والله أنزل علينا كتاباً قيماً لنتدبره ولنعلم أن وعد الله حق ولسوف يردنا إلى ديننا الذي ارتضاه لنا رداً حسناً ولسوف ينصرنا بفضله على أعدائنا لنقيم الحق ونزهق الباطل بكافة أشكاله وألوانه ذلك أن وعد الله حق ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

* * *

المبحث الرابع

جزاء المحسنين

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى :

" ولما بلغ أشده واستوى آتينه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين {14} ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان غنه عدو مضل مبين {15} قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم {16} قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين {17} " .

(1/15)

بين أناملي وفي قلبي هذه الآيات المبشرات التي تبشر بالخير والفلاح والعلم والحكم لعباد الله المؤمنين المحسنين فهذا نبي الله موسى عليه السلام لما بلغ " كمال القوة الجسمانية والبدنية والعقلية "(1).

وهبه الله جل جلاله فقها وعلماً بدينه ودين آبائه(2).

كذلك فإن الله عز وجل يجزي المحسنين " قال الزجاج جعل الله تعالى إيتاء العلم والحكمة محازاة على الإحسان لأنهما يؤديان إلى الجنة(3)" .

فالنبوة أعلى الدرجات البشرية فلا بد أن تكون مسبوقة بالكمال والعلم والسيرة الحسنة المرضية التي هي أخلاق الكبراء والحكماء ولكن هنا لابد من الإشارة إلى اللبس الذي يقع به البعض في تفسير قوله تعالى :

" وكذلك نجزي المحسنين " . من تفسيرها بأن النبوة يمكن اكتسابها عن طريق الإحسان بيد أن هذا اللبس يمكن أن يزال بالفهم الصحيح للآية المذكورة ذلك " أن المراد بالحكم والعلم لو كان هو النبوة لوجب حصول النبوة لكل من كان من المحسنين لقوله وكذلك نجزي المحسنين لأن قوله وكذلك إشارة على ما تقدم ذكره من الحكم والعلم ثم بين إنعامه عليه قبل قتل القبطي "(4).

وفي أحد الأيام دخل موسى عليه السلام السوق فوجد فيها رجلين يقتتلان أحدهما من شيعته والآخر من قوم فرعون فاستعان به الإسرائيلي على خصمه فأعانه عليه بضربة بقبضة يده فقتله من غير قصد(5).

__________

(1) - الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب , ج6 / 429 . وانظر تفسير البيضاوي ج2 / 209 .

(2) -في تفسير الكشاف { العلم } التوراة و{ الحكم } السنة .

(3) - النسفي , أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود , مدارك التنزيل وحقائق التأويل , ج2 / 229 وفي تفسير البيضاوي { نجزي المحسنين } مثل ذلك الذي فعلنا بموسى وأمه , نجزي المحسنين على إحسانهم .

(4) - الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب ج6 / 430 .

(5) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن , ص577 .

(1/16)

فأسف موسى وقال : " إن إقدامي على هذا من عمل الشيطان إن الشيطان لعدو ظاهر العداوة واضح الضلال "(1).

فندم موسى عليه السلام على ما فعل وتاب إلى الله توبة صادقة نصوحاً فأجاب الله سبحانه تعالى دعوته وغفر له إن الله هو الغفور الرحيم(2).

فقال موسى عليه السلام " يا رب بحق إنعامك علي بالحكمة والعلم وفقني للخير والصواب فإذا وفقتني فلن أكون عونا للكافرين "(3).

ذلك أن موسى عليه السلام كان يركب ركوب فرعون ويصحبه كالوالد لذلك تاب إلى الله تعالى(4).

وقال : " فلن أكون ظهيراً للمجرمين " .

إن الإنسان لا يبلغ أشده ويستوي ويؤتيه الله تعالى العلم والحكمة أو يؤتيه الرياسة حتى يصبح معقد أمل شيعته وقلبه شعبه(5)وخصوصاً إذا ما أنعم الله عليه بالإحسان فعمل بما علم عندها يرزق بفضل الله الحكمة ولعل هذا القانون الإلهي يجب أن أكون دافعاً وموجهاً لشباب هذه الأمة لكي تتعلم فإذا علمت وعلمت بما علمت وهبت من الله جل جلاله العلم والحكمة فتقود الأمة إلى سيرتها الأولى لتكون خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن النكر .

والجدير بالأهمية في هذه الآية هي رحمة الله الواسعة , فموسى أخطأ فغفر الله سبحانه وتعالى له الخطأ الذي ارتكبه فالله جل وعلا غفور رحيم واسع المغفرة يقبل التوبة من التائب " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يأيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فاني أتوب في اليوم مائة مرة "(6).

__________

(1) - المرجع السابق , ص577 .

(2) - انظر , الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب ج6 / 430 – 431 – وكذلك تفسير الكشاف ج3 / 168

(3) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن العظيم , ص 577 .

(4) - الزمخشري , أبو القاسم جار الله محمود , الكشاف , ج3 / 168 , انظر تفسير النسفي , ج2 ص230 .

(5) - رضوان , يحيى , القصص القرآنية , ص40 .

(6) - رواه مسلم { 2702 }

(1/17)

فهذا رسول الله يتوب إلى الله في اليوم مائة مرة ترى نحن أبناء هذه الأمة كم مليار مرة بحاجة للتوبة ليتوب الله علينا وينقذنا من هذا الجحيم الذي نحن فيه . عن أبي موسى عبد الله قيس الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها "(1)

فأسرع أخي المسلم بالتوبة والاستغفار عسى أن يتوب جل جلاله علينا , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر "(2).

لنضع بيم جوانحنا معاني هذه الآية الكريمة ولنحاول الوقوف في ظلال الآية :

" ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً وكذلك نجزي المحسنين " .

فموسى عليه السلام لما بلغ كمال القوة الجسمانية والعقلية والبدنية , وهبه الله فقهاً وعلماً بدنية ودين آبائه . قال تعالى : وكذلك نجزي المحسنين " عند هذه الآية العظيمة لنقف وقفة متأمل .

أعلم أخي المسلم أن المحسنين جزاؤهم الفوز بالدارين ولكن كيف نصل إلى مرتبة الإحسان وكيف نكون من المحسنين ونحن في عصر الصعوبات المادية والنفسية كيف نصل على مرتبة الإحسان وكيف نكون من المحسنين ونحن في عصر الصعوبات والعقبات كيف نصل إلى مرتبة الإحسان وقد تربينا على حب الشهوات وجمع الأموال والجري وراء السلطة والجاه . كيف نصل لمرتبة الإحسان وقد نسينا كتاب الله وسنة رسول الله وكل ما فعلناه هو أننا شهدنا أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله قولاً فقط . لا جرم أن الله سبحانه وتعالى يزيد الذين اهتدوا هدى وبفضل الله سبحانه وتعالى اهتدينا ونحاول بكل الطرق أن نصل إلى مرتبة الإحسان .

__________

(1) - رواه مسلم { 2760 }

(2) - رواه الترمذي 3531 وانظر رياض الصالحين ص13 .

(1/18)

أخي المسلم عليك بإخلاص وصدق الطوية وإياك ثم إياك والرياء وعليك بتلاوة القرآن وكثرة الدعاء وترتيل أذكار الصباح والمساء واحتفظ بتفسير صغير مثل تفسير الجلالين وكتاب رياض الصالحين وأقرأ كتاب تهذيب سيرة ابن هشام فيه من العبر والدروس مالا تعد ولا تحصى وعليك بكتاب حياة الصحابة لمحمد يوسف الكاندهلوي وكتب تاريخ أمتك .

أخي المسلم لا تضيع وقتك سدى وطالع في أمهات الكتب الإسلامية وعد إلى دين الله .

وأحفظ جوارحك من المعاصي ليحفظها الله لك نشيطة قوية .

أخي المسلم لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي وابتعد عن المحرمات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فما تركت بعدي فتنه أضر على الرجال من النساء " .

وعند سلوك هذا السلوك تعالى لنرفع أيدينا على الخالق العظيم ونقول اللهم يا من وهب موسى علماً وحكماً هب لنا علماً وحكماً وانصرنا على أعدائنا يا أرحم الراحمين .

* * *

المبحث الخامس

من يتوكل على الله فهو حسبه

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى :

(1/19)

" فأصبح في المدينة خائفاً يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لقوي مبين {18} فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين {19} وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين {20} فخرج منها خائفاً يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين {21} ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهدني سواء السبيل {22} ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير {23} فسقى لهما ثم تولى على الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير {24} فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين {25} قالت أحداهما يأبت استأجره أن خير من استأجرت القوي الأمين {26} قال إني أريد أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين {27} قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل {28} . "

أمامي هذه الآيات المباركات التي تقص قصة موسى عليه والسلام في أخطر مرحلة من حياته إلا وهي مرحلة الخوف والهروب . فبعد أن قتل موسى عليه السلام القبطي أصبح فارغاً يتوقع في أي لحظة أن يقع عليه الأذى من فرعون وآله .

(1/20)

فوجد الإسرائيلي الذي طلب مده بالنصرة بالأمس يستغيث به مرة ثانية على مصري آخر فهزه موسى قائلاً له : إنك لشديد الغواية(1)" قتلت بسببك بالأمس رجلاً وتدعوني اليوم لآخر "(2).

ومع هذا أخذته الرأفة بالإسرائيلي وأراد أن يفع القبطي ويبطش به فظن الإسرائيلي أن موسى يقصده فقال ليدفع عن نفسه الأذى والقتل قال : يا موسى أتريد أن تقتلني وتبطش بي كما قتلت نفساً بالأمس(3)وما تريد إلا أن تكون طاغية في الأرض ما تريد أن تكون من دعاة الخير والإصلاح(4)

فتدفع التخاصم بالتي أحسن .

قد يتبادر إلى أذهن السؤال التالي :

كيف يجوز لنبي الله موسى عليه السلام أن يقول لرجل من قومه يستعين به إنك لغوي مبين ؟ .

ربما كان الجواب على ذلك أن قوم موسى كانوا جفاة القلب غلاظاً ودليل هذا الاستنتاج قولهم لموسى بعد أن شاهدوا الآيات العظام أجعل لنا إلها كما لهم آلهة فالمراد بالغوي المبين ذلك والله أعلم(5).

__________

(1) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم , ص 578 .

(2) - القرطبي , أبو عبد الله محمد أحمد الأنصاري , الجامع لأحكام القرآن , ج 13 / 265 وانظر تفسير النسفي , ج2 / 230 .

(3) - الطبرسي , أبو علي الفضل بن الحسن , مجمع البيان في تفسير القرطبي ج 13 ص 265 .

(4) - النسفي , أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود , مدارك التنزيل وحقائق التأويل , ج2 , المصلحين في كظم الغيظ , وانظر تفسير القرطبي ج13 , ص265 .

(5) - الرازي , أبو عبد الله بن عمر , مفاتيح الغيب , ج6 / 432 .

(1/21)

ومرت لحظات عصيبة فإذا برجل من آل فرعون جاء مسرعاً ليخبر موسى عليه السلام " بأن القوم يتشاورون لقتلك ويقول له اخرج من المدينة فراراً من القتل إني لك من الناصحين(1)فخرج من مصر وحيداً من الصحبة والمال داعياً ربه متضرعاً عسى أن يخلصه منهم ويحفظه(2).

فتوجه تلقاء مدين متوكلا على ربه , فهداه بفضله " إلى الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة فجعله هادياً مهدياً(3)" .

وبعد الكثير من المشعات والصعاب وصل عليه السلام إلى مدين فوجد على جانب البئر جماعة كثير من أناس مختلفين يسقون مواشيهم ووجد في مكان أسفل من مكانهم امرأتين تدفعان غنمهما بعيداً عن الماء فقال لهما موسى عليه السلام لماذا تدفعان غنمكما عن الماء . فأجابتا : لا نستطيع الزحام ولا نسقي حتى يسقي الرعاة ذلك أن أبانا شيخ طاعن في السن لا يستطيع الرعي والسقي فتطوع نبي الله موسى يسقي أغنامهن ثم ركن إلى ظل شجرة ليريح جسده من الجهد والتعب(4).

" ولما رجعت المرأتان سريعاً بالغنم إلى أبيهما أنكر حالهما بسبب مجيئهما سريعاً فسألهما عن خبرهما فقصتا عليه ما فعل موسى عليه والسلام فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها "(5).

__________

(1) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن العظيم , ج 3 / 313 .

(2) - البيضاوي , عبد الله بن عمر بن محمد بن علي , أبو الخير , ناصر الدين تفسير البيضاوي , ج2 / 215 .

(3) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم , ج3 / 313 .

(4) الزمخشري , أبو القاسم جار الله محمود , الكشاف , ج3 / 170 . وأنظر المنتخب في تفسير القرآن الكريم , ص 578 . وتفسير النفسي . ج2 / 432 .

(5) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم , ج3 / 384 .

(1/22)

فجاءته إحدى الفتاتين , فقالت له : إن أبي يدعوك إليه ليجزيك أجر ما سقيت لنا . " وهذا تأدب في العبارة لم تطلبه طلباً مطلقاً لئلا يوهم ريبة بل قالت : أن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا "(1).

فلما ذهب إليه وقص عليه قصته مع عدو الله فرعون وهروبه من مصر قال والد الفتاتين : لا تخف , نجوت من الظالمين إذ لا سلطان لفرعون علينا هنا . وقال له شعيب عليه والسلام " إني أريد أن أزوجك من إحدى ابنتي هاتين على أن يكون مهرها العمل عندي ثماني سنوات فان أتممتها عشرا فمن عندك تطوعاً وما أريد أن ألزمك بأطول الأجلين وستجدني إن شاء الله من الصالحين المحسنين المؤمنين للعهد "(2).

فقال له موسى عليه السلام : ذلك الذي عاهدتني عليه قائم بيني وبينك فأي الأجلين قضيت أكون وفيت بعهدي والله على ما نقول شهيد .

ومما فسر – إذا صح التعبير – من الآيات الكرام أستطيع أن أستنتج التوجيهات الإلهية التالية :

1- إن من يتوكل على الله حق التوكل لا يضل ولا يشقى فهذا موسى عليه السلام خرج من مصر خائفاً ليس معه مالٌ أو طعام فدعا ربه متضرعاً " عسى ربي أن يهديني سواء السبيل " فهداه الله بفضله وبرحمته وكذلك المحسنين .

2- إن الله سبحانه وتعالى لا يترك عباده الصالحين يتخبطون في ظلمات الليالي فموسى عليه السلام أحس بأن الأرض ضاقت بما رحبت وأنه قد ابتلى بهذه الجريمة التي ارتكبها عن غير قصد فساق الله إليه رجلاً فنصحه بالابتعاد عن مصر خوفاً من أذى فرعون وآله فنجى موسى من هذا الشرك بفضل الله تعالى ورحمته وكذلك المحسنين(3).

__________

(1) - المرجع السابق , ج3 / 384 .

(2) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم , ص 578 .

(3) - رضوان , فتحى , القصة القرآنية , ص55 .

(1/23)

3- أن نساعد الضعفاء من دون أي مقابل أو عوض إلا لمرضاة الله , فهذا موسى عليه السلام وجد على الماء امرأتين تذودان فسقى لهما وانصرف إلى الظل وهو لا يبغي غلا مرضاة الله جل جلاله وكذلك المحسنون .

4- جواز الأسترحة في الدنيا بعد المشقات والتعب فموسى بعد أن سقى للمرأتين تولى على الظل ليستريح(1).

5- جواز العمل بالخبر الواحد فهذا نبي الله موسى عليه السلام جاءته إحدى الفتاتين تدعوه على أبيها فذهب معها .

6- لا بأس بالمشي مع المرأة في حال الحاجة الشديدة مع الاحتياط والتورع(2).

7- وتبين لنا الآية الكريمة " أن خير من استئجرت القوي الأمين " الصفات التي يجب أن يتحلى بها الإنسان الذي يتصدى لقيادة الأمة فبدون الكفاءة والأمانة لا يستقيم الأمر وعدم تحلي القيادة بهاتين الصفتين يؤدي إلى ضعف والتخلف والكفاءة وحدها لا تكفي إذا لم تصحبها الأمانة والأمانة وحدها لا تكفي بل لا بد من تزاوج الكفاءة مع الأمانة مع شخص القائد المسلم " وقد أشارت إلى ذلك ابنة شعيب عليه السلام حينما طلبت من أبيها أن يتعاقد مع موسى عليه السلام للعمل عنده وسجل القرآن الكريم " يا أبت استأجره إن خير من استئجرت القوي الأمين(3).

* * *

المبحث السادس

اللقاء المقدس

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى :

__________

(1) - النسفي , أبو البركان عبد الله بن أحمد بن محمود , مدارك التنزيل , وحقائق التأويل , ج2 / 232 .

(2) - الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب , ج6 / 430 . وانظر تفسير النسفي , ج2 / 232 .

(3) - بليق , عز الدين , موازين القرآن الكريم , دار الفتح للطباعة والنشر بيروت لبنان 1984 , ج2 / 165 .

(1/24)

" فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور ناراً قال لأهله امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون {29} فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين {30} وأن ألق عصاك فلما رءاها تهتز كأنها جان ولى مدبراً ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين أسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملإيه إنهم كانوا قوماً فاسقين {32} قال رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون {33} وأخي هارون هو أفصح في لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني إني أخاف أن يكذبون {34} قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطناً فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون {35} . "

أمامي هذه الآيات البينات التي تهز وجدان كل من فيه ذرة إيمان لما فيها من عبر وتوجهات وحكم إلهية .

فموسى عليه السلام قد أتم الأجل المشروط " وظهرت أنوار النبوة فسار بأهله ليشتركوا معه في لطائف صنع ربه(1)" .

__________

(1) - النسفي , أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود , مدارك التنزيل وحقائق التأويل ج2 / 234 .

(1/25)

فأبصر وهو في الطريق من ناحية جبل الطور ناراً فقال لأهله امكثوا هنا إني آنست ناراً سأذهب باتجاهها لعلي آتيكم بجذوة منها تستدفئون فلما وصل موسى إلى النار سمع من ناحية الجانب الأيمن من شجرة النابتة في البقعة المباركة بجانب الجبل نداء علوياً يقول له : " يا موسى إن الذي يخاطبك ويكلمك هو رب العالمين الفعال لما يشاء لا إله غيره ولا رب سواه تعالى وتقدس وتنزه عن مماثلة المخلوقات في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله سبحانه وتعالى "(1).

ألق عصاك فألقاها فقلبت بأمر الله ثعبانا يسعى فلما أبصرها موسى على هيئتها الرهيبة خاف وفر فزعاً ولم ينظر وراءه " فقيل له يا موسى أقبل على النداء وعد إلى مكانك ولا تخف , إنك في عداد الآمنين من كل مكروه(2).

وهذا الذي حصل لموسى خوف طبيعي أمام كل شيء مجهول أو مخيف يهدد الإنسان في ذاته ووجوده وهو ليس قاصراً على العامة من الناس بل اعتدى بعض الأنبياء كموسى كما أسلفنا(3).

إن الله سبحانه وتعالى قد وضع لموسى عليه السلام منهجاً تدريبياً قبل أن يذهب إلى فرعون فعندما ذهب موسى إلى النار حوار بينه وبين الله جل جلاله وكان الغرض من الحوار أن يأنس موسى للرسالة القادمة إليه وأن يتدرب على مواجهة الكفر ورجاله .

وأستطيع بعون الله تعالى أن استخلص من قصة رحيق الآيات الكريمة سالفة الذكر :

__________

(1) - ابن كثيرة أبو الفداء , إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم , ج2 / 388 وانظر مجمع البيان ج5 / 287 " أني أنا الله رب العالمين " أي المتكلم لك هو الله مالك العالمين , وخالق الخلائق أجمعين تعالى وتقدس عن أي يحل في كل أيكون في مكان .

(2) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن العظيم , ص 580 .

(3) - الشريف , عدنان , من علم النفس القرآني , دار العلم للملايين 1987 م بيروت لبنان , ص 64 .

(1/26)

1- أجاز الشارع الحكيم أن يسامر الرجل بأهله حيث يشاء لماله من فضل القوامة وزيادة الدرجة إلا أن يلتزم لها أمراً فالمؤمنون عند عهودهم(1).

2- إن الله سبحانه وتعالى إن شاء يجيب دعوة المؤمن إذا دعا . فهذا موسى عليه السلام ترجى ربه الكريم بأن يشد عضده بأخيه هارون فأجابه سبحانه وتعالى بفضله ورحمته إلى ذلك .

3- إن الخوف سنه من السنن الموضوعة في بني آدم وليس عيباً فيه فهذا موسى وهو نبي الله وكليمه خاف ورعب وذلك لإنسانية وضعفه .

* * *

المبحث السابع

عاقبة الظالمين

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى :

" فلما جاءكم موسى بآيتنا باينت قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين {36} وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون {37} وقال فرعون يأيها الملأ ما عملت لكم من إله غيري فأوقد لي ياهامان على الطين فأجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكافرين {38} واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون {39} فأخذناه وجنوده فنبذنهم في اليم فأنظر كيف كان عاقبة الظالمين {40} وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون {41} واتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين {42} . "

يخبرنا البيان الإلهي عن مجيء موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون وآله وما آتاهما الله تبارك وتعالى من المعجزات الباهرة والدلالات القاهرة.

__________

(1) - القرطبي , أبو عبد الله محمد أحمد الأنصاري , الجامع لأحكام القرآن , ج13 / 281 .

(1/27)

فراقب فرعون وآله تلك المعجزات وتحققوا منها بأنها من عند الخالق جل جلاله بيد أنهم عدلوا بكفرهم وبغيهم إلى الطغيان والتكبر والابتعاد عن أتباع الحق(1)فقالوا " ما هذا إلا سحر تعلمه أنت ثم تفتريه على الله كسائر أنواع السحر وليس بمعجزة من عند الله "(2).

ولم نسمع فيما تدعيه وتدعوا إليه في آبائنا الذين كانوا قبلنا " إنما قالوا ذلك مع اشتهار قصة نوح وهود وصالح وغيرهم من النبيين الذين دعوا إلى توحيد الله وإخلاص عبادته "(3).

على أن القوم جحدوا وبهتوا وما وجدوا ما يدفعون به جاءهم من البينات غلا قولهم سحر مفترى وبدعة لم نسمع بمثلها من قبل فقال لهم موسى عليه السلام : ربي يعلم بأني قد جئت بهذه الآيات الدالة على الحق والهدى من عنده جل جلاله وهو دليل واضح مبرهن على صدقي إن كذبتموني وجحدتم ويعلم الله سبحانه تعالى أن العاقبة الحميدة لنا ولأهل الحق إنه لا يفوز بالخير الكافرون المشركون بالله عز وجل(4).

ويخبرنا سبحانه وتعالى عن كفر فرعون وطغيانه وافترائه في دعواه الربوبية لنفسه فاستجاب قومه بقلة عقولهم وضيق أفقهم(5).

__________

(1) - ابن كثير , أبو الفداء , إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم , ج3 / 389 .

(2) - الزمخشري , أبو القاسم جار الله محمود , الكشاف , ج3 / 389.

(3) - الطبرسي , أبو على الفضل بن الحسن , مجمع البيان في تفسير القرآن ج5 / 295 .

وأنظر تفسير الكشاف , ج3 / 176 .

(4) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 581 .

(5) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم , ج3 / 390 .

(1/28)

لهذا قال لهم : " يا أيها الملأ ما عملت لكم من إله غيري " ذلك أن فرعون كانت من عادته كلما ظهرت حجة موسى أن يتعلق لرفع تلك الحجة بافتراء يروجه على أسماع قومه فادعى الإلوهية . بيد أنه لم يكن ليدعي أنه الخالق للسموات والأرض والخالق لذوات الناس وأفعالهم بل هو الإله المعبود " " فالرجل كان ينفي الصانع ويقول لا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا ملكهم "(1).

وهذا هو عهد الظالمين في العصور قديماً وربما تغيرت الأساليب والمناهج بيد أن المضمون واحد ففراعنة العصر الحديث تشربوا بأفكار فرعون مصر . صحيح أن بعض لم ينكر وجود الخالق لكنهم صنعوا أفظع من ذلك فحاولوا تشويه الشرائع السماوية والقائمين عليها والتابعين لها من عباد الله فحاولوا عزلهم عن مجتمعهم وجماعاتهم بكافة الرسائل وشتى الأساليب بالشدة واللين بالمكر وبالسخف والطغيان بيد أن الله جل جلاله قد تفضل علينا بهذه الآيات البينات لتبين لنا إن النصر والغلبة لعباد الله الصالحين وأن للكافرين اللعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين .

فهذا إمام الطغيان يخاطب وزيره هامان خطاب الجبابرة قائلاً له ابني لي صرحاً شامخاً عالياً لأصعد إليه " لعلي أطلع على إله موسى ".

القصص 38 .

{ وهذا تلبيس من فرعون وإبهام على العوام وأن الذي يدعوا إليه موسى يجري مجراه في الحاجة إلى المكان والجهة }.

ولعل هذه الآية العظيمة تذكرنا بعصرنا من بناء الكافرين للصواريخ والسفن الفضائية ومحاولاتهم بلوغ النجوم والكواكب والاتصال بمخلوقات الفضاء بحسب زعمهم وهمهم الذي أوحاه وزينه الشيطان لهم , ولكن ما نهاية المطاف مع هؤلاء لا جرم بأن نهايتهم كنهاية فرعون وأتباعه , يقول تعالى : " فأخذته وجنوده فنبذهم في اليم فأنظر كيف كان عقبة الظالمين "(2).

__________

(1) - الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب , ج6 / 442 .

(2) - سورة القصص , آية 40 .

(1/29)

فتدبر أخي المسلم نهاية الطغيان والكبر فهذا فرعون إمام الظالمين انتزع من سلطانه واستدراج هو وجنوده إلى هلاكهم . ولسوف ينتزع الله سبحانه وتعالى بفضله ورحمته على أيدينا نحن أبناء هذه الآمة أتباع فرعون ومقلديه من الكافرين والجاحدين والمنافقين .

قال تعالى : " وجعلناهم أئمة يدعون على النار ويوم القيامة لا ينصرون ".

أي جعلناهم زعماء يتبعون على الكفر فيكون عليهم وزرهم ووزر من إتباعهم ويوم القيامة لا يجدون من ينصرهم ويخرجهم من هذا العذاب(1).

لقد جعلهم جل جلاله من المطر ودين المخلدين في النار جهنم وبئس المصير .

فقصة موسى وفرعون تحوي بين طياتها عبراً كثيرة لأولى الألباب .

فيها عبر للمستضعفين الصابرين وإنذار غليظ للمفسدين في الأرض وأن عاقبة الحسنة للمؤمنين المتقين والعقاب المهيمن للطغاة الظالمين .

إن التعاون بين الحاكم وأركان دولته يجب أن يكون ضمن إطار البر والتقوى , ضمن إطار الصالح العام على أن لا يتعدى إلى الإثم والعدوان ففرعون عندما أخذه الله سبحانه وتعالى أخذه أخذ عزيز مقتدر وأغرقه في اليم وأغرق معه آله وجنوده الذين كانوا أداة طيعة في تذبيح الأبناء واستحياء النساء وتعذيب الأبرياء فأصبحوا شركاءه في الهلاك كما كانوا شركاءه في الفساد والطغيان(2).

أخي المسلم لنقف قليلاً في ظلال بعض آيات هذه السورة الكريمة .

__________

(1) - البيضاوي , عبد الله بن عمر بن علي , تفسير البيضاوي , ج2 / 217 , وانظر تفسير القرطبي , ج13 , 289 . وانظر إلى القرآن الكريم للشيخ محمود شلتوت ص 124 .

(2) بليق ، عز الدين , موازين القرآن ج2 / 153 .

(1/30)

قال تعالى : " فلما جاءهم موسى بآيتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعت بهذا من آبائنا الأولين قال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون " . فنلاحظ أن البيان الإلهي يصور لنا جحود فرعون وقومه وحججهم الواهية وتنعتهم ليضرب لنا مثلاً أعلى نستطيع أن نقيس عليه أي حدث مشابه لهذا الحدث العظيم .

فملحدين هذا العصر لم ينكروا والأديان فقط بل أنكروا الله تعالى و جاوؤنا بحجج سخيفة ليبرهنوا أن هذا العالم وما فيه لم يخلق بل وجد عن طريق المصادفة أو عن طريق التفاعل الذاتي أو أنه قديم لا خالق له .

ومنهم من يأتينا بأمثلة سخيفة ليبرهنوا لنا أن الأرض جاءت بمحض المصادفة .

قال : لو جئنا بحروف مطبعة ونثرناها على أرض معينة ثم تركناها للريح تبعث بها كيف شاءت ثم نظرنا وتمعنا لوجدنا أن الريح العمياء قد رتبت الحروف بشكل يعطي معنى معيناً وبعد فترة من الزمن ربما تتشكل كلمة ثانية وربما ثالثة ورابعة .

وهكذا وعلى هذا النسق تكونت السموات والأرض .

انظر أخي المسلم إلى هذا المثال السخيف عن خلق السموات والأرض وما فهين .

فعندما نقول بأن هناك حروفاً مطبعية فهذا يعني أن هناك صانع لهذه الحروف وهناك من أعطى لهذه الحروف معان معينة وهنالك من أرسل ريحاً ثابتة وهناك من ثبت الحروف المطبعة فكلما شكلت كلمة ثبتت إلى أختها حتى تشكلت تلك العبارة أو الجملة أو القصيدة وبعد هذا كيف نفسر كل هذه العوامل والأشياء التي أمامنا . قال تعالى على لسان فرعون : " وقال فرعون يأيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي ياهامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين " .

لاحظ أخي المسلم أن فرعون يريد أن يبني بناءاً عالياً ليطلع على خالق السموات والأرض ويقول أيضاً " وإني لأظنه من الكاذبين " .

(1/31)

فهذا هو إمام الكافرين يدعو مقلديه إلى النار وإلى السير خلفه واتخاذ منهجه منهاجاً وشريعة فهذه دولة الكفر " الإتحاد السوفيتي " رغم اتساع مساحتها وقوة بطشها قد انتهت في يوم وليلة بدون حرب ولا خسائر ولسوف يتم الله نعمته علينا فيردنا إلى ديننا رداً حسناً .

إن الله على كل شيء قدير .

* * *

الباب الثاني

محمد صلى الله عليه وسلم والمكذبين

المبحث الأول

جحود الكافرين

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى :

" ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون {43} وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين {44} ولكنا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاوياً في أهل مدين تتلوا عليهم آيتنا ولكنا كنا مرسلين {45} وما كنت بجانب الطور غذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوماً ما آتهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون {46} ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آيتك ونكون من المؤمنين {47} فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظهراً وقالوا إنا بكل كافرون {48} قل فأتوا بكتب من عندنا الله هو أهدى منهما اتبعه إن كنتم صادقين {49} فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن أتبع هواه بغير هدىً من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين {50} ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون {51} . "

يخبرنا مالك الملك ذو الجلال والإكرام عما أنعم به على عبده ورسوله وكليمه موسى عليه السلام من إنزال التوراة عليه بعدما أهلك فرعون وآله وغيره من الأمم السابقة لتكون نوراً للقلوب المظلمة التي تبحث عن النور والهدى فكانت هذه الآيات برهاناً على أن الكتب السماوية كلها من مشكاة واحدة فهي كتب نور وهداية تهدي للتي هي أقوم .

(1/32)

ينبه الله سبحانه وتعالى عن حقيقة واضحة جلية وهي صدق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن حاضراً مع موسى عليه السلام في المكان الغربي من الجبل حين عهد الله إليه بأمر الرسالة فكيف يكذب هؤلاء الجاحدين بهذه الرسالة العظيمة ورسولها وهو يتلو عليهم من أنباء السابقين بكل ما فيها من عبر وحكم فأي دليل أعظم من هذا يا أخي على صدق رسالة رسولنا وشفيعنا محمد صلى الله عليه وسلم .

فكتاب الله يحوي أخبار الأمم الغابرة التي لم يقص قصصها أحد بهذا الوضوح وهذا العلاج الغني لمواقف وأحداث القصة .

لقد خلق الله جل جلاله أمما كثيرة في أجيال طال عليها الزمن فنسوا وتناسوا ما جاءهم من الهدى وما أخذ عليهم من العهود والمواثيق ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن معهم أو مقيماً فيهم حتى يخبر أهل مكة بأخبار مدين ذلك إن الله سبحانه وتعالى قد أرسله بالحق وانزل عليه قرآناً عربياً مبيناً ولم يكن رسولنا عليه الصلاة والسلام حاضراً بجانب الطور عندما نادى الله موسى واصطفاه لرسالته لكن جل جلاله قد أعلم بيننا هذه الأنبياء بالوحي الآمين لتكون رحمة للبشرية لعلهم يتذكرون(1).

قال تعالى " ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فتبع آياتك ونكون من المؤمنين " .

أخبر تعالى أن ما قدمت أيديهم قبل البعثة سبب لإصابتهم بالمصيبة وأنه سبحانه لو أصابهم بما يستحقوه من ذلك لاحتجوا عليه بأنه لم يرسل إليهم رسولاً ولم ينزل عليهم كتاباً "(2).

__________

(1) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 582 .

(2) - ابن القيم , محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد , التفسير القيم , تحقيق محمد حامد الفقي , لجنة التراث العربي , بيروت , ص 401 .

(1/33)

إن ربنا جل وعلا قد قطع عليهم هذه الحجة بإرسال الرسل وأنزل الكتب والصحف لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ونحن أمة الإسلام بقاؤنا واستمرارنا حجة دامغة على الكافرين يوم القيامة .

لذلك يأمرنا الله بأن نأمر الناس بالمعروف وننهاهم عن المنكر ونبشر المخلوقات من أنس وجن بالإسلام ونعرفهم بالله وملكوته وإنعامه على مخلوقاته لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل .

عندما أنزل الفرقان على رسولنا الكريم قال الكفار والجاحدون " لولا أوتي مثل ما أوتي موسى من الكتاب المنزل جملة واحدة من سائر المعجزات كقلب العصامية واليد البيضاء , وفلق البحر تظليل الغمام وغيرها من الآيات فجاءوا بالاقتراحات المبينة على التعنت والغباء فقالوا له لولا أنزل عليك كنز أو جاء معك ملك وما أشبه ذلك من الآيات الباهرات والحجج القاهرات التي أجراها تعالى على يدي موسى عليه السلام لتكون حجة وبرهاناً له على فرعون وملئه وبني إسرائيل ,ومع هذا لم ينجح في فرعون وملئه بل كفروا بموسى وأخيه(1)إن الله جل جلاله وعلا يوجهنا ويعرفنا على هؤلاء الجاحدين وأمثالهم في كل العهود والعصور وكيف كذبوا وجحدوا وبالمقابل كيف صبر الرسل وربطوا واتقوا الله فانتصروا بفضل الله ورحمته وكذلك المحسنون عليهم تقوى الله وإتباع هداه ولسوف يكون النصر حليفهم إن شاء الله تعالى .

لقد أنزل تعالى الفرقان متواصلاً بعضه إثر بعض حسبما تقتضيه حكمة الله سبحانه وتعالى : ومتتابعاً وعداً وعيدا وقصصا وعبرا ليتدبروا ويؤمنوا بما فيه من هدى وخير وحياة طيبة في الدنيا والآخرة .

أخي المسلم تعالى لنقف في ظلال هذه الآيات ولنحاول أن نطلع على ما بها من توجيهات إلهية للفرد المسلم .

__________

(1) - الرازي , أبو عبد الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب , ج6 / 447 , وانظر تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج2 / 390 .

(1/34)

قال تعالى : " فإن لم يستجيبوا لك فأعلم إنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين " .

أعلم أخي المسلم أن الذي لا يستجيب إلى الله ولا إلى رسوله فمن هؤلاء من يقول بوجوب استمرار فضل الدين عن الدنيا للحفاظ على الوحدة الوطنية ومنع التمييز بين أفراد الشعب الواحد , فالإنسان عندهم هو المدبر لجميع أموره وهو المتصرف في شؤونه ومن هنا ابتدعوا فكرة حكم الشعب فـ { حكم الشعب تعني أن الشعب هو سيد نفسه أي هو الذي يسن القوانين و { بالشعب } تعني أن الشعب هو الذي يحكم بما ابتدعوا من القوانين و { للشعب } تعني أن الشعب هو الذي يحكم بما سن من القوانين.

فهل في الإسلام ديمقراطية ؟

نقول : أن فكرة الديمقراطية هي فكرة مبتدعة تنسجم مع فكرة فصل الدين عن الحياة فهي وليدتها وتأخذ حكمها ولأنها فرع لأصل مردود يعتبر معتنقها كافراً . ومعلوم أن فكرة فصل الدين عن الحياة هي نقيض لعقيدة المسلمين التي تتمثل بـ { لا إله إلا الله محمد رسول الله } .

والفكرة التي تتولد من عقيدة المسلمين وتنسجم معها هي " أن الحكم إلا لله أمراً ألا تعبدوا إلا إياه وذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون " .

فقوله تعالى : " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " تعني أنه لا اعتبار لرأي الأكثرية تجاه ما قرره رب العالمين من أوامر وأحكام وغيرها .

ففي النظام الإسلامي الكلمة العليا هي لله وحده والأمر والنهي والتحليل والتحريم هي للعلي القدير وليس لمخلوق سواء أكان فرداً أو جماعة أدنى نوع من أنواع المشاركة في التشريع مع الله تعالى فالله سبحانه وتعالى هو الذي يحكم " إن الحكم إلا لله " .

ولا يملك أحد أن يعقب على حكمه فكيف يجتمع ليل الديمقراطية المزيفة مع نهار وضوء الإسلام الساطع .

* * *

المبحث الثاني

صفات وأخلاق مؤمني أهل الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى :

(1/35)

" الذين أتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون {52} وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين {53} أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون {54} وإذا سمعوا اللغوا أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلم عليكم لا نبتغي الجاهلين {55} إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين {56} . "

يخبرنا العليم الحكيم عن مؤمنين أهل الكتاب وإيمانهم بالتوراة والإنجيل وبكل ما فيه من هدى وبشرى ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم .

وإذا ما تُلي القرآن عليهم قالوا مسارعين " آمنا به لأنه الحق من ربنا ونحن عرفنا محمداً وكتابه قبل نزوله(1)" .

فإسلامنا به سابق على تلاوته .

فهذه الآيات البينات توجهنا لنؤمن بجميع الكتب السماوية وما فيها من هدى وتوجيهات وأنباء الغيب .

" أولئك يؤتون أجرهم مرتين " بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم(2).

فيدفعون بالصبر والمنطق الحسن(3)أذى المشركين وجحودهم .

فهذه الآية توجهنا إلى كيفية معاملة المشركين والجاحدين في الحال ضعفنا وقوتهم وذلك بالقول الحسن والمناقشة العلمية والصبر والصلاة والنصر حليف المؤمنين إن شاء الله تبارك وتعالى(4).

__________

(1) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 583 .

(2) - النسفي , أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود , مدارك التنزيل وحقائق التأويل , ج2 / 240 .

(3) - القرطبي , أبو عبد الله محمد أحمد , الجامع لأحكام القرآن , ج13 / 291 .

(4) - ابن الجوزي , عبد الرحمن علي بن عبد الله , ناسخ القرآن وشرحه تحقيق حسين سليم أسد الداراني – دار الثقافة العربية دمشق 1990 .

(1/36)

فعلينا نحن شباب هذه الأمة في هذا العصر الأليم بعد أن نسينا كتاب الله وسنة رسول الله لأسباب كثيرة نحمل نحن قسماً كبيراً من هذه الأسباب ولا جرم بأن الآباء والأجداد يحملون القسم الأعظم لأنهم أكسبوا عادات ليست من إسلامنا وعلمونا علماً ليس من علمنا وسلوكنا دروباً لم تشق لنا وسلطوا على أنفسهم وعلينا أعداء الله أعداءنا بذنوبهم لتركهم تعاليم الخالق العظيم وسنة رسوله الكريم فمرضوا وورثنا عنهم المرض والشفاء بيد الله عسى ربنا أن يعفوا عنا ويجعلنا من الذين يؤثرون العمل الصالح ويقابلون السيئة بالعفو والإحسان وينفقون في سبيل الله كل ما أعطاهم من قوة ومال وعلم وعمل إنه سميع مجيد .

يقول تعالى :

" إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين "

القصص الآية 56.

أي أنك أيها الرسول شديد الحرص على هداية الذي تحب بيد أنك لا تستطيع أن تدخل في الإسلام كل من تحب لأن ذلك بيد الله وحده فهو يهدي للإيمان من علم فيهم قبول الهداية واختيارها فيدبر الأمور على ما يعلمه من صلاح العباد(1).

فهذه الآية الكريمة تعلمنا وتوجهنا لربط الأمور بأسبابها وأن نعمل بكل طاقاتنا التي وهبنا الله إياها فإذا ما هدي أحد الكافرين أو الفاسقين على يدينا فهذا من رضا الله علينا وإذا ما فشلنا بهدايته فتلك إرادة الخالق وحكمته .

قد يخطر على بال أحد العامة من الناس في القرآن العظيم شبه تناقض كما في قوله تعالى :

" إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " القصص الآية 56 .

وقوله جل جلاله : " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " .

__________

(1) - أنظر , الزمخشري , أبو القاسم جار الله محمود والخوارزمي , ج3 / 185 . وكذلك مجمع البيان ج5 / 304 . وكذلك تفسير البيضاوي ج2 / 220 والمنتخب في تفسير القرآن ص 583 .

(1/37)

والحقيقة الساطعة أن القرآن الكريم بعيد كل البعد عن أي تناقض وأن أي تناقض يتهمه به أي إنسان فإن الحقيقة هي أن سبب هذا التناقض المتوهم هو الإنسان نفسه بسبب جهله حيناً وقلة مداركه العقلية حيناً آخر وغيرها من الأسباب ذلك أن خلو القرآن من أي تناقض هو أساس أعجاز القرآن ودليل صدقه يقول تعالى :

" أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً "(1).

إن الهداية قسمان :

1- هداية دلالة .

2- هداية إعانة .

وهداية الدلالة تكون للناس جميعاً يقول تعالى في سورة فصلت الآية {17} " وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " .

ووظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم – إذا ما صح التعبير – هي هداية دلالة وتذكير وإنذار " إنك لتهدي إلى صراط مستقيم "(2).

أما الهداية الحقيقية – هداية الإعانة – فتكون من خالقنا الواحد القهار فقط.

فالله جل جلاله هو الهادي(3)ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك هداية الإعانة بل هداية الدلالة .

يقول تعالى :

" إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " .

نقف أخي المسلم تحت ظل هذه الآية الكريمة برهة " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين " .

يخبرنا العليم الحكيم أن أي منا لا يستطيع أن يهدي من يحب إلى الصراط المستقيم فكل شيء بيد الله سبحانه وتعالى .

بيد أن هذا لا يعني يا أخي أن نجعل هذا حجة فنتقاعس عن دعوة الناس إلى الإسلام ودعوة المسلمين إلى العودة إلى الشريعة بكافة السبل والطرق فعلينا دعوتهم إلى الدين الحنيف والله سبحانه وتعالى إن شاء سيهديهم على الطريق القويم .

* * *

المبحث الثالث

ما عند الله خير وأبقى

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى :

__________

(1) - سورة النساء , آية 182 .

(2) - سورة الشورى , آية 57 .

(3) - بليق , عز الدين , موازين القرآن , ج1/41 – 42 – 43 .

(1/38)

" وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرماً آمنا يجبا إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون {57} وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مسكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً وكنا نحن الوارثين {58} وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً يتلوا عليهم آيتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون {59} وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون {60} .

يخبرنا الله تعالى عن جحود مشركي أهل مكة وأعذارهم الكاذبة لعدم أتباعهم دين الله مع علمهم بأنه دين الحق(1)وأن محمداً رسول الله مرسل للناس كافة وقالوا أيضاً " إن اتبعناك على دينك أخرجنا العرب من بلدنا وغلبونا على سلطتنا "(2).

وهم كاذبون فيما يأتون به من حجج فقد ثبتهم الله تعالى ببلادهم بجعل بلدهم حرماً يأمنون فيه من الإغارة والقتال والعرب من حولهم يتغازون ويتناحرون وهم في حرمهم لا يخافون , تحمل إليهم الثمرات والخيرات المتنوعة من كل صوب .

فيا لهذه الحجة الواهية كيف يستقيم أن يسلبهم الله سبحانه وتعالى الأمن ويعرضهم للمهالك إذا ما أسلموا وهو سبحانه أنعم عليهم بالخير والأمن وهم مشركون ولكن أكثر الناس لا يعلمون الحق ولو علموا لما خافوا التخطف(3).

__________

(1) - الزمخشري , جار الله محمود الخوارزمي , الكشاف ج3 / 185 .

(2) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 584 .

(3) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 584 . وانظرت تفسير البيضاوي 2/ 219 والكشاف ج3 / 185 .

(1/39)

فيا لهذه الآية العظيمة التي تذكرنا بحالة المسلمين اليوم وخصوصاً عندما تدعوهم للتمسك بكتاب الله وسنة رسوله فيقولون لا نستطيع إلا أن نجاري العصر والتطور ومصادقة أوربا وغيرها من الدول المتقدمة ونسوا بأن الله جل جلاله قد مكن لهم دينهم وورثهم أرضاً لم يلمسوها لولا نعمة الله عليهم بها لقد رزق المسلمون من القوة المادية التي إذا ما شنعت بالإسلام لاستطاعت أن تضيء العالم أجمع بالنور والهدى .

لم يعتبر هؤلاء بمصائر الأمم السابقة من عاد وثمود وغيرهم من الأمم التي " طغت وأشركت وكفرت بنعمة الله فيما أنعم به عليهم من الأرزاق "(1).

فهذه ديارهم خاوية للمارين بها ولم يبق مالك بعدهم إلا الله ذو الجلال والإكرام(2).

وأعلم يا أخي بأن علينا دوام الحمد والشكر لله جل جلاله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى فهذه الأمم السابقة قد طغت وأشركت وكفرت بنعمة الله فأصبحت ديارهم خاوية لا تصلح للسكن ولم يبق لهم وارث إلا الله بعد أن أفنى بطغيانهم كل ولا مولود وما كان الله سبحانه ليهلك تلك القرى إلا بعد أن ينذرهم بالرسل المؤيدين بالمعجزات الباهرات وأحجج القاهرات فيظهروا الحق ويبطلوا الباطل بفضل الله ورحمته .

فإذا لم يؤمنوا بعد كل هذا البرهان واستمروا في جحودهم أتاهم أمر الله فأهلكهم وما يعبدون .

يخاطبنا البيان الإلهي بخطاب عظيم فيقول جل وعلا :

" وما أوتيتم من شيء فمتع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون " .

__________

(1) - ابن كثير , أبو الغداء إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم , ج3 / 395 وانظر الجامع لاحكام القرآن للقرطبي , ج13 / 300 . وانظر مفاتيح الغيب للرازي , ج6 / 247 .

(2) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 584 .

(1/40)

أي كل شيء رزقتموه من نعم الدنيا وزخرفها فهو متاع محدود على أمد قريب فلا يصرفنكم عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ولا يصرفنكم عن العمل الصالح متاع الدنيا وزخرفها فما عند الله خير وأبقى من ذلك(1).

فهذه الآية قاعدة توجيهية عظيمة يستفيد من تطبيقاتها كل المؤمنين وخصوصاً في هذا العصر المنصف بالمادية والتحديات للمسلمين .

فالشاب المسلم مطروح أمامه كل شيء يؤدي إلى المهالك من نساء سافرات وفجور صارخ ومعاصي تصول باسم الحرية والديمقراطية وكل ما سلف ينادي هل من مجيب ؟ بيد أن العاقل المؤمن يقول لنفسه أعوذ بالله السميع العليم من فتن الدنيا وغرورها والفوز الحقيقي هو مرضاة الله تعالى بالخوف من ناره والطمع في جنته " ذلك أن منافع الدنيا كالذرة بالقياس إلى البحر فظهر من هذا أن منافع الدنيا لا نسبة بينها وبين منافع الآخرة البتة .

فكان من الجهل العظيم ترك منافع الآخرة لاستبقاء منافع الدنيا ولما نبه سبحانه على ذلك قال :

آفلا تعقلون . يعني أن من لا يرجح منافع الآخرة على متاع الدنيا كان يكون خارجاً عن حد العقل .(2)

* * *

المبحث الرابع

لله الحمد في الأولى والآخرة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى :

__________

(1) - القرطبي , أبو عبد الله محمد أحمد الأنصاري , الجامع لأحكام القرآن ج13 / 300 أنظر المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 285 . وتفسير ابن جزي ص 522 وأنظر تفسير مفاتيح الغيب للرازي ج6 / 452 .

(2) - الرازي , أبو الله بن عمر القرشي , مفاتيح الغيب , ج6 / 452 .

(1/41)

" أفمن وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين {61} ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون {62} قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون {63} وقيل أدعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون {64} ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين {65} فعميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتسألون {66} فأما من تاب وأمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين {67} وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله تعالى عما يشركون {68} وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون {69} وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون {70} " .

يخبرنا سبحانه وتعالى عن حقيقة عظيمة وهي عدم استواء " من أمن وعمل صالحاً فأستحق وعد الله , الوعد الحسن بالثواب والجنة فهو مدركه كما وعده الله ومن كفر وعمل سيئاً وفتنه متاع الدنيا وزخرفها ثم هو يوم القيامة من المحضرين الهالكين في العذاب(1)" .

وفي الآية الثانية يقول الله تعالى مخبراً عما يوبخ به الكفار والمشركين حيث يناديهم :

"أين الإله التي كنتم تعبدونها في الدار الدنيا من الأصنام والأنداد هل ينصرونكم أو ينتصرون(2)" .

وهذا النداء هو على سبيل التقريع والتهديد فيقول المردة والشياطين ودعاة الكفر " من الذين حق عليهم غضب الله ووعيده أياً ربنا هؤلاء الذين دعوناهم إلى الشرك وزينا لهم الضلال أغوينا لأنه اختاروا الكفر(3)" .

__________

(1) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص585 . وانظر تفسير النفسي 240 / 242 .

(2) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي , تفسير القرآن العظيم ج3/ 337 .

(3) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 585 .

(1/42)

وقبلوه لم يعبدونا بل عبدوا أهواءهم وشهواتهم(1).

فأمرهم سبحانه وتعالى على جانب من التوبيخ بدعوة الإلهة التي أشركوها مع الله لتنقذهم من الجحيم وعذابه فوقعوا في حيرة وارتباك فلم يظفروا بجواب وشاهدوا العذاب المعد لهم وتمنوا " لو أنهم كانوا مهتدين مؤمنين لما رأوه أو تمنوا لو كانوا مهتدين , أو تحيروا عند رؤيته وسدروا فلا يهتدون طريقاً(2)بالتصديق أو التكذيب(3).

فصارت الأخبار غائبة عنهم لا يهتدون إليها فهي بعيدة عنهم كل البعد وكأنهم عمى فلم يعرفوا ما يقولون منهم في هذا الموقف العظيم { لا يسأل بعضهم بعضاً عن الأنباء لأنهم قد تساووا في الحيرة والعجز عن الجواب}(4).

فهذا شأن العصاة والجاحدين والمنافقين .

أما الذي يتوب توبة صادقة ويؤمن بالله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ويعمل الصالحات فهو يأمل أن يكون عند ربه من الفائزين بجنته ورضوانه .

ولعل الوقت قد حان لنتكلم بشيء من التفصيل على مسألة الجبر والاختيار:

إن الكفار يحتجون بكفرهم بأنه كان جبراً عليهم فلم يكن لهم الخيرة حتى يختاروا الإيمان أو غيره , فالكفر كان قدراً عليهم ولعل حجة هؤلاء قوله تعالى " ما كان لهم الخيرة " والحقيقة أن هذه الآية الكريمة لا تدل على أن الإنسان مرغم ومجبر على أفعاله وليس هذا المراد من الآية بل كان التوجيه هنا أن أمور العالم تجري باختيار الله سبحانه وتعالى وضمن إرادته ومشيئة ووفق حكمته جل جلاله .

__________

(1) - انظر تفسير النفسي , بدارك التنزيل وحقائق التأويل , ج 2/ 242 وانظر تفسير الكشاف ج 3/ 488 .

(2) - انظر الزمخشري , جار الله محمود الخوارزمي , الكشاف ج 3 / 188 .

(3) - ابن جزي , محمد بن أحمد بن جزي , تفسير ابن جزي , 523 .

(4) - ابن جزي , محمد بن أحمد بن جزي , تفسير ابن جزي , ص 523 , وانظر تفسير النفسي مدارك التنزيل وحقائق التأويل ج 2 / 242 . وكذلك تفسير الكشاف ج 3 / 188 .

(1/43)

وإذا ما كان الأمر كذلك فعلينا الانتفاع من هذه الرحمة فهذه يا أخي رحمة عظيمة أن يسير هذا الكون ضمن مشيئة حكيم عليم روءوف رحيم .

فيجب علينا عدم البطر بالنعمة ومنع اليأس من الرحمة إذا ما حدث لنا مكروه بعملنا وذنوبنا .

" ولو انتفع الإنسان من طريق الفهم الإيجابي الذي أراده القرآن من قوة العقيدة لكان أحسن قائده وجدوى فهي عقيدة بناءة تثبت الإنسان أمام الأحداث التي تعاكس إرادته ورأيه مثابراً لا يعتريه بأس ولا فتور "(1).

لما تثبت أن الله جل جلاله يفعل ما يريد فلا يمكن أن يكون له شريك فيما يفعل أو يريد , قال تعالى : " سبحانه تعالى عما يشركون " .

مناسبة للمعنى مصرحة به واستعمل لفظ { سبحان } الذي يدل على التنزيه على أبلغ وجه(2)ويفيد الإبعاد والتعالي وهو هنا تعالي الرتبة كماليه الله جل جلاله وعظيمة ذاته أن يكون له شريك في الملك أو في تصريف الملك أو تدبيره ثم عقب على ما فعله المشركون من عبادة غير الله تعقيباً فيه تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم كما تضمن تهديداً عنيفاً لهم على قبائحهم لأن الله سبحانه يعلم " ما تخفيه قلوبهم وعبر عن القلب بالصدر لأنه يحتوي عليه "(3).

فهذا الذي تكن صدورهم من الكفر والشر والصد عن الإسلام وما يعلنون من الكفر والتكذيب كل هذا يعلمه الله تعالى " إلا أننا نلحظ في هذا التعبير قوة في أحاطته تعالى بأسرار الوجود والمخلوقات إذ أن السر والخفاء قد تساوياً عند الله حتى صار السر كأنه أقوى من الجهر فقدم " ما تكن صدورهم " ليوقع الرعب في نفوس الكافرين "(4).

__________

(1) - عتر , نور الدين , القرآن الكريم والدراسات الأدبية , ص 297 .

(2) - راجع تفسير النفسي , مدارك التنزيل وحقائق التأويل , ج2 / 242 .

(3) - ابن جزي محمد بن أحمد , تفسير ابن جزي , ص 523 .

(4) - عتر , نور الدين , القرآن الكريم والدراسات الأدبية , ص 297 .

(1/44)

وقد أدى البيان الإلهي المعنى بقوة عظيمة فيها دلالة عظيمة على إطلاع الله سبحانه وتعالى المطلق على ما يفعله هؤلاء وغيرهم ثم أكد ما ذكره أولا من وحدانية الله تعالى في الخلق والإيمان , إلى وحدانيته في الخلق وقد صرح بذلك : " وهو الله " .

الله المعبود بالحق ثم أكد ذلك بالعبارة الصريحة " ولا إله إلا هو " ثم بين دليلاً ذاتياً له سبحانه وتعالى بوجوب كونه لا خالق ولا معبود إلا هو " وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم " .

أي هو الله الحق المختص بالإلوهية المستحق وحده للحمد من عباده في الدنيا على إنعامه وهدايته وفي الآخرة على عدله ومثوبته وهو وحده صاحب الحكم والفضل بين عباده وإليه المرجع وإليه المصير(1)

* * *

المبحث الخامس

نعم الله لا تعد ولا تحصى

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى :

" قل أرئيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون {71} قل أرئيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون {72} ومن رحمته جعل الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون {73} ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون {74} ونزعنا من كل أمة شهيداً فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون {75} " .

__________

(1) - عتر , نور الدين , القرآن الكريم , والدراسات الأدبية , ص 297 بترصد .

(1/45)

وبعد هذه القضايا الاعتقادية الأساسية انتقل البيان الإلهي ليبين فضل الله سبحانه وتعالى على المخلوقات ليأخذ بمجامع القلوب وبفكر الإنسان وعقله بعبارات تجلى فيها القوة ولفت النظر إلى دليل وبرهان قوي غاية القوة على وحدانية الله تعالى وفضله وإنعامه على مخلوقاته " يقول سبحانه وتعالى ممتناً على عباده بما سخر لهم من الليل والنهار اللذين لا قوام لهم وبدونهما بيد أنه لو جعل الليل دائماً عليهم سرمداً إلى يوم القيامة لأضر ذلك بهم ولسئمته النفوس وملته الأرواح "(1).

لقد خص الله سبحانه وتعالى النهار بذكر نعمة البصر لأنه محله وفيه سلطان السمع يكون بالليل أكثر بكثير من سلطان البصر ففي الليل نسمع أكثر مما نبصر لأنه وقت هدوء وسكون وقوة سلطان السمع ضعف سلطان البصر والنهار بالعكس يكون سلطان البصر أقوى من سلطان السمع(2).

ثم قال جل جلاله " من رحمته " ولم يقل من آيته لأن هذه الآية أية رحمة ونعمة وهنا نجد أن الخطاب الإلهي أنتقل إلى جانب آخر فقدم الليل على النهار أسوة بتقديم أية الليل التي هي أسبق وجوداً من أية النهار ثم عدد نعم الليل والنهار وفوائدهما " لتسكنوا فيه ولتتبعوا من فضله " .

السكون في الليل والابتغاء في النهار فأتى في ذلك بحسن التقسيم وحكمته وجعل ذلك كله مصبوغاً بصبغة الرحمة والفضل الإلهي "(3)" وقد نفت الآيات نفياً قوياً باستفهام إنكاري أن يكون لله شريك وتدرجت مع الخصوم لتلزمهم إلزاما مضخماً .

__________

(1) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل بن كثير , تفسير القرآن العظيم , ج3 / 398 .

(2) - انظر التفسير القيم لابن القيم الجوزية ص 402 وانظر تفسير النفسي مدارك التنزيل وحقائق التأويل ج2 / 244 .

(3) أنظر تفسير الكشاف للزمخشري ج3 / 181 وكذلك تفسير القرطبي , الجامع لأحكام القرآن 3 / 308 .

(1/46)

فكل هذه المعبودات التي اتخذتموها من بشر وغير بشر هل واحد منهم يستطيع أن يغير شيئاً من الكون والجواب طبعاً لا .(1).

ثم ختم هذا النقاش بأن أوقعهم أمام المصير الذي تظهر فيه الحقائق وأتى بهذه العبارة الرائعة " ويوم يناديهم " لتفيد معنى التهويل والتضخيم والتوبيخ " فيقال لهم : أين الشركاء الذين زعمتموهم آلهة ينصرونكم أو شفعاء يشفعون لكم "(2)" ثم يعرض البيان الإلهي بصورة عظيمة لذلك اليوم العصيب " ونزعنا من كل أمة شهيداً " الموقف في غاية الهول أمام هذا السؤال " هاتوا برهانكم " . على ما اتخذتم من دين وآلهة . فالإنسان سيحاسب على مادان به واعتبره مبدأ واعتقاداً(3). " فعلموا أن الحق لله " أي فبهتوا وتحيروا كما لم يكن لهم من حجة يقيمونها وعلموا يقيناً أن الحق ما أنتم عليه وما أنزله الله , وأن الحجة لله ولرسوله فلزمتهم الحجة لأن المستهود عليه إذا لم يأت بملخص من بيئة الخصم توجهت القضية عليه ولزمه الحكم " " .

الباب الثالث

موٍسى و قارون

المبحث الأول

ابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى :

__________

(1) - عتر , نور الدين , القرآن الكريم والدراسات الأدبية , ص200 – 301 بتصرف يسير .

(2) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 587 . وانظر تفسير ابن كثير , تفسير القرآن العظيم ج3 / 398 .

(3) - عتر , نور الدين , القرآن الكريم الدراسات الأدبية , ص 298 .

(1/47)

" إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنؤ بالعصبة أولى القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين {76} وابتغ فيما آتك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين {77} قال إنما أوتيته على علم عندي أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون {78} فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم {79} وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقياً إلا الصابرون {80} فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين {81} وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون {82} تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فساداً والعقبة للمتقين {83} من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزي الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون {84} .. "

يعتز الناس عادة في دنياهم بمالهم من جاه ومال وسلطان وكثيراً ما تصرفهم نعم الله إلى البطر ثم إلى الطغيان فيقطعون ما بينهم وبين الله من صلات فينكرون الحق ويتزعمون عصابات الشر والفساد وكثيراً ما عالج القرآن الكريم هذه النزعة في الإنسان فنبه بقصصه إلى عاقبة الطغيان والبطر إلى الجاه مهما عظم والمال مهما كثر فإنه لا يرد عن صاحبه شيئاً من قضاء الله وقدره إذا ما استمر في طغيانه وبطره .

(1/48)

وإنه لا ينبغي لعاقل مؤمن أن يغير ببسمة الدنيا له مرة أو أكثر بل يجب عليه أن يعرف أن الفلاح لا يكون إلا بالإيمان والتقوى المدعم بالعمل الصالح(1)فهذا قارون كان من قوم موسى وقريباً له(2), فتكبر عليهم غروراً بنفسه وماله وبما أعطاه الله سبحانه وتعالى من الكنوز الزاخرة التي بلغت مفاتيحها من الكثرة بحيث يثقل حملها على الجماعة الأقوياء من الرجال , فاغتر بنعمة الله عليه وكفر بها وجحد .

فالإنسان " هو الإنسان إنه يطغى في كل شيء , عندما يجد في نفسه القدرة على ذلك فيضيع في متاهات العقد النفسية فيصبح تبعاً لأهوائه وشهواته وطاغوته النفسي "(3)إن قارون اعتقد طغياناً وكفراً أن بسعيه وكده جمع هذا المال وبحسن تدبيره كان له هذا السلطان فجاء إليه عقلاء القوم ونصحوه قائلين :

" لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها وأطمأن وأما من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه مفارق ما فيه عن قريب لم تحدثه نفسه بالفرح "(4).

واستخدم ما وهبك الله من هذا المال والجاه في طاعته جل جلاله والتقرب إليه بأنواع القربان التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا بما أباحه الله لك من المآكل والمشارب والملابس فإن لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً , فآت كل ذي حق حقه "(5)" .

__________

(1) - شلتوت , محمود , إلى القرآن الكريم , ص 154.بتصرف .

(2) - القرطبي , أبو عبد الله محمد أحمد , الجامع لأحكام القرآن ج13 / 240 .

(3) الشريف , عدنان , من علم النفس القرآني , ص 105 .

(4) - الزمخشري , جار الله محمود الخوارزمي , الكشاف ج3 / 190.

(5) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل ابن كثير , الدمشقي , تفسير القرآن العظيم ج 3/ 399 .

(1/49)

" وأحسن إلى عباد الله مثلما أحسن الله إليك ولا تفسد في الأرض بتجاوز حدود الله , إن الله سبحانه لا يرضى عن المفسدين لسوء أعمالهم .(1)

فرد عليهم رداً المتكبرين المتحجرين قائلاً : إني لا أفتقر إلى أي شيء مما تقولونه فإن الله سبحانه إنما أعطاني هذا المال لعمله بأني أستحقه ولمحبته لي . وتجاهل أن الله قد اهلك قبله كثيراً ممن كانوا أكثر منه قدرة على كسب المال وخبرة بوجوه استثماره .(2)

أعلم أخي المؤمن أن الله سبحانه وتعالى قد يمتحن الإنسان بمظاهر وأساليب شتى .

قد يمتحن طائفة من الناس بنوع غير النوع الذي يمتحن فيه هذه الطائفة أو تلك وكل منها يؤدي إلى غاية واحدة ألا وهي معرفة الصادقين الصابرين من المنافقين والكافرين , فيمكن أن يمتحن أحد ليختبر صبره بالفقر أو المرض أو فقد حبيب بنسبة توافق استعداده الفطري , وقد يمتحن الإنسان أيضاً بالغنى والصحة , فإذا اعترف بنعم الله عليه فتح الله سبحانه وتعالى أبواب الرزق والبركة .

فعلى المؤمن أن يراقب نفسه ويبعدها عن الشطط ذلك أن الله تعالى قد أكرمه النعم لاختباره وابتلائه بها .(3)

فقارون قد وهبه الله جل جلاله مال وجاه كبيرين ومع هذا فقد جحد بنعم الله فسقط في امتحانه فكان عقابه شديداً .

وذات يوم خرج قارون على قومه في زينة عظيمة وتجمل بأبهر الثياب فلما رآه من يريد الحياة الدنيا وزينتها حسدوه على هذا المتاع وتمنوا لو كان لهم مثل الذي أعطى .(4)

__________

(1) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم , 587.

(2) - راجع تفسير القرطبي , الجامع لأحكام القرآن , ج13 / 315 .

(3) - الميداني , عبد الرحمن حسن حنبكة , العقيدة الإسلامية وأسسها دار القلم دمشق 1988 م. ص 597 – 598 بتصرف .

(4) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل ابن كثير الدمشقي , تفسير القرآن العظيم ج3 / 399 .

(1/50)

قارون من المال والحظ العظيم أما عقلاء القوم الذين رزقهم الله العلم النافع فلم يفتنهم ذلك بل عرفوا أن ذلك فتنة وامتحان فتوجهوا إلى المفتونين بالنصح والإرشاد قائلين لهم لا تتمنوا هذا المتاع فإن ما عند الله من ثواب ونعيم قائم أزكى لمن آمن به وعمل صالحاً وتلك نصيحة حقة لا يتقبلها إلا من يجاهدون أنفسهم ويصبرون "(1)" على الطاعات وعن الشهوات وزينة الدنيا وعلى ما قسم الله من القليل عن الكثير "(2)" .

فخسف الله سبحانه وتعالى به الأرض فابتلعه هو وملكه وما كان له من جماعة منقطعة إليه يدفعون عنه عذاب الله تعالى الذي نزل به وإنما قال سبحانه ذلك لأنه كان يقدر لنفسه الامتناع بماشيته وجنوده(3).

فهذه سنة الله مع الطغاة يخسف بهم وبملكهم وغرورهم بكل ما يدعون إليه من أفكار فاسدة وكلام منمق الأرض ليكونا عبرة لمن يعتبر فهل من يعتبر يا أخي :

الذين عايشوا تلك الحادثة الرهيبة يقولون إن الله سبحانه يرزق ويوسع الرزق لمن يشاء من عباده ويقتر على من يشاء وفق حكمته وإرادته سبحانه ويقولون شاكرين لو أن الله أحسن إلينا وفضل علينا بالهداية والإيمان لامتحننا بإجابة ما تمنيناه ولفعل بنا مثل ما فعل بقارون " ويكأنه لا يفلح الكافرون " .

__________

(1) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم , ص 588 .

(2) - النسفي , أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود مدارك التنزيل وحقائق التأويل , ج2 / 245 .

(3) - الطبرسي , أبو علي الفضل بن الحسن , مجمع البيان في تفسير القرآن ج5 / 325 .

(1/51)

يعنون أنه كان كافراً ولا يفلح الكافرون عند الله لا في الدنيا ولا في الآخرة(1)تلك الدار الآخرة أيها الأخوة يختص بها المؤمنين الطائعين الذين لا يطلبون التسلط ولا السلطة إلا بالحق ولا ينحرفون إلى النار بارتكاب المعاصي والذنوب والعاقبة الحميدة للذين تمتلئ قلوبهم خشية من نار الله وطمعاً في مرضاه الله للفوز بنعيم الجنة .(2)

فمن جاء بالإيمان الصادق والعمل الصالح له ثواب مضاعف بسببها والذي يأتي بالكفر والمعصية فلا يجزي إلا مثلها ذلك أن الثواب على الحسنة عشر أمثالها ولما كان العقاب على السيئة إنما يتم بعدل الله كان قانون العقاب الرباني عادلا لا يظلم مثقال ذرة فكان أعلى الجزاء على السيئة مثلها .(3)

ونستطيع أن نقول بعد هذا إنه لابد من شيئين لتربية النفوس عليها حتى تحظى بالسعادة عند الله سبحانه وتعالى وذلك بتطهير النفس من إرادة الظلم والإفساد في الأرض واتقاء ما يغضب الله وذلك بإهمال أحكامه وشرائعه ونسيان سننه ونظمه الحكيمة .

لقد نبه القرآن الكريم على أوصاف المتقين الذين ضمن الله جل جلاله لهم العزة في الدارين فعلينا نحن عباد الرحمن أن نتدبرها لنعرف كيف تكون وتنمو التقوى في القلوب وكيف تبدو آثارها في الإنسان وسلوكه ومعاملته(4).

أخي المسلم إن الله يوجهنا لنبتغي فيما آتانا من النعم دار الآخرة ويقول أيضاً " ولا تنسى نصيبك من الدنيا " .

__________

(1) - ابن كثير , أبو الفداء إسماعيل ابن كثير الدمشقي , تفسير القرآن العظيم ج 3 / 399 .

(2) - انظر المرجع السابق , ج 3 / 402 .

(3) - الميداني , عبد الرحمن , العقيدة الإسلامية , ص 604 - 605 .

(4) - شلتوت , محمود , إلى القرآن الكريم , ص 157 .

(1/52)

فالخالق العظيم يطالبنا بالتوازن في الحياة نعمر الدنيا والآخرة ولا يجوز تخريب داراً لأعمار أخرى , فالدنيا زائلة دائمة فاجعل كل ما وهبك الله من أجل أعمار الدارين وقل دائماً ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .

فإذا وهبت قوتة فاستعملها فيما يرضاه الله , حارب المشركين وأعداء الدين .

وإذا وهبت منطقاً حسناً فاستغله في الدعوة إلى الله ودين الحق والذب عنه أمام الذين سنوا أسنانهم وصاغوا عبارتهم بأجمل وأحلى العبارات والمعاني ليضلوا المسلمين عن الصراط المستقيم .

أخي المسلم استغل كل ما وهبت لمرضاة الخالق العظيم وأحسن كما أحسن إليك وإياك ثم إياك والفساد فإن الله لا يحب المفسدين ولا تقول كما قال قارون : " إنما أوتيته على علم من عندي " .

وأعلم أن الله قد أهلك من هو أشد منك قوة وأكثر منك قدرة على كسب المال وأعلم أخي المسلم أن هذه الدنيا دار امتحان وبلاء فابتغي دار الآخرة واتقي الله حق تقاته حيثما كنت وراقب نفسك وتصرفاتك وأبعدها عن الشطط ذلك أن الله قد أكرم الإنسان بهذه النعم لاختباره وابتلائه .

قال تعالى :

" تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض وفساداً والعاقبة للمتقين من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزي الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون " .

* * *

المبحث الثاني

لا تدع مع الله إلهاً آخر

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى :

" إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلل مبين {85} وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيراً للكافرين {86} ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين {87} ولا تدع مع الله إلهاً آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون {88} " .

(1/53)

يقول جل وعلا آمرا رسوله صلوات الله وسلامه عليه ببلاغ هذه الرسالة السامية على جميع الناس واعداً إياه ووعده حق بأنه سيرده إلى مكة سالماً غانماً(1).

ويأمر الله جل جلاله الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لمن خالفه وكذبه ربي أعلم بمن يستحق الهداية والرشاد وبمن هو واقع في ضلال الذي يدركه كل عاقل سليم الإدراك(2).

من هذه الآية الكريمة نستطيع أن نستنتج توجيهاً إلهياً عظيماً ألا وهو أن الله جل جلاله يعلم من يستحق الهداية ويعلم من هو واقع في ضلال . فيزيد الذين اهتدوا هدى والذين كفروا في طغيانهم يعمهون .

يقول تعالى :

" ما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتب " .

ذلك أن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لم يفكر يوماً بالنبوة وأن يطمع بها كما كان غيره من رجالات قريش يطمعون بها لكن الله اصطفاه وأنزل عليه الفرقان رحمة به وبأمته وبالناس أجمعين فيجب علينا جميعاً يا أخي المسلم أن تذكر هذه النعمة و نثابر على تبليغها في كل زمان ومكان وتحت أي ظروف ولا تكن يا أخي عوناً للكافرين على ما يريدون ويبغون ذلك .

إن الكافرين لا يمكن مهما بلغوا من القوة والبطش أن يصدونا عن تبليغ آيات الله والعمل بها .

لقد أصبحنا نحن أفراد هذه الأمة مكلفين بالدعوة إلى هذا الدين الحنيف الناس كافة ودعوتهم إلى توحيد إله وأن ليس هناك من يستحق العبادة سواه فكل ما عدا الله هالك وفان والباقي هو الله الواحد الأحد الذي له القضاء النافذ في الدنيا والآخرة وإليه لا محالة مصير الخلق أجمعين .

فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شر يره .

* * *

الخاتمة

أخي المسلم أختي المسلمة :

__________

(1) - انظر , الطبرسي , أبو علي الفضل بن الحسن , مجمع البيان في تفسير القرآن رادك إلى معاد تعني بأنه سيرده إلى معاد يوم القيامة .

(2) - المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية , المنتخب في تفسير القرآن الكريم ص 589 .

(1/54)

وبعد أن وقفنا على أهم التوجيهات الإلهية للفرد المسلم من خلال سورة القصص , أستطيع أن أقول بأنني لم أقصد من هذا البحث إلا ذكر بعض التوجيهات الإلهية للفرد المسلم من خلال سورة القصص .

فالتطرق إلى جميع التوجيهات يحتاج إلى جهد عظيم , ووقت طويل , ومراجع ومصادر كثيرة جداً لا تتلاءم مع طبيعة هذا البحث البسيط .

وعلى هذا لم أقصد من هذا البحث إلا المرور السريع على أهم تلك التوجيهات فعسى أن يستفيد منها أفراد هذه الأمة العظيمة , فيغيروا ما بأنفسهم وصدورهم ويتقوا الله جل وعلا .

ولنختم بحثنا بهذا الدعاء المأثور عن سلفنا الصالح :

" اللهم أهدنا فيمن فديت وعافنا فيمن عافيت وتولنا فيمن توليت وبارك لنا فيما أعطيت وقنا شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت تباركت ربنا وتعاليت " .

" ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب " .

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

المحامي الدكتور : مسلم محمد جودت اليوسف . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب المختصر في أصول الحديث-الشريف الجرجاني

كتاب : المختصر في أصول الحديث-الشريف الجرجاني بسم اللَّه الرحمن الرحيم الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله أجمعين ...