Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 7 أبريل 2023

ج27.وج28. تفسير الشعراوي

ج27.وج28. تفسير الشعراوي

قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49)

معنى { قُلْ... } [القصص: 49] أي: في الردّ عليهم { فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَىا مِنْهُمَآ... } [القصص: 49] أي: أهدى من التوراة التي جاء بها موسى، وأهدى من القرآن الذي جاء به محمد ما دام أنهما لم يُعجباكم { أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [القصص: 49] يعني: لو جئتمُ به لاتبعته.

وهذا يعني منهجين: منهج حقٍّ جاء به محمد، ومنهج باطل يُصرون هم عليه، وهذا التحدي من سيدنا رسول الله للكفار يعني أنه لا يوجد كتاب أهدى مما جاء به، لا عند القوم، ولا عند مَنْ سيأتي من بعدهم، وحين يُقر لهم رسول الله بإمكانية وجود كتاب أَهْدى من كتابه يطمعهم في طلبه، فإذا طلبوه لم يجدوا كتاباً أهدى منه، فيعرفوا هم الحقيقة التي لم ينطق بها رسول الله، وهل يستطيع بشر أن يضع للناس منهجاً أهدى من منهج الله؟

إذن: يقول لهم: { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [القصص: 49] وهو يعلم أنهم غير صادقين، لأن الله تعالى جعل محمداً صلى الله عليه وسلم خاتَم الرسل، فلن يأتي رُسُل بعده، بحيث يأتي الرسول فتستدركوا عليه فيأتي آخر بكتاب جديد، وأنتم لن تستطيعوا أنْ تأتوا بكتاب من عند أنفسكم؛ لأن كل مُقنّن سيأتي الذي يخدم مذهبه، ويُرضي هواه.

لذلك نقول: ينبغي في المقنِّن ويُشترط فيه:

أولاً: أن يكون على علم واسع، بحيث لا يُسْتدرك عليه فيما بعد، وهذه لا تتوفر في أحد من البشر، بدليل أن القوانين التي وُضِعت في الماضي لم تَعُدْ صالحة الآن ينادي الناس كثيراً بتعديلها، حيث طرأتْ عليهم مسائل جديدة غابتْ عن ذِهْن المشرِّع الأول، فلما جدَّتْ هذه المسائل أتعبت البشر بالتجربة، فَطالبوا بتعديلها.

ثانياً: يشترط في المشرِّع ألاَّ يكون له هوى فيما يُشرِّع للناس، ونحن نرى الرأسماليين والشيوعيين، وغيرهم كُلٌّ يشرع بما يخدم مذهبه وطريقته في الحياة؛ لذلك يجب ألاّ يُسند التشريع للناس لأحد منهم؛ لأنه لا يخلو من هوى.

ثالثاً: يُشتَرط فيه ألاَّ يكون منتفعاً بشيء مما يشرع.

وإذا اقتضت مسائل الحياة وتنظيماتها أنْ نُقنّن لها، فلا يُقنِّن لنا من البشر إلا أصحاب العقل الناضج والفكر المستقيم، بحيث يتوفر لهم نُضْج التقنين، لكن إلى أنْ يوجد عندهم نضج التقنين أيّ منهج يسيرون عليه؟

فإنْ حدثتْ فجوة في التشريع عاش الناس بلا قانون، وإلاَّ فما الذي قنَّنَ لأول مُقنِّن؟ الذي قنّن لأول مُقنِّن هو الذي خلق أول مَن خُلق.

ثم يقول الحق سبحانه: { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا... }.

(/3229)

فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)

وهذا يعني أن الله تعالى لم يطاوعهم إلى ما أرادوا، فلم يَأْتِهم بكتاب آخر، لكن كيف كان سيأتيهم هذا الكتاب؟ يجيب الحق - تبارك وتعالى - على هذا السؤال بقوله تعالى:{ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف: 31].

إذن: الكلام عندهم ليس في الكتاب، إنما فيمن أُنزِل عليه الكتاب، وهذا معنى: { فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ... } [القصص: 50].

ثم يقول سبحانه: { وَمَنْ أَضَلُّ... } [القصص: 50] يعني لا أضل { مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ... } [القصص: 50] أي: أتبع هوى نفسه، أما إنْ وافق هواه هوى المشرِّع، فهذا أمر محمود أوضحه رسول الله في الحديث الشريف: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ".

فنحن في هذه الحالة لا نتبع الهوى إنما نتبع الشرع؛ لذلك يقول أحد الصالحين الذين أفنوا عمرهم في الطاعة والعبادة: اللهم إنِّي أخشى ألاَّ تثيبني على طاعتي؛ لأنك أمرتنا أنْ نحارب شهوات أنفسنا، وقد أصبحت أحب الطاعة حتى صارت شهوة عندي.

وأضلُّ الضلال أن يتبع الإنسان هواه؛ لأن الأهواء متضاربة في الخَلْق تضارب الغايات، لذلك المتقابلات في الأحداث موجودة في الكون.

وقد عبَّر المتنبي عن هذا التضارب، فقال:أَرَى كُلَّنَا يَبْغي الحياةَ لنفسهِ حَرِيصاً عَليها مُسْتهاماً بها صبَّافحبُّ الجبانِ النفس أوردَهُ التقى وحُبُّ الشجاع النفسَ أَوردَهُ الحَربَافنحن جميعاً نحب الحياة ونحرص عليها، لكن تختلف وسائلنا، فالجبان لحبه الحياة يهرب من الحرب، والشجاع يُلقي بنفسه في معمعتها مع أنه مُحِبٌّ للحياة، لكنه محب لحياة أخرى أبقى، هي حياة الشهيد.

وآخر يقول:كُلُّ مَنْ في الوُجودِ يطلبُ صَيْداً غير أنَّ الشباك مُختلِفَاتفالرجل الذي يتصدق بما معه رغم حاجته إليه، لكنه رأى مَنْ هو أحوج منه، وفيه قال تعالى:{ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىا أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ... }[الحشر: 9].

نقول: هذا آثر الفقير على نفسه، لكنه من ناحية أخرى يبغي الأجر ويطمع في عَشْرة أمثال ما أنفق، بل يطمع في الجنة، إذن: المسألة فيها نفعية، فالدين عند المحققين أنانية، لكنها أنانية رفيعة راقية، ليست أنانية حمقاء، الدين يرتقي بصاحبه، ويجعله إيجابياً نافعاً للآخرين، ولا عليه بعد ذلك أن يطلب النفع لنفسه.

فالشرع حين يقول لك: لا تسرق. وحين يأمرك بغضِّ بصرك، وغير ذلك من أوامر الشرع، فإنما يُقيِّد حريتك وأنت واحد، لكن يُقيِّد من أجلك حريات الآخرين جميعاً، فقد أعطاك أكثر مما أخذ منك، فإذا نظرت إلى ما أخذ منك باتباعك للمنهج الإلهي فلا تَنْسَ ما أعطاك.

لذلك حين " نتأمل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعالج داءات النفوس حينما أتاه شاب من الأعراب الذين آمنوا، يشتكي إليه ضَعْفه أمام النساء، وقلة صبره على هذه الشهوة، حتى قال له: يا رسول الله ائذن لي في الزنا، ومع ذلك لم ينهره رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل علم أنه أمام مريض يحتاج إلى مَنْ يعالجه، ويستل من نفسه هذه الثورة الجامحة، خاصة وقد صارح رسول الله بما يعاني فكان صادقاً مع نفسه لم يدلس عليها.

لذلك أدناه رسول الله، وقال له: يا أخا العرب، أتحب ذلك لأمك؟ أتحب ذلك لزوجتك؟ أتحب ذلك لأختك؟ أتحب ذلك لابنتك؟ والشاب في كل هذا يقول: لا يا رسول الله جُعِلْتُ فِداك.

عندها قال صلى الله عليه وسلم: " كذلك الناس يا أخا العرب لا يحبون ذلك لأمهاتهم ولا لزوجاتهم ولا لأخواتهم ولا لبناتهم ".

فانصرف الشاب وهو يقول: والله ما شيء أبغض إليَّ من الزنا بعدما سمعتُ من رسول الله، وكلما هَمَّتْ بي شهوة ذكرتُ قول رسول الله في أمي، وزوجتي، وأختي، وابنتي.

فالذي يُجرِّيء الناس على المعصية والولوع بها عدم استحضار العقوبة وعدم النظر في العواقب، وكذلك يزهدون في الطاعة لعدم استحضار الثواب عليها.

وسبق أن قلنا لطلاب الجامعة: هَبُوا أن فتى عنده شَرَه جنسي، فهو شرهٌ منطلق يريد أنْ يقضي شهوته في الحرام، ونريد له أن يتوب فقلنا له: سنوفر لك كل ما تريد على أنْ تُلقي بنفسك في هذا (الفرن) بعد أن تُنهي ليلتك كما تحب، ماذا يصنع؟

ثم يقول تعالى: } إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ { [القصص: 50] وفي مواضع أخرى:{ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }[المائدة: 108]،{ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }[البقرة: 264]، وكلها دلَّتْ على أن الله لا يصنع عدم الهداية والتقوى - وإلاَّ فقد هدى الله الجميع هداية الدلالة والإرشاد فلم يأخذ بها هؤلاء فحُرِموا هداية الإيمان.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ... {.

(/3230)

وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)

كلمة { وَصَّلْنَا.. } [القصص: 51] تُشعر بأشياء، انفصل بعضها عن بعض، ونريد أنْ نُوصِّلها، فقوله تعالى { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [القصص: 51] أي: وصَّلنا لهم الرسالات، فكلما انقضى عهد رسول وكفر الناس أتاهم الله برسالة أخرى ليظلَّ الخَلْق مُتصلِين بهدي الخالق وبمنهجه، أو: أن الأمر خاصٌّ برسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى وصَّلنا له الآيات، فكلما نزل عليه نجم من القرآن وصَّلنا بنجم آخر حسب الأحداث.

لذلك كانت هذه المسألة من الشبهات التي أثارها خصوم رسول الله، حين قالوا كما حكى عنهم القرآن{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً... }[الفرقان: 32] فردَّ عليهم القرآن ليبين لهم حكمة نزوله مُنجَّماً:{ كَذَلِكَ... }[الفرقان: 32] أي: أنزلناه كذلك مُنجَّماً{ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً }[الفرقان: 32].

فلو نزل القرآن جملة واحدة لكان التثبيت لرسول الله مرة واحدة، وهو محتاج إلى تثبيت مستمر مع الأحداث التي سيتعرَّض لها، فيوصل الله له الآيات ليظل على ذَكْر من سماع كلام ربه كلما اشتدتْ به الأحداث، فيأتيه النجم من القرآن لَيُسلِّيه، ويُسرِّي عنه ما يلاقي من خصومه.

وحكمة أخرى في قوله:{ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً }[الفرقان: 32] فكلما نزل قِسْط من القرآن سَهُلَ عليهم حفظه وترتيبه والعمل به، كما أن المؤمنين المأمورين بهذا المنهج ستستجد عليهم قضايا، وسوف يسألون فيها رسول الله، فكيف سيكون الجواب عليها إنْ نزل القرآن جملة واحدة.

لا بُدَّ أن يتأخر الجواب إلى أنْ يطرأ السؤال؛ لذلك يقول تعالى:{ وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً }[الفرقان: 33].

وقد ورد الفعل يسألونك في القرآن عدة مرات في سور شتى، فكيف تتأتى لنا الإجابة لو جاء القرآن كما تقولون جملة واحدة، ثم سبحان الله هل اطقتموه مُنجمَّاً حتى تطلبوه جملة واحدة؟

ثم تختم الآية بحكمة أخرى: { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [القصص: 51] فكلما نزل نجم من القرآن ذكَّرهم بما غفلوا عنه من منهج الله.

ثم يقول الحق سبحانه: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ... }.

(/3231)

الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)

كأن الحق - تبارك وتعالى - يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: سأجعل خصومك من أهل الكتاب هم الذين يشهدون بصِدْقك؛ لأنهم يعرفونك كما يعرفون أبناءهم، وما جاء في كتابك ذُكرَ في كتبهم وذكِرت صورتك وأوصافك عندهم.

لذلك تجد آيات كثيرة من كتاب الله تُعوِّل على أهل الكتاب في معرفة الحق الذي جاء به القرآن، يقول تعالى:{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَىا بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ }[الرعد: 43].

فهم أيضاً شهداء على صدق رسول الله بما عندهم من الكتب السابقة فاسألوهم.

ويقول تعالى:{ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىا * إِنَّ هَـاذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَىا * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىا }[الأعلى: 16-19].

ويقول سبحانه:{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ... }[آل عمران: 199].

وإلا، فلماذا أسلم عبد الله بن سلام وغيره من علماء اليهود؟

إذن: أهل الكتاب الصادقون مع أنفسهم ومع كتبهم لا بُدَّ أنْ يؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، أما الذين لم يؤمنوا فحجبتهم السلطة الزمنية والحرص على السيادة التي كانت لهم قبل الإسلام، سيادةً في العلم، وفي الحرب، وفي الثروة.

وكان من هؤلاء عبد الله بن أُبَيٍّ، وكان أهل المدينة يستعدون لتنصيبه مَلِكاً عليهم، فلما هاجر سيدنارسول الله إليها أفسد عليهم ما يريدون، ونزع منهم هذه السيادة، والسلطة الزمنية حينما تتدخل تعني أن يشترك هوى الناس فيستخدمون مرادات الله لخدمة أهوائهم، لا لخدمة مرادات الله.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَإِذَا يُتْلَىا عَلَيْهِمْ... }.

(/3232)

وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)

هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب إذا يُتْلَى عليهم القرآن قالوا: آمنا به، وشَهِدوا له أنه الحق من عند الله، وأنهم لم يزدادوا بسماع آياته إيماناً، فهم كانوا من قبله مسلمين، فقد آمنوا أولاً بكتبهم، وآمنوا كذلك بالقرآن.

(/3233)

أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)

الحق - سبحانه وتعالى - يريد أنْ يُعلِّمنا أن الذي يريد ديناً حقاً لا بُدَّ أن ينظر إلى دين يأتي بعده بمعجزة، لأنه إذا كان قد آمن حين يجيء بعد عيسى رسول، فوجب عليه أنْ يبحث في الدين الجديد، وأنْ ينظر أدلة تبرر له إيمانه بهذا الدين.

هذا إذا كان الدين الأول لم يتبدَّل، فإذا كان الدين الأول قد تبدَّل، فالمسألة واضحة؛ لأن التبديل يُحدث فجوة عند مَنْ يريد ديناً{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ... }[الأعراف: 157].

آمنوا به؛ لأنهم وجدوا نَعْته، ووجدوا العقائد التي لا تتغير موجودة في كتابه، وهو أُميٌّ لم يعرف شيئاً من هذا، فأخذوا من أميته دليلاً على صِدْقه.

فقوله تعالى: { أُوْلَـائِكَ... } [القصص: 54] أي: أهل الكتاب الذين يؤمنون بالقرآن وهم خاشعون لله، والذين سبق وصفهم { أُوْلَـائِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ... } [القصص: 54] أجر لإيمانهم برسلهم، وأجر لإيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.

لذلك جاء في الحديث الشريف: " ثلاثة يُؤْتَوْن أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه مثل آمن بي، وعبد مملوك أدى حق الله وأدى حق أوليائه، ورجل عنده أَمَة - جارية - فأدَّبها فأحسن تأديبها، فأعتقها بعد ذلك، ثم تزوجها ".

وهؤلاء الذين آمنوا برسلهم، ثم آمنوا برسول الله استحقوا هذه المنزلة، ونالوا هذين الأجرين لأنهم تعرضوا للإيذاء ممَّنْ لم يؤمن في الإيمان الأول، ثم تعرَّضوا للإيذاء في الإيمان الثاني، فصبروا على الإيذاءين، وهذه هي حيثية { يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ... } [القصص: 54].

وكما أن الله تعالى يُؤتِي أهلَ الكتاب الذين آمنوا بمحمد أجرهم مرتين، كذلك يُؤتي بعض المسلمين أجرهم مرتين، ومنهم - كما بيَّن سيدنا رسول الله: " عبد مملوك أدى حق الله، وأدَّى حق أوليائه، ورجل عنده أَمَةٌ... ".

ولا يُحرم هذا الأجر الدين الذي باشر الإسلام، وأتى قبله، وهو المسيحية، فلهم ذلك أيضاً؛ لذلك يقول تعالى:{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ... }[الحديد: 25] وأهم هذه المنافع{ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ... }[الحديد: 25] وذكر الحديد، لأن منه سيصنع سلاح الحرب.

إذن: أنزل الله القرآن لمهمة، وأنزل الحديد لمهمة أخرى؛ لذلك يقول الشاعر:فَمَا هُوَ إلاَّ الوَحْي أَوْ حَدٌّ مُرْهَف يُقيم ظباه أَخْدعَيْ كلِّ مائلٍفَهَذا دَوَاءُ الدَّاء من كُلِّ عَاقِلٍ وذَاك دَوَاءُ الدَّاءِ من كُلِّ جاهلولي أنا شخصياً ذكريات ومواقف مع هذه الآية { أُوْلَـائِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ... } [القصص: 54] وقد كنا في بلد بها بعض من إخواننا المسيحيين، وكان من بينهم رجل ذو عقل وفكر، كان دائماً يُواسي المسلمين، ويحضر مآتمهم ويستمع للقرآن، وكانت تعلَق بذهنه بعض الآيات، فجاءني مرة يقول: سمعت المقريء يقرأ:

{ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }[الأنبياء: 107].

فألسنا من العالمين، قلت له: نعم أُرسِل محمد رحمة للعالمين جميعاً، فمَنْ آمن به نالته رحمته، ومَنْ لم يؤمن به حُرِم منها، ومع ذلك لو نظرتَ في القرآن نظرة إمعانٍ وتبصُّر تجد أنه رحِم غير المؤمن، قال: كيف؟ فقرأتُ له قوله تعالى:{ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ... }[النساء: 105] ولم يقل بين المؤمنين{ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }[النساء: 105].

فمن رحمة الرسول بغير المؤمنين أنْ يُنصف المظلوم منهم، وأنْ يردَّ عليه حقَّه، ثم{ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }[النساء: 106] لأن الله لا يحب الخوَّان الأثيم ولو كان مسلماً.

ثم ذكرتُ له سبب نزول هذه الآية وهي قصة الدرع الذي أودعه اليهودي زيد بن السمين أمانة عند طعمة بن أبيرق المسلم، وكان الدرع قد سُرِق من قتادة بن النعمان، فلما افتقده قتادة ذهب يبحث عنه، وكان قد وضعه في كيس من الدقيق، فتتبع أثر الدقيق حتى ذهب إلى بيت زيد بن السمين اليهودي فاتهمه بسرقته، وأذاع أمره بين الناس، فقصَّ اليهودي ما كان من أمر طُعْمة بن أبيرق، وأنه أودع الدرع عنده على سبيل الأمانة؛ لأنه يخشى عليه أنْ يُسرق من بيته.

وهنا أحب المسلمون تبرئة صاحبهم؛ لأنه حديث عهد بإسلام، وكيف ستكون صورتهم لو شاع بين الناس أن أحدهم يسرق، ومالوا إلى إدانة اليهودي، وفعلاً عرضوا وجهة نظرهم هذه على رسول الله ليرى فيه حلاً يُخرجه من هذا المأزق، مع أنهم لا يستبعدون أنْ يسرق ابن أبيرق.

وجلس رسول الله يفكر في هذا الأمر، لكن سرعان ما نزل عليه الوحي، فيقول له: هذه المسألة لا تحتاج إلى تفكير ولا بحث:{ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }[النساء: 105].

فأدانت الآية ابن أبيرق، ودلَّتْ على أن هذه ليست الحادثة الأولى في حقِّه، ووصفتْه بأنه خوّان أي: كثير الخيانة وبرَّأتْ اليهودي، وصححتْ وجهة نظر المسلمين الذين يخافون من فضيحة المسلم بالسرقة، وغفلوا عن الأثر السيء لو قلبوا الحقائق، وأدانوا اليهودي.

فالآية وإنْ أدانت المسلم، إلا أنها رفعتْ شأن الإسلام في نظر الجميع: المسلم واليهودي وكل من عاصر هذه القصة بل وكل من قرأ هذه الآية، ولو انحاز رسول الله وتعصَّب للمسلم لاهتزتْ صورة الإسلام في نظر الجميع. ولو حدث هذا ماذا سيكون موقف اليهود الذين يراودهم الإسلام، وقد أسلموا فعلاً بعد ما حدث؟

وما أشبهَ هذه المسألة بشاهد الزور الذي يسقط أول ما يسقط من نظر صاحبه الذي شهد لصالحه، حتى قالوا: مَنْ جعلك موضعاً للنقيصة فقد سقطت من نظره، وإنْ أعَنْتَه على أمره، فشاهد الزور يرتفع رأسُك على الخصم بشهادته، وتطأ قدمُك على كرامته.

وقوله تعالى: } وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ... { [القصص: 54] هذه أيضاً من خصالهم أن يدفعوا السيئة بالحسنة، فمن صفاتهم العفو والصفح كما قال تعالى:{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }[الشورى: 43] } وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ { [القصص: 54] النفقة الواجبة على نفسه وعلى آله، والنفقة الواجبة للفقراء وهي الزكاة، ثم نفقة المروءات للمساكين وأهل الخصاصة.

(/3234)

وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)

هذه صفة أخرى من صفات المؤمنين { وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ... } [القصص: 55] واللغو: هو الكلام الذي لا فائدة منه، فلا ينفعك إنْ سمعتَه، ولا يضرك عدم سماعه، وينبغي على العاقل أنْ يتركه، فهو حقيق أنْ يُترك وأنْ يُلْغى.

ولذلك كان من صفات عباد الرحمن:{ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً }[الفرقان: 72] أي: لا يلتفتون إليه.

وسبب نزول هذه الآية: لما استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم رُسُل النجاشي وكانوا جماعة من القساوسة، فلما جلسوا أسمعهم سورة (يس)، فتأثروا لها حتى بكَوْا جميعاً، ثم آمنوا برسول الله، ولما انصرفوا تعرَّض لهم أبو جهل ونهرهم وقال: خيَّبكم الله من رَكْب - وهم الجماعة يأتون في مهمة - أرسلكم من خلفي - يعني: النجاشي - لتعلموا له أخبار الرجل، فسمعتموه فبكيتُم وأسلمتُم، والله ما رأينا رَكْباً أحمق منكم، فما كان منهم إلا أنْ أعرضوا عنه.

هذا معنى قول الحق سبحانه: { وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ.... } [القصص: 55].

وهؤلاء مرُّوا باللغو مرورَ الكرام، وأعرضوا عنه، فلم يلتفتوا إليه، وزادوا على ذلك أنهم لم يسكتوا على اللغو إنما قالوا: { لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [القصص: 55] لنا أعمالنا الخيِّرة التي يجب أنْ نُقبل عليها، ولكم أعمالكم الباطلة التي ينبغي أنْ تُترك، فكلٌّ مِنَّا له شَأْن يشغله.

{ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ.. } [القصص: 55] والسلام إما سلام تحية كما هو شائع بيننا، وإما سلام للمتاركة كما لو دخلتَ مع صاحبك في جدل، فلما رأيتَ أنه سيطول وربما تعدَّيْتَ عليه فتقول له تاركاً: سلام عليكم. تعني: إنني ليس لديَّ ما أقوله لمفارقتك إلا هذه الكلمة.

ومن ذلك ما دار بين الخليل إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - وبين عمِّه، فبعد أنْ ناقشه ولم يَصل معه إلى نتيجة قال له:{ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي... }[مريم: 47].

ثم يقول الحق سبحانه: { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ... }.

(/3235)

إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)

هذا خطاب لسيدنا رسول الله، خاصٌّ بدعوته لعمه أبي طالب الذي ظلَّ على دين قومه، ولكنه كان يحمي رسول الله حماية عصبية قربى وأهل، لا محبة في الإسلام، ولله تعالى حكمة في أنْ يظلَّ أبو طالب على الكفر؛ لأنه بذلك كسب قريشاً ونال احترامهم، حيث أعجبهم عدم إيمانه بمحمد وعدم مجاملته له، وأعجبهم أن يظل على دين الآباء، فاحترموا حمايته لابن أخيه، وهذا منع عن رسول الله إيذاءهم، وحمى الدعوة من كثير من الاعتداءات عليها.

لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على أنْ يردَّ له هذا الجميل، وردُّ رسول الله للجميل لا يكون بعرَض من الدنيا، إنما بشيء باقٍ خالد، فلما حضرت أبا طالب الوفاة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عم، قُلْ لا إله إلا الله كلمة أشفع لك بها عند الله يوم القيامة " فقال: يا ابن أخي، لولا أن قريشاً تُعيِّرني بهذه الواقعة، ويقولون ما آمن إلا جزعاً من الموت لأقررت عينك بها.

لكن يُروى أنه بعدما انتقل أبو طالب، جاء العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا محمد، إن الكلمة التي طلبتَ من عمِّك أنْ يقولها قالها قبل أن يموت وأنا أشهد بها.

ونلاحظ هنا دقة الأداء من العباس، حيث لم يقُلْ: إن هذه الكلمة لا إله إلا الله، بل سماها (الكلمة) لماذا؟ لأنه لم يكن قد أسلم بعد.

وسبق أنْ تكلَّمنا في معنى الهداية { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ... } [القصص: 56] وقلنا: إنها تأتي بأحد معنيين: بمعنى الإرشاد والدلالة، وبمعنى المعونة لمن يؤمن بالدلالة، ومن ذلك قوله تعالى:{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ }[محمد: 17] أي: سمعوا الدلالة وأطاعوها، فزادهم الله هداية أخرى، هي هداية الإيمان والمعونة.

يقول تعالى في هذه المسألة:{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ }[فصلت: 17] يعني: دللناهم{ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَىا عَلَى الْهُدَىا }[فصلت: 17]؛ لذلك حُرموا هداية المعونة.

إذن: الهداية المنفية عن سيدنا رسول الله { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ... } [القصص: 56] هي هداية المعونة والتوفيق للإيمان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هدى الجميع هداية الدالة والإرشاد، وكان مما قال:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىا تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }[الصف: 10].

فهداية الدلالة صدرت أولاً عن الله تعالى، ثم بالبلاغ من رسوله صلى الله عليه وسلم ثانياً.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىا مَعَكَ... }.

(/3236)

وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)

وهذه المقولة { إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىا مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ... } [القصص: 57] قالها الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف، فقد ذهب إلى سيدنا رسول الله، وقال: إننا نعلم أنك جئتَ بالحق، ولكن نخاف إنْ آمنا بك واتبعنا هواك أنْ نُتخطّف من أرضنا، ولا بُدَّ أنه كان يتكلم بلسان قومه الذين ائتمروا على هذا القول.

والخطْف: هو الأخْذ بشدة وسرعة.

إذن: فهم يُقرُّون للرسول بأنه جاء بالحق، وأنه على الهدى، لكن علة امتناعهم أنْ يتخطفوا، وكان عليهم أنْ يقارنوا بعقولهم بين أن يكونوا مع رسول الله على الحق وعلى الهدى ويُتخطَّفوا وبين أنْ يظلُّوا على كفرهم.

فقصارى ما يصيبهم إنْ اتبعوا رسول الله أن يتخطفهم الناس في أموالهم أو في أنفسهم - على فرض أن هذا صحيح - قصارى ما يصيبهم خسارة عَرَض فانٍ من الدنيا لو استمر لك لتمتعتَ به مدة بقائك فيها، وهذا الخير الذي سيفوتك من الدنيا محدود على مقتضى قوة البشر، ولا يضيرك هذا إنْ كنتَ من أهل الآخرة حيث ستذهب إلى خير بَاقٍ دائم، خير يناسب قدرة المنعم سبحانه.

أما إنْ ظلُّوا على كفرهم، فمتاع قليل في الدنيا الفانية، ولا نصيبَ لهم في الآخرة الباقية. إذن: فأيُّ الطريق أهدى؟ إن المقارنة العقلية ترجح طريق الهدى واتباع الحق الذي جاء به رسول الله، هذه واحدة.

ثم مَنْ قال إنكم إن اتبعتم الهدى مع رسول الله تُتخطَّفوا وتُضطهدوا؟ لذلك يرد الله عليهم: قُلْ لهم يا محمد: كذبتم، فلن يتخطفكم أحد بسبب إسلامكم { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَىا إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [القصص: 57].

فقد أنعم الله عليكم وأنتم كافرون مشركون به، تعبدون الأصنام في جاهلية، ومكَّن لكم حياة آمنة في رحاب بيته الحرام، ووفّر لكم رَغَد العيش وأنتم بوادٍ غير ذي زرع حيث يُجْبي إليه الثمرات من كل مكان، فالذي صنع معكم هذا الصنيع أيترككم ويتخلى عنكم بعد أنْ آمنتم به، واهتديتم إلى الحق؟ كيف يكون منكم هذا القياس؟

ومعنى: { نُمَكِّن لَّهُمْ... } [القصص: 57] نجعلهم مكينين فيه، كما في قوله تعالى:{ وَكَذالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ... }[يوسف: 21] والتمكين يدل على الثبات؛ لأن ظرف المكان ثابت على خلاف ظرف الزمان.

وقال: { حَرَماً آمِناً.. } [القصص: 57] مع أن الأمن لمن في المكان، لكن أراد سبحانه أن يُؤمِّن نفس المكان، فيكون كل ما فيه آمناً، حتى القاتل لا يُقتصّ منه في الحرم، والحيوان لا يُثار فيه ولا يُصَاد، والنبات لا يُعضد حتى الحجر في هذا المكان آمن، ألاَ تراهم يرجمون حجراً في رمي الجمرات في حين يُكرِّمون الحجر الأسود ويُقبّلونه.

وحينما نتأمل الحرم منذ أيام الخليل إبراهيم - عليه السلام - نجد أن له خطة، وأن الحق سبحانه يُعدُّه ليكون حرماً آمناً، فلما جاءه إبراهيم قال:{ رَّبَّنَآ إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ... }[إبراهيم: 37].

هذا يعني أن المكان ليس به من مقومات الحياة إلا الهواء، لأن نفي الزرع يعني عدم وجود الماء؛ لذلك اعترضت السيدة هاجر على هذا المكان القفر، فلما علمتْ أنه اختيار الله لهم قالت: إذن لن يضيعنا.

وقد رأتْ بنفسها أن الله لم يُضيِّعهم، فلما احتاجت الماء لترضع وليدها وسعتْ في طلبه بين الصفا والمروة سبعة أشواط على قَدْر ما أطاقتْ لم تجد الماء في سَعْيها، ولو أنها وجدته لكان سعيها سبباً إنما أراد الله أنْ يُصدِّقها في كلمتها، وأن يثبت لها أنه سبحانه لن يُضيّعهم من غير أسباب لتتأكد أن كلمتها حق، ثم شاءتْ قدرة الله أن يخرج الماء من تحت قدم الوليد، وهو يضرب بقدمه الأرض، ويبكي من شدة الجوع والعطش، وانبجستْ زمزم.

ولما أسكن إبراهيم أهله في هذا المكان المقْفر أراده لهم سكناً دائماً، لا مجرد استراحة من عناء السفر؛ لذلك قال:{ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ... }[إبراهيم: 37].

وكأنه - عليه السلام - يريد أن يطمئن على إقامة أهله في هذا المكان، وأن يكون البيت مُصلَّى لله، لا تنقطع فيه الصلاة، وهذا هو الفرق بين بيت الله باختيار الله وبيت الله باخيتار عباد الله.

فالبيت الذي نبنيه لله تعالى قد يُغلق حتى في أوقات الفروض، أما بيت الله الذي اتخذه لنفسه فلا يخلو من الطواف والصلاة في أيِّ وقت من ليل أو نهار، ولا ينقطع منه الطواف إلا لصلاة مكتوبة، فإذا قُضيتْ الصلاة رأيتهم يُهرعون إلى الطواف.

وقد رأيت الحرم في إحدى السنوات وقد دهمه سيل جارف حتى ملأ ساحته، ودخل الماء الكعبة وغطَّى الحجر الأسود، فكان الناس يطوفون سباحة، ورأينا أناساً يغطسون عند الحجر ليُقبِّلوه، وكأن الحق - سبحانه وتعالى - يريد أن يظلَّ الطواف حول بيته لا ينقطع على أيِّ حال.

كذلك نفهم من قوله تعالى:{ تَهْوِي إِلَيْهِمْ... }[إبراهيم: 37].

من الفعل هَوَى يهوي، يعني: سقط؛ لأن الذي يسقط لا إرادةَ له في عدم السقوط، كذلك مَنْ يأتي بيت الله أو يجلب إليه الخيرات يجد دافعاً يدفعه كأنه لا إرادة له.

كما نفهم منها معنى آخر، فكل تكاليف الحق سبحانه ربما تكاسل الناس في أدائها، فمنّا مَنْ لا يصلي أو لا يُزكِّي. إلا الحج حيث قال الله فيه:{ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً... }[الحج: 27] فمجرد أن تؤذن يأتوك.

لذلك نجد من غير القادرين على نفقات الحج من يجوع ويُمسك على أهله ليوفِّر تكاليف الحج، فهو - إذن - الفريضة الوحيدة التي يتهافت عليها مَنْ لم تطلب منه.

ونلحظ أن إبراهيم - عليه السلام - دعا بالأمن للحرم مرتين: مرة في قوله:{ رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا بَلَداً آمِناً... }[البقرة: 126] يعني: اجعل هذا المكان بلداً آمناً، كأيِّ بلد آمن لا تُقام إلا في مكان يُؤَمِّنون فيه كل مُقوِّمات الحياة، فأيّ بلد لا تُبنى حتى من الكافر إلا إذا كان آمناً فيها، فالطلب الأول أنْ يتحول هذا المكان الخالي إلى بلد آمن، كما يأمن كل بلد حين ينشأ، وهذا أمن عام.

ثم يدعو مرة أخرى{ رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا الْبَلَدَ آمِناً... }[إبراهيم: 35] بعد أن أصبحتْ مكة بلداً آمناً يطلب لها مزيداً من الأمن، وهذا أمن خاص، حيث جعلها بلداً حراماً، يأمن فيها الإنسان والحيوان والنبات، بل والجماد.

وقد وقف البعض عند قوله تعالى:

{ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً... }[آل عمران: 97].

وقالوا: أين هذا الأمن، وقد حدث في الحرم الاعتداء والقتل وترويع الآمنين، كما حدث في أيام القرامطة لما دخلوا الحرم، وقتلوا الناس فيه، وأخذوا الحجر، وفي العصر الحديث نعرف حكاية جهيمان، وما حدث فيها من قَتْل في الحرم.

وهذه الآية:{ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً... }[آل عمران: 97] جملة خبرية غرضها الأمر والحثّ، كأنه تعالى قال: أمِّنوا من دخل الحرم. وهذه ليست قضية كونية، إنما قضية شرعية، وفرْق بين القضيتين: الكونية لا بُدَّ أن تحدث، أما الشرعية فأمر ينفذه البعض، ويخرج عليه البعض، فمَنْ أطاع الأمر الشرعي لله وأراد أنْ يجعل أمر الله صادقاً يُؤمِّن أهل الحرم، ومَنْ أراد أنْ يكذِّب ربه يهيج الناس ويروعهم فيه.

ومن الآيات التي كثيراً ما يُسأل عنها في هذا الصدد قوله تعالى:{ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ... }[النور: 26] يقولون: كثيراً ما يتزوج خبيث من طيبة، أو طيبة من خبيث، فالواقع لا يتفق مع الآية. نقول أيضاً هنا: هذه قضية شرعية تحمل أمراً قد يُطاع وقد يُعْصَى، وليست قضية كونية لا بُدَّ أنْ تأتي كما أخبر الله تعالى بها، ولا يتخلّف مدلولها.

فالمعنى في الآية: إن زوجتُم فزوِّجوا الخبيث للخبيثة، والطيب للطيبة؛ ليتحقق التكافؤ بين الزوجين ويحدث بينهما الوفاق، حتى إنْ عيَّر الخبيث زوجته كانت مثله تستطيع أنْ تردّ عليه، لا بُدَّ من وجود التكافؤ حتى في (القباحة)، وإلا فكيف تفعل الطيبة مع الخبيث، أو الخبيث مع الطيبة؟

إذن: فالآية وأمثالها قضية شرعية في صيغة الخبر، وإنْ كانت تعني الأمر، كما تقول عن الميت: رحمه الله بصيغة الماضي، وأنت لا تدري رحمه الله، أو لم يرحمه، إذن: لا بُدَّ أن المعنى دعاء: فليرحمه الله، قلتها أنت بصيغة الماضي، رجاء أن تكون له الرحمة.

نعود إلى قوله تعالى: } أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً... { [القصص: 57] ونلحظ هذا التمكين وهذا الأمن من قصة الفيل، حيث جاء أبرهة ليهدم الكعبة، ويتقدّم الجيش فيل ضخم يقال له محمود، فلما قالوا في أذنه (أبرُكْ محمود وارجع راشداً) يعني: انفد بجلدك (فإنك ببلد الله الحرام) فبرك الفيل واستجاب.

ثم جاءت معركة الطير الأبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول. هذا كله من الأمن الذي جعله الله لقريش فجعلهم كعصف مأكول. هذا كله من الأمن الذي جعله الله لقريش سكان حرمه؛ لتظل الكعبة مسكونة بهم، وما داموا هم سكان الحرم والناس تأتيهم من كل الأنحاء للحج كل عام، فسوف يظل لهم الأمن بين القبائل، ولا يجرؤ أحد على الأعتداء عليهم، أو التعرُّض لقوافلهم في رحلة الشتاء والصيف، وأيُّ أمن، وأيُّ مهابة بعد هذا؟

ومع الحجيج يُجلب الطعام وتُجلب الأرزاق، وصدق الله العظيم:{ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـاذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ }[قريش: 1-4].

وكيف بعد هذا الأمن والأمان يخاف مَنْ يؤمن بمحمد أنْ يُتخطَّف من أرضه؟ إنها مقولة لا مدلولَ لها.

(/3237)

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)

كلمة { وَكَمْ.. } [القصص: 58] كم هنا خبرية تفيد الكثرة، كأنك تركتَ الجواب ليدل بنفسه على الكثرة، كما تقول لمن ينكر جميلك، ولا تريد أنْ تُعدد أياديك عليه: كم أحسنتُ إليك، يعني: أنا لن أُعدِّد، وسوف أرضى بما تقوله أنت لأنك واثق أن الإجابة سوف تكون في صالحك، وعندها لا يملك إلا أن يقول: نعم هي كثيرة. فكم هنا تعني الكثرة، وينطق بها المخاطب لتكون حجة عليه.

ومعنى: { مِن قَرْيَةٍ... } [القصص: 58] من للعموم أي: من بداية ما يُقال له قرية { بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } [القصص: 58] البطر: أن تنسى شُكْر المُنعم على نعمه، أي: أنه سبحانه لم يرد ذكره على بالك وأنت تتقلَّبَ في نِعمه، أو يكون البطر باستخدام النعمة في معصية المنعم عز وجل.

ومن البطر أن يتعالى المرء على النعمة، أو يستقلها ويراها أقلّ من مستواه، كالولد الذي تأتي له أمه مثلاً بطبق العدس فيتبرَّم به، وربما لا يأكل، فتقول الأم كما نقول في العامية؛ أنت (بتتبطر) على نعمة ربنا؟ كلمة في لغتنا العامية لكن لها أصل في الفصحى.

إذن: من البطر أنْ تتجبَّر، أو تتكبر، أو تتعالى على نعمة الله، فلا ترضي بها، وتطلب أعلى منها.

ومعنى { مَعِيشَتَهَا } [القصص: 58] أي: أسباب معيشتها { فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } [القصص: 58] فما داموا قد بطروا نعمة الله فلا بُدَّ أن يسلبها من أيديهم، وإنْ سُلبتْ نِعم الله من بلد هلكوا، أو رحلوا عنها { إِلاَّ قَلِيلاً } [القصص: 58] هم الذين يقيمون بعد هلاك ديارهم.

{ وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } [القصص: 58] نرثهم لأنهم لم يتركوا مَنْ يرثهم، وإذا تُرِك مكان بلا خليفة يرثه آل ميراثه إلى الله تعالى.

وفي آية أخرى يعالج الحق سبحانه هذه القضية بصورة أوسع، يقول تعالى:{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ... }[النحل: 112] يعني: بطرت بنعمه تعالى{ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ... }[النحل: 112].

ومعنى الكفر بالله: سَتْر وجود الله، والسَّتْر يقتضي مستوراً، فكأن الأصل أن الله تعالى موجود، لكن الكافر يستر هذا الوجود، وهكذا يكون الكفر نفسه دليلاً على الإيمان، فالإيمان هو الأصل والكفر طارئ عليه.

ومثال ذلك قولنا: إن الباطل جُنْدي من جنود الحق، فحين يستشري الباطل يذوق الناس مرارته، ويكتوون بناره، فيعودون إلى الحق وإلى الصواب، ويطلبون فيه المخرج حين تعضُّهم الأحداث.

وكذلك نقول بنفس المنطق: الألم أول جنود الشفاء؛ لذلك نجد أن أخطر الأمراض هو المرض الذي يتلصص على المريض دون أنْ يُشعره بأيِّ ألم، فلا يدرى به إلا وقد استفحل أمره، وتفاقم خطره وعزَّ علاجه، لذلك نسميه - والعياذ بالله - المرض الخبيث.

ففي قوله تعالى:{ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ... }[النحل: 112].

دليل على وجود النعم، ومع ذلك كفروا بها أي: ستروها، إما بعدم البحث في أسبابها، والتكاسل عن استخراجها، أو ستروها عن المستحق لها وضنُّوا لها على العاجز الذي لا يستطيع الكسب؛ لذلك يسلبهم الله هذه النعم ويحرمهم منها رغم قدرتهم.

وهناك أشياء لو ظلت موجودة لأعطتْ رتابة، ربما فهموا منها أن هذه الأشياء إنما تأتيهم تلقائياً بطبيعة الأشياء، وحين يسلب الله منهم نعمه ويطقع هذه الرتابة، فإنما ليفهموا أن الرتابة في التكليفات تُضعِف الحكمة من التكليف، كيف؟

نقول: الحق - تبارك وتعالى - حرَّم علينا أشياء وأحلَّ لنا أشياء، فمثلاً حرَّم الله علينا الخمر حتى أصبحنا لا نشربها ولا حتى تخطر ببالنا، فأصبحت عادة رتيبة عندنا، والله تعالى يريد أنْ يُديم على الإنسان تكليف العبادة، حتى لا يعتادها فيفعلها بالعادة، فيكسر هذه العادة مثلاً في صوم رمضان.

ويُحرِّم عليك ما كان حلالاً لك طوال العام، وقد اعتدْتَ عليه، فيأتي رمضان وتكليف الصيام ليُحرِّم عليك الطعام الذي كنت تأكله بالأمس، ذلك لتظل حرارة العبادة موجودةً تُشوِّق العبد إليها، وتُعوِّده الانضباط في أداء التكاليف.

ثم يذكر العقاب على الكفر بنعمة الله{ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ... }[النحل: 112] والجوع له مظهران: أنْ تطلبه البطن في أول الأمر، فإنْ زاد الجوع ضعُفَتْ الجوارح، وتألمتْ الأعضاء كلها، وذاقتْ ألم الجوع، والله تعالى يريد أنْ يُرينا إحاطة هذا الألم، فشبَّهه باللباس الذي يحيط بالجسم كله، ويلفّه من كل نواحيه.

وهذه سُنَّة الله في القُرى الظالمة، كما قال سبحانه: } وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىا... {.

(/3238)

وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)

إذن: لا بُدَّ أن نُعْلِم بالمنهج، ويأتي رسول يقول: افعل كذا، ولا تفعل كذا، حتى إذا حَلَّ العذاب بالكافرين يكون بالعدْل، وبعد إلزامهم الحجة، لا أنْ نترك الناس يذنبون، ثم نقول لهم: هذا حرام.

وسبق أنْ قُلْنا ما قاله القانون: لا عقوبة إلا بتجريم، ولا تجريم إلا بنصًّ، ولا نصَّ بإعلام. وما كان الله ليهلك قرية ظلماً، إنما عقوبةً لهم على ما فعلوا.

والقرية لها تسلسل فنقول: (نَجْع) وهو المكان الذي تسكنه أسرة واحدة، و (كَفْر) لعدة أسر، ثم (قرية) ثم (أم القرى) وهي الحضر أو العاصمة، وقد نزل القرآن في أمة مُتبدية، تعيش على الترحال، وتقيم في الخيام تتنقل بها بين منابت الكلأ، فقالوا (أم القرى) للمكان الذي تجد به القرى، وتتوفر فيه من مقومات الحياة ما لا يوجد في النجوع والكفور والقرى الصغيرة، كما يعيش الآن أهل الريف على قضاء حوائجهم من (البندر)، كأنّ أُمّ القرى لها حنان، يشمل صغار البلاد حولها.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ... }.

(/3239)

وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60)

معنى: { مِّن شَيْءٍ... } [القصص: 60] من أيِّ شيء من مُقوِّمات الحياة، ومن كمالياتها { فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا... } [القصص: 60] فمهما بلغ هذا من السُّمو، فإنه متاع عمره قليل، كما قال سبحانه:{ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ }[النساء: 77].

لذلك طلبنا منكم ألاَّ تنشغلوا بهذا المتاع، وألاَّ تجعلوه غايةً، لأن بقاءك فيها مظنون، ومتاعك فيها على قَدْر نشاطك وحركتك.

وسبق أنْ قلنا: إن آفة النعيم في الدنيا إما أن يتركك أو تتركه، وأن عمرك في الدنيا ليس هو عمر الدنيا، إنما مدة بقائك أنت فيها، ومهما بلغتَ من الدنيا فلا بُدَّ من الموت.

لذلك يدلُّنا ربنا - عَزَّ وجَلَّ - على حياة أخرى باقية مُتيقَّنة لا يفارقك نعيمها ولا تفارقه.

{ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [القصص: 60].

{ خَيْرٌ... } [القصص: 60] لأن النعيم فيها ليس على قَدْر نشاطك، إنما على قَدْر الله وعطائه وكرمه، { وَأَبْقَىا.. } [القصص: 60] لأنه دائم لا ينقطع، فلو قارن العاقل بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة لاختار الآخرة.

لذلك، فإن الصحابي الذي حدَّثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أجر الشهيد، وتيقَّن أنه ليس بينه وبين الجنة إلا أنْ يُقتل في سبيل الله، وكان في يده تمرات يأكلها فألقاها، ورأى أن مدة شغله بمضغها طويلة؛ لأنها تحول بينه وبين هذه الغاية، ألقاها وأسرع إلى الجهاد لينال الشهادة. لماذا؟ لأنه أجرى مقارنة بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة.

والحق - سبحانه وتعالى - حين يُجري هذه المقارنة بين الكفار وبين المؤمنين يقول:{ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ... }[التوبة: 52] إما أن ننتصر عليكم ونُذلكم، ونأخذ خيراتكم، وإما ننال الشهادة فنذهب إلى خير مما تركنا{ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا... }[التوبة: 52].

إذن: لا تتربصون بنا إلا خيراً، ولا نتربّص بكم إلا شراً.

وفي موضع آخر قال سبحانه:{ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىا }[الأعلى: 16 - 17] لذلك ذيَّل الآية هنا بقوله تعالى: { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [القصص: 60] لأن العقل لو قارن بين الدنيا والآخرة لا بُدَّ أنْ يختار الآخرة.

ثم يقول الحق سبحانه: { أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ.... }.

(/3240)

أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)

تُعد هذه الآية شرحاً وتأكيداً لما قبلها، والوعد: بشارة بخير، وإذا بشَّرك مُساوٍ لك بخير أتى خيره على قدر إمكاناته، وربما حالت الأسباب دون الوفاء بوعده، فإنْ كان الوعد من الله جاء الوفاء على قدر إمكاناته تعالى في العطاء، ثم إنَّ وعده تعالى لا يتخلف{ وَمَنْ أَوْفَىا بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ... }[التوبة: 111].

لذلك قال { وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ... } [القصص: 61] أي: حتماً { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } [القصص: 61] أي: للعذاب.

وهذه الكلمة { الْمُحْضَرِينَ } [القصص: 61] لا تستعمل في القرآن إلا للعذاب، وربما الذي وضع كلمة (مُحضر) قصد هذا المعنى؛ لأن المحضر لا يأتي أبداً بخير.

ويقول تعالى في موضع آخر:{ وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ }[الصافات: 158].

وقال تعالى:{ وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ }[الصافات: 57] ثم يقول سبحانه مُؤكِّداً هذا الإحضار يوم القيامة حتى لا يظن الكافر أن بإمكانه الهرب: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ... }.

(/3241)

وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)

والسؤال هنا للذين أشركوا، لا لمن أُشرك بهم، وكلمة { وَيَوْمَ... } [القصص: 62] منصوبة على الظرفية، لا بُدَّ أن نُقدِّر لها فعلاً يناسبها، فالتقدير: واذكر يوم يناديهم، والأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لمن يذكره رسول الله؟ يذكره للكافرين بهذا اليوم يوم القيامة.

والآية تعطينا لقطة من لقطات هذا اليوم الذي هو يوم الواقعة التي لا واقعةَ بعدها، ويوم الحاقَّة أي الثابتة التي لا تَزَحْزُحَ عنها، ويوم الصَّاخة أي: التي تصخّ الآذان التي انصرفتْ عنها في الدنيا، ويوم الطامة التي تطمُّ، ويوم الدين، أي: الذي ينفع فيه الدين.

والحق سبحانه يذكر هذه اللقطة لأمرين:

الأول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عُودي وأُوذِي وهزِيء به وسُخِر منه، واجتمعت عليه كل وسائل النكالَ من خصومة فبيَّتوا به بمكر، وصنعوا له سحراً.. إلخ.

وحين تجد دعوة تُقابَل بهذه الشراسة، فاعلم أنها ما قُوبلت هذه المقابلة إلا لأنها ستهدم فساداً ينتفع به قوم ترهبهم كلمة الإصلاح؛ لأنها تصيبهم في مصالحهم وفي شهواتهم وفي جاههم وعنجهيتهم وطغيانهم، فطبيعي أن يقفوا في وجهها.

لذلك نجد كثيراً من الغربيين يعرفون عظمة الإسلام من شراسة عداوة خصومه، يقولون: لو لم يكُنْ هذا الدين ضد فسادهم ما ائتمروا عليه، ولو كان أمراً هيِّناً لتركوه للزمن يمحوه، لكنهم أيقنوا أنه الحق الذي سيُذهِب باطلهم، ويقضي على طغيانهم.

فالحق سبحانه يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أنْ يذكر ذلك اليوم يذكره لنفسه، ويذكره لقومه ليعتبروا، فربما إذا سمعوا ما في هذا اليوم من القسوة والخزي والنكال ربما راجعوا أنفسهم فتابوا إلى الله.

إذن: ليس حظ الله تعالى من هذا العمل أنْ يُرهبهم إنما ليحذرهم، لئلا يقع منهم الكفر الذي يُوقِفهم هذا الموقف، كما تُبشِّع لولدك عاقبة الإهمال، وتُحذِّره من الرسوب لينفر من أسبابه، ويبحث عن أسباب النجاح.

يقول تعالى: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ... } [القصص: 62] وقد ناداهم في الدنيا: يا أيها الناس، يا بني آدم فصمُّوا آذانهم، وأعرضوا عن نداء الله، واليوم يناديهم نداءً لا يملكون أنْ يصمُّوا آذانهم عنه؛ لأنه{ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[غافر: 16] فكأن الحق يُذكِّرهم بهذا اليوم، لعلهم يرعوون، ولعلهم يرجعون.

الأمر الثاني: أن الآية جاءت تسلية لسيدنا رسول الله يقول له ربه: لا تيأس مما يصنعون معك، ولا يحزنك كيدهم وعنادهم؛ لأنني سأصنع بهم كيت وكيت. وأنت تستطيع أن تدرك سِرَّ هذا الإيعاز النفسي في نفس المضطهد وفي نفس المظلوم حين يشكو لك ولدك أن أخاه ضربه أو أهانه فتقول أنت لتُرضيه: انتظر سوف أفعل به كذا وكذا، فترى الولد ينبهر بهذه العقوبة المسموعة ويسعد بها، وكذلك حين يسمع رسول الله العقوبة التي تنال أعداءه على ما حدث منهم يسعد بها، وتُسرِّي عن نفسه ما يلاقي.

ومضمون النداء } أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ { [القصص: 62] فلم يقُلْ شركائي ويسكت، إنما وصفهم } الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ { [القصص: 62] لأنه سبحانه واحد لا شريك له، وهؤلاء شركاء في زعمهم فقط، والزعم كما يقولون: مطية الكذب؛ لذلك لن يجدوا جواباً لهذا السؤال } أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ { [القصص: 62].

ولو كان أمامهم شركاء لقالوا: ها هم الذين أضلُّونا، فأذِقْهم يا رب العذاب ضِعْفين، لكنهم لم يجيبوا فهذا دليل على أنهم غَير موجودين، لقد وقف هؤلاء المشركين حائرين، لا يدرون جواباً كما قال تعالى:{ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنبَـآءُ... }[القصص: 66].

ثم يقول الحق سبحانه: } قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ... {.

(/3242)

قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63)

والكلام هنا للشركاء الذين أضلوا المشركين وأغَووْهم، ومعنى { حَقَّ عَلَيْهِمُ... } [القصص: 63] أي: ثبت ووقع، فهو أمر لا محالة منه، ولم يعد هناك مجال لزحزحته عنهم، كما قال سبحانه في موضع آخر:{ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ }[الصافات: 31].

وقال الحق سبحانه وتعالى:{ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ }[النمل: 85].

لكن، ما هو القول الذي وقع وثبت لهم وحَقَّ عليهم؟ القول: أن كلَّ واحد له مكان عندي في الجنة على فَرْض أنكم جميعاً آمنتم، وكل واحد له مكان في النار على فَرْض أنكم جميعاً كفرتم.

وماذا قالوا؟ قالوا: { رَبَّنَا هَـاؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا... } [القصص: 63] سبحان الله الآن تقولون ربنا وتعترفون بربوبيته تعالى، كما قال تعالى في شأن فرعون:{ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }[يونس: 91].

الآن تعترفون بعد أنْ سُلِب منكم الاختيار، ولم تعُد لكم إرادة حتى على جوارحكم وأبعاضكم، فيدُكَ التي كنت تبطش بها، ورِجْلك التي كنت تسعى بها ولسانك.. كلها خرجت عن إرادتك وطَوْع أمرك؛ لأنها الآن طَوْعٌ لأمر الله{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }[النور: 24].

ومعنى { هَـاؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ... } [القصص: 63] أي: المشركين { أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا... } [القصص: 63] أي: لنكون سواء، هذه عِلَّة غوايتهم، أن يكونوا في الخُسْران سواء، وإلا فأهل الباطل يسعون جاهدين للإيقاع بأهل الحق ليشاركوهم باطلهم، وليكونوا أمثالهم.

وهذه المسألة تعطينا السيال النفسي لكل منحرف حين يرى ملتزماً مستقيماً، لا يشاركه فساده وانحرافه، فيعزّ عليه أنْ يكون في الهاوية وحده، ولماذا يمتاز عنه الآخرون؟ واقرأ قوله تعالى:{ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً... }[النساء: 89].

ألا ترى أهل الباطل والفساد والفجور يهزءُون من أهل الحق ويسخرون منهم، ليُزهدوهم في الخير والصلاح، وليغروهم بما هم فيه، حتى أصبح الإنسان الملتزم بدينه وشرع ربه لا يسلَم من ألسنتهم، كما يقول تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ }[المطففين: 29 - 30].

وليت الأمر ينتهي عند الغَمْز واللمز، إنما يتمادى هؤلاء، فيجعلون من سخريتهم بأهل الإيمان والطاعة مادةً للمسامرة والتسلية{ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ }[المطففين: 31] يعني: فرحين مسرورين بما نالوه من أهل الطاعة، مما يدلّ على أنهم جميعاً تُسعِدهم هذه المسألة وتُرضي شيئاً في نفوسهم المريضة الحاقدة.

لكن المؤمن من طبيعته يحب أنْ يُكرم، وأنْ ينأى بنفسه عن مجاراة هؤلاء، لذلك يتولَّى ربه - عز وجل - الدفاع عنه يقول له: لا تحزن فسوف نقتصُّ لك، ونسخر منهم، ونجعلهم أضحوكة في يوم بَاقٍ لا ينتهي فيه عذابهم:{ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }

[المطففين: 34-36].

وكأن الحق - تبارك وتعالى - يسترضي عباده المؤمنين: أيعجبكم ما آلوا إليه؟ أقَدرْنا أن نجازيهم على ما اقترفوه في حقكم؟ نعم يا رب، فسخرية الكفار من أهل الإيمان في دار الباطل الفانية انقلبت سخرية منهم في دار الحق الباقية، وهي سخرية دائمة لا نهاية لها.

إذن: } أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا... { [القصص: 63] يعني: حتى نكون سواء، لا يكون أحدنا أحسن من الآخر، ومن هذا المنطلق أغوى إبليس آدمَ، لأنه لما طغى وطُرد من رحمة الله، ومن الصفائية التي كان ينعمَ بها مع الملائكة. أراد أنْ يأخذ آدم بل وذريته إلى هذا المصير، فقد حَزَّ في نفسه أن يلاقي هذا المصير وحده، في حين ينعَم آدم وذريته برحمة الله ورضوانه.

لذلك نجد إبليس - لعنه الله - لا يكتفي بأن تُغوي ذريته ذريةَ آدم، إنما يطلب من الله أنْ يُنظره إلى يوم البعث ليباشر بنفسه هذه الغواية، فهو (المعلم) الكبير، وكأنه يحذر أن إمكانات ذريته في الغواية قد لا ترضيه؛ لذلك يتولى بنفسه هذه المهمة فيقول:{ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ }[الأعراف: 16].

والبعض يفهم قوله تعالى:{ قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ }[الأعراف: 14-15] أن الله تعالى أجاب إبليس إلى ما طلب، لكن{ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ }[الأعراف: 15] ليست إجابةً، إنما تقرير لشيء حادث بالفعل قبل أن يطلب، فالمعنى أن سؤالك ليس له معنى؛ لأنك من المنظرين فعلاً، لماذا؟ قالوا: لأن الله تعالى يريد أنْ يظلَّ إبليس الذي أغوى آدم وأخرجه من الجنة باقياً أمام ذريته ليُذكِّرهم دائماً: هذا الذي أغوى أباكم آدم.

وقولهم: } رَبَّنَا هَـاؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا... { [القصص: 63] لنا وقفة مع } هَـاؤُلاءِ { [القصص: 63] وهي اسم إشارة للجمع بنوعيه، تقول: هؤلاء الرجال، وهؤلاء النساء، وهي عبارة عن: الهاء للتنبيه، وأولاء اسم إشارة، وكذلك في هذا، هذه، هذان، هاتان، فالهاء فيها للتنبيه لتنبيه السامع أنك ستتكلم ليعطيك سمعه، ويهتم بما تقول، فلا يفوته من كلامك شيء.

هذا حين تخاطب مثلك لأنه يحتاج إلى تنبيه، أما إذا خاطبت ربك - عز وجل - فمن سوء الأدب أنْ تستخدم في خطابه أداة التنبيه، كما استخدمها المشركون، فما داموا قد قالوا } رَبَّنَا... { [القصص: 63] فليس من الأدب أن يقولوا } هَـاؤُلاءِ... { [القصص: 63] أيُنبِّهون الله عز وجل؟

لذلك نلحظ هذا الأدب في خطاب نبي الله موسى - عليه السلام - فيما حكاه عنه القرآن:{ وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يامُوسَىا * قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَىا أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىا }[طه: 84] فقال (أولاء) بدون هاء التنبيه تأدُّباً مع ربه عَزَّ وجَلَّ.

ونلحظ أنك لا تجد خطاباً من الكفار إلا باستخدام هؤلاء:{ رَبَّنَا هَـاؤُلاءِ أَضَلُّونَا... }[الأعراف: 38]{ رَبَّنَا هَـاؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا }[النحل: 86] أما المؤمن فلا يليق به أبداً أن يُنبِّه الله تعالى، بل ولا تصدر من مؤمن لمؤمن لأنه دائماً منتبه.

ثم يقولون: } تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ { [القصص: 63] الآن ينكُصون كما قالوا من قبل } رَبَّنَا... { [القصص: 63] يقولون الآن } تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ.. { [القصص: 63] لكن هيهات تنفعهم هذه البراءة، لقد انتهى وقتها، ومضى زمن التكليف والاختيار، والآن وقت الحساب وسلَبْ الإرادة والاختيار، وما أشبههم بفرعون حين قال الله له:{ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }[يونس: 91].

وقولهم: } مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ { [القصص: 63] يقول الشركاء: ما كان معنا قوة قهر نحملكم بها على عبادتنا، ولا قوة سلطان أو حجة نقنعكم بها، إنما كنتم في انتظار إشارة منا، كما قال كبيرهم إبليس:{ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ... }[إبراهيم: 22].

إذن: فهؤلاء المشركون كانوا يعبدون أنفسهم وذواتهم؛ لأن الشركاء كانوا أصناماً أو غيرها، وليس لهم منهج يتكلَّمون به، ويدْعُون الناس إلى عبادتهم به، وإلا فماذا قالت الأصنام أو الشمس أو النجوم لمن عبدها؟ بِمَ أمرتهم، وعمَّ نهتْهم؟

إذن: هو إله بلا منهج وبلا تكليف، وهذا ما يريده المشركون؛ لأن الذي يُتعب الناس في قضية الإيمان بالألوهية ما تقتضيه من تكاليف، وما تفرضه من أمرأو نهي يحول بين النفس البشرية وما تشتهي، ويُوقفها عند حدود لا تتعداها.

إذن: } مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ { [القصص: 63] بل يعبدون ذواتهم، ويعبدون شهواتهم ورغباتهم، وما أسهل أن يعبد الإنسان آلهة لا تلزمه بشيء، فيسير في حياته على هواه، وهذه هي التي روجَتْ لعبادة هذه الآلهة.

لذلك فإن الحق سبحانه يريد أنْ يلزم الإنسان حجة أن نفسه هي الوسيلة الأولى لشهواته، وإلا فلو أن المسألة كلها وسوسة شيطان، فمَن أغوى إبليس بالعصيان أولاً على حَدِّ قَوْل الشاعر:إبليسُ لما عَصى مَنْ كان وسْوَسَهُ؟ إذن: فهي كبرياء النفس ورغباتها، وليس للشيطان إلا أنْ يُلوِّح لها فتقع؛ لذلك جاء في الحديث الشريف: " إذا أقبل رمضان فُتحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النار، وسُلْسلت الشياطين ".

وما دامت الشياطين سُلسلت، فليس لها حركة مع الإنس؛ لأن الله تعالى يعلم منّا أنَّا نُعلِّق كل معاصينا على الشيطان، فكأنه سبحانه يقول: ها هي الشياطين صُفِّدت وسُلْسِلت، فمَنْ أغواكم وزيِّن لكم حال سَلْسلتها؟ إذن: هي نفسك التي تَوسوس لك؛ لذلك نقول: كل معصية تقع في رمضان ليس للشيطان فيها نصيب، إنما هي شهوة النفس.

وسبق أنْ بيِّنا كيف نُفرِّق بين المعصية متى تكون من الشيطان؟ ومتى تكون شهوة نفس؟ إنْ كانت المعصية تُوقفك عندها لا تتزحزح عنها إلى غيرها، فاعلم أنها من نفسك، أما إنْ عزَّتْ عليك معصية ففكَّرْتَ في غيرها، فهي من الشيطان؛ لأنه والعياذ بالله يريدك عاصياً على أي وجه، وبأيِّ طريقة فينقلك إلى معصية أخرى يستطيع أنْ يُوقِعك فيها، على خلاف شهوة النفس، فهي تريد شيئاً بذاته لا تريد غيره.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ... {.

(/3243)

وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)

وسبق أن ناداهم{ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ }[القصص: 62] أي: في زعمكم؛ لأنه سبحانه ليس له شركاء، وهنا يقول لهم { ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } [القصص: 64] ولم يقُلْ شركائي، مع أنهم اتخذوهم شركاء لله.

فمعنى { شُرَكَآءَكُمْ... } [القصص: 64] أفي دعوى الألوهية؟ لا، لأنهم تابعون لهم، إذن: فما معنى { شُرَكَآءَكُمْ... } [القصص: 64]؟ قالوا: الإضافة تأتي بمعَانٍ ثلاثة: إما بمعنى (من) مثل: أردب قمح أي: من قمح، أو بمعنى (في) مثل: مكرالليل أي: مكر في الليل، أو: بمعنى (لام) الملكية مثل: قلم زيد أي: قلم لزيد.

فالمعنى هنا { شُرَكَآءَكُمْ... } [القصص: 64] أي: من جنسكم أو فيكم يعني: لا يتميز عنكم بشيء، والإله لا بُدَّ أن يكون من جنس أعلى، فإنْ كان من جنسكم، فهو مُسَاوٍ لكم، لا يصلح أن تتخذوه إلهاً.

ومعنى { ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ.. } [القصص: 64] يعني: نادوهم لينصروكم، ويشفعوا لكم، كما قلتم:{ هَـاؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ }[يونس: 18].

وقلتم:{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى }[الزمر: 3].

إذن: فنادوهم ليُقربوكم من الله، وليشفعوا لكم، والذي يقوم بهذه المهمة لا بُدَّ أنْ يكون له منزلة عند الله يضمنها، وهل يضمن هؤلاء الشركاء منزلة عند الله؟ كيف وهم لا يضمنونها لأنفسهم؟

{ فَدَعَوْهُمْ... } [القصص: 64] يا شركاءنا، يا مَنْ قُلْتم لنا كذا وكذا أدركونا { فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ... } [القصص: 64] لأنهم مشغولون بأنفسهم { وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } [القصص: 64] يعني: لو كانوا يهتدون بهَدْي الله، وهَدْي رسوله، ويروْن العذاب الذي أنذرهم به حقيقة وواقعاً لا يتخلفون عنه لَمَا حدث لهم هذا، ولما واجهوا هذه العاقبة.

أو: أنهم لما رأوا العذاب حقيقة في الآخرة تمنَّوا لو أنهم كانوا مهتدين.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ... }.

(/3244)

وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)

قال هنا أيضاً { يُنَادِيهِمْ... } [القصص: 65] فما الغرض من كل هذه النداءات؟ إنها للتقريع وللسخرية منهم، وممَّنْ عبدوهم واتبعوهم من دون الله، ومضمون النداء: { مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } [القصص: 65] والإجابة: موافقة المطلوب من الطالب، فماذا كانت إجابتكم لهم بعد أن آمنتم بإله، أأخذتُم بما جاءوا به من أحكام؟ أعلمتم منهم علماً يقينياً حقاً؟

وهذا الاستفهام للتعجيز؛ لأنهم إنْ حاولوا الإجابة فلن يجدوا إجابة فيخزون ويخجلون؛ لذلك يقول بعدها { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنبَـآءُ... } [القصص: 66] أي: خفِيَتْ عليهم الحجج والأعذار وعموا عنها فلم يروْهَا { فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ } [القصص: 66] لا يملكون إلا السكوت كما قالوا: جواب ما يكره السكوت، وكما قال سبحانه:{ وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً }[المعارج: 10].

وهؤلاء لا يتساءلون؛ لأنهم في الجهل سواء، وفي الضلال شركاء، وكل منهم مشغول بنفسه{ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }[عبس: 34-37].

وكما سُئِل المشركون: { مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } [القصص: 65] في موضع آخر يسأل الرسل:{ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ... }[المائدة: 109] أي: فيما علمتم من العلم، وأوله: علم اليقين الأعلى، وثانيها: علم الأحكام، فبماذا أجابكم الناس؟

وتأمل هنا أدب الرسل ومدى فهمهم في مقام الجواب لله، وهم يعلمون تماماً بماذا أجاب أقوامهم، وأن منهم مَنْ آمن بهم، وتفانى في خدمة دعوتهم وضحّى واستشهد، ومنهم مَنْ كفر وعاند، ومع ذلك يقولون:{ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }[المائدة: 109].

فكيف يقولون:{ لاَ عِلْمَ لَنَآ.. }[المائدة: 109] وهم يعلمون؟ قالوا: لأنهم غير واثقين أن مَنْ آمن آمن عن عقيدة أم لا، فهم يأخذون بظواهر الناس، أما بواطنهم فلا يعلمها إلا الله، كأنهم يقولون: أنت يا ربنا تسأل عن إجابة الحق لا عن إجابة النفاق، وإجابة الحق نحن لا نعرفها، وأنت سبحانك علاَّم الغيوب.

إذن: جعلوا الحق - تبارك وتعالى - هو السُّلْطة التشريعية، والسلطة القضائية، والسلطة التنفيذية في محكمة العدل الإلهي التي سيُعلن فيها على رؤوس الأشهاد{ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ... }[غافر: 16].

والسؤال عند العرب يُطلق، إما للمعرفة حيث تسأل لتعرف، كما يسأل التلميذ أستاذه، أو يكون السؤال للإقرار بما تعرف، كما يسأل الأستاذ تلميذه ليقرّ على نفسه، ومن ذلك قوله تعالى:{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ }[الرحمن: 39] أي: سؤالَ علم؛ لأننا نعلم.

وقوله تعالى:{ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ }[الصافات: 24] أي: سؤال إقرار منهم، وإنْ كان كلامي يوم القيامة حجة، لأنه لا مردَّ له، لكن مع ذلك نسألهم ليقروا هم، وليشهدوا على أنفسهم.

والحق - تبارك وتعالى - يدلُّك على أنه تعالى يُبشِّع مظاهر يوم القيامة على الكافرين، لا لأنه كاره لهم، بل يريدهم أنْ يستحضروا هذه الصورة البشعة لعلّهم يرعوون ويتوبون؛ لذلك يفتح لهم باب التوبة لأنه رب ورحيم.

لذلك جاء في الحديث القدسي: " قالت الأرض: يا رب إئذن لي أنْ أخسف بابن آدم فقد طَعِم خيرك ومنع شكرك. وقالت الجبال: يا رب إئذن لي أنْ أخِرَّ على ابن آدم فقد طَعِم خيرك ومنع شكرك. فقال تعالى: دعوني وخلقي لو خلقتموهم لرحمتموهم، دعوهم فإنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، وأنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم ".

أعالجهم بالترغيب مرة، وبالترهيب أخرى، أشوِّقهم إلى الجنة، وأخوِّفهم من النار، وأفتح باب التوبة، وفتْح باب التوبة ليس رحمة من الله للتائب فقط، ولكن رحمة لكل مَنْ يشقى بعصيان غير التائب.

ولو أغلق باب التوبة في وجه العاصي ليئس وتحول إلى (فاقد) يشقى به المجتمع طوال حياته، إذن: ففتْح باب التوبة رحمة بالتائب، ورحمة بمجتمعه، بل وبالإنسانية كلها، رحمة بالعاصي وبمَنِ اكتوى بنار المعصية.

(/3245)

فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)

لماذا استخدم هنا (عسى) الدالة على الرجاء بعد أنْ قال { مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً... } [القصص: 67] ولم يقل: يكون من المفلحين فيقطع لهم بالفلاح؟

قالوا: لأنه ربما تاب، لكن عسى أن يستمر على توبته ليستديم الفلاح أو نقول أن (عسى) من الله تدل على التحقيق، وسبق أنْ قُلْنا: إن الرجاءات على درجات: فالرجاء في المتكلم أقوى من الرجاء في الغائب، فإنْ كان الرجاء في الله فهو أقوى الرجاءات كلها.

لذلك يقول سبحانه في خطابه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{ عَسَىا أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً }[الإسراء: 79] فأيُّ رجاء أقوى من الرجاء في الله؟

إذن: (عسى) رجاء حين تصدر ممن لا يملك إنفاذ المرجو، وتحقيق حين تصدر ممَّنْ يملك إنفاذ المرجو، وهو الحق سبحانه وتعالى.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ... }.

(/3246)

وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)

كنا ننتظر أنْ يُخبرنا السياق بما سيقع على المشركين من العذاب، لكن تأتي الآية { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ... } [القصص: 68] وكأن الحق سبحانه يقول: أنا الذي أعرف أين المصلحة، وأعرف كيف أُريحكم من شرِّهم، فدعوني أخلق ما أشاء، وأختار ما أشاء، فأنا الرب المتعهد للمربي بالتربية التي تُوصله إلى المهمة منه.

والمربِّي قسمان: إما مؤمن وإما كافر، ولا بُدَّ أنْ يشقى المؤمن بفعل الكافر، وأنْ يمتد هذا الشقاء إنْ بقي الكافر على كفره؛ لذلك شَرعتُ له التوبة، وقَبِلْتُ منه الرجوع، وهذا أول ما يريح المؤمنين.

ومعنى: { مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ... } [القصص: 68] يعني: لا خيارَ لكم، فدعوني لأختار لكم، ثم نفِّذوا ما أختاره أنا.

أو: أن هذه الآية { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ... } [القصص: 68] قيلت للردِّ على قولهم:{ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف: 31]. يقصدون الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود الثقفي، فردَّ الله عليهم:{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ... }[الزخرف: 32].

فكيف يطمعون في أنْ يختاروا هم وسائل الرحمة، ونحن الذين قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا، فجعلنا هذا غنياً، وهذا فقيراً، وهذا قوياً، وهذا ضعيفاً، فمسائل الدنيا أنا متمكن منهم فيها، فهل يريدون أنْ يتحكموا في مسائل الآخرة وفي رحمة الله يوجِّهونها حسب اختيارهم؟!!

{ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ.. } [القصص: 68] أي: الاختيار في مثل هذه المسائل.

ويجوز { مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ... } [القصص: 68] أي: المؤمنون ما كان لهم أنْ يعترضوا على قبول توبة الله على المشركين الذين آذوهم، يقولون: لماذا تقبل منهم التوبة وقد فعلوا بنا كذا وكذا، وقد كنا نود أن نراهم يتقلبون في العذاب؟

والحق تبارك وتعالى يختار ما يشاء، ويفعل ما يريد، وحين يقبل التوبة من المشرك لا يرحمه وحده، ولكن يرحمكم أنتم أيضاً حين يُريحكم من شرِّه.

وقوله: { سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىا عَمَّا يُشْرِكُونَ } [القصص: 68] أي: تعالى الله وتنزَّه عما يريدون من أنْ يُنزِلوا الحق سبحانه على مرادات أصحاب الأهواء من البشر، ولو أن الحق سبحانه نزل على مرادات أصحاب الأهواء من البشر - وأهواؤهم مختلفة - لفسدتْ حياتهم جميعاً.

ألا ترى أن البشر مختلفون جميعاً في الرغبات والأهواء، بل وفي مسائل الحياة كلها، فترى الجماعة منهم في سنٍّ واحدة، وفي مركز اجتماعي واحد، فإذا توجَّهوا لشراء سلعة مثلاً اختار كل منهم نوعاً ولوناً مختلفاً عن الآخر.

(/3247)

وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69)

ما تُكنُّ صدورهم أي: السر{ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى }[طه: 7] والسر: ما تركته في نفسك محبوساً، وأسررْتَه عن الخَلْق لا يعرفه إلا أنت، أو السر: ما أسررت به إلى الغير، وساعتها لن يبقى سِراً، وإذا ضاق صدرك بأمرك، فصدر غيرك أضيق.

وإذا كان الحق سبحانه يمتنُّ علينا بأن علمه واسع يعلم السر، فهو يعلم الجهر من باب أَوْلَى؛ لأن الجهر يشترك فيه جميع الناس ويعرفونه. أما الأخفى من السر، فلأنه سبحانه يعلم ما تُسِره في نفسك قبل أنْ يوجد في صدرك، وهو وحده الذي يعلم الأشياء قبل أن توجد.

ولك أن تسأل: إذا كان من صفاته تعالى أنه يعلم السر وما هو أخفى من السر، فماذا عن الجهر وهو شيء معلوم للجميع؟ وهذه المسألة استوقفتْ بعض المستشرقين وأتباعهم من المسلمين (المنحلين) الذين يجارونهم.

وحين نستقرئ آيات القرآن نجد أن الله تعالى سوَّى في علمه تعالى بين السر والجهر، فقال سبحانه:{ سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ... }[الرعد: 10].

وقال سبحانه:{ وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ... }[الملك: 13].

والآية التي معنا: { وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } [القصص: 69] وفي هذه الآيات قدّم السر على الجهر، أما في قوله تعالى:{ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىا * إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىا }[الأعلى: 6-7].

وقال سبحانه:{ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ }[الأنبياء: 110] فقدَّم العلم بالجهر على العلم بالسرِّ، ولا يقدم الجهر إلا إذا كان له ملحظية خفاء عن السر، وهذه الملحظية غفل عنها السطحيون، فأخطأوا في فهم الآية.

فأنت مثلاً لو أسررتَ في نفسك شيئاً، فربما ظهر في سقطات لسانك أو على ملامح وجهك، وربما خانك التعبير فدلَّ على ما أسررتْه، ألم يقل الحق سبحانه وتعالى:{ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ... }[محمد: 30].

إذن: هناك قرائن وعلامات نعرف بها السر، أما الجهر وهو من الجماعة ليس جهراً واحداً؛ لأنه مقابل بالجمع:{ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ }[الأنبياء: 110] فالمعنى: ويعلم ما تجهرون وما تكتمون.

ولك أن تتابع مظاهرة لجمع غفير من الناس، يهتف كل منهم هتافاً، أتستطيع أن تميز بين هذه الهتافات، وأنْ تُرجع كلاً منها إلى صاحبها؟ هذا هو اللغز في الجهر والملحظ الذي فاتهم تدبُّره، لذلك امتن الله علينا بعلمه للجهر من القول الذي لا نعلمه نحن مهما أوتينا من آلات فَرْز الأصوات وتمييزها.

لذلك يقولون: لا تستطيع أنْ تُحدِّد جريمة في جمهور من الناس؛ لأن الأصوات والأفعال مختلطة، يستتر كلٌّ منها في الآخر كما يقولون: الفرد بالجمع يُعْصَم.

ويقولون: الجماهير ببغائية، كما قال شوقي في مصرع كليوباترا، لما انهزموا في يوم (أكتيوما) وأشاعوا أنهم انتصروا، لكن هذه الحيلة لا تنطلي على العقلاء من القوم، فيقول أحدهم للآخر عن غوغائية الجماهير:

اسْمع الشَّعْبَ دُيُونُ كَيْفَ يُوحُون إليْهِمَلأ الجوَّ هتافاً بِحيَاتيْ قَاتليْهِأثَّر البهتانُ فيه وَانْطلى الزُّور عليْهيَا لَهُ مِنْ ببغاء عقلُه في أُذُنَيْهإذن: فَعِلْم الجهر هنا مَيْزة تستحق أنْ يمتنَّ الله بها، كما يمتنُّ سبحانه بعلم السر.

وقال سبحانه } وَرَبُّكَ يَعْلَمُ... { [القصص: 69] ليُطمئن رسول الله؛ لأنه سبحانه ربه، والمتولي لتربيته والعناية به، يقول له: لا تحزن مما يقولون، فأنا أعلم سِرَّهم وجهرهم، فإنْ كنتَ لا تعرف ما يقولون فأنا أعرفه، وسوف أخبرك به، ألم يقل سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم:{ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ... }[المجادلة: 8].

فأخبره ربه بما يدور حتى في النفوس، كأنه سبحانه يقول لرسوله: إياك أن تظن أنني سأؤاخذهم بما عرفتَ من أفعالهم فحسب، بل بما لا تعلم مما فعلوه، ليطمئن رسول الله أنه سبحانه يُحصي عليهم كل شيء.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ... {.

(/3248)

وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)

الله: هو المعبود بحقٍّ، وله صفات الكمال كلها، وهو سبحانه { لا إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ... } [القصص: 70] وما دام هو وحده سبحانه، فلا أحد يفتن عليه، أو يستدرك عليه بشيء، وسبق أن قال لهم: هاتوا شركاءكم لنفصل في مسألة العبادة علانية و (نفاصل) من صاحب هذه السلعة: أي يوم القيامة.

ومعنى: { الأُولَىا... } [القصص: 70] أي: الخَلْق الذي خلقه الله، والكون الذي أعدَّه لاستقبال خليفته في الأرض: الشمس والقمر والنجوم والشجر والجبال والماء والهواء والأرض، فقبل أنْ يأتي الإنسان أعدَّ الله الكونَ لاستقباله.

لذلك حينما يتكلم الحق سبحانه عن آدم لا يقول: إنه أول الخَلْق، إنما أول بني آدم، فقد سبقه في الخلق عوالم كثيرة؛ لذلك يقول تعالى:{ هَلْ أَتَىا عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً }[الإنسان: 1] أي: لم يكن له وجود.

وإعداد الكون لاستقبال الإنسان جميل يستوجب الحمد والثناء، فقد خلق الله لك الكون كله، ثم جعلك تنتفع به مع عدم قدرتك عليه أو وصولك إليه، فالشمس تخدمك، وأنت لا تقدر عليها ولا تملكها، وهي تعمل لك دون صيانة منك، ودون أن تحتاج قطعة غيار، وكذلك الكون كله يسير في خدمتك وقضاء مصالحك، وهذا كله يستحق الحمد.

وبعد أنْ خلقك الله في كون أُعِدّ لخدمتك تركك ترتع فيه، ذرة في ظهر أبيك، ونطفة في بطن أمك إلى أنْ تخرج للوجود، فيضمك حضنها، ولا يكلفك إلا حين تبلغ مبلغ الرجال وسِنّ الرشد، ومنحك العقل والنضج لتصبح قادراً على إنجاب مثلك، وهذه علامة النضج النهائي في تكوينك كالثمرة لا تخرج مثلها إلا بعد نُضْجها واستوائها.

لذلك نجد في حكمة الله تعالى ألاَّ يعطي الثمرة حلاوتها إلا بعد نُضْج بذرتها، بحيث حين تزرعها بعد أكْلها تنبت مثلها، ولو أُكلت قبل نُضْجها لما أنبتت بذرتها، ولا نُقرض هذا النوع؛ لذلك ترى الثمرة الناضجة إذا لم تقطفها سقطت لك على الأرض لتقول لك: أنا جاهزة.

لذلك نلحظ عندنا في الريف شجرة التوت أو شجرة المشمس مثلاً يسقط الثمر الناضج على الأرض، ثم ينبت نباتاً جديداً، يحفظ النوع، ولو سقطت الثمار غير ناضجة لما أنبتت.

وكذلك الإنسان لا ينجب مثله إلا بعد نُضْجه، وعندها يُكلِّفه الله ويسأله ويحاسبه. إذن: على الإنسان أنْ يسترجع فضل الله عليه حتى قبل أنْ يستدعيه إلى الوجود، وأنْ يثق أن الذي يُكلِّفه الآن ويأمره وينهاه هو ربُّه وخالقه ومُربِّيه، ولن يكلِّفه إلا بما يُصلحه، فعليه أنْ يسمع، وأنْ يطيع.

وقوله تعالى: { وَالآخِرَةِ... } [القصص: 70] يعني: له الحمد في القيامة، كما قال سبحانه:{ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[يونس: 10] فيحمد الله في الآخرة؛ لأنه كان يمتعني في الدنيا إلى أمد، ويمتعني في الدنيا على قَدْر إمكاناتي، أما في الآخرة فيعطيني بلا أمد، وعلى قَدْر إمكاناته هو سبحانه، فحين نرى هذا النعيم لا نملك إلا أنْ نقول: الحمد لله، وهكذا اجتمع لله تعالى الحمد في الأولى، والحمد في الآخرة.

وقوله تعالى: } وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ { [القصص: 70] لأن الآخرة ما كانت إلا للحكم وللفصل في الخصومات، حيث يعرف كلٌّ ما له وما عليه، فلا تظن أن الذين آذوْك وظلموك سيُفِلِتون من قبضتنا.

} وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ { [القصص: 70] أي: للحساب، وفي قراءة (تَرْجعون) لأنهم سيرجعون إلينا ويأتوننا بأنفسهم، كأنهم مضبوطون على ذلك، كالمنبه تضبطه على الزمن، كذلك هم إذا جاء موعدهم جاءونا من تلقاء أنفسهم، دون أن يسوقهم أحد.

وعلى قراءة } تُرْجَعُونَ { [القصص: 70] إياكم أن تظنوا أنكم بإمكانكم أن تتأبَّوْا علينا، كما تأبِّيتُم على رسُلنا في الدنيا؛ لأن الداعي في الدنيا كان يأخذكم بالرفق واللين، أما داعي الآخرة فيجمعكم قَسْراً ورَغْماً عنكم، ولا تستطيعون منه فكاكا{ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَىا نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا }[الطور: 13].

ثم يقول الحق سبحانه: } قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ... {.

(/3249)

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72)

يُعدِّد الحق - تبارك وتعالى - نعمه على عبيده في شيئين يتعلقان بحركة الحياة وسكونها، فالحركة تأتي بالخير للناس، والسكون يأتي بالراحة للمتعَب من الحركة، والإنسان بطبيعته لا يستطيع أن يعطي ويتعب إلا بعد راحة، والذي يتحدَّى هذه الطبيعة فيسهر الليل ويعمل بالنهار لا بُدَّ أنْ ينقطع، وأن تُنهَك قواه فلا يستمر.

لذلك يقول تعالى:{ وَالْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىا * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىا * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَىا * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىا }[الليل: 1-4].

فكلٌّ من الليل والنهار له مهمة، وكذلك الرجل والمرأة، فإياكم أنْ تخلطوا هذه المهام، وإلا فسدت الحياة وأتعبتكم الأحداث، فقبل الكهرباء ودخول (التليفزيون والفيديو) المنازل كان يومنا يبدأ في نشاط مع صلاة الفجر، لأننا كنا ننام بعد صلاة العشاء، أما الآن فالحال كما ترى، كنا نستقبل يومنا بحركة سليمة نشطة؛ لأننا نستقبل الليل بسكون سليم وهدوء تام.

والحق سبحانه في معرض تعداد نعمه علينا يقول { أَرَأَيْتُمْ... } [القصص: 71] يعني: أخبروني ماذا تفعلون { إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىا يَوْمِ الْقِيَامَةِ... } [القصص: 71] يعني: طوال حياتكم { مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ... } [القصص: 71] والسرمد: الدائم المستمر.

وقال { بِضِيَآءٍ... } [القصص: 71] ولم يقل بنور؛ لأن النور قد يأتي من النجوم، وقد يأتي من القمر، أمّا الضياء وهو نور وأشعة وحرارة، فلا يأتي إلا من الشمس.

لذلك يقول سبحانه:{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً... }[يونس: 5].

وقال: { مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ... } [القصص: 71] ولم يقُلْ: مَنْ يأتيكم بضياء ليلفت نظرنا إلى أن هذه المسألة لا يقدر عليها إلا إله، ولا إله إلا الله، وفي الضياء تبصرون الأشياء، وتسيرون على هُدىً، فتؤدون حركات حياتكم دون اصطدام أو اضطراب، وبالضياء أعايش الأشياء في سلامة لي ولها، وإلاَّ لو سرْنا في الظلام لتحطمنا أو حطّمنا ما حولنا؛ لأنك حين تسير في الظلام إمّا أنْ تحطم ما هو أقل منك، أو يحطمك ما هو أقوى منك.

وكما يكون الضياء في الماديات يكون كذلك له دور في المعنويات، وضياء المعنويات القيم التي تحكم حركة الحياة وتعدلها، وتحميك أنْ تُحطِّم مَنْ هو أضعف منك، أو أنْ يُحطمك الأوقى منك؛ لذلك كان منطقياً أن يقول تعالى:{ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.... }[الأحزاب: 43].

والمراد: من ظلمات المعاني إلى نور القيم، لا ظلمات المادة لأنني لا أستغني عنه لراحتي، فله مهمة عندي لا تقلّ عن مهمة النور لذلك يقول تعالى في وصفه لنوره عز وجل{ نُّورٌ عَلَىا نُورٍ... }[النور: 35].

نور مادي تُبصرون به الأشياء من حولكم، فلا تتخبطون بها، فتسلَم حركتكم، وهذا النور المادي يشترك فيه المؤمن والكافر، وينتفع به المطيع والعاصي، فلم يضِنّ به على أحد من خَلْقه، أما النور المعنوي نور الهداية ونور اليقين والقيم، فهذا يرسله الله على يدَيْ رسُله، فإذا أخذ المؤمن النورين انتفع بهما في الدنيا، وامتد نفعه بهما إلى يوم القيامة؛ لذلك قال بعدها:

{ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ... }[النور: 35].

ولأن الآية الكريمة بدأت بقُلْ، فمن المناسب أنْ تختم بقوله تعالى: } أَفَلاَ تَسْمَعُونَ... { [القصص: 71] يعني: اسمعوا ما أقول لكم وتدبروه.

ثم يمتنُّ الله تعالى بالآية المقابلة لليل، وهي آية النهار: } قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىا يَوْمِ الْقِيَامَةِ... { [القصص: 72] يعني: دائم لا نهاية له } مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ { [القصص: 72].

تلحظ أن هاتين الآيتين على نَسَق واحد، لكن تذييلهما مختلف، مما يدلُّ على بلاغة وإعجاز القرآن، فلكلِّ معنىً ما يناسبه، ففي آية الليل قال } أَفَلاَ تَسْمَعُونَ { [القصص: 71] وفي آية النهار قال: } أَفلاَ تُبْصِرُونَ { [القصص: 72] ذلك لأن العين لا عملَ لها في الليل إنما للأذن، فأنت تسمع دون أنْ ترى، وبالأذن يتمُّ الاستدعاء.

أما في النهار وفي وجود الضوء، فالعمل للعين حيث تبصر، فهو إذن ختام حكيم للآيات يضع المعنى فيما يناسبه.

ثم يُجمل الله تعالى هاتين الآيتين في قوله سبحانه: } وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ... {.

(/3250)

وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)

بعد أنْ فصَّل الله تعالى القولَ في الليل والنهار كلّ على حدة جمعهما؛ لأنهما معاً مظهر من مظاهر رحمة الله، وفي الآية ملمح بلاغي يسمونه " اللف والنشر " ، فبعد أن جمع الله تعالى الليل والنهار أخبر عنهما بقوله: { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ.. } [القصص: 73] ثقة منه تعالى بفطْنة السامع، وأنه سيردُّ كلاً منهما إلى ما يناسبه، فالليل يقابل { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ... } [القصص: 73]، والنهار يقابل { وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ... } [القصص: 73].

فاللفُّ أي: جَمْع المحكوم عليه معاً في جانب والحكم في جانب آخر، والنشرْ: ردّ كلِّ حكم إلى صاحبه.

وضربنا لذلك مثلاً بقول التيمورية:قَلْبي وجَفْني واللسَانُ وخَالِقي رَاضٍ وبَاكٍ شَاكِرٌ وغَفُورفجمعتْ المحكوم عليه في الشطر الأول والحكم في الشطر الثاني، وعليك أنْ تعيد كلَّ حكم إلى صاحبه.

والليل والنهار آيتان متكاملتان، وبهما تنتظم حركة الحياة؛ لأنك إنْ لم ترتح لا تقوى على العمل؛ لأن لك طاقة، وفي جسمك مُولِّدات للطاقة، فساعةَ تتعب تجد أن أعضاءك تراخَتْ وأُجهدَتْ، وهذا إنذار لك، تُنبِّهك جوارحك لم تَعُدْ صالحاً للحركة، ولا بُدَّ لك من الراحة لتستعيد نشاطك من جديد.

والراحة تكون بقدر التعب، فربما ترتاح حين تقف مثلاً في حالة السير، فإنْ لم يُرِحْك الوقوف تجلس أو تضطجع، فإنْ زاد التعب غلبك النوم، وهو الرَّدْع الذاتي الذي يكبح جماح صاحبه إنْ تمرد على الطبيعة التي خلقها الله فيه.

ومن عجب أن البعض يخرج عن هذه الطبيعة، فيأخذ مُنشِّطات حتى لا يغلبه النوم، ويأخذ مُهدِّئات لينام، ولو أسلم نفسه لطبيعتها، فنام حينما يحضره النوم، وعمل حينما يجد في نفسه نشاطاً للعمل لأراحَ نفسه من كثير من المتاعب.

لذلك يقولون: النوم ضيف إنْ طلبك أراحك، وإنْ طلبته أعْنتك، وحتى الآن، ومع تقدُّم العلوم لم يصلوا إلى سرِّ النوم، وكيف يأخذ الإنسان في هدوء ولُطْف دون أنْ يشعر ماهيتهَ، وأتحدى أن يعرف أحد منا كيف ينام.

لذلك جعل الله النوم آية من آياته تعالى، مثل الليل والنهار والشمس والقمر، فقال سبحانه:{ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِالْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ... }[الروم: 23].

ثم يقول الحق سبحانه: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ... }.

(/3251)

وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74)

تقدمت المناداة قبل ذلك مرتين ومع ذلك لا يوجد تكرار لهذا المعنى؛ لأن كلَّ نداء منها له مقصوده الخاص، فالنداء في الأولى خاص بمَنْ أشركوهم مع الله وما قالوه أمام الله تعالى:{ رَبَّنَا هَـاؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا... }[القصص: 63].

أما الثانية، فالنداء فيها للمشركين{ مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ }[القصص: 65].

أما هنا، فيهتم النداء بمسألة الشهادة عليهم. إذن: فكلمة (أين) و (شركائي) و (الذين كنتم تزعمون) قَدْر مشترك بين الآيات الثلاثة، لكن المطلوب في كل قَدْر غير المطلوب في القَدْر الآخر، فليس في الأمر تكرار، إنما توكيد في الكل.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا... }.

(/3252)

وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)

أي: أخرجنا من كل أمة نبيّها، وأحضرناه ليكون شاهداً عليها { فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ.. } [القصص: 75] أرونا شركاءكم الذين اتخذتموهم من دون الله، أين هم ليدافعوا عنكم؟ لكن هيهات، فقد اتخذتموهم من دون الله، أين هم ليدافعوا عنكم؟ لكن هيهات، فقد ضلَّوا عنهم، وهربوا منهم.

{ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنبَـآءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ }[القصص: 66].

إذن: غاب شركاؤكم، وغاب شهودكم، لكن شهودنا موجودون { وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً... } [القصص: 75] يشهد أنه بلَّغهم منهج الله فإنْ قُلْتم: لقد أغوانا الشيطان وأغوانا المضلون من الإنس، نردّ عليكم بأننا ما تركناكم لإغوائهم، فيكون لكم عذر، إنما أرسلنا إليكم رسلاً لهدايتكم، وقد بلّغكم الرسل.

وفي موضع آخر يقول تعالى:{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىا هَـاؤُلاءِ شَهِيداً }[النساء: 41].

فماذا يكون موقفهم يوم تشهد أنت عليهم بأنك بلَّغت، وأعذرتَ في البلاغ، وأنك اضطهدت منهم، وأوذيت، وقد ضلَّ عنهم شركاؤهم، ولم يجدوا مَنْ يشهد لهم أو يدافع عنهم؟ عندها تسقط أعذارهم وتكون المحكمة قد (تنوَّرت).

ثم يقول تعالى: { فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ... } [القصص: 75] أي: قولوا: إن رسلنا لم يُبلِّغوكم منهجنا، وهاتوا حجة تدفع عنكم، فلما تحيَّروا وأُسقط في أيديهم حيث غاب شهداهم وحضر الشهداء عليهم { فَعَلِمُواْ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ... } [القصص: 75].

وفوجئوا كما قال تعالى عنهم:{ وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ... }[النور: 39].

وقال:{ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً... }[الكهف: 49].

فوجئوا بما لم يُصدِّقوا به ولم يؤمنوا به، لكن ما وجه هذه المفاجأة، وقد أخبرناهم بها في الدنيا وأعطيناهم مناعة كان من الواجب أنْ يأخذوا بها، وأنْ يستعدوا لهذا الموقف، فالعاقل حين تُحذره من وعورة الطريق الذي سيسلكه وما فيه من مخاطر وأهوال حين يحتاط لنفسه أنْ يكون ناصحه كاذباً، على حَدِّ قول الشاعر:زَعَم المنجِّمُ والطبيبُ كلاهٌما لا تُبعَثُ الأجسَادُ قُلْتُ إليكُماإن صَحَّ قولكُمَا فلسْتُ بخاسِرِ أوْ صَحَّ قَوْلي فالخسَار عليكُماوما عليك إنْ حملتَ بندقية في هذا الطريق المخوف، ثم لم تجد شيئاً يخيفك؟ إذن: أنتم إنْ لم تخسروا فلن تكسبوا شيئاً، ونحن إنْ لم نكسب لن نخسر.

وقوله: { وَضَلَّ عَنْهُمْ... } [القصص: 75] أي: غاب { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [القصص: 75] من ادّعاه الشركاء.

بعد أن أعطانا الحق - تبارك وتعالى - لقطة من لقطات يوم القيامة، والقيامة لا تخيف إلا مَنْ يؤمن بها، أما مَنْ لا يؤمن بالآخرة والقيامة فلا بُدَّ له من رادع آخر؛ لأن الحق سبحانه يريد أنْ يحمي صلاح الكون وحركة الحياة.

ولو اقتصر الجزاء على القيامة لعربد غير المؤمنين واستشرى فسادهم، ولَشقي الناس بهم، والله تعالى يريد أنْ يحمي حركة الحياة من المفسدين من غير المؤمنين بالآخرة، فيجعل لهم عذاباً في الدنيا قبل عذاب الآخرة.

يقول تعالى:{ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ... }[الطور: 47] يعني: قبل عذاب الآخرة.

فالذي يقع للكفار في الدنيا رَدْع لكل ظالم يحاول أنْ يعتدي، وأنْ يقف في وجه الحق؛ لذلك يعطينا ربنا - عز وجل - صورة لهذا العذاب الدنيوي للمفسدين في الأرض، فيقول سبحانه: { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىا فَبَغَىا عَلَيْهِمْ... }.

(/3253)

إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)

فلم يتكلم عن قارون وجزائه في الآخرة، إنما يجعله مثَلاً وعِبرة واضحة في الدنيا لكل مَنْ لم يؤمن بيوم القيامة لعلَّه يرتدع.

والنبي صلى الله عليه وسلم اضطهده كفار قريش، ووقفوا في وجه دعوته، وآذوْا صحابته، حتى أصبحوا غير قادرين على حماية أنفسهم، ومع ذلك ينزل القرآن على رسول الله يقول:{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }[القمر: 45].

فيتعجب عمر رضي الله عنه: أيُّ جمع هذا؟ فنحن غير قادرين على حماية أنفسنا، فلما وقعتْ بدر وانهزم الكفار وقُتِلوا. قال عمر: نعم صدق الله{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }[القمر: 45].

لذلك يقولون: لا يموت ظالم في الدنيا حتى ينتقم الله منه، ولم يَرَ الناس فيه ما يدل على انتقام الله منه تعجّبوا وقال أحدهم: لا بُدَّ أن الله انتقم منه دون أن نشعر، فإنْ أفلتَ من عذاب الدنيا، فوراء هذه الدار أخرى يعاقب فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وعَدْل الله - عز وجل - يقتضي هذه المحاسبة.

والحق - تبارك وتعالى - يجعل من قارون عبرةً لكل مَنْ لا يؤمن بالآخرة ليخاف من عذاب الله، ويحذر عقابه، والعبرة هنا بمَنْ؟ بقارون رأس من رؤوس القوم، وأغنى أغنيائهم، والفتوة فيهم، فحين يأخذه الله يكون في أَخَذه عبرة لمن دونه.

وحدَّثونا أن صديقاً لنا كان يعمل بجمرك الأسكندرية، فتجمّع عليه بعض زملائه من الفتوات الذين يريدون فَرْضَ سيطرتهم على الآخرين، فما كان منه إلا أنْ أخذ كبيرهم، فألقاه في الأرض، وعندها تفرَّق الآخرون وانصرفوا عنه.

ومن هذا المنطلق أخذ الله تعالى قارون، وهو الفتوة، ورمز الغِنى والجاه بين قومه، فقال تعالى: { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىا... } [القصص: 76] إذن: حينما نتأمل حياة موسى عليه السلام نجده قد مُنِي بصناديد الكفر، فقد واجه فرعون الذي ادَّعى الألوهية، وواجه هامان، ثم موسى السامري الذي خانه في قومه في غيبته، فدعاهم إلى عبادة العجل.

ومُني من قومه بقارون، ومعنى: من قومه، إما لأنه كان من رحمه من بني إسرائيل، أو من قومه يعني: الذين يعيشون معه. والقرآن لم يتعرض لهذه المسألة بأكثر من هذا، لكن المفسرين يقولون: إنه ابن عمه. فهو: قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي ابن يعقوب وموسى هو ابن عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب.

وللمؤرخين كلام في العداوة بين موسى وقارون، قالوا: حينما سأل موسى عليه السلام ربه أنْ يشدَّ عضده بأخيه هارون، أجابه سبحانه{ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَىا }[طه: 36] وليست هذه أول مرة بل{ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىا }[طه: 37] وأرسل الله معه أخاه هارون؛ لأنه أفصح من موسى لساناً، وجعلهما شريكين في الرسالة، وخاطبهما معاً{ اذْهَبَآ... }[طه: 43] ليؤكد أنَّ الرسالة ليست من باطن موسى.

وإنْ رأيت الخطاب في القرآن لموسى بمفرده، فاعلم أن هارون مُلاحَظ فيه، ومن ذلك لما دعا موسى على قوم فرعون، فقال:{ رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَىا أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَىا قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىا يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ }[يونس: 88].

فالذي دعا موسى، ومع ذلك لما أجابه ربه قال:{ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا... }[يونس: 89] وهذا دليل على أن هارون لم يكن رسولاً من باطن موسى، إنما من الحق سبحانه، وأيضاً دليل على أن المؤمِّن على الدعاء كالداعي، فكان موسى يدعو وهارون يقول: آمين.

ولما ذهب موسى لميقات ربه قال لأخيه{ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي... }[الأعراف: 142] وفي غيبة موسى حدثتْ مسألة العجل، وغضب موسى من أخيه هارون، فلما هدأتْ بينهما الأمور حدث تخصيص في رسالة كل منهما، فأعطى هارون (الحبورة) والحَبْر: هو العالم الذي يُعَد مرجعاً، كما أُعطِي (القربان) أي: التقرب إلى الله.

وعندها غضب قارون؛ لأنه خرج من هذه المسألة صَفْر اليدين، وامتاز عنه أولاد عمومته بالرسالة والمنزلة، رغم ما كان عنده من أموال كثيرة.

ثم إن موسى - عليه السلام - طلب من قارون زكاة ماله، دينار في كل ألف دينار، ودرهم في كل ألف درهم، فرفض قارون وامتنع، بل وألَّبَ الناس ضد موسى - عليه السلام.

ثم دبَّر له فضيحة؛ ليصرف الناس عنه، حيث أغرى امرأة بغياً فأعطاها طِسْتاً بالذهب، على أن تدَّعي على موسى وتتهمه، فجاء موسى عليه السلام ليخطب في الناس، ويُبيِّن لهم الأحكام فقال: مَنْ يسرق نقطع يده، ومَنْ يزني نجلده إن كان غير محصن، ونرجمه إنْ كان محصناً، فقام له قارون وقال: فإن كنتَ أنت يا موسى؟ فقال: وإنْ كنتُ أنا.

وهنا قامت المرأة البغيُّ وقالت: هو راودني عن نفسي، فقال لها: والذي فلق البحر لَتقُولِنّ الصدق فارتعدتْ المرأة، واعترفت بما دبَّره قارون، فانفضح أمره وبدأت العداوة بينه وبين موسى عليه السلام.

وبدأ قارون في البَغْي والطغيان حتى أخذه الله، وقال في حقه هذه الآيات: } إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىا فَبَغَىا عَلَيْهِمْ... { [القصص: 76].

والبغي: تجاوز الحدّ في الظلم، خاصة وقد كان عنده من المال ما يُعينه على الظلم، وما يُسخِّر به الناس لخدمة أهدافه، وكأنه يمثل مركز قوة بين قومه، والبغي إما بالاستيلاء على حقوق الغير، أو باحتقارهم وازدرائهم، وإما بالبطر.

ثم يذكر حيثية هذا البغي: } وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي الْقُوَّةِ.. { [القصص: 76].

كلمة (مفاتح) كما في قوله تعالى:{ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ... }[الأنعام: 59].

ولو قلنا: مفاتح جمع، فما مفردها؟ لا تقُلْ مفتاح؛ لأن مفتاح جمعها مفاتيح، أما مفاتح، فمفردها (مَفْتح) وهي آلة الفتح كالمفتاح، وهي على وزن (مبرد) فالمعنى: أن مفاتيح خزائنه لو حملتْها عصبة تنوء بها، وهذه كناية عن كثرة أمواله، نقول: ناء به الحِمْل، أو ناء بالحمل، إذا ثقُل عليه، ونحن لا نميز الخفيف من الثقيل بالعين أو اللمس أو الشم إنما لا بُدَّ من حملة للإحساس بوزنه.

وقلنا: إن هذه الحاسة هي حاسة العَضَل، فالحملْ الثقيل يُجهد العضلة، فتشعر بالثقل، على خلاف على حملتَ شيئاً خفيفاً لا تكاد تشعر بوزنه لخفْته، ولو حاولتَ أنْ تجمع أوزاناً في حيز ضيق كحقيبة (هاندباج) فإن الثقل يفضحك؛ لأنك تنوء به.

والعُصْبة: هم القوم الذين يتعصَّبون لمبدأ من المبادئ بدون هَوىً بينهم، ومنه قول إخوة يوسف:{ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىا أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ... }[يوسف: 8].

إنها كلمة حق خرجت من أفواههم دون قصد منهم؛ لأنهم فعلاً كانوا قوةً متعصبين بعضهم لبعض في مواجهة يوسف وأخيه، وكانا صغيرين لا قوةَ لهما ولا شوكة، وكانوا جميعاً من أم واحدة، ويوسف وأخوه من أم أخرى، فطبيعي أن يميل قلب يعقوب عليه السلام مع الضعيف.

وقالوا: العصبة من الثلاثة إلى العشرة، وقد حددهم القرآن بقوله:{ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً.. }[يوسف: 4] وهم أخوته ومنهم بنيامين{ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ.. }[يوسف: 4] أي: أباه وأمه. فمن هاتين الآيتين نستطيع تحديد العصبة.

وبهذا التفكير الذي يقوم على ضم الآيات بعضها إلى بعض حَلَّ الإمام علي - رضي الله عنه - مسألة تُعدُّ معضلة عند البعض، حيث جاءه مَنْ يقول له: تزوجت امرأة وولدتْ بعد ستة أشهر، ومعلوم أن المرأة تلد لتسعة أشهر، فلا بُدَّ أنها حملت قبل أنْ تتزوج.

فقال الإمام علي: أقل الحمل ستة أشهر، فقال السائل: ومن أين تأخذها يا أبا الحسن؟ قال: نأخذها من قوله تعالى:{ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً.... }[الأحقاف: 15] وفي آية أخرى قال سبحانه:{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ... }[البقرة: 233].

يعني: أربعة وعشرين شهراً، وبطرح الأربعة والعشرين شهراً من الثلاثين يكون الناتج ستة أشهر، هي أقل مدة للحمل. وهكذا تتكاتف آيات القرآن، ويكمل بعضها بعضاً، ومن الخطأ أن نأخذ كل آية على حدة، ونفصلها عن غيرها في ذات الموضوع.

ثم يقول سبحانه: } إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ... { [القصص: 76] والنهي هنا عن الفرح المحظور، فالفرح: انبساط النفس لأمر يسرُّ الإنسان، وفَرْق بين أمر يسرُّك؛ لأنه يُمتعك، وأمر يسرُّك لأنه ينفعك، فالمتعة غير المنفعة.

فمثلاً، مريض السكر قد يأكل المواد السكرية لأنها تُحدِث له متعة، مع أنها مضرة بالنسبة له، إذن: فالفرح ينبغي أن يكون بالشيء النافع، لأن الله تعالى لم يجعل المتعة إلا في النافع.

فحينما يقولون له } لاَ تَفْرَحْ.. { [القصص: 76] أي: فرح المتعة، وإنما الفرح بالشيء النافع، ولو لم تكن فيه متعة كالذي يتناول الدواء المر الذي يعود عليه بالشفاء، لذلك يقول تعالى:

{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ... }[يونس: 58].

ويقول تعالى:{ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ... }[الروم: 4-5] فسماه الله فرحاً؛ لأنه فرح بشيء نافع؛ لأن انتصار الدعوة يعني أن مبدءك الذي آمنتَ به، وحاربت من أجله سيسيطر وسيعود عليك وعلى العالم بالنفع.

ومن فرح المتعة المحظور ما حكاه القرآن:{ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ... }[التوبة: 81] هذا هو فرح المتعة؛ لأنهم كارهون لرسول الله، رافضون للخروج معه، ويسرُّهم قعودهم، وتركه يخرج للقتال وحده.

فقوله تعالى: } لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ { [القصص: 76] أي: فرح المتعة الذي لا ينظر إلى مَغبّة الأشياء وعواقبها، فشارب الخمر يشربها لما لها من متعة مؤقتة، لكن يتبعها ضرر بالغ، ونسمع الآن مَنْ يقول عن الرقص مثلاً؛ إنه فن جميل وفن رَاقٍ؛ لأنه يجد فيه متعة ما، لكن شرط الفن الجميل الراقي أن يظل جميلاً، لكن أنْ ينقلب بعد ذلك إلى قُبْح ويُورِث قبحاً، كما يحدث في الرقص، فلا يُعَدُّ جميلاً.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ... {.

(/3254)

وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)

معنى { وَابْتَغِ... } [القصص: 77] أي: اطلب { فِيمَآ آتَاكَ اللَّهُ... } [القصص: 77] بما أنعم عليك من الرزق { الدَّارَ الآخِرَةَ... } [القصص: 77] لأنك إن ابتغيت برزق الله لك الحياة الدنيا، فسوف يَفْنى معك في الدنيا، لكن إنْ نقلتَهُ للآخرة لأبقيتَ عليه نعيماً دائماً لا يزول.

وحين تحب نعيم الدنيا وتحتضنه وتتشبث به، فاعلم أن دنياك لن تمهلك، فإما أنْ تفوت هذا النعيمَ بالموت، أو يفوتك هو حين تفتقر. إذن: إن كنت عاشقاً ومُحباً للمال ولبقائه في حَوْزتك، فانقله إلى الدار الباقية، ليظل في حضنك دائماً نعيماً باقياً لا يفارقك، فسارع إذن واجعله يسبقك إلى الآخرة.

" وفي الحديث الشريف لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة عن الشاة التي أُهديَتْ له قالت بعد أن تصدقت بها: ذهبتْ إلا كتفها، فقال صلى الله عليه وسلم: " بل بقيتْ إلا كتفها ".

ويقول صلى الله عليه وسلم: " ليس لك من مالك إلا ما أكلتَ فافنيتَ، أو لبستَ فأبليتَ، أو تصدقْتَ فأبقيْتَ ".

لذلك كان أولو العزم حين يدخل على أحدهم سائل يسأله، يقول له: مرحباً بمَنْ جاء يحمل زادي إلى الآخرة بغير أجرة.

والإمام علي - رضي الله عنه - جاءه رجل يسأله: أأنا من أهل الدنيا، أم من أهل الآخرة؟ فقال: جواب هذا السؤال ليس عندي، بل عندك أنت، وأنت الحكم في هذه المسألة. فإنْ دخل عليك مَنْ تعودت أنه يعطيك، ودخل عليك مَنْ تعودت أنْ يأخذ منك، فإنْ كنتَ تبشُّ لمن يعطي، فأنت من أهل الدنيا، وإنْ كنتَ تبشُّ لمَنْ يسألك ويأخذ منك، فأنت من أهل الآخرة، لأن الإنسان يحب من يعمر له ما يحب، فإنْ كنتَ محباً للدنيا فيسعدك مَنْ يعطيك، وإنْ كنتَ محباً للآخرة فيسعدك مَنْ يأخذ منك.

وإذا كان ربنا - عز وجل - يوصينا بأن نبتغي الآخرة، فهذا لا يعني أن نترك الدنيا: { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا... } [القصص: 77] لكن هذه الآية يأخذها البعض دليلاً على الانغماس في الدنيا ومتعها.

وحين نتأمل { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا... } [القصص: 77] نفهم أن العاقل كان يجب عليه أنْ ينظر إلى الدنيا على أنها لا تستحق الاهتمام، لكن ربه لفته إليها ليأخذ بشيء منها تقتضيه حركة حياته. فالمعنى: كان ينبغي علىَّ أنْ أنساها فذكِّرني الله بها.

ولأهل المعرفة في هذه المسألة مَلْمح دقيق: يقولون: نصيبك من الشيء ما ينالك منه، لا عن مفارقة إنما عن ملازمة ودوام، وعلى هذا فنصيبك من الدنيا هو الحسنة التي تبقى لك، وتظل معك، وتصحبك بعد الدنيا إلى الآخرة، فكأن نصيبك من الدنيا يصُبُّ في نصيبك من الآخرة، فتخدم دنياك آخرتك.

أو: يكون المعنى موجهاً للبخيل الممسك على نفسه، فيُذكِّره ربه } وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا... { [القصص: 77] يعني: خُذْ منها القَدْر الذي يعينك على أمر الآخرة، لذلك قالوا عن الدنيا: هي أهم من أن تُنْسى - لأنها الوسيلة إلى الآخرة - وأتفه من أن تكون غاية؛ لأن بعدها غاية أخرى وأبقى وأدوم.

ثم يقول سبحانه: } وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ.. { [القصص: 77] الحق سبحانه يريد أنْ يتخلَّق خَلْقه بخُلُقه، كما جاء في الأثر " تخلقوا بأخلاق الله ".

فكما أحسن الله إليك أحسِنْ إلى الناس، وكما تحب أنْ يغفر الله لك، اغفر لغيرك إساءته } أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ... { [النور: 22].

وما دام ربك يعطيك، فعليك أنْ تعطي دون مخالفة الفقر؛ لأن الله تعالى هو الذي استدعاك للوجود؛ لذلك تكفَّل بنفقتك وتربيتك ورعايتك. لذلك حين ترى العاجز عن الكسب - وقد جعله ربه على هذه الحال لحكمة - حين يمد يده إليك، فاعلم أنه يمدُّها لله، وأنك مناول عن الله تعالى.

ونلحظ هذا المعنى في قوله تعالى:{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً.. }[الحديد: 11].

فسمَّى الصدقة قرضاً لله، لماذا؟ لأن هذا العبد عبدي، مسئول مني أن أرزقه، وقد ابتليتُه لحكمة عندي - حتى لا يظنّ أحد أن المسألة ذاتية فيه، فيعتبر به غيره - فمَنْ إذن يقرضني لأسُدَّ حاجة أخيكم؟

وقال تعالى:{ يُقْرِضُ اللَّهَ... }[الحديد: 11] مع أنه سبحانه الواهب؛ لأنه أراد أن يحترم ملكيتك، وأن يحترم انتفاعك، وسَعْيك.. كما لو أراد والد أنْ يُجري لأحد أبنائه عملية جراحية مثلاً وهو فقير وإخوته أغنياء، فيقول لأولاده: اقرضوني من أموالكم لأجري الجراحة لأخيكم، وسوف أردُّ عليكم هذا القرض.

" وفي الحديث الشريف أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ابنته فاطمة - رضوان الله عليها - فوجدها تجلو درهماً فسألها: ماذا تصنعين به "؟ قالت: أجلوه، قال: " لِمَ "؟ قالت: لأني نويت أن أتصدق به، وأعلم أنه يقع في يد الله قبل أن يقع في يد الفقير ".

إذن: فالمال مال الله، وأنت مناول عن الله تعالى.

وقد وقف بعض المستشرقين عند هذه المسألة؛ لأنهم يقرأون الآيات والأحاديث مجرد قراءة سطحية غير واعية، فيتوهمون أنها متضاربة. فقالوا هنا: الله تعالى يقول:{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ... }[الحديد: 11].

وقال في موضع آخر:{ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا... }[الأنعام: 160] وفي الحديث الشريف: " مكتوب على باب الجنة: الصدقة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر ".

فظاهر الحديث يختلف مع الآية الكريمة - هذا في نظرهم - لأنهم لا يملكون المَلَكة العربية في استقبال البيان القرآني. وبتأمل الآيات والأحاديث نجد اتفاقهما على أن الحسنة أو الصدقة بعشر أمثالها، فالخلاف - ظاهراً - في قوله تعالى:

{ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ... }[الحديد: 11] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " والقرض بثمانية عشر ".

وليس بينهما اختلاف، فساعة تصدَّق الإنسان بدرهم مثلاً أعطاه الله عشرة منها بدرهم الذي تصدَّق به، فكأنه أعطاه تسعة، فحين تُضَاعف التسعة، تصبح ثمانية عشرة.

ثم يقول سبحانه: } وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ { [القصص: 77] والفساد يأتي من الخروج عن منهج الله، فإنْ غيَّرت فيه فقد أفسدتَ، فالفساد كما يكون في المادة يكون في المنهج، وفي المعنويات، يقول سبحانه:{ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا... }[الأعراف: 56].

فالحق سبحانه خلق كل شيء على هيئة الصلاح لإسعاد خلقه، فلا تعمد إليه أنت فتفسده، ومن هذا الصلاح المنهج، بل المنهج وهو قوام الحياة المعنوية - أَوْلَى من قِوام الحياة المادية.

إذن: فلتكُنْ مؤدباً مع الكون من حولك، فإذا لم تستطع أنْ تزيده حُسْناً فلا أقلَّ من أنْ تدعه كما هو دون أنْ تفسده، وضربنا لذلك مثلاً ببئر الماء قد تعمد إليه فتطمسه، وقد تبني حوله سوراً يحميه.

هذه مسائل خمْس توجَّه بها قوم قارون لنصحه بها، منها الأمر، ومنها النهي، ولا بُدَّ أنهم وجدوا منه ما يناقضها، لا بُدَّ أنهم وجدوه بَطِراً أَشِراً مغروراً بماله، فقالوا له:{ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ }[القصص: 76].

ووجدوه قد نسي نصيبه من الدنيا فَلم يتزود منها للآخرة، فقالوا له } وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا... { [القصص: 77]، ووجدوه يضنُّ على نفسه فلا ينفق في الخير، فقالوا له: } وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ... { [القصص: 77] يعني: عَدِّ نعمتك إلى الغير، كما تعدَّت نعمة الله إليك.. وهكذا ما أمروه أمراً، ولا نهوْهُ نهياً إلا وهو مخالف له، وإلا لَمَا أمروه ولَمَا نهوْهُ.

ثم يقول قارون رداً على هذه المسائل الخمس التي توجَّه بها قومه إليه: } قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ... {.

(/3255)

قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)

لكن ما وجه هذا الردّ { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِي... } [القصص: 78] على المطلوبات الخمسة التي طلبوها منه؟ كأنه يقول لهم: لا دخلَ لكم هذه الأمور؛ لأن الذي أعطاني المال علم أنني أهْلٌ له، وأنني استحقه؛ لذلك ائتمنني عليه، ولسْتُ في حاجة لنصيحتكم.

أو يكون المعنى { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِي } [القصص: 78] يعني: بمجهودي ومزاولة الأعمال التي تُغِل علىَّ هذا المال، وكان قارون مشهوراً بحُسْن الصوت في قراءة التوراة، وكان حافظاً لها. وكان حسن الصورة، وعلى درجة عالية بمعرفة أحكام التوراة.

فعجيب أن يكون عنده كل هذا العلم ويقول { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِي... } [القصص: 78] ولا يعلم أن الله قد أهلك من قبله قروناً كانوا أشدَّ منه قوة، وأكثر منه مالاً وعدداً.

{ أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً... } [القصص: 78] فكيف فاتتْه هذه المسألة مع عِلْمه بالتوراة؟

ومعنى { أَوَلَمْ يَعْلَمْ... } [القصص: 78] أي: من ضمن ما علم { مِنَ الْقُرُونِ... } [القصص: 78] أناس كانوا أكثر منه مالاً، وقد أخذهم الله وهم أمم لا أفراد، وكلمة { جَمْعاً.. } [القصص: 78] يجوز أن تكون مصدراً يعني: جمع المال، أو: اسم للجماعة أي: له عُصْبة.

وبعد ذلك قال سبحانه: { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ } [القصص: 78] وعلامة أنهم لا يُسألون أن الله تعالى يأخذهم دون إنذار يأخذهم على غِرَّة، فلن يقول لقارون: أنت فعلت كذا وكذا، وسأفعل بك كذا وكذا، وأخسف بك وبدارك الأرض، فأفعالك معلومة لك، والحيثيات السابقة كفيلة بأنْ يُفاجئك العذاب.

وهكذا يتوقع أنْ يأتيه الخَسْف والعذاب في أيِّ وقت، إذن: لن نسألهم، ولن نُجري معهم تحقيقاً كتحقيق النيابة أو (البوليس)، حيث لا فائدة من سؤالهم، وليس لهم عندنا إلا العقاب.

وبعد هذا كله وبعد أنْ نصحه قومه ما يزال قارون متغطرساً بَطِراً لم يَرْعَو ولم يرتدع، بل ظل فََرِِحاً باغياً مفسداً، ويحكي عنه القرآن: { فَخَرَجَ عَلَىا قَوْمِهِ... }.

(/3256)

فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)

قلنا: إن قارون كان بطبيعة الحال غنياً وجيهاً، حَسَن الصوت والصورة، كثير العدد، كثير المال، فكيف لو أضفت إلى هذا كله أن يخرج في زينته وفي موكب عظيم، وفي أبهة { فَخَرَجَ عَلَىا قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ... } [القصص: 79].

وللعلماء كلام كثير في هذه الزينة التي خرج فيها قارون، فقد كان فيها ألف جارية من صفاتهن كذا وكذا، وألف فرس.. إلخ، حتى أن الناس انبهروا به وبزينته، بل وانقسموا بسببه قسمين: جماعة فُتِنوا به، وأخذهم بريق النعمة والزينة والزهو وترف الحياة، ومدُّوا أعينهم إلى ما هو فيه من متعة الدنيا.

وفي هؤلاء يقول تعالى: { قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [القصص: 79] وقد خاطب الحق - تبارك وتعالى - نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله:{ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىا مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... }[طه: 131].

والمعنى: لا تنظر إلى ما في يد غيرك، واحترم قدر الله في خَلْق الله، واعلم أنك إنْ فرحت بالنعمة عند غيرك أتاك خيرها يطرق بابك وخدمتْك كأنها عندك، وإنْ كرهتها وحسدته عليها تأبَّت عليك، وحُرمْت نفعها؛ لأن النعمة أعشق لصاحبها من عشقه لها، فكيف تأتيه وهو كاره لها عند غيره؟

لذلك من صفات المؤمن أن يحب الخير عند أخيه كما يحبه لنفسه، وحين لا تحب النعمة عند غيرك، فما أذنبه هو؟ فكأنك تعترض على قدر الله فيه، وما دُمْتَ قد تأبيت واعترضت على قدر المنعم، فلا بُدَّ أن يحرمك منها.

لذلك يقول سبحانه في موضع آخر:{ وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىا بَعْضٍ... }[النساء: 32].

لأن لكل منكم مهمة ودوراً في الحياة، ولكل منكم مواهبه وميزاته التي يمتاز بها عن الآخرين، ولا بُدَّ أن يكون فيك خصال أحسن ممن تحسده، لكنك غافل عنها غير متنبه لها.

وسبق أن قلنا: إن الحق سبحانه قد وزَّع أسباب فَضْله على خَلْقه؛ لأننا جميعاً أمام الله سواء، وهو سبحانه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً؛ لذلك قلنا: إن مجموع مواهب كل فرد تساوي مجموع مواهب الآخر، فقد تزيد أنت عني في خصلة، وأزيد عنك في أخرى، فهذا يمتاز بالذكاء، وهذا بالصحة، وهذا بالعلم، وهذا بالحِلْم.. إلخ.

لأن حركة الحياة تتطلب كل هذه الإمكانيات، فبها تتكامل الحياة، وليس من الممكن أن تتوفر كل هذه المزايا لشخص واحد يقوم بكل الأعمال، بل إنْ تميزْتَ في عملك، وأتقنتَ مهمتك فلك الشكر.

ومن العجيب ألاَّ تنتفع أنت بنبوغك، في حين ينتفع به غيرك، ومن ذلك قولهم مثلاً (باب النجار مخلع)، فلماذا لا يصنع باباً لنفسه، وهو نجار؟ قالوا: لأنه الباب الوحيد الذي لا يتقاضى عليه أجراً.

إذن: حينما تجد غيرك مُتفوِّقاً في شيء فلا تحقد عليه؛ لأن تفوقه سيعود عليك، وضربنا لذلك مثلاً بشيء بسيط؛ حين تمسك المقصَّ بيدك اليمنى لتقصَّ أظافر اليد اليسرى تجد أن اليد اليمنى - لأنها مرنة سهلة الحركة - تقصُّ أظافر اليسرى بدقة، أما حين تقصُّ اليسرى أظافر اليمنى فإنها لا تعطيك نفس المهارة التي كانت لليمنى. إذن: فحُسْن اليمنى تعدَّى لليُسْرى ونفعها.

وهكذا إذا رأيتَ أخاك قد تفوَّق في شيء أو أحسن في صُنْعه فاحمد الله؛ لأن حُسْنه وتفوقه سيعود عليك، وقد لا يعود عليه هو، فلا تحسده، ولا تحقد عليه، بل ادْعُ له بالمزيد؛ لأنك ستنتفع به في يوم من الأيام.

لكن ماذا قال أهل الدنيا الذين بُهِروا بزينة قارون؟ قالوا: } يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.. { [القصص: 79] يعني: كما نقول نحن (حظه بمب)؛ لأن هؤلاء لا يعنيهم إلا أمر الدنيا ومُتعها وزُخْرفها، أما أهل العلم وأهل المعرفة فلهم رأْيٌ مخالف، ونظرة أبعد للأمور؛ لذلك رَدُّوا عليهم: } وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ... {.

(/3257)

وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)

فما كان الحق - تبارك وتعالى - ليترك أهل الدنيا وأهل الباطل يُشكِّكون الناس في قَدَر الله، ويتمردون على قسمته حتى الكفر والزندقة، والله سبحانه لا يُخِلي الناس من أهل الحق الذين يُعدِّلون ميزان حركة الحياة:إنَّ الذي جَعَلَ الحقِيقةَ عَلْقماً لم يخلْ من أَهْل الحقيقة جيلاوما دام أن الله تعالى قال في الجماعة الأولى:{ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا... }[القصص: 79] فهم لا يروْنَ غيرها، ولا يطمحون لأبعد منها، وقال في الأخرى: { وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ... } [القصص: 80] فهذا يعني: أن أهل الدنيا (سطحيون)، لم يكن عندهم علم ينفعهم، لذلك وقعوا في هذا المأزق الذي نجا منه أهل العلم، حينما أجروا مقارنة بين الطمع في الدنيا والطمع في الآخرة.

كما قلنا سابقاً: إن عمر الدنيا بالنسبة لك: لا تقُلْ من آدم إلى قيام الساعة؛ فعمرك أنت فيها عمر موقوت، لا بُدَّ أنْ يفنى. إذن: العاقل مَنْ يختار الباقية على الفانية، لذلك أهل الدنيا قالوا{ يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ... }[القصص: 79].

أما أهل العلم والمعرفة فردُّوا عليهم: { وَيْلَكُمْ... } [القصص: 80] أي: الويل لكم بسبب هذا التفكير السطحي، وتمنِّي ما عند قارون الويل والهلاك لكم بما حسدتُم الناس، وبما حقدتُم عليهم, وباعتراضكم على أقدار الله في خَلْقه.

فأنتم تستحقون الهلاك بهذا؛ لذلك قال الله عنهم في موضع آخر:{ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... }[الروم: 6-7].

يعني: لا يعرفون حقيقة الأشياء، ولو عرفوا ما قالوا هذا الكلام، وما تمنَّوْا هذه الأمنية.

ثم يلفت أهل العلم والمعرفة أنظار أهل الدنيا، ويُوجِّهونهم الوجهة الصحيحة: { ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً... } [القصص: 80] أي: ثواب الله خير من الدنيا، ومما عند قارون، وكيف تتمنون ما عنده، وقد شجبتم تصرفاته، ونهيتموه عنها، ولم ترضوَهْا؟

ومعنى: { وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصَّابِرُونَ } [القصص: 80] أي: يُلقّي الإيمان والعمل الصالح والهداية، ليُقبِلَ على عمل الآخرة، ويُفضلها عن الدنيا، أي: يُلقّى قضية العلم بالحقائق، ولا تخدعه ظواهر الأشياء. هذه لا يجدها ولا يُوفّق إليها إلا الصابرون، كما قال سبحانه في آية أخرى:{ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }[فصلت: 35].

والصبر: احتمال ما يؤذي في الظاهر، لكنه يُنعَم في الباطن. وله مراحل، فالله تعالى كلَّفنا بطاعات فيها أوامر، وكلَّفنا أنْ نبتعد عن معاصٍ، وفيها نواهٍ، وأنزل علينا أقداراً قد لا تستطيبها نفوسنا، فهذه مراحل ثلاث.

فالطاعات ثقيلة وشاقة على النفس؛ لذلك يقول تعالى عن الصلاة:{ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ }[البقرة: 45] فهناك دَواع شتَّى تصرفك عن الصلاة، وتحاول أنْ تُقعدك عنها، فتجد عند قيامك للصلاة كسلاً وتثاقلاً.

واقرأ قوله تعالى عن الصلاة مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم:

{ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا... }[طه: 132] وهذا دليل على أنها صعبة وشاقَّة على النفس، لكن إذا تعودتْ عليها، وألفتها النفس صارتْ أحبَّ الأشياء إليك، وأخفّها على نفسك، بل وقرَّة عَيْن لك.

والنبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا هذا الدرس في قوله لمؤذنه بلال: " أرحنا بها يا بلال " لا أرحنا منها تلك المقالة التي يقولها لسان حالنا الآن.

ويقول أيضاً صلى الله عليه وسلم: " وجُعلَت قرة عيني في الصلاة " وخصَّ الصلاة بالذات من بين سائر العبادات؛ لأنها تتكرر في اليوم خمس مرات، فهي ملازمة للمؤمن يعايشها على مدى يومه وليلته بخلاف الأركان الأخرى، فمنها ما هو مرة واحدة في العام، أو مرة واحدة في العمر كله.

هذا هو النوع الأول من الصبر، وهو الصبر على مشقة الطاعة.

الثاني: الصبر عن شهوة المعصية، ولا تنْسَ أنه أول صبر تصادفه في حياتك أنْ تصبر على نفسك؛ لذلك يقول الشاعر:إذَا رُمْتَ أنْ تُسْتقِرضَ المال مُنفقاً عَلَى شَهَواتِ النفْسِ في زَمَن العُسْرِفَسَل نفسَكَ الإنفاقَ من كَنْز صَبْرها عليْكَ وإنْظَاراً إلى سَاعةِ اليُسْرفإنْ فعلتْ كنتَ الغنيَّ وإنْ أبتْ فكل مَنُوع بعدها واسِع العُذْرفبدل أن تقترض لقضاء شهوة نفس عاجلة، فأوْلَى بك أن تصبر إلى أن تجد سعة وتيسيراً، فصبرك على نفسك أهون من صبر الناس عليك، وإنْ تسعْكَ نفسك، فلا عُذْر لأحد بعد ذلك إنْ منعك.

الثالث: صَبر على الأقدار المؤلمة التي لا تفطن أنت إلى الحكمة منها، فالأقدار ما دامتْ من حكيم، ومُجريها عليك ربٌّ، إذن لا بُدَّ أن لها حكمة فيك، فخُذ القضية القدرية مُجريها عليك، فهو سبحانه ربك، وليس عدوك، وأنت عبده وصنعته، ألم تقرأ قول الرسول في الحديث الشريف: " الخلق كلهم عيال الله، فأحبُّهم إليه أرأفهم بعياله ".

إذن: حين تجري عليك الأقدار المؤلمة، فيكفيك للصبر عليها أنْ تعلم أنها حكمة الله، ويكفيك أن مُجريها عليك ربك، فإنْ جاءت الأقدار المؤلمة بسبب تقصيرك، فلا تلومنَّ إلا نفسك، كالطالب الذي يُهمل دروسه ويتكاسل، فيفشل في الامتحان، فالفشل نتيجة إهماله وتكاسله.

أما الذي يذاكر ويجدّ ويُبكِّر إلى الامتحان مُسْتبشراً فتصدمه سيارة مثلاً في الطريق، تمنعه من أداء امتحانه، فهذا هو القدر المؤلم الذي له حكمة، وربما داخله شيء من الغرور، وعوَّل على مذاكرته، ونسي توفيق الله له، فأراد الله أنْ يُلقّنه هذا الدرس ليعلمه أن الأمر في النهاية بيد الله وبمعونته، وأنه الخاسر إنْ لم تصادفه هذه المعونة، على حَدٍّ قول الشاعر:إذَا لم يكُنْ عَوْنٌ مِنَ الله للفتَى فَأَوَّلُ مَا يَجْني عليْهِ اجتهادُهُفعليك إذن أنْ تنظر إنْ كانت المصيبة نتيجة لما قدمت، فلا تلومنَّ إلا نفسك، فإنْ كنتَ قد أخذت بالأسباب، واستوفيتَ ما طُلب منك، ثم أصابتْك المصيبة، فاعلم أن لله فيها حكمة، وعليك أنْ تحترم حكمة الله وقدره في خَلْقه.

وباعتبار آخر، يمكن أن نقسم المصائب إلى قسمين: قسم لك فيه غريم، كأن يعتدي عليك غيرك بضرب أو قتل أو نحوه، وقسم ليس لك فيه غريم كالموت والمرض مثلاً.

وقد أعطانا الحق - سبحانه وتعالى - حكماً في كل منهما، ففي النوع الأول حيث لا غريمَ لك، يقول تعالى على لسان لقمان وهو يوصي ولده:{ وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }[لقمان: 17].

ويقول فيما لك فيه غريم:{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ... }[الشورى: 43] فما دام قد ذكر المغفرة ودعاك إليها، فلا بُدَّ أن أمامك غريماً، ينبغي أنْ تصبر عليه، وأن تغفر له، والغريم يهيجني إلى المعصية وإلى الانتقام، فكلما رأيته أتميَّز غيظاً، فالصبر في هذه الحالة أشد ويحتاج إلى عزيمة قوية.

لذلك قال سبحانه:{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }[الشورى: 43] ولم يقل كما في الأولى:{ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }[لقمان: 17] إنما بصيغة التأكيد باللام (لَمِنْ).

ويُعلِّمنا ربنا - تبارك وتعالى - كيف نعالج غَيْظ النفوس أمام الغريم، فيقول سبحانه:{ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }[آل عمران: 134].

هذه مراحل ثلاث، تتدرج بك حسب ما عندك من استعداد للخير وقدرة على التسامح، فأولها: أن تكظم غيظك، وهذا يعني أن الغيظ موجود، لكنك تكتمه في نفسك، فإن ارتقيتَ عفوتَ بأن تُخرج الغيظ والغِلَّ من نفسك، كأن شيئاً لم يحدث، فإن ارتقيتَ إلى المرتبة الأعلى أحسنتَ؛ لأن الله تعالى يحب المحسنين، والإحسان أن تقدم الخير وتبادر به مَنْ أساء إليك، فتجعله رداً على إساءته.

ولا شكَّ أن هذه المراحل تحتاج إلى مجاهدة، فهي قاسية على النفس، وقلما تجد مَنْ يعمل بها؛ لذلك ما جعلها الله على وجه الإلزام، إنما ندب إليها وحثّ عليها، فإنْ أخذتَ بأْولاَها فلا شيء عليك؛ لأن الله تعالى أباح لك أن ترد الإساءة بمثلها، فإنْ كظمتَ غيظك فأنت على خير، وإن اخترتَ لنفسك الرقي في طاعة ربك، فنِعمْ الرجل أنت، ويكفيك{ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }[آل عمران: 134].

ويكفيك أن المسيء بإساءته إليك جعل الله في جانبك، فهو مع إساءته إليك يستحق مكافأة منك، كما قال أحد العارفين: ألا أُحسن لمن جعل الله في جانبي؟

وضربنا لذلك مثلاً بالوالد حين يجد أن أحد الأولاد اعتدى على الآخر، فيميل ناحية المُعْتَدى عليه ويتودَّد إليه، ويحاول إرضاءه، حتى إن المعتدي ليغتاظ ويندم على أنه أساء إلى أخيه، كذلك الحق - تبارك وتعالى - إن اعتدى بعض خَلْقه على بعض يحتضن المظلوم، وينصره على مَنْ ظَلمَه.

ثم يُفاجأ قارون بالعقاب الذي يستحقه: } فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ... {.

(/3258)

فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)

والخسف: أن تنشقَّ الأرض فتبتلع ما عليها، كالذي يقول (يا أرض انشقي وابلعيني)، والخسف كان به وبداره التي فيها كنوزه وخزائنه وما يملك { فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ... } [القصص: 81]، فما نفعه مال، ولا دافع عنه أهل { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ } [القصص: 81] أي: بذاته. فلم تكُنْ له عُصْبة تحميه، ولا استطاع هو حماية نفسه، فمَنْ يدفع عذاب الله إن حلَّ، ومَنْ يمنعه ونقذه إنْ خُسِفت به الأرض؟!

وهنا ينبغي أن نتساءل: كيف الآن حال مَنْ اغتروا به، وفُتِنوا بماله وزينته؟

يقول الحق سبحانه: { وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ... }.

(/3259)

وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)

لقد كانوا بالأمس يقولون{ يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ... }[القصص: 79]، لكن اليوم وبعد أن عاينوا ما حاق به من عذاب الله وبأسه الذي لا يُردُّ عن القوم الكافرين - اليوم يثوبون إلى رُشْدهم ويقولون: { وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ... } [القصص: 82].

كلما (وَىْ) اسم فعل مثل: أُفٍّ وهيهات، وتدل على الندم والتحسُّر على ما حدث منك، فهي تنديد وتَخْطيءٌ للفعل، وقد تُقال (وَيْ) للتعجب. فقولهم (وي) ندماً ما كان منهم من تمني النعمة التي تنعَّم بها قارون وتخطيئاًَ لأنفسهم، بعد أنْ شاهدوا الخَسْف التي تنعَّم بها قارون وتخطيئاً لأنفسهم، بعد أنْ شاهدوا الخَسْف به وبداره، وهم يندمون الآن ويُخطِّئون أنفسهم؛ لأن الله تعالى في رزقه حكمة وقدراً.

{ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ... } [القصص: 82] أي: يقبض ويُضيق، وليس بسْط الرزق دليل كرامة، ولا تضييقه دليلَ إهانة، بدليل أن الله يبسط الرزق لقارون، ثم أخذه أخْذ عزيز مقتدر.

وقد تعرضتْ سورة الفجر لهذه المسألة في قوله تعالى:{ فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ }[الفجر: 15-16].

فالأول اعتبر الرزق الواسع دليل الكرامة، والآخر اعتبر التضييق دليلَ إهانة، فردَّ الحق سبحانه عليهما ليُصحح هذه النظرة فقال:{ كَلاَّ... }[الفجر: 17] يعني: أنتما خاطئان، فلا سعةَ الرزق دليلُ كرامة، ولا تضييقه دليلُ إهانة، وإلا فكيف يكون إيتاء المال دليلَ كرامة، وأنا أعطي بعض الناس المال، فلا يُؤدُّون حقَّ الله فيه؟{ كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىا طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً }[الفجر: 17-20].

إذن: فأيُّ كرامة في مال يكون وبالاً على صاحبه، وابتلاء لا يُوفَّق فيه، فلو سُلب هذا المال من صاحبه لكان خيراً له، فما أشبهَ هذا المال بالسلاح في يد الذي لا يُحسِن استعماله، فربما قتل نفسه به.

وقوله تعالى: { وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [القصص: 82] تعجُّب من أنه لا يفلح الكافرون عند الله تعالى.

وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه بقضية عامة ليفصل في هذه المسألة: { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ... }.

(/3260)

تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)

لأنه لا يصح أنْ يعلو الإنسان على بني جنسه، ولا على بيئته إلا بشيء ذاتي فيه، فلا يصح أنْ يعلوَ بقوته؛ لأنه قد يمرض، فيصير إلى الضعف، ولا بماله لأنه قد يُسلب منه.

إذن: إياك أن تعلو على غيرك بشيء موهوب لك، إنْ أردتَ فبشيء ذاتي فيك، وليس فيك شيء ذاتي، فلست أفضلَ من أحد حتى تعلو عليه، كما أن الدنيا أغيار، وربما انتقل ما عندك إليهم، فهل يسرُّك إنْ صار غيرك غنياً أو قوياً أنْ يتعالى عليك؟

ثم أنت لا تستطيع العلو إلا بالاعتماد على قوة أعلى منك تسندك، وجرِّب بنفسك وحاول أن تقفز إلى أعلى كلاعب السيرك، ثم أمسك نفسك في هذا العلو، وطبعاً لن تستطيع، لماذا؟ لأنه لا ذاتية لك في العُلو.

وما دام الأمر كذلك، فإياك أنْ تعلو؛ لأنك بعلوِّك تُحْفِظُ الآخرين؛ فإنْ حصل لك العكس شمتوا فيك، وأيضاً لأن الإنسان لا يعلو في بيئة ولا في مكان إلا إذا رأى كل مَنْ حوله دونه، وحين ترى أن كل الناس دونك فأنت لم تتنبه إلى أسرار فَضلْ الله في خَلْقه.

ولو تأملت لوجدتَ في كل منهم خصلة ليست عندك، ولو قدَّرت أن الناس جميعاً عيالُ الله وخَلْقه، وليس منا مَنْ بينه وبين الله نسب أو قرابة ونحن جميعاً عنده تعالى سواء، وقد وزّع المواهب بيننا جميعاً بالتساوي، وبالتالي لا يمتاز أحد على أحد، فلم التعالي إذن؟ ولِمَ الكبر؟

وأيضاً الذي يتعالى لا يتعالى إلا في غفلة منه عن ملاحظة كبرياء ربه، وإلا فالذي يستحضر عظمة ربه وكبرياءه لا بُدَّ له أنْ يتواضع، وأنْ يتضاءل أمام كبريائه تعالى، وأنْ يستحي أن يتكبر على خَلْقه.

والنبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا كيف نحترم الآخرين؟ وكيف نتواضع لهم؟ فلما دخل عليه الصحابي الجليل عدي بن حاتم قام عن كرامة مجلسه له، يعني: إن كانْ جالساً على (وسادة مثلاً) يقوم عنها، ويعطيها لصاحبه ليجلس هو عليها.

وهكذا يحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على المساواة في المجلس؛ لذلك قال عدي بن حاتم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أنك لا تريد عُلُواً في الأرض، وأشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأسلم.

وعجيب ما نراه مثلاً في مساجدنا، وهي بيوت الله وأَوْلَى الأماكن بهذه المساواة، فتراهم إذا دخل أحد أصحاب النفوذ يفرشون له مُصلّى ليصلي عليها، مع أن المسجد مفروش، وعلى أعلى مستوى من النظافة، فلماذا هذا التمييز؟

ومع ذلك نجد منهم مَنْ يزيح هذه المصلَّى جانباً، ويصلي كما يصلي بقية الناس، وأظن أن الذي يقبل أنْ تُوضع له هذه المصلى أظنه يبتغي علواً في الأرض.

والحق سبحانه يريد للإنسان أن يعيش سوىَّ الحركة في أسوياء لتظل القلوب متآلفة، لا يداخلها ضغن، وإذا خلَتْ القلوب من الضِّغن وَسِع الناسَ جميعاً رغيفُ عيشٍ واحد.

ثم يقول سبحانه: { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [القصص: 83] أي: العاقبة الخيِّرة، والعاقبة الحسنة في النعيم المقيم الدائم للمتقين.

ثم يقول الحق سبحانه: { مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ... }.

(/3261)

مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)

قلنا: إن كلمة (خيرٍ) تُطلق ويُراد بها ما يقابل الشر، كما في قوله تعالى:{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }[الزلزلة: 7-8].

وتُطلق ويُراد بها الأحسن في الخير، تقول: هذا خير من هذا، فكلاهما فيه خير، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كُلٍّ خير " فهي بمعنى التفضيل، أي: أخير منها، ومن ذلك قول الشاعر:زَيْدٌ خِيارُ النَّاسِ وابْنُ الأَخْيرِفجاء بصيغة التفضيل على الأصل، وتقول: هذا حَسَن، وذلك أحسن.

فالمعنى هنا: { مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا... } [القصص: 84] أي: خير يجيئه من طريقها، أو إذا عمل خيراً أعطاه الله أخير منه وأحسَن، والمراد أن الحسنة بعشر أمثالها.

والحق سبحانه يعطينا صورة توضيحية لهذه المسألة، فيقول سبحانه:{ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[البقرة: 261].

فقوله تعالى: { مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ... } [القصص: 84] قضية عقدية، تثبت وتُقرِّر الثواب للمطيع، والعقاب للعاصي، ومعنى { مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ... } [القصص: 84] أي: أتى بها حدثاً لم يكُنْ موجوداً، فحين تفعل أنت الحسنة فقد أوجدتَها بما خلق الله فيك من قدرة على الطاعة وطاقة لفعل الخير.

أو المعنى: جاء بالحسنة إلى الله أخيراً لينال ثوابها، ولا مانع أن تتجمع له هذه المجيئات كلها ليُقبل بها على الله، فيجازيه بها في الآخرة.

لكن، هل ثواب الحسنة مقصور فقط على الآخرة، أم أن الدين بقضاياه جاء لسعادة الدنيا وسعادة الآخرة؟ فما دام الدين لسعادة الدارين فللحسنة أثر أيضاً في الدنيا، لكن مجموعها يكون لك في الآخرة.

وهذه الآية جاءت بعد الحديث عن قارون، وبعد أن نصحه قومه، وجاء في نصحهم:{ وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ... }[القصص: 77] إذن: فطلبهم أن يُحسن كما أحسن الله إليه جاء في مجال ذكر الحسنة، والحسنة أهي الشيء الذي يستطيبه الإنسان؟ لا، لأن الإنسان قد يستطيب الشيء ثم يجلب عليه المضرة، وقد يكره الشيء ولا يستطيبه، ويأتي له بالنفع.

فمن إذن الذي يحدد الحسنة والسيئة؟ ما دام الناس مختلفين في هذه المسألة، فلا يحددها إلا الله تعالى، الذي خلق الناس، ويعلم ما يُصلحهم، وهو سبحانه الذي يعلم خصائص الأشياء، ويعلم ما يترتب عليها من آثار، أما الإنسان فقد خلقه الله صالحاً للخير، وصالحاً للشر، يعمل الحسن، ويعمل القبيح، وربما اختلطت عليه المسائل.

لذلك يقولون في تعريف الحسنة: هي ما حسَّنه الشرع، لا ما حسَّنْتها أنت، فنحن مثلاً نستسيغ بعض الأطعمة، ونجد فيها متعة ولذة، مع أنها مُضرة، في حين نأنف مثلاً من أكل الطعام المسلوق، مع أنه أفيد وأنفع؛ لذلك يقول تعالى في صفة الطعام:

{ فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً... }[النساء: 4] لأن الطعام قد يكون هنيئاً تجد له متعة، لكنه غير مريء ويُسبِّب لك المتاعب بعد ذلك.

الحق سبحانه يقول هنا: } مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا... { [القصص: 84] فالحسنة خير، لكن، الثواب عليها خيرٌ منها أي: أخير؛ لأنه عطاء دائم باقٍ لا ينقطع، أو خير يأتيك بسببها. كما يقول أصحاب الألغاز واللعب بالكلمات: محمد خير من ربه، والمعنى: خير يصلنا من الله، ولا داعي لمثل هذه الألغاز طالما تحتمل معنى غير مقبول.

ثم يقول سبحانه: } وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ... { [القصص: 84] لم يقُل الحق سبحانه: فله أشر منها، قياساً على الحسنة فنضاعف السيئة كما ضاعفنا الحسنة، وهذه المسألة مظهر من مظاهر رحمة الله بخَلْقه، هذه الرحمة التي تتعدَّى حتى إلى العُصَاة من خَلْقه.

لذلك قال } فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ { [القصص: 84] أي: على قَدْرها دون زيادة.

واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى في سورة (عم):{ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً * وَكَأْساً دِهَاقاً * لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً * جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً }[النبأ: 31-36].

فحسباناً هنا لا تعني أن الجزاء بحساب على قدر العمل، إنما تعني كافيهم في كل ناحية من نواحي الخير، ومنه قولنا: حسبي الله يعني: كافيني.

وفي المقابل يقول سبحانه في السيئة:{ جَزَآءً وِفَاقاً }[النبأ: 26] أي: على قدرها موافقاً لها.

إذن: فربنا - عز وجل - يعاملنا بالفضل لا بالعدل؛ ليغري الناس بفعل الحسنة، وأنت حين تفعل الحسنة فأنت واحد تُقدِّم حسنتك إلى كل الناس، وفي المقابل يعود عليك أثر حسنات الجماهير كلها، فينالك من كل واحد منهم حسنة، وكأنه (أوكازيون) حسنات يعود عليك أنت.

ثم يقول الحق سبحانه لنبيه: } إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ... {.

(/3262)

إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)

معنى فرض: ألزم وأوجب وحتَّم. وأصل الفَرْض الحزّ والقطع، كما تقطع شيئاً بالسكين مثلاً تُسمّى فرضاً؛ لأنها خرجتْ عن طبيعة تكوينها، كذلك القرآن يُخرج النفس عن طبيعة مُشْتهاها، ويقطع عليها مشيئتها، ويردّها إلى مشيئة الله؛ لذلك يقول سبحانه في أول سورة النور:{ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا... }[النور: 1].

يعني: حتَّمناها وألزمنا بها، والإلزام يعني ردّ النفس إلى ما يريده خالقها منها، بصرْف النظر عما تشتهيه هي، فقد يأمرها بما تكره، وينهاها عما تحب. إذن: يقطع سيال النفس؛ لأنها عادة ما تكون أمَّارة بالسوء، تنظر إلى العاجل، ولا تهتم بالآجل ولا تعمل له حساباً.

فالقرآن منهج الله بافعل ولا تفعل، هو الذي يكبح جماح النفس، ويُحدِّد لها مجال مشيئتها؛ لأن الخالق - عز وجل - خلق النفس، وجعل مشيئتها صالحة لعمل الخير، ولعمل الشر.

وسبق أن تكلمنا عن الفرق بين عباد وعبيد وقلنا: إن الخَلْق جميعاً عبيد الله، المؤمن منهم والكافر، وإنْ تأبَّى الكافر على الله في الإيمان، فهو مقهور له تعالى في مسائل أخرى، كالمرض والموت وغيره، ثم أعطانا الله تعالى مجالاً للاختيار، ليثيب من يُثيب بحق، يُعذِّب بحق.

والعاقل حينما يرى أنه مقهور لله في قدريات لا يستطيع منها فكاكاً، وليس له فيها تصرف، فيتنازل عن مراده، وعن اختياره لمراد ربه واختيار ربه، ويرضى أنْ يكون مُسيَّراً في كل شيء، وهنا يتحولون من عبيد إلى عباد.

فالعباد إذن هم الذين يخرجون عن اختياراتهم الممنوحة لهم من الله إلى مراد الله في الحكم، وبهذا المنطق يكون الجميع في الآخرة عباداً؛ لأنه لا اختيار لهم، ويستوي في ذلك المؤمن والكافر، يوم يقول سبحانه:{ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[غافر: 16].

وسُمِّي إنزال القرآن فَرْضاً لما في القرآن من تكاليف، وهي عادةً ما تكون شاقة على النفس، أَلاَ ترى قوله تعالى عن الصلاة، وهي أم العبادات:{ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ }[البقرة: 45].

فلا يعرف منزلتها ومكانتها إلا خاشع؛ لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لبلال: " أرحنا بها يا بلال " ويقول: " وجُعِلَتْ قرة عيني في الصلاة " ؛ لأنه أحبها وعشقها، حتى صارت قُرَّة عينه، ومُنْتهى راحته.

إذن: أول ما يفرض التكليف لا بُدَّ أن يكون شاقاً؛ لذلك يحتاج إلى صلاة إيمان وجَلَد يقين، بحيث تثق في أن العمل الشاق عليك الآن سيجلب لك الخير والسعادة الباقية الدائمة في الآخرة.

ويقول تعالى عن القتال:{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ.... }[البقرة: 216] فلا شكَّ أنه مكروه للنفس، لكن إن استحضرت الجزاء، وعرفتَ أنه: إما النصر، وإما الشهادة، فإنه يحلو لك حتى تعشقه، وتبادر أنت إليه، كالصحابي في بدر بعد أن سمع ما للشهيد من الأجر وكان في فمه تمرة يمضغها فقال: " أليس بيني وبين الجنة إلا أنْ أقاتل فأُقتل "؟ ثم ألقى التمرة وأسرع إلى ساحة القتال.

لذلك الحق سبحانه يُضخم الجزاءات في نفس المؤمن؛ ليقبل على العمل بحب وشهوة. ومن هنا يقول بعض العارفين الذين عشقوا الخير حتى أصبح شهوةَ نفْس عندهم: أخشى ألاَّ يُثيبني الله على الطاعة، لماذا؟ يقول: لأنني أصحبتُ أشتهيها، أي: كما يشتهي أهل المعصية المعصية.

وحين يصل الإيمان بصاحبه إلى درجة أنه يعشق الطاعة، فقد أصبح ربانياً يثق فيما عند الله من الجزاء.

" وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تورمَتْ قدماه، فلما سألتْه السيدة عائشة: ألم يغفر لك ربك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: " أفلا أكون عبداً شكوراً "؟ "

ومعنى: } لَرَآدُّكَ إِلَىا مَعَادٍ... { [القصص: 85] يعني: يجازيك أفضل الجزاء، ونزلتْ هذه الآية لما اضطهد أهلُ مكة رسولَ الله وآذوْه، حتى اضطروه للذهاب إلى الطائف ليبحث فيها عن نصير، لكنهم لم يكونوا أقلَّ قسوة من أهل مكة، فعزَّ على رسول الله النصير فيها، وعاد منكسراً حزيناً لم يجد مَنْ يدخل في جواره، إلى أن أجاره مطعم بن عدي.

وتأمل حين يكون رسول الله بجلالة قدره لا يجد مَنْ يناصره، أو يُدخله في جواره، أما الصحابة فلم تكُنْ لهم شوكة بعد، ولا قوة لحماية رسول الله، وفي هذه الفترة لاقوا المشاق في سبيل الدعوة، فحاصرهم الكفار في شِعْب أبي طالب، وفرضوا عليهم المقاطعة التامة حتى عزلوهم عن الناس، ومنعوا عنهم الطعام والشراب، والبيع والشراء، حتى الزواج، وحتى اضطروا إلى أكل المخلَّفات وأوراق الشجر.

لذلك أمرهم الله بالهجرة، والهجرة تكون إلى دار أمن، أو إلى دار الإيمان، إلى دار أمن كالهجرة إلى الحبشة حيث قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُبيِّناً حيثية الهجرة إليها: " إن فيها ملكاً لا يُظلم عنده أحد " يعني: النجاشي ملك الحبشة، وفعلاً صدق فيه قول رسول الله، فلما أرسلتْ قريش في إثرهم مَنْ يكلم النجاشي في طلبهم وإعادتهم إلى مكة، رفض أن يسلمهم، وأن يُمكِّن قريشاً منهم، مع أن هدايا قريش كانت عظيمة، والإغراء كان كبيراً.

وهذا يدل على عظمة رسول الله، وعلى فكره الواسع، وعلى دراسة الخريطة من حوله، ومعرفة مَنْ يصلح لهجرة صحابته إليه، فاختياره ملك الحبشة لا يأتي إلا إما بإلهام من الله، أو بذكاء كبير، وهو رجل أمي في أمة أمية، ولو لم يذهب وفد قريش في طلب المهاجرين ما ظهر لنا الدليل على صدق مقولة رسول الله.

ونتيجة " لا يظلم عنده أحد " فقد شرَّفه الله بالإسلام فأسلم ووكَّله رسول الله في أن يُزوِّجه من السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت رضي الله عنها من المهاجرين الأوائل إلى الحبشة مع زوجها الذي تنصَّر هناك، وبقيتْ هي على دينها وتمسكتْ بعقيدتها.

وفي هذا دليل أولاً: على مدى ما كان يلاقيه المؤمنون من إيذاء الكافرين، ثانياً: دليل على الطاعة الواعية للزوج، فقد آثرت الخروج مع زوجها لا عِشْقاً له، ولا هياماً به، إنما فراراً معه بدينها؛ لذلك لما تنصَّر لم تتردد في تركه؛ لذلك طلبها رسول الله لنفسه، ثم لما مات النجاشي صلى عليه رسول الله وترحَّم عليه. هذه هي هجرة الإيمان إلى دار الأمن.

ثم كانت الهجرة بعد ذلك إلى دار الإيمان، إلى المدينة، بعد بيعة العقبة الأولى والثانية، وبعد أن وجد رسول الله أنصاراً يتحملون معه أعباء الدعوة، وقد ضرب الأنصار في المدينة أروع مَثَل في التضحية التي ليس لها مثيل في تاريخ البشرية.

ذلك أن الرجل أغير ما يكون على زوجته، فلا يضِنّ على غيره بما يملك، فتعطيني سيارتك أركبها، أو بيتك أسكن فيه، أو ثوبك ألبسه، وأتقمَّش به، أما الزوجة فتظل مصونة لا يجرؤ أحد على النظر إليها.

لكن كان للأنصار في هذه المسألة نظرة أخرى حين أشركوا إخوانهم المهاجرين في كل شيء حتى في زوجاتهم، فقد راعوا فيهم خروجهم من أهلهم وبلادهم، وراعوا غربتهم وما لهم من إرْبة وحاجة النساء.

فكان الواحد منهم يقول لأخيه: انظر إلى زوجاتي، فأيتهنّ أعجبتك أُطلِّقها، وتتزوجها أنت، هذه تضحية لا نجد لها مثيلاً في تاريخ الناس حتى عند الكفرة.

ثم أُمِر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة، فخرج خُفْية في حين خرج عمر مثلاً جهراً وعلانية، حتى إنه وقف ينادي في أهل مكة بأعلى صوته يتحدى أهلها عند خروجه: مَنْ أراد أنْ تثكله أمه، أو ييُتم ولده، أو تُرمَّل زوجته فليلْقني خلف هذا الوادي.

أما رسول الله فقد خرج خُفْية، وهذه المسألة يقف عندها البعض أو تَخْفي عليه الحكمة منها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان دائماً أُسْوة للضعيف، أما القوي فلا يحتاج إلى حماية أحد، ولا عليه إنْ خرج علانية؛ لذلك لا يستحي أحد أن يتخفى كما تخفى رسول الله.

ثم إنك حين تتأمل: نعم خرج رسول الله خُفْية لكنها خُفْية التحدي، فقد خرج من بين فتيانهم المتربصين به، وعفَّر وجوههم بالتراب، وهو يقول: " شاهت الوجوه ".

ومع ذلك لم يمنعه تأييد الله له أنْ يأخذ بأسباب النجاة، فخالف الطريق؛ لأن كفار مكة كانوا يعرفون أن وجهته المدينة لما عقد بيعة العقبة مع الأنصار؛ لذلك ترصدوا له على طريقها، وأرسلوا العيون للبحث عنه، وجعلوا جُعْلاً لمن يأتيهم به صلى الله عليه وسلم.

والمتأمل في حادث الهجرة يجد أنها خطة محكمة تراعي كل جوانب الموقف، كأن الله تعالى يريد أنْ يُعلِّمنا في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاَّ نهمل الأسباب، وألاَّ نتصادم مع الواقع ما دُمْنا قادرين على ذلك.

فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة وهي بلده، وأحب البلاد إلى قلبه قال: " اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إليَّ، فأسكنِّي أحب البلاد إليك ".

لذلك إنْ كانت مكةُ محبوبةً لرسول الله، فالمدينة محبوبة لله؛ لذلك بعد أن خرج رسول الله من مكة وقارب المدينة حَنَّ قلبه إلى مكة، فطمأنه ربه بهذه الآية: } إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَىا مَعَادٍ... { [القصص: 85].

فالذي فرض عليك مشقة التكاليف، وحمَّلك مشاق الدعوة والإقناع بها، وتنفيذ أحكامها، هو الذي سيردُّك إلى بلدك ردَّ نصر، وردّ فتح، وما أشبهَ ردِّ رسول الله إلى بلده بردِّ موسى عليه السلام إلى أمه في قوله تعالى لأم موسى:{ إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ... }[القصص: 7] ليس رَدَّاً عادياً، إنما{ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ }[القصص: 7].

إذن: سيُردُّ إليك ولدك، لكن سيُرد رسولاً منتصراً. وكما صدق الله في ردِّ موسى يصدق في ردِّ محمد.

ومعنى } مَعَادٍ... { [القصص: 85] ليس هو الموعد كما يظن البعض، إنما يراد به المكان الذي تعود إليه بعد أن تفارقه، فالمعنى: سنردُّك إلى المكان الذي تحِنُّ إليه، ويتعلق به قلبك.

أو نردك إلى (معاد) أي: إلينا، كما قال تعالى:{ فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ }[غافر: 77] ولا مانع من إرادة المعنيين معاً.

ثم يقول سبحانه: } قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَىا وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ { [القصص: 85] الحق تبارك وتعالى يعلِّم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم الجدل العفيف، لا الجدل العنيف، يُعلِّمه كيف يردُّ على ما قالوا عن الذي يؤمن به (صبأ فلان) يعني: خرج عن دين آبائه وهم يعتقدون أنه الحق، فكأن الذي يؤمن في نظرهم خرج من الحق إلى الباطل.

إذن: فهذه عقول تحتاج إلى سياسة وجدل، كما قال سبحانه:{ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ... }[النحل: 125]؛ لأن الجدل العنيف يزيد خصمك عناداً ولجاجة، أما الجدل العنيف فيستميل القلوب ويعطفها نحوك؛ لذلك يرد رسول الله بقوله: } قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَىا وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ { [القصص: 85] أي: جاء بالهدى من عند الله وهو النبي صلى الله عليه وسلم: } وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ { [القصص: 85].

ثم يعطي الحق - تبارك وتعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم دليلاً من واقع حياته؛ ليطمئن على أنه مُؤيَّد من ربه، وأنه سبحانه سيفي له بما وعد، ولن يتخلى عنه، وكيف يختاره للرسالة، ثم يتخلى عنه؟

(/3263)

وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)

يعني: إذا كنت تتعجب، أو تستبعد أنْ نردَّك إلى بلدك؛ لأن الكفار يقفون لك بالمرصاد، حتى أصبحت لا تُصدِّق أنْ تعود إليها، فانظر إلى أصل الرسالة معك: هل كنت تفكر أو يتسامى طموحك إلى أنْ تكون رسولاً؟ إنه أمر لم يكُنْ في بالك، ومع ذلك أعطاك الله إياه واختارك له، فالذي أعطاك الرسالة ولم تكُنْ في بالك كيف يحرمك من أمر أنت تحبه وتشتاق إليه؟

إذن: تقوم هذه الآية مقامَ الدليل والبرهان على صِدْق{ لَرَآدُّكَ إِلَىا مَعَادٍ... }[القصص: 85] وفي موضع آخر يؤكد الحق سبحانه هذا المعنى، فيقول سبحانه:{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَـاكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآء... }[الشورى: 52] فالذي أعطاك الرسالة لا يعجز أن يحقق لك ما تريد.

وقوله تعالى: { إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ... } [القصص: 86] هذا استثناء يسمونه استثناء منقطعاً.

والمعنى: ما كنت ترجو أن يُلْقى إليك الكتاب إنما ألقيناه، وما ألقيناه إليك إلا رحمة لك من ربك.

وما دام هؤلاء الكفار عاندوك وأخرجوك، فإياك أنْ تلين لهم { فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ } [القصص: 86] أي: معيناً لهم مسانداً، وكانوا قد اقترحوا على رسول الله أن يعبد آلهتهم سنة، ويعبدون إلهه سنة، فحذره الله أنْ يُعينهم على ضلالهم، أو يجاريه في باطلهم، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يناصر ظالماً أو مجرماً، حتى إن كان من أتباعه.

وسبق أن ذكرنا في تأويل قوله تعالى:{ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }[النساء: 105] قصة اليهودي زيد بن السمين لما جاءه المسلم طُعْمة بن أبيريق، وأودع عنده دِرْعاً له، وكان هذا الدرع مسروقاً من آخر اسمه قتادة بن النعمانَ، فلما افتقده قتادة بحث عنه حتى وجده في بيت اليهودي، وكان السارق قد وضعه في كيس للدقيق، فدلَّ أثر الدقيق على مكان الدرع فاتهموا اليهودي بالسرقة، ولما عرفوا حقيقة الموقف أشفقوا أن ينتصر اليهودي على المسلم، خاصة وهم حديثو عهد بالإسلام، حريصون على ألاّ تُشوه صورته.

لذلك شرحوا لرسول الله هذه المسألة، لعله يجد لها مخرجاً، فأدار رسول الله المسألة في رأسه قبل أنْ يأخذ فيها حُكْماً؛ وعندها نزل الوحي على رسول الله:{ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ... }[النساء: 105] أي: جميع الناس، المؤمن والكافر{ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }[النساء: 105] أي: تخاصم من أجلهم ولصالحهم{ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }[النساء: 106] أي: مما خطر ببالك في هذه المسألة.

وفي بعض الآيات نجد في ظاهرها قسوة على رسول الله وشدة مثل:{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ }

[الحاقة: 44-46].

وكل ما يكون في القرآن من هذا القبيل لا يُقصد به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما الحق سبحانه يريد أن يعطي للأمة نموذجاً يلفت أنظارهم، وكأنه تعالى يقول لنا: انتبهوا فإذا كان الخطاب لرسول الله بهذه الطريقة، فكيف يكون الخطاب لكم؟

كأن يكون عندك خادم يعبث بالأشياء حوله، فتُوجِّه الكلام أنت إلى ولدك: والله لو عبثتَ بشيء لأفعلنَّ بك كذا وكذا، فتوجِّه الزجر إلى الولد، وأنت تقصد الخادم، على حَدِّ المثل القائل (إياك أعني واسمعي يا جارة).

لذلك يقول بعض العارفين:مَا كان في القُرآن مِنْ نِذَارةٍ إلى النبيِّ صَاحبِ البشَارةِفكُنْ لَبيباً وافْهَم الإشَارةَ إيّاك أعني واسْمعِي يَا جَارةيعني: اسمعوا يا أمة محمد، كيف أخاطبه، وأُوجِّه إليه النذارة، مع أنه البشير.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ... {.

(/3264)

وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آَيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87)

قوله تعالى: { وَلاَ يَصُدُّنَّكَ... } [القصص: 87] أي: لا يصرفنك ولا يمنعنَّك المشركون { عَنْ آيَاتِ اللَّهِ... } [القصص: 87] أي: قراءتها وتبليغها للناس، وقوله: { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [القصص: 87] هذا أيضاً داخل في (إياك أعني واسمعي يا جارة) لأن رسول الله أبعد ما يكون عن الشرك، وليس مظنة له.

(/3265)

وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)

قوله تعالى: { وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهاً آخَرَ... } [القصص: 88] كسابقتها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس مظنة أن يدعو مع الله إلهاً آخر { لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ... } [القصص: 88] أي: لا معبودَ بحق إلا هو.

ولو كان معه سبحانه وتعالى آلهة أخرى لواجهوه:{ قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىا ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً }[الإسراء: 42] أي: سَعَوْا إليه لينازعوه الألوهية، أو ليتقرَّبوا إليه.

{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ... } [القصص: 88] الوجه في عُرْفنا ما به المواجهة في الإنسان، وكل شيء يصف به الحق سبحانه نفسه علينا أنْ نصفه سبحانه به، بناءً على وصفه في إطار قوله سبحانه{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ... }[الشورى: 11].

فالحق سبحانه له وجه، لكن ليس ككل الوجوه، وهكذا في كل الصفات التي يشترك فيها الحق سبحانه مع الخَلْق، وأنت آمنتَ بوجود الله، وأن وجوده ذاتي، ليس كوجودك أنت.

وقوله: { كُلُّ شَيْءٍ... } [القصص: 88] كلمة شيء يقولون: إنها جنس الأجناس يعني: أي موجود طرأ عليه الوجود يسمى (شيء) مهما كان تافهاً ضئيلاً. وقد تكلم العلماء في أيطلق على الله تعالى أنه شيء لأنه موجود؟

قالوا: ننظر في أصل الكلمة (شيء) من شاء شيئاً، فالشيء شاءه غيره، فأوجده؛ لذلك لا يقال لله تعالى شيء؛ لأنه سبحانه ما شاءه أحد، بل هو سبحانه موجود بذاته.

وفي آية أخرى يقول تعالى في عمومية الشيء:{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ.... }[الإسراء: 44] يعني: كل ما يُقال له شيء موجود سبق وجوده عدم، إلا يسبح بحمد الله، البعض قال: هو تسبيح دلالة على موجدها، وليس تسبيح مقالة حقيقية، لكن قوله سبحانه{ وَلَـاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ... }[الإسراء: 44] يدل على أنه تسبيح حقيقي، فكل شيء يُسبِّح بلغته وبما يناسبه.

وقد أثبت الله تعالى منطقاً للطير وتسبيحاً للجبال، ولو فهمتَ لغة هذه الأشياء لأمكنك أنْ تعرف تسبيحها، لكن كيف نطمع في معرفة لغات الحجر والشجر، ونحن لا نفهم لغات بعضنا، فإذا لم تكن تعرف مثلاً الإنجليزية، أتعرف ماذا يقول المتحدث بها لو سبّح بها الله وهو بشر مثلك يتكلَّم بنفس طريقتك وبنفس الأصوات؟

لذلك يقولون في معجزاته صلى الله عليه وسلم: سبَّح الحصى في يده، والصواب أن نقول: سمع رسول الله تسبيح الحصى في يده، وإلاَّ فالحصى يُسبِّح في يد رسول الله، ويُسبِّح في يد أبي جهل. ومن ذلك أيضاً حنين الجذع لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ألم يقل الحق سبحانه:{ وَأَوْحَىا رَبُّكَ إِلَىا النَّحْلِ... }[النحل: 68].

ألم يَقُلْ عن الأرض:{ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىا لَهَا }[الزلزلة: 5]؟ ألم يُثبت للنملة كلاماً؟ ألم يكلم الهدهد سليمان عليه السلام، وفهم منه سليمان؟

إذن: لكل جنس من المخلوقات لغته التي يفهمها أفراده عن بعض{ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ... }[النور: 41] وإنْ شاء الله أطلع بعض خَلْقه على هذه اللغات، وأفهمه إياها.

ومعنى: } هَالِكٌ... { [القصص: 88] البعض يظن أن الهلاك خاصٌّ بما فيه روح كالإنسان والحيوان، لكن لو وقفنا عند قوله تعالى:{ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىا مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ... }[الأنفال: 42].

إذن: فالهلاك يقابله الحياة، فكل شيء يهلك كانت له حياة تناسبه، وإنْ كنا لا نفهم إلا حياتنا نحن، والتي تذهب بخروج الروح.

ومعنى: } إِلاَّ وَجْهَهُ... { [القصص: 88] أي: إلا ذاته تعالى، ولم يقُلْ: إلا هو؛ لأنه تعالى ليس شيئاً، وللوجه هنا معنى آخر، كما نقول: فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجه الله يعني: فعلت والله في بالي، فالمعنى: كل شيء هالك، إلا ما كان لوجه الله، فلا يهلك أبداً؛ لأنه يبقى لك وتنال خيره في الدنيا وثوابه في الآخرة.

ثم يقول سبحانه: } لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ { [القصص: 88] أي: له الحكم في الآخرة يوم يقول:{ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ... }[غافر: 16] لكن لماذا خصَّ الملك يوم القيامة، وهو سبحانه له الملْك الدائم في الدنيا وفي الآخرة؟ قالوا: لأن هناك مُلْكاً في الدنيا، يُملِّكه لخَلْقه، كما قال سبحانه في النمرود:{ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ... }[البقرة: 258] وقال سبحانه:{ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ... }[آل عمران: 26].

إذن: فالملْك مُلْك الله، وهو سبحانه الذي يُملِّك خَلْقه في الدنيا دنيا الأسباب، لكن في الآخرة تُنزع الملكية من أيِّ أحد إلا لله وحده. حتى إرادة الإنسان على جوارحه تُسلَب منه، فتشهد عليه بما كان منه في الدنيا.

وإنْ أردتَ أن تعرف الآن صِدْق هذه المسألة فانظر إلى الأمور القدرية التي تجري عليك، كالمرَض وكالموت وغيرها، هل تستطيع أن تتأبى عليها؟

ثم يقول سبحانه: } وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ { [القصص: 88] أي: للحساب في الآخرة؛ لأن الله تعالى لم يخلقنا عَبثاً، ولن يتركنا هملاً، بل لا بد من الرجوع إليه ليحاسب كلاً منكم على ما قدَّم، وما دُمْتم قد عرفتم ذلك، فعليكم أن تحترموا المرجع إلى الله، وتنظروا ماذا طلب منكم.

والمتتبع لهذا الفعل في القرآن يجد أنه جاء مرة مبنياً للمجهول (تُرجعون) وهو للكافر الذي تأبَّى على الله، فنقول له: ستُرجع إلى الله، وتٌقذف في النار غَصباً عنك، ورَغْماً عن أنفك، فإنْ تأبَّيْتَ على الله في الدنيا، فلن تتأبَّى عليه في الآخرة، ويأتي مبنياً للمعلوم (ترجعون) وهو للمؤمن الذي يشتاق لثواب الآخرة فيتهافت بنفسه ويُقبل عليه.

(/3266)

الم (1)

سبق أنْ تكلمنا كثيراً عن الحروف المقطعة في بدايات سور القرآن، كلما تكررت هذه الظاهرة نتكلم عن مجالات الأذهان في فهمها، وما دام الحق سبحانه يُكررها فعلينا أيضاً أن نُكرِّر الحديث عنها، ولماذا ينثر الله هذه الظاهرة في سور القرآن؟ لتظل دائماً على البال.

وقلنا: إن القرآن الكريم مبنيٌّ في كل آياته وسوره على الوَصْل، لا على الوقف، اقرأ:{ >مُدْهَآمَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }[الرحمن: 64-67].

فلم يقل{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }[الرحمن: 65] ويقف، إنما وصل:{ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ }[الرحمن: 66] لأن القرآن موصول، لا فصلَ أبداً بين آياته؛ لذلك ليس في القرآن من وقف واجب، إنما لك أن تقف لضيق النفَس، لكن حينما تعيد تعيد بالوصل.

وكذلك القرآن مبنيٌّ على الوَصْل في السور، فحين تنتهي سورة لا تنتهي على سكون، فلم يَقُلْ - سبحانه وتعالى - وإليه ترجعونْ بسكون النون، إنما (تُرْجَعُونَ بسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحيم) ليبدأ سورة أخرى موصولة.

فهذه إذن سمة عامة في آيات القرآن وسُوره إلا في الحروف المقطَّعة في أوائل السور، فهي مبنية على الوقف ألفْ لامْ ميمْ هكذا بالسكون ولم يقل: ألفٌ لامٌ ميمٌ على الوَصْل، لماذا؟ لأنها حروف مُقطَّعة، قد يظنها البعض كلمة واحدة، ففصَل بينها بالوقف.

لذلك يقول صلى الله عليه وسلم: " لا أقول الم حرف. ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف " وليؤكد هذا المعنى جعلها على الوقف، كل حرف على حدة.

وتكلمنا على هذه الحروف وقلنا: إنها خامات القرآن، فمن مثل هذه الحروف يُنسج كلام الله، وقلنا: إنك إنْ أردتَ أن تُميِّز مهارة النسْج عند بعض العمال مثلاً لا تعطي أحدهم قطناً، والآخر صوفاً، والآخر حريراً مثلاً؛ لأنك لا تستطيع التمييز بينهم، لأن الخامات مختلفة، فالحرير بطبيعته سيكون أنعم وأرقَّ. فإنْ أردتَ معرفة المهارة فوحِّد المادة الخام عند الجميع.

فكأن الحق - تبارك وتعالى - يقول لنا: إن القرآن مُعْجز، بدليل أنكم تملكون نفس حروفه، ومع ذلك عجزتُمْ عن معارضته، فقد استخدم القرآن نفس حروفكم، ونفس كلماتكم وألفاظكم، وجاء بها في صورة بليغة، عَزَّ عليكم الإتيان بمثلها.

إذن: اختلف أسلوب القرآن، لأن الله تعالى هو الذي يتكلم. فمعنى (ألم) هذه نفس حروفكم فأتوا بمثلها.

أو: (ألم) تحمل معنى من المعاني؛ لأن ألف لام ميم أسماء حروف، وأسماء الحروف لا يعرفها إلا المتعلم، فالأُميُّ يقول (كتب) لكن لا يعرف أسماء حروفها، وتقول للولد الصغير في المدرسة: تهجَّ كتب فيقول لك (كاف فتحة كَ) و (تاء فتحة تَ) و (باء فتحة بَ).

إذن: لا يعرف أسماء الحروف إلا المتعلم، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمياً، فمن أين نطق بأسماء الحروف الم، طه، يس، ق.

.. إلخ. إذن: لا بُدَّ أن ربه علّمه ولقّنه هذه الحروف، ومن هنا جاءت أهمية التلقين والتلقيّ في تعلُّم القرآن، وإلا فكيف يُفرِّق المتعلم بين (الم) هنا وبين{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ }[الشرح: 1] فينطق الأولى على الوقْف، والأخرى على الوَصْل، ينطق الأولى بأسماء الحروف، والثانية بمُسمَّياتها؟

وتحمل (الم) أيضاً معنى التنبيه للسامع، فالقرآن نزل بأسلوب العرب ولغتهم، فلا بُدَّ أن تتوفر له خصائص العربية والعربية الراقية، فلو قرأنا مثلاً في الشعر الجاهلي نجد عمرو بن كلثوم يقول:أَلاَ هُبِّي بصَحْنِك فَاصْبِحينَا ولاَ تُبقِي خمور الأندرينانسأل: ماذا أفادت (أَلاَ) هنا، والمعنى يصح بدونها؟ (ألا) لها معنى عند العربي؛ لأنها تنبهه إنْ كان غافلاً حتى لا يفوته شيء من كلام مُحدِّثه، حينما يُفَاجأ به، كما تنادي أنت الآن مَنْ لا تعرفه فتقول: (اسمع يا...) كأنك تقول له: تنبه لأنني سأكلمك.

والتنبيه جاء في اللغة من أن المتكلم يتكلَّم برغبته في أي وقت، أما السامع فقد يكون غافلاً غير مُنتبه، أو ليس عند استعداد لأنْ يسمعَ، فيحتاج لمن يُنبِّهه ليفهم ما يُقال له، إنما لو فاجأتَه بالمراد، فربما فاته منه شيء قبل أنْ يتنبه لك.

وكذلك في (الم) حروف للتنبيه، على أنه سيأتي كلام نفيس اسمعه جيداً، إياك أنْ يضيع منك حرف واحد منه. كما يصح أنْ يكون لهذه الحروف معانٍ أخرى، يفهمها غيرنا ممَّنْ فتح الله عليهم. فهي - إذن - معين لا ينضب، يأخذ منه كُلٌّ على قَدْره.

ثم يقول الحق سبحانه: } أَحَسِبَ النَّاسُ أَن... {.

(/3267)

أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)

الفعل (حسِب) بالكسر في الماضي، وبالفتح في المضارع (يحسَب) يعني: ظن. أما (حسَب) والمضارع (يحسِب) بالكسر أي: عَدَّ.

فالمعنى: { أَحَسِبَ النَّاسُ... } [العنكبوت: 2] أي: ظنوا. والهمزة للاستفهام، وهي تفيد نفي هذه الظن وإنكاره، لأنهم حَسِبوا وظنوا أنْ يتركهم الله دون فتنة وتمحيص واختبار.

والحق سبحانه يريد أن يحمل أولوا العزم رسالة الإسلام؛ لأن الإسلام لا يتصدَّى لحمل دعوته إلا أقوياءُ الإيمان الذين يقدرون على حمل مشاق الدعوة وأمانة تبليغها.

والإيمان ليس كلمة تُقال، إنما مسئولية كبرى، هذه المسئولية هي التي منعتْ كفار مكة أنْ يؤمنوا؛ لأنهم يعلمون أن كلمة لا إله إلا الله ليست مجرد كلمة وإلا لَقَالوها، إنما هي منهج حياة له متطلبات. إنها تعني: لا مُطَاعَ إلا الله، ولا معبود بحقٍّ إلا الله، وهم لا يريدون هذه المسألة لتظل لهم مكانتهم وسلطتهم الزمنية.

لذلك يقول سبحانه هنا: { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا... } [العنكبوت: 2] فالإيمان ليس قَوْلاً فحسب؛ لأن القول قد يكون صِدْقاً، وقد يكون كذباً، فلا بُدَّ بعد القول من الاختبار وتمحيص الإيمان { وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [العنكبوت: 2] فإنْ صبر على الابتلاءات وعلى المحن فهو صادق الإيمان.

ويؤكد سبحانه هذا المعنى في آية أخرى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىا حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَىا وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالأَخِرَةَ... }[الحج: 11].

وقد محَّص الله السابقين الأولين من المؤمنين بآيات وخوارق تخالف الناموس الكوني، فكان المؤمن يُصدِّق بها، ويؤمن بصِدْق الرسول الذي جاء بها، أما المتردد المتحيِّر فيُكذِّب بها، ويراها غير معقولة.

" ومن ذلك ما كان من الصِّدِّيق أبي بكر في حادثة الإسراء والمعراج، فلمَّا حدَّثوه بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنْ كان قال فقد صدق " في حين ارتد البعض وكذَّبوا، وكأن الحق - تبارك وتعالى - يريد من هذه الخوارق، التي يقف أمامها العقل - أنْ يُميِّز بين الناس ليحمل أمر الدعوة أشداءُ الإيمان والعقيدة، ومَنْ لديهم يقين بصِدْق الرسول في البلاغ عن ربه.

وسبق أنْ بيّنا غباء مَنْ كَذَّب بحادثة الإسراء والمعراج من كفار مكة الذين قالوا لرسول الله: أتدَّعي أنك أتيت بيت المقدس في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً؟ وأنهم غفلوا أو تغافلوا عن نص الآية:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ... }[الإسراء: 1] فلم يقل محمد: إني سريت بنفسي إنما أُسْري بي.

وقلنا للرد عليهم: لو جاءك رجل يقول لك: لقد صعدتُ بولدي الرضيع قمة إفرست مثلاً، أتقول له: كيف يصعد الرضيع قمة إفرست؟

وسبق أنْ تكلَّمنا في قضية ينبغي أن تظل في أذهانكم جميعاً، وهي أن كل فعل يأخذ نصيبه من الزمن على قَدْر قوة فاعله، فالوزن الذي ينقله الطفل الصغير في عدة مرات تحمله أنت في يد واحدة.

فالزمن يتناسب مع القوة تناسباً عكسياً فكلما زادت القوة قلَّ الزمن، فالذي يذهب مثلاً إلى الأسكندرية على حمار غير الذي يذهب في سيارة أو على مَتْن طائرة. وهكذا.

إذن: قِسْ على قدر قوة الفاعل، فإنْ كان الإسراء بقوة الله تعالى، وهي قوة القوى فلا زمن، وهذه مسألة يقف عندها العقل، ولا يقبلها إلا بالإيمان.

إذن: فالحق سبحانه يُمحِّصكم ويبتليكم؛ لأنه يريدكم لمهمة عظيمة، لا يصلح لها إلا الصنديد القوي في إيمانه ويقينه.

لذلك يقول سبحانه في أكثر من موضع:{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ }[البقرة: 155].

وقال:{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىا نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ }[محمد: 31].

وقال:{ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ... }[آل عمران: 142].

فهذه الابتلاءات كالامتحان الذي نُجريه للتلاميذ لنعرف مقدرة كل منهم، والمهمة التي يصلح للقيام بها، ومعلوم أن الابتلاءات لا تُذَمُّ لذاتها، إنما لنتائجها المترتبة عليها، فما جُعِلَتْ الابتلاءات إلا لمعرفة النتائج، وتمييز الأصلح للمهمة التي نُدِب إليها.

ومعنى } يُفْتَنُونَ { [العنكبوت: 2] يُخْتبرون. مأخوذة من فتنة الذهب، حين نصهره في النار؛ لنُخِرج ما فيه من خَبَث، ونُصفِّي معدنه الأصلح، فيما يناسب مهمته.

ومن ذلك ما ضربه الله لنا مثلاً للحق وللباطل في قوله تعالى:{ أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ }[الرعد: 17].

فالفتنة ما كانت إلا لنعرف الصادق من القَوْلة الإيمانية والكاذب فيها: الصادق سيصبر ويتحمل، والكاذب سينكر ويتردد.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ... {.

(/3268)

وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)

الحق - سبحانه وتعالى - يُسلِّي السابقين من أمة محمد الذين عُذِّبوا وأوذوا، وضُرِبوا بالسياط تحت حَرِّ الشمس، ووُضِعت الحجارة الثقال على بطونهم، والذين جاعوا حتى أكلوا الميتة وأوراق الشجرة يُسلِّيهم: لَسْتم بدعاً في هذه الابتلاءات فاصمدوا لها كما صمد السابقون من المؤمنين.

{ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ... } [العنكبوت: 3] فانظر مثلاً إلى ابتلاء بني إسرائيل مع فرعون، إذن فابتلاؤكم أهونِ وأخفّ، وفيه رحمة من الله بكم وأنتم أيسر منهم { فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [العنكبوت: 3].

ولك أن تقول: ألم يكُن الله تعالى يعلم حقيقتهم قبل أنْ يبتليهم؟ بلى، يعلم سبحانه حقيقةَ عباده، وليس الهدف من اختبارهم العلم بحقيقتهم، إنما الهدف أنْ يُقر العبد بما عُلِم عنه.

ومثال ذلك - ولله المثل الأعلى - حينما نقول للمدرس مثلاً: اعْطنا نتيجة هؤلاء التلاميذ، فليس في الوقت سعة للامتحان فيقول من واقع خبرته بهم: هذا ناجح، وهذا راسب، وهذا الأول، وهذا كذا. عندها يقوم الراسب ويقول: لو اختبرتني لكنت ناجحاً، ولو اختبره معلِّمه لرسب فعلاً. إذن: فربنا - عز وجل - يختبر عباده ليُقر كل منهم بما عُلم عنه.

{ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ } [العنكبوت: 3] عِلْم ظهور وإقرار من صاحب الشأن نفسه، بحيث لا يستطيع إنكاراً، حيث سيشهد هو على نفسه حين تشهد عليه جوارحه.

(/3269)

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)

هنا أيضاً { حَسِبَ... } [العنكبوت: 4] أي: ظن الذين يعملون السيئات { أَن يَسْبِقُونَا... } [العنكبوت: 4] أي: يُفلتوا من عقابنا، تقول: سبق فلان فلاناً يعني: أفلت منه وهو يطارده، فالمعنى أنهم لن يستطيعوا الإفلات من العذاب أو الهرب منه، وإنْ كانوا يعتقدون ذلك أو يظنونه، فبئس هذا الظن.

{ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [العنكبوت: 4] أي: قَبُح حكمهم وبَطُل، وحين نحكم على ظنهم وعلى حكمهم بالبطلان فإنما نثبت قضيتنا، وهي أنهم لن يُفْلِتوا من عقابنا.

ثم يقول الحق سبحانه: { مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ فَإِنَّ... }.

(/3270)

مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)

معنى { يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ... } [العنكبوت: 5] يعني: يؤمن به وينتظره ويعمل من أجله، يؤمن بأن الله الذي خلقه وأعدَّ له هذا الكون ليحيا حياته الطيبة، وأنه سبحانه بعد ذلك سيُعيده ويحاسبه؛ لذلك إنْ لم يعبده ويطعْه شُكْراً له على ما وهب، فليعبده خوفاً منه أنْ يناله بسوء في الآخرة.

وأهل المعرفة يروْنَ فرقاً بين مَنْ يرجو الثواب ويرجو رحمة الله، ومن يرجو لقاء الله لذات اللقاء، لا خوفاً من نار، ولا طمعاً في جنة؛ لذلك تقول رابعة العدوية:كُلُّهم يَعْبدُونَ مِنْ خَوْفِ نَارٍ ويروْنَ النجاةَ حَظَّاً جَزِيلاًأَوْ بِأَنْ يَسْكُنُوا الجِنانَ فيحظَوْا بقُصُورٍ ويَشْربُوا سَلْسبِيلالَيْسَ لي بالجنَانِ والنّارِ حَظٌّ أنَا لا أبتغي بحِبي بَديلاَأي: أحبك يا رب، لأنك تُحَبُّ لذاتك، لا خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، وهي أيضاً القائلة: اللهم إنْ كنتَ تعلم أني أحبك طمعاً في جنتك فاحرمني منها، وإنْ كنتَ تعلم أنِّي أعبدك خوفاً من نارك فاحرقني بها.

ويقول تعالى في سورة الكهف:{ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً }[الكهف: 110] ولو كانت الجنة لأن لقاء الله أعظم، وهو الذي يُرْجى لذاته.

والحق سبحانه يؤكد هذه المسألة بأكثر من مؤكد: { فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ... } [العنكبوت: 5] فأكَّده بإن واللام وصيغة اسم الفاعل الدالة على تحقُّق الفعل، كما قال سبحانه:{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ }[القصص: 88] ولم يقل: سيهلك، وقوله سبحانه مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم:{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ }[الزمر: 30].

يخاطبهم بهذه الصيغة وهم ما يزالون أحياءً؛ لأن الميِّت: مَنْ يؤول أمره وإن طال عمره إلى الموت، أما مَنْ مات فعلاً فيُسمَّى (مَيْت).

وأنت حينما تحكم على شيء مستقبل تقول: يأتي أو سيأتي، وتقول لمن تتوعده: سأفعل بك كذا وكذا، فأنت جازفتَ وتكلمتَ بشيء لا تملك عنصراً من عناصره، فلا تضمن مثلاً أنْ تعيش لغد، وإنْ عشتَ لا تضمن أن يعيش هو، وإنْ عاش ربما يتغير فكرك ناحيته، أو فقدتَ القدرة على تنفيذ ما تكلمت به كأنْ يصيبك مرض أو يِلُم بك حدث.

لكن حينما يتكلم مَنْ يملك ازمّة الأمور كلها، ويعلم سبحانه أنه لن يفلت أحد منه، فحين يحكم، فليس للزمن اعتبار في فعله، لذلك لم يقل سبحانه: إن أجل الله سيأتي، بل { لآتٍ... } [العنكبوت: 5] على وجه التحقيق.

وسبق أنْ ذكرنا في هذا الصدد قوله تعالى عن القيامة:{ أَتَىا أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ... }[النحل: 1] وقد وقف السطحيون أمام هذه الآية يقولون: وهل يستجعل الإنسان إلا ما لم يَأْتِ بَعْد؟ لأنهم لا يفهمون مراد الله، وليست لديهم مَلَكة العربية، فالله تعالى يحكم على المستقبل، وكأنه ماضٍ أي مُحقّق؛ لأنه تعالى لا يمنعه عن مراده مانع، ولا يحول دونه حائل.

ولفظ الأجل جاء في القرآن في مواضع كثيرة، منها:{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }[الأعراف: 34] وفي الآية التي معنا: } فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ... { [العنكبوت: 5].

والأجلان مختلفان بالنسبة للحضور الحياتي للإنسان، فالأجل الأول يُنهي الحياة الدنيا، والأجل الآخر يُعيد الحياة في الآخرة للقاء الله عز وجل، إذن: فالأجلان مرتبطان.

والحق - سبحانه وتعالى - حينما يعرض لنا قضية غيبية يُؤنِسنا فيها بشيء حسيٍّ معلوم لنا، حتى يستطيع العقل أن ينفذ من الحَسيِّ إلى الغيبي غير المشاهد. وأنت ترى أن أعمار بني آدم من هذه الحياة تتفاوت: فواحد تغيض به الأرحام، فلا يخرج للحياة، وواحد يتنفس زفيراً واحداً ويموت.. إلخ.

وفي كل لحظة من لحظات الزمن نعاين الموت، مَنْ يموت بعد نفَس واحد، ومَنْ يموت بعد المائة عام. إذن: فلا رتابة في انقضاء الأجل، لا في سِنٍّ ولا في سبب: فهذا يموت بالمرض، وهذا بالغرق، وهذا يموت على فراشه.

لذلك يقول الشاعر:فَلا تحسَب السُّقْم كأسَ الممات وإنْ كانَ سُقْماً شَديد الأَثَرفَرُبَّ عليلٍ تراهُ اسْتفاقَ ورُبَّ سَليمٍ تَراَهُ احتُضرْوقال آخر:وَقَدْ ذَهَب الممتِلي صحةً وصَحَّ السَّقِيمُ فَلَمْ يذْهبوتجد السبب الجامع في الوباءات التي تعتري الناس، فيموت واحد ويعيش آخر، فليس في الموت رتابة، والحق - سبحانه وتعالى - حينما يقول:{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }[الأعراف: 34] نجد واقع الحياة يؤكد هذا، فلا وحدةَ في عمر، ولا وحدةَ في سبب.

والصدق في الأجل الأول المشاهد لنا يدعونا إلى تصديق الأجل الآخر، وأن أجل الله لآت، فالأجل الذي أنهى الحياة بالاختلاف هو الذي يأتي بالحياة بالاتفاق، فبنفخة واحدة سنقوم جميعاً أحياءً للحساب، فإن اختلفنا في الأولى فسوف نتفق في الآخرة؛ لأن الأرواح عند الله من لَدُنْ آدم عليه السلام وحتى تقوم الساعة، وبنفخة واحدة يقوم الجميع.

وسبق أن قُلْنا: إن الأزمان ثلاثة: حاضر نشهده، وماضٍ غائب عنا لا نعرف ما كان فيه، ومستقبل لا نعرف ما يكون فيه. والحق سبحانه يعطي لنا في الوجود المشاهد دليلَ الصدق في غير المشاهد، فنحن مثلاً لا نعرف كيف خلقنا الخَلْق الأول إلا من خلال ما أخبرنا الله به أن أَصلْ الإنسان تراب اختلط بالماء حتى صار طيناً، ثم حمأ مسنوناً، ثم صلصالاً كالفخار.. إلخ.

ثم جعل نسل الإنسان من نطفة تتحول إلى علقة، ثم إلى مضغة، ثم إلى عظام، ثم تُكْسى العظام لحماً. وإنْ كان العلم الحديث أرانا النطفة والعلقة والمضغة، وأرانا كيف يتكوَّن الجنين، فيبقى الخَلْق الأول من تراب غيباً لا يعلمه أحد.

ولا تُصدِّق من يقول: إني أعلمه؛ لأن الله تعالى حذرنا من هؤلاء المضلين في قوله:{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً }

[الكهف: 51].

فلا علمَ لهم بخَلْق الإنسان، ولا علمَ لهم بخَلْق ظواهر الكون، فلا تسمع لهم، وخُذْ معلوماتك من كتاب ربك الذي خلق سبحانه، ويقوم وجود المضلين الذين يقولون: إن الأرض قطعة من الشمس انفصلتْ عنها، أو أن الإنسان أصله قرد - يقوم وجودهم، وتقوم نظرياتهم دليلاً على صدق الحق سبحانه فيما أخبر.

وإلا، فكيف نُصدِّق نظرية ترقِّي القرد إلى الإنسان؟ ولماذا ترقّى قرد (دارون) ولم تترقَّ باقي القرود؟

وإذا كان المؤمن مُصدِّقاً بقوله تعالى:{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ }[الحجر: 29] لأنه آمن بالله، وآمن بما جاء به رسول الله، فكيف بمَنْ لا يؤمن ولا يُصدِّق؟ لذلك يُؤنِس الحق سبحانه هذه العقول المستشرفة لمعرفة حقائق الأشياء يُؤنِسها بما تشاهد: فإنْ كنتَ لا تُصدِّق مسألة الخَلْق فأنت بلا شكٍّ تشاهد مسألة الموت وتعاينه كل يوم، والموت نَقْضٌ للحياة، ونَقْض الشيء يأتي عكْس بنائه.

والخالق - عز وجل - أخبر أن الروح هي آخر شيء في بناء الإنسان، لذلك هي أول شيء يُنقَض فيه عند الموت، إذن: مشهدك في كيف تموت، يؤكد لك صِدْق الله في كيف جئت؟

وأجل الآخرة أمر لا بُدَّ منه ليُثاب المطيع ويُعَاقب العاصي، أَلاَ ترى إلى النظم الاجتماعية حتى عند غير المؤمنين تأخذ بهذا المبدأ لاستقامة حركة الحياة؟ فما بالك بمنهج الله تعالى في خَلْقه، أيترك الظالم والمجرم يُفلِت من العقاب في الآخرة بعد أنْ أفلت من عقاب الدنيا؟

وكنا نردُّ بهذا المنطق على الشيوعيين: لقد عاقبتُم مَنْ طالته أيديكم من المجرمين، فكيف بمَنْ ماتوا ولم تعاقبوهم، أليستِ الآخرةُ تحلّ لكم هذا المأزق؟

ثم تُختمَ الآية بقوله تعالى: } وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ { [العنكبوت: 5] ألا ترى أنه تعالى لو قال: العليم فقط لشملَ المسموع أيضاً؛ لأن العلم يحيط بكل المدركات؟ فلماذا قال } السَّمِيعُ الْعَلِيمُ { [العنكبوت: 5]؟

قالوا: لأن اللغة العربية حينما تكلمتْ عن العمل والفعل والقول قسَّمت الجوارح أقساماً: فاللسان له القول، وبقية الجوارح لها الفعل، وهما جميعاً عمل، فالقول عمل اللسان، والفعل عمل بقية الجوارح، فكأن اللسان أخذ شطر العمل، وبقية الجوارح أخذت الشطر الآخر.

وباللسان معرفة إيمانك، حين تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهي أشرف ما يعمل الإنسان، وبه بلاغ الرسول عن الله لخَلْقه، إذن: فأفعال الجوارح الشرعية ناشئة من اللسان ومن السماع؛ لذلك جعل القول وهو عمل اللسان شطر العمل كله.

ولأهمية القول قال تعالى:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }[الصف: 2] فكل فعل ناشيء عن انصياع لقول أو سماع لقول؛ لذلك ختم سبحانه هذه الآية بقوله: } وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ { [العنكبوت: 5].

(/3271)

وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)

وكلمة { جَاهَدَ... } [العنكبوت: 6] تناسب النجاح في الابتلاء، والجهاد: بذْل الجهد في إنفاذ المراد، ومنه اجتهد فلان في كذا يعني: عمل أقصى ما في وُسْعه من الجدِّ والاجتهاد في أن يستنبط الحكم.

والجهاد له مجالان: مجال في النفس يجاهدها ليقْوَى بمجاهدة نفسه على مجاهدة عدوه.

وجاهد: مفاعلة، كأن الشيء الذي تريده صعب، يحتاج إلى جهد منك ومحاولة، والمفاعلة تكون من الجانبين: منك ومن الشيء الذي يقابلك، وأول ميادين الجهاد النفس البشرية؛ لأن ربك خلق فيك غرائز وعواطف لمهمة تؤديها، ثم يأتي منهج السماء ليكبح هذه الغرائز ويُرقِّيها، حتى لا تنطق معها إلى ما لا يُباح.

فحب الاستطلاع مثلاً غريزة محمودة في البحث العلمي والاكتشافات النافعة، أمّا إنْ تحوّل إلى تجسُّس وتتبع لعورات الناس فهو حرام؛ الأكل والشرب غريزة لتقتات به، وتتولد عندك القدرة على العمل، فإنْ تحوَّل إلى نهم وشراهة فقد خرجت بالغريزة عن مرادها والهدف منها.

وعجيب أمر الناس في تناول الطعام، فالسيارة مثلاً لا نعطيها خليطاً من الوقود، إنما هو نوع واحد، أما الإنسان فلا تكفيه عدة أصناف، كل منها لها تفاعل في الجسم، حينما تتجمع هذه التفاعلات تضر أكثر مما تنفع.

إذن: هذه الغرائز تحتاج منك إلى مجاهدة؛ لتظل في حَدِّ الاعتدال، عملاً بالأثر: " نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع، ولا نشرب حتى نظمأ، وإذا شربنا لا نقنع ".

ولو عملنا بهذا الحديث لَقضيْنا على القنبلة الذرية للاقتصاد في بلادنا، وكم تحلو لك اللقمة بعد الجوع مهما كانت بسيطة وغير مكلِّفة؛ لذلك يقولون: نعم الإدام الجوع، ثم إذا أكلتَ لا تملأ المعدة، ودع كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفَسه ".

وبهذا المنهج الغذائي الحكيم نضمن بنية سليمة وعافية لا يخالطها مرض.

فالغرائز خلقها الله فيك لمهمة، فعليك أنْ تقف بها عند مهمتك. ومثل الغرائز العواطف من حب وكُرْه وشفقه وحُزْن.. إلخ، وهذه ليس لها قانون إلا أنْ تقفَ بها عند حدود العاطفة لا تتعداها إلى النزوع، فأحبب مَنْ شئتَ وأبغض مَنْ شئتَ، لكن لا تتعدَّ ولا تُرتِّب على العاطفة حكماً.

وقد ذكرنا لهذه المسألة مثالاً بسيدنا عمر - رضي الله عنه - وكان له أخٌ اسمه زيد قُتل، ثم أسلم قاتله، فكان عمر كلما رآه يقول له: ازْوِ عني وجهك - يعني: أنا لا أحبك - فيقول: أو عدم حبك لي يمنعني حقاً من حقوقي؟ قال: لا، قال: إنما يبكي على الحب النساء. يعني: الحب والكره مسائل يهتم بها النساء، والمهم العمل، وما يترتب على هذه العواطف.

ومن المجاهدة مجاهدة مَنْ سُلِّط عليك من جبار أو نحوه، تجاهده وتصبر على إيذائه، فحبُّك للحق يجعلك تصبر عليه، يقول تعالى:{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىا نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ }[محمد: 31].

كل هذه بلاءات تحتاج إلى مجاهدة، فإنْ كان لك غريم فإنْ قدرت أن تدفع أذاه بالتي هي أحسن فافعل، وإنْ أردت أنْ تعاقب فعاقب بالمثل، وهذه مسألة صعبة؛ لأنك لا تستطيع تقدير المثلية أو ضبطها، بحيث لا تتعدى، فمثلاً لو ضربك خصمك ضربة، أتستطيع أنْ تردَّ عليه بمثلها دون زيادة؟

إذن: فلا تُدخل نفسك في هذه المتاهة، وأَوْلَى بك أنْ تأخذ بقوله تعالى{ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ... }[آل عمران: 134] وتنتهي المسألة.

فإذا كانت المصيبة لا غريمَ لك فيها، كالمرض والموت وغيرهما من القدريات التي يُجريها الله عليك، فقُلْ إن ربي أراد بي خيراً، فبها تُكفّر الذنوب والسيئات وبها أنال أجر الصابرين، وربما أنني غفلت عن ربي أو غرَّتني النعمة، فابتلاني الله ليلفتني إليه ويُذكِّرني به.

ومن المجاهدة مجاهدة النفس في تلقِّي المنهج بافعل ولا تفعل، والتكليف عادةً ما يكون شاقاً على النفس يحتاج إلى مجاهدة، وإياك أنْ تنقلَ مدلول افعل في لا تفعل، أو تنقل مدلول لا تفعل في افعل. وحين تستقصي (افعل ولا تفعل) في منهج الله تجده يأخذ نسبة سبعة بالمائة من حركاتك في الحياة، والباقي مباحات، لك الحرية تفعلها أو تتركها.

وقد يتعرض الإنسان المستقيم للاستهزاء والسخرية حتى مِمَّن هو على دينه، لأن المنحرف دائماً يشعر بنقص فيتضاءل ويصغَر أمام نفسه، ويحاول أن يجر الآخرين إلى نفس مستواه حتى يتساوى الجميع، وإلا فكيف تكون أنت مهتدياً مستقيماً وهو عاصٍ ضالٌّ؛ لذلك تراه يسخر منك ويُهوِّن من شأنك، لماذا؟ ليُزهِّدك في الطاعة، فتصير مثله.

واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَـاؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }[المطففين: 29-36].

ولا شكَّ أن مثل هذا يحتاج منك إلى صبر على أذاه، ومجاهدة للنفس حتى لا تقع في الفخِّ الذي ينصبه لك.

وقد تأتيك الوسوسة من الشيطان فيُزيِّن لك الشر، ويُحبِّب إليك المعصية، وعندها تذكر قول الله تعالى:{ يَابَنِي ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ... }[الأعراف: 27].

فعليك - إذن - أن تتذكّر العداوة الأولى بين أبيك آدم وبين الشيطان لتكون منه على حذر، وسبق أن أوضحنا كيف نفرق بين المعصية التي تأتي من النفس، والتي تأتي من وسوسة الشيطان، فالنفس تقف بك عند معصية بعينها لا تريد غيرها، أما الشيطان فإنْ تأبيتَ عليه في ناحية نقلك إلى أخرى، المهم عنده أنْ يُوقِعك على أي حال.

إذن: أعداؤك كثيرون، يحتاجون منك إلى قوة إرادةَ وإلى مجاهدة.

ومجيء هذه الآية التي تذكر الجهاد بعد قوله تعالى{ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }[العنكبوت: 5] يطلب من الإنسان الذي يعتقد أن أجلَ الله بلقاء الآخرة أتٍ، وذلك أمر لا شكَّ فيه - يطلب منه أنْ يستعدَّ لهذا اللقاء.

وقال تعالى: } فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ { [العنكبوت: 6] لأن الإنسان طرأ على كون مُهيأ لاستقباله بسمائه وأرضه وشمسه وقمره ومائه وهوائه، فكل ما في الكون خادم لك، ولن تزيد أنت في مُلْك الله شيئاً، وكل سَعْيك وفكرك لترف حياتك أنت، فحين تفعل الخير فلن يستفيدَ منه إلا أنت وربك غني عن عطائك.

فإنْ جاهدتَ فإنما تجاهد لنفسك، كما لو امتنَّ عليك خادمك بالخدمة فتقول له: بل خدمتَ نفسك وخدمتَ عيالك حينما خدمتَ لتوفر لك ولهم أسباب العيش، وأنا الذي تعبتُ وعرقتُ لأوفر لك المال الذي تأخذه.

وكذلك الحق سبحانه يقول لنا } وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ... { [العنكبوت: 6]أي: حينما يطبق المنهج ويسير على هُداه، والحق سبحانه يؤكد هذه القضية في آيات عديدة{ مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }[فصلت: 46].

ويقول الحق سبحانه:{ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا... }[الإسراء: 7].

ويقول سبحانه:{ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ... }[البقرة: 286].

إذن: المسألة منك وإليك، ولا دخلَ لنا فيها إلا حرْصنا على صلاح الخَلْق وسلامتهم، كصاحب الصَّنْعة الذي يريد لصنعته أن تكون على خير وجه وأكمله، لذلك أفيضُ عليه من قدراتي قدرة، ومن علمي علماً، ومن بَسْطي بَسْطاً، ومن جبروتي جبروتاً، وأعطيه من صفاتي.

لذلك قال بعض العارفين: " تخلقوا بأخلاق الله ".

لأن العون في وهب الصفات ومجال الصفات في الفعل ليس في أنْ أفعل لك، إنما في أنْ أُعينك لتفعل أنت، فالواحد منا حينما يرى عاجزاً لا يستطيع حَمْل متاعه، ماذا يفعل؟ يحمله عنه، أي: يُعدِّي إليه أثر قوته، إنما يظل العاجز عاجزاً والضعيف ضعيفاً كلما أراد شيئاً احتاج لمن يقوم له به.

أما الحق - سبحانه وتعالى - فيفيض عليك من قوته، ويهبُ لك من قدرته وغِنَاه لتفعل أنت بنفسك؛ لذلك مَنْ يتخلق بأخلاق الله يقول: لا تعْطَ الفقير سمكة، إنما علِّمه كيف يصطاد، حتى لا يحتاج لك في كل الأوقات، أفِضْ عليه ما يُديم له الانتفاع به.

إذن: الحق سبحانه يهَبُ القادرين القدرةَ، ويهَبُ الأغنياء الغِنَي، والعلماء العلمَ والحكماءَ الحكمةَ. وهذه من مظاهر عظمته تعالى ألاَّ يُعدِّي أثر الصفة إلى عباده، إنما يُعدِّي بعض الصفة إليهم، لتكون ذاتية فيهم.

بل ويعطي سبحانه ما هو أكثر من ذلك، يعطيك الإرادة التي تفعل بها لمجرد أن تفكر في الفعل، بالله ماذا تفعل لكي تقوم من مكانك؟ ماذا تفعل حينما تريد أنْ تحمل شيئاً أو تحرك عضواً من أعضائك؟ هل أمرتك أمراً؟ هل قلت لها افعلي كذا وكذا؟

حين تنظر إلى (البلدوزر) مثلاً أو (الونش) كيف يتحرك، وكيف أن لكل حركة فيه زراً يحركها وعمليات آلية معقدة، تأمل في نفسك حين تريد أن تقوم مثلاً بمجرد أن تفكر في القيام، تجد نفسك قائماً، مرادك أنت في الأعضاء أن تفعل وتنفعل لك.

إذن، حينما يقول لك ربك:{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }[يس: 82] فصدِّقه؛ لأنك شاهدتها في نفسك وفي أعضائك، فما بالك بربك - عز وجل - أيعجز أن يفعل ما تفعله أنت؟ ماذا تفعل إنْ أردتَ أنْ تنام أو تبطش بيدك؟

لا شيء غير الإرادة في داخلك؛ لأن ربك خلع عليك من قدرته، وأعطاك شيئاً من قوله (كُنْ) وقدرة من قدرته، لكن لم يشأ أنْ يجعلها ذاتية فيك حتى لا تغترّ بها.

لذلك إنْ أراد سبحانه سَلبَها منك لقوله تعالى:{ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىا * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىا }[العلق: 6-7] فتأتي لتحرك ذراعك مثلاً فلا يطاوعك، لقد شُلَّ ويأبى عليك بعد أنْ كان طَوْع إرادتك، ذلك لتعلم أنه هِبَة من الله، إنْ شاء أخذها فهي ليست ذاتية فيك.

فالمجاهدة تشمل ميادين عديدة، مجاهدة الغرائز والعواطف، ومجاهدة مشقة المنهج في افعل ولا تفعل، ومجاهدة شياطين الإنس والجن، ومجاهدة خصوم الإسلام الذين يريدون أنْ يُطفئوا نور الله.

وروى البخاري " أن خباب بن الأرتّ دخل على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إننا في شدة، ألاَ تستنصر لنا؟ أَلاَ تدعو لنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنه كان الرجل فيمن قبلكم تُحفر له الحفرة، فيُوضع فيها، ثم يُؤتَى بالمنشار فيُقَدُّ نصفين، ثم يُمشَطُ لحمه عن عظمه بأمشاط الحديد، فلا يصرفه ذلك عن دين الله ".

ثم يطمئنه رسول الله على أن هذه الفترة - فترة الابتلاء - لن تطول، فيقول: " والله لَيتِمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئبَ على غنمه ".

والنبي صلى الله عليه وسلم وهو خاتم النبيين، " يدخل عليه سيدنا أبو سعيد الخدري فيجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي حرارة الحمى، فوضع يده على اللحاف الذي يلتحف به سيدنا رسول الله، فيُحِسّ حرارته من تحت اللحاف، فقال له: يا رسول الله، إنها لشديدة عليك؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " يا أبا سعيد، إنه يُضعَّف لنا البلاء كما يُضعَّف لنا الجزاء ".

ذلك ليثبت أن البلاء لا يكون فقط من الأعداء، إنما قد يكون من الله تعالى، لماذا؟ لأن الله يباهي ملائكته بخَلْقه الطائعين المخبتين الصابرين، فيقولون: كيف لا يحبونك ويقبلون على طاعتك، وقد أنعمتَ عليهم بكذا وكذا، ويذكرون حيثيات هذه الطاعة، فيقول تعالى: وأسلب كل ذلك منهم ويحبونني، أي: يحبونني لذاتي.

ثم تختم هذه الآية بقوله تعالى: } إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ { [العنكبوت: 6] لأن ميادين الجهاد هذه لا يعود منها شيء إلى الله تعالى، ولا تزيد في مُلكه شيئاً، إنما يستفيد منها العبد؛ لأنه سبحانه الغني عن طاعة الطائعين وعبادة المتعبدين، ليس غنياً عنهم وفقط، إنما هو سبحانه الذي يُغنيهم ويُفيض عليهم من فَضلْه ومن غِناه.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ... {.

(/3272)

وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)

يذكر لنا - سبحانه وتعالى - النتائج { وَالَّذِينَ آمَنُواْ... } [العنكبوت: 7] أي: بالله رباً، له كل صفات الكمال المطلق، وله طلاقة القدرة، وله طلاقة الإرادة، وهو المهيمن، وهو الحاكم.. إلخ.

ثم { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ... } [العنكبوت: 7] لأن العمل الصالح نتيجة للإيمان، وثمرة من ثمراته، والصالح: هو الشيء يظلُّ على طريقة الحُسْن فيه فلا يتغير، فقد أقبلت على عالم خلقه الله لك على هيئة الصلاح فلا تفسده، وهذا أضعف الإيمان أنْ تُبقِي الصالح على صلاحه، فإن أردتَ الارتقاء، فزِدْه صلاحاً.

يقول تعالى:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }[البقرة: 11].

فقد أعدَّ الله لنا الأرض صالحة بكل نواميسها وقوانينها، أَلاَ ترى المناطق التي لا ينزل بها المطر يُعوِّضها الله عنه بالمياه الجوفية في باطن الأرض، فماء المطر الزائد يسلكه الله ينابيع في الأرض، ويجعله مخزوناً لوقت الحاجة إليه، وتخزين الماء العذب في باطن الأرض حتى لا تُبخِّره الشمس، يقول تعالى:{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ }[الملك: 30].

وضربنا مثلاً لترك الصالح على صلاحه ببئر الماء الذي يشرب منه أهل الصحراء، فقد نرمي فيه القاذورات التي تُفسد ماءه، وقد نرى مَنْ يُهيل فيه التراب فيطمسه، وهذا كله من إفساد الصالح، وربما يأتي مَنْ يبني حوله سوراً يحميه، أو يجعل عليه آلة رَفْع ترفع الماء وتُريح الناس الذين يردونه، فإذا لم تكُنْ من هؤلاء فلا أقلَّ من أن تدعه على حاله.

فالصالح إذن: كل عمل وفكر يزيد صلاحَ المجتمع في حركات الحياة كلها، وإياك أن تقول إن هناك عملاً أشرف من عمل، فكل عمل مهما رأيته هيِّناً - ما دام يؤدي خدمة للمجتمع، ويُقدِّم الخير للناس فهو عمل شريف، فقيمة الأعمال هي قيمة العامل الذي يُحسنِها وينفع الناس بها، يعني: ليس هناك عمل أفضل من عمل، إنما هنَاك عامل أفضل من عامل؛ لذلك يقولون: قيمة كل امريء مَا يُحسِنه.

وسبق أن ضربتُ لذلك مثلاً، وما أزال أضربه، مع أنه من أُنَاس غير مسلمين: كان نقيب العمال في فرنسا يطالب بحقوق العمال ويدافع عنهم ويُوفِّر لهم المزايا، فلما تولى الوزارة قالوا له: أعطنا الآن الحقوق التي كنتَ تطالب بها لنا، وربما كان يطالب لعماله بما تضيق به إمكانات وميزانيات الوزارة، أما الآن فقد أصبح هو وزيراً، وفي إحدى المرات تطاول عليه أحد العمال وقال: لا تنْسَ أنك كنت في يوم من الأيام ماسحَ أحذية، فقال: نعم، لكنني كنت أتقنها.

ثم يذكر الحق سبحانه جزاء الإيمان والعمل الصالح: { لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ... } [العنكبوت: 7] وهنا تتجلى العظمة الإلهية، حيث بدأ بتكفير السيئات وقدَّمها على إعطاء الحسنات.

لأن التخلية قبل التحلية، والقاعدة تقول: إن دَرْءَ المفسدة مُقدَّم على جَلْب المصلحة، فهَبْ أن واحداً يريد أنْ يرميك مثلاً بحجر، وآخر يريد أنْ يرمي لك تفاحة، فأيهما تستقبل أولاً؟ لا شكَّ أنك ستدفع أذى الحجر عن نفسك أولاً.

والخالق - عز وجل - يعلم طبيعة عباده وما يحدث منهم من غفلة وانصراف عن المنهج يُوقِعهم في المعصية، وما دام أن الشرع يُعرِّف لنا الجرائم ويُقنِّن العقوبة عليها، فهذا إذنٌ منه بأنها ستحدث.

لذلك يقول تعالى لعباده: اطمئنوا، فسوف أطهركم من هذه الذنوب أولاً قبل أنْ أعطيكم الحسنات، ذلك لأن الإنسان بطبعه أميل إلى السيئة منه إلى الحسنة، فيقول سبحانه: } لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ... { [العنكبوت: 7].

بل وأكثر من ذلك، ففي آية أخرى يقول سبحانه:{ إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَـائِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }[الفرقان: 70] فأيُّ كرم بعد أنْ يُبدِّل الله السيئة حسنةً، فلا يقف الأمر عند مجرد تكفيرها، فكأنه (أوكازيون) للمغفرة، ما عليك إلا أنْ تغتنمه.

وفي موضع آخر يقول سبحانه:{ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ... }[هود: 114] وفي الحديث الشريف: ".. وأتبع السيئة الحسنةَ تمحها ".

ثم يذكر سبحانه الحسنة بعد ذلك: } وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ { [العنكبوت: 7] قلنا: إن الحق سبحانه إذا أراد أنْ يعطي الفقير يقترض له من إخوانه الأغنياء{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً... }[البقرة: 245].

مع أنه سبحانه واهب كل النعم يحترم ملكية عباده، ويحترم مجهوداتهم وعرقهم، فاحترم العمل واحترم ثمرة العمل، كما يعامل الوالد أولاده، فيأخذ من الغني لمساعدة الفقير على أنْ يعيد إليه ماله حين مَيْسرة، فكما أنك لا ترجع في هبتك، كذلك ربُّك - عز وجل - لا يرجع في هبته.

وأذكر ونحن في أمريكا سألنا أحد المستشرقين يقول: هناك تعارض بين قول القرآن:{ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا... }[الأنعام: 160] وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: " مكتوب على باب الجنة: الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر ".

فشاء الله أن يلهم بكلمتين للردِّ عليه، حتى لا يكون للكافرين على المؤمنين سبيل. فقلت للمترجم: نعم الحسنة بعشر أمثالها حين تتصدَّق، لكن في القرض مثلاً لو تصدَّق بدولار فهو عند الله بعشرة دولارات، لكن يعود عليك دولارك مرة أخرى، فكأن لك تسعة دولارات، فحين تضاعف تصير ثمانية عشر.

وبعد ذلك ينتقل الحق سبحانه إلى الدائرة الأولى في تكوين المجتمع، وهي دائرة الأسرة المكوَّنة من: الأب، والأم، والأولاد، فأراد سبحانه أن يُصلح اللبنة الأولى ليصلح المجتمع كله، فقال تبارك وتعالى: } وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً... {.

(/3273)

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)

الوالدان يخدمان الابن حتى يكبر، ويصير هو إلى القوة في حين يصيران هما إلى الضعف، وإلى الحاجة لمن يخدمهما، وحين ننظر في حال الغربيين مثلاً وكيف أن الأبناء يتركون الآباء دون رعاية، وربما أودعوهم دار المسنين في حالة برِّهم بهم، وفي الغالب يتركونهم دون حتى السؤال عنهم؛ لذلك تتجلى لنا عظمة الإسلام وحكمة منهج الله في مجتمع المسلمين.

لذلك قال أحد الحكماء: الزواج المبكر خير طريقة - لا لإنجاب طفل - إنما الإنجاب أب لك يعولك في طفولة شيخوختك. لذلك أراد الحق سبحانه أن يبني الأسرة على لبنات سليمة، تضمن سلامة المجتمع المؤمن، فقال سبحانه: { وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً... } [العنكبوت: 8]، وفي موضع آخر قال سبحانه في نفس الوصية{ وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً... }[الأحقاف: 15].

وفَرْق بين المعنيين: { حُسْناً... } [العنكبوت: 8] أي: أوصيك بأنْ تعملَ لهم الحُسْن ذاته، كما تقول: فلان عادل، وفلان عَدْل، فوصَّى بالحسْن ذاته. أما في{ إِحْسَاناً... }[الأحقاف: 15] فوصية بالإحسان إليهما.

لكن، لماذا وصَّى هنا بالحُسْن ذاته، ووصَّى هناك بالإحسان؟

قالوا: وصَّى بالحسن ذاته في الآية التي تذكر اللدد الإيماني، حيث قال: { وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ... } [العنكبوت: 8] والكفر يستوجب العداوة والقطيعة، ويدعو إلى الخصومة، فأكَّد على ضرورة تقديم الحسن إليهما؛ لا مجرد الإحسان؛ لأن الأمر يحتاج إلى قوة تكليف.

أما حين لا يكون منهما كفر، فيكفي في برِّهما الإحسان إليهما؛ لذلك يقول سبحانه:{ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً... }[لقمان: 15].

والحق سبحانه حين يُوصي بالوالدين، وهما السبب المباشر في الوجود إنما ليجعلهما وسيلة إيضاح لأصل الوجود، فكما أوصاك بسبب وجودك المباشر وهما الوالدان، فكذلك ومن باب أَوْلى يوصيك بمَنْ وهب لك أصل هذا الوجود.

فكأن الحق سبحانه يُؤنِس عباده بهذه الوصية، ويلفت أنظارهم إلى ما يجب عليهم نحو واهب الوجود الأصلي وما يستحقه من العبادة ومن الطاعة؛ لأنه سبحانه الخالق الحقيقي، أما الوالدان فهما وجود سببي.

هذا إيناس بالإيمان، بيَّنه تعالى في قوله:{ وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً... }[النساء: 36] لأنهما سبب الوجود الجزئي، والله تعالى سبب الوجود الكلي.

وهذا أيضاً من المواضع التي وقف عندها المستشرقون، يبغُونَ فيها مَطْعناً، ويظنون بها تعارضاً بين آيات القرآن في قوله تعالى:{ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً... }[لقمان: 15] وفي موضع آخر:{ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ آبَآءَهُمْ... }[المجادلة: 22].

وهذا التعارض لا يوجد إلا في عقول هؤلاء؛ لأنهم لا يفهمون لغة القرآن، ولا يفرقون بين الودِّ والمعروف: الودّ مَيْل القلب، وينشأ عن هذا الميل فِعْل الخير، فيمن تميل إليه، أمّا المعروف فتصنعه مع مَنْ تحب ومَنْ لا تحب، فهو استبقاء حياة.

وهنا يقول سبحانه: } وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ { [العنكبوت: 8] يعني: تذكَّر هذا الحكم، فسوف أسألك عنه يوم القيامة، ففي موضع آخر{ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }[لقمان: 15].

فكُفْر الوالدين لا يعني السماحَ لك بإهانتهما أو إهمالهما، فاحذر ذلك؛ لأنك ستُسأل عنه أمام الله: أصنعتَ معهما المعروف أم لا؟

وحيثيات الوصية بالوالدين: الأب والأم ذُكرت في الآية الأخرى:{ وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً... }[الأحقاف: 15] نلحظ أن الحيثيات كلها للأم، ولم يذكر حيثية واحدة للأب إلا في قوله تعالى:{ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً... }[الإسراء: 24] وهذه تكون في الآخرة.

قالوا: ذِكْر الحيثيات كلها للأم؛ لأن متاعب الأم كانت حال الصِّغَر، والطَفل ليس لديه الوعي الذي يعرف به فَضْل أمه وتحمُّلها المشاق من أجله، وحين يكبر وتتكوَّن لديه الإدراكات يجد أنَّ الأب هو الذي يقضي له كل ما يحتاج إليه.

إذن: فحيثيات الأب معلومة مشاهدة، أمّا حيثيات الأم فتحتاج إلى بيان.

يقول الحق سبحانه: } وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ... {.

(/3274)

وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)

فقدّم الإيمان، لأنه الأصل، ثم العمل الصالح، وكأن الدخول في الصالحين مسألة كبيرة، وهي كذلك، ويكفي أنها مُتَمنى حتى الأنبياء أنفسهم.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ... }.

(/3275)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)

قوله تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ... } [العنكبوت: 10] دليل على القول باللسان، وعدم الصبر على الابتلاء، فالقول هنا لا يؤيده العمل، ولمثل هؤلاء يقول تعالى:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }[الصف: 2].

ويقول تعالى في صفات المنافقين:{ إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }[المنافقون: 1] فالله تعالى لا يُكذِّبهم في أن محمداً رسول الله، إنما في شهادتهم أنه رسول الله؛ لأن الشهادة لا بُدَّ لها أنْ يواطئ القلب اللسان، وهذه لا تتوفر لهم.

ومعنى: { فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللَّهِ... } [العنكبوت: 10] أي: بسبب الإيمان بالله، فلم يفعل شيئاً يؤذى من أجله، إلا أنه آمن { جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ... } [العنكبوت: 10] فتنة الناس أي: تعذيبهم له علىإيمانه كعذاب الله.

إذن: خاف عذاب الناس وسَّواه بعذاب الله الذي يحيق به إنْ كفر، وهذا غباء في المساواة بين العذابين؛ لأن عذاب الناس سينتهي ولو بموت المؤذي المعذِّب، أما عذاب الله في الآخرة فباقٍ لا ينتهي، والناس تُعذَّب بمقدار طاقتها، والله سبحانه يُعذب بمقدار طاقته تعالى وقدرته، إذن: فالقياس هنا قياس خاطئ.

وإنْ كانت هذه الآية قد نزلت في عياش بن أبي ربيعة، فالقاعدة الأصولية تقول: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وكان عياش بن أبي ربيعة أخا عمرو بن هشام (أبو جهل) والحارث بن هشام من الأم التي هي أسماء.

فلما أنْ أسلم عياش ثم هاجر إلى المدينة فحزنت أمه أسماء، وقالت: لا يظلني سقف، ولا أطعم طعاماً، ولا أشرب شراباً، ولا أغتسل حتى يعود عياش إلى دين آبائه، وظلت على هذه الحال التي وصفتْ ثلاثة أيام حتى عضَّها الجوع، فرجعت.

وكان ولداها الحارث وأبو جهل قد انطلقا إلى المدينة ليُقنعا عياشاً بالعودة لاسترضاء أمه، وظلا يُغريانه ويُرقّقان قلبه عليها، فوافق عياش على الذهاب إلى أمه، لكن رفض الردة عن الإسلام، فلما خرج الثلاثة من المدينة قاصدين مكة أوثقوه في الطريق، وضربه أبو جهل مائة جلدة، والحارث مائة جلدة.

لكن كان أبو جهل أرأف به من الحارث؛ لذلك أقسم عياش بالله لئن أدركه يوماً ليقتلنه حتى إنْ كان خارجاً من الحرم، وبعد أن استرضى عياش أمه عاد إلى المدينة، فقابل أخاه الحارث عند قباء، ولم يكن يعلم أنه قد أسلم فعاجله، ونفّذ ما توعده به فقتله، ووصل خبره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت الآية:{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً... }[النساء: 92].

ونزلت: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ... } [العنكبوت: 10] أي: أراد أنْ يفرّ من عذاب الناس فكفر، ولم يُرد أن يفرّ من عذاب الله ويؤمن.

وقوله تعالى: { وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ... } [العنكبوت: 10] أي: اجعلوا لنا سهماً في المغنم { أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ } [العنكبوت: 10] فالله سبحانه يعلم ما يدور في صدورهم وما يتمنونه لنا؛ ولذلك يقول سبحانه عنهم:{ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً... }[التوبة: 47].

ثم يقول الحق سبحانه: { وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ... }.

(/3276)

وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)

نعم، الحق سبحانه يعلم حال عباده حتى قبل أنْ يخلقوا، ويعلم ماذا سيحدث لهم، إنما هناك فَرْق بين علم مُسْبق على الحدث، وعِلْم بعد أنْ يقع الحدث نفسه؛ لأنه سبحانه لو قال: سأفعل بهم كذا وكذا؛ لأني أعلم ما يحدث منهم لقالوا: لا والله ما كان سيحدث منا شيء؛ لذلك يتركهم حتى يحدث منهم الفعل.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ... }.

(/3277)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)

وهذا لَوْن من ألوان الإيذاء أن يقول الذين كفروا للذين آمنوا { اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا... } [العنكبوت: 12] أي: ما نحن عليه من دين الآباء والأجداد، وما نحن عليه من عبادة الأصنام والأوثان، فنحن نعبد آلهة لا تكاليفَ لها ولا مطلوبات، وأنتم تعبدون إلهاً له منهج، وله مطلوبات بافعل كذا ولا تفعل كذا.

فالمعنى: { اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا.. } [العنكبوت: 12] خُذوا الحكم منا { وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ.. } [العنكبوت: 12] يعني: اعملوا على مسئوليتنا، وإنْ كانت عليكم خطايا سنحملها عنكم، وانظر هنا إلى غباء الكافر فقد آمن هو نفسه أن هذه خطيئة، ومع ذلك يتعرَّض لحملها، لكن كيف يحملها؟ وكيف يكون هو المسئول عنها أمام الله - عز وجل - حين يحاسبني ربي عليها ويعاتبني على اتباعي له؟ وهل للكافر شفاعة أو قوة يدافع عنها عني في الآخرة؟

لذلك يقول تعالى بعدها: { وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [العنكبوت: 12] ويؤكد لنا سبحانه كذبهم أيضاً في قوله تعالى:{ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ... }[البقرة: 166].

ويقول التابعون:{ رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ }[فصلت: 29].

فالمودة التي كانت بينهم في الدنيا تحولتْ إلى عداوة؛ لأنهم اجتمعوا في الدنيا على الضلال، فتفرقوا في الآخرة، كما قال سبحانه:{ الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ }[الزخرف: 67] فالمتقي ساعة يرى المتقي في الآخرة يشكره، ويعترف له بالجميل؛ لأنه أخذ على يديه في الدنيا، ومنعه من أسباب الهلاك، فيحبه ويثني عليه، وربما اعتبره عدوه في الدنيا، أما أهل الضلال فيلعن بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض.

إذن: فغباء الكفار بيّن في قولهم: { وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ.. } [العنكبوت: 12]، كما هو بيِّن في قولهم{ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }[الأنفال: 32].

وكما هو بيِّن في قولهم:{ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىا مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ... }[المنافقون: 7] فهم يعرفون أنه رسول الله، ومع ذلك يمنعون الناس من الإنفاق على الفقراء الذين عنده، إنه غباء حتى في المواجهة.

(/3278)

وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)

وفي موضع آخر:{ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ }[النحل: 25]. فالأثقال هي الأوزار، فسيحملون أثقالاً على أثقالهم، وأوزاراً على أوزارهم، فالأثقال الأولى بسبب ضلالهم، والأثقال الأخرى بسبب إضلالهم للغير { وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [العنكبوت: 13] والافتراء: تعمُّد الكذب.

وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن المقدمات في عمومها، أراد أن يتكلَّم عنها في خصوص الرسالات، فقال سبحانه:

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً... }.

(/3279)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)

يقول العلماء: إن نوحاً - عليه السلام - هو أول رسل الله إلى البشر، أما مَنْ سبقه مثل آدم وإدريس عليهما السلام، فكانوا أنبياء أوحي الله إليهم بشرع يعملون به، فيكونون نموذجاً إيمانياً، وقدوة سلوك طيب، يُقلِّدهم مَنْ رآهم، لكن لا يُعَدُّ كافراً مَنْ لم يقتَدِ بهم، أما إن اقتدى بهم ثم نكث عن سبيلهم فهو كافر.

لذلك نُفرِّق بين النبي والرسول، بأن النبي أُوحي إليه بشرع يعمل به ولم يُؤْمر بتبليغه، أما الرسول فقد أُوحي إليه بشرع وأُمرِ بتبليغه فكلٌّ منهما مرسل، لذلك يقول تعالى:{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ... }[الحج: 52].

إذن: فالنبي أيضاً مُرسَل، لكنه مُرسَل لذاته.

لكن لماذا كان هذا قبل نوح بالذات؟ قالوا: لأن الرقعة الإنسانية كانت ضيقة قبل نوح، وكان الناس حديثي عهد، لم تنتشر بينهم الانحرافات، فلما اتسعت الرقعة، وتداخلت أمور الحياة احتاجت الخليقة لأنْ يرسل الله إليهم الرسل.

والحق سبحانه يأتي بهذه اللقطة الموجزة من قصة نوح - عليه السلام - مع أن له سورة مفردة، وله لقطات كثيرة منثورة في الكتاب العزيز، لكن هذه اللقطة تأتي لنا بالبداية والنهاية فقط وكأنها برقية (تلغرافية) في مسألة نوح:

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىا قَوْمِهِ... } [العنكبوت: 14].

إذن: الرسول جاء من القوم، وهذا يعني أنهم يعرفونه قبل أن يكون رسولاً، ويُجرِّبون سلوكه وحركته في الحياة، ويعرفون خُلقه، ويعرفون كل تصرفاته، فليس الرسول بعيداً عنهم أو مجهولاً لهم.

لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما جهر بالدعوة آمن به الذين يعرفونه عن قُرْب دون أنْ يسألوه عن معجزة تؤيده، بل بمجرد أنْ قال أنا رسول الله آمنوا به وصدَّقوه واتبعوه.

فسيدنا أبو بكر، هل سمع من رسول الله قبل أن يؤمن به؟ لا، إنما بمجرد أن قالوا له: إن صاحبك تنبأ قال: آمنت به، لماذا؟ لأنه يعرف له سوابق يبني عليها إيمانه بصاحبه، فما كان محمد ليكون صاحب خُلق عظيم مع الناس، ثم يكذب على الله.

إذن: ففي كَوْن الرسول من قومه إيناسٌ للخَلْق؛ لذلك لما قالوا: لا نؤمن إلا إذا جاءنا الرسول ملكاً ردَّ عليهم: أأنتم ملائكة حتى ينزل عليكم مَلَك؟

{ قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً }[الإسراء: 95].

ولو فُرض أننا أرسلناه مَلَكاً أهم يروْن الملائكة؟ لا يروْنَها، فكيف إذن يُبلِّغ الملَك الناس؟ لا بُدَّ أنْ يأتيهم في صورة بشر، ولو أتاهم في صورة بشر لقالوا نريد ملَكاً.

وقوله عز وجل: { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً... } [العنكبوت: 14] هذا العدد من الممكن أن يؤدى لمعانٍ كثيرة، فلم يقُلْ: فلبث فيهم تسعمائة وخمسين عاماً.

وفي الأعداد في القرآن أسرار كثيرة، واقرأ مثلاً:{ وَوَاعَدْنَا مُوسَىا ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً... }[الأعراف: 142].

وفي آية سورة البقرة قال الحق سبحانه:{ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً... }[البقرة: 51].

ففي سورة البقرة إجمال، وفي آية الأعراف تفصيل. والحكمة في هذا أن موسى عليه السلام ما إن ذهب لميقات ربه حتى عبد قومه العجل في مدة الثلاثين ليلة.

ولم يشأ الله أن يترك موسى ليعود لقومه بعد الثلاثين ليلة، بل أتمها بعشر آخر، حتى لا يعود موسى ويرى ما فعله قومه، فكأن العشْرَ زادتْ على الثلاثين ليلة، ليعطيك الصورة الأخيرة الموجودة في سورة البقرة.

فالمسألة في منتهى الدقة، ولو لم يأْتِ بالاستثناء في قوله: } إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً... { [العنكبوت: 14] فربما يظن السامع أن المسألة تقريبية، لكن التقريب في عَدِّ البشر، أما في حساب الحق سبحانه فهو منتهى الدقة، كما لو سُئلت مثلاً عن الساعة، فتقول: الساعة العاشرة إلا دقيقة ونصفاً، يعني: منتهى ما في استطاعتك من حساب الوقت.

فإن قلت: فلماذا هذه اللقطة السريعة من قصة نوح عليه السلام؟ نقول: هي لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن قومه وقفوا منه موقف العداء والمكابرة والتكذيب، وآذوْا أصحابه، وضيَّقوا الخِنَاق على دعوته، وقد طالتْ هذه المسألة حتى أخذت ثلاث عشرة سنة من عمر الدعوة، فسلاَّه ربه: اصبر يا محمد، فقد صبر زميل لك في الدعوة ألف سنة إلا خمسين عاماً، يعني مدة المشقة التي تحملتها مازالت بسيطة هيِّنة، وقد تحمَّل أولو العزم من الرسل أكثر من ذلك.

ونلحظ هنا } أَلْفَ سَنَةٍ... { [العنكبوت: 14] ثم استثنى منها } إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً... { [العنكبوت: 14] ولم يقُلْ خمسين سنة، فاستثنى الأعوام من السنين، ليدلَّك على أن السنة تعني أيَّ عام، ويُرفَع الخلاف؛ لأن البعض يقول: إن السنة هي التي تبدأ من أول المحرم إلى آخر ذي الحجة، في حين أن السنة ليس من الضروري أنْ تبدأ بالمحرم وتنتهي بذي الحجة، إنما تبدأ في أي وقت وتنتهي في مثله بعد عام كامل.

فحين نقول: فلان عمره مثلاً عشرون سنة، أي: من يوم مولده إلى مثله عشرين مرة، وكذلك العام. إذن: السنة والعام والحجة، كلها سواء أردتَ الحساب بالسنة الشمسية، أو القمرية، أو غيرها كما تحب.

ومعلوم أن التوقيتات عندنا توقيتات هلالية بالشهر العربي؛ لأن الشمس لا يُعرف من حركتها إلا اليوم، إنما لا نعرف منها الشهر، الشهر نعرفه بحركة القمر حين يُولَد الهلال، وبالشهر نحسب السنة التي هي أثنا عشر شهراً قمرياً وتزيد أحد عشر يوماً في السنة الشمسية.

وكأن الحق سبحانه أراد أنْ يُعْلمنا أن السنة هي العام، لا فَرْق بينهما، ولا داعي للجاج في هذه المسألة.

ثم يذكر سبحانه نهاية هؤلاء القوم الذين كذّبوا: } فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ { [العنكبوت: 14] فالعلة في أخذهم، لا لأنهم أعداء، بل لأنهم ظالمون لأنفسهم بالكفر، وهكذا تنتهي القصة أو اللقطة في آية واحدة الغرض منها تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، إنْ أبطأ نَصْره على الكفار.

وكلمة } فَأَخَذَهُمُ... { [العنكبوت: 14] الأخْذ فيه دليل على الشدة وقوة التناول، لكن بعنف أو بغير عنف؟ إنْ كان الأخذ لخصْم فهو أخْذ بعنف وشدة، وإنْ كان لغير خَصْم كان بلطف.

والطوفان: أن يزيد الماء عن الحاجة الرتيبة للناس، فبعد أنْ كان وسيلة حياة، ومنه كل شيء حتى يصبح وسيلة موت وهلاك، وكأن الحق - سبحانه وتعالى - يريد أنْ يلفت أنظارنا إلى المتقابلات في الخَلْق حتى لا نظنَّ أن الخَلْق يسير برتابة.

فسيدنا موسى - عليه السلام - ضرب البحر بالعصا، فتجمَّد فيه الماء حتى صار كالجبل، وضرب بها الحجر فانبجس منه الماء.

إنها طلاقة القدرة التي لا تعتمد على الأسباب، فالمسبِّب هو الله سبحانه يفعل ما يشاء، فليست الأشياء بأسبابها، إنما بمراد المسبِّب فيها؛ لذلك يقول أحمد شوقي في قصيدة النيل:مِنْ أيِّ عَهْدٍ في القُرَى تتدفقُ وبأيِّ كفٍّ فِي المدائن تُغْدِقُومِنَ السماءِ نزلْتَ أم على الجِنَان جداولاً تترقرقُإلى أنْ يقول:الماء تَسْكُبه فَيْصبح عَسْجَداً والأرضُ تُغرِقُها فيحيَا المغْرَقُوالمأخوذ هنا هم المكذِّبون لنوح - عليه السلام - الذين ظلموا أنفسهم لما كذَّبوا رسولهم، ولم يستمعوا للهدى، ثم يُنجِّي الله نوحاً - عليه السلام - بالسفينة التي قال الله عنها في سورة هود:{ وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرياهَا وَمُرْسَاهَا... }[هود: 41].

وقد أمره الله بصناعة السفينة:{ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ }[هود: 37] فكان نوح - عليه السلام - على علم بعاقبة المكذِّبين الظالمين من قومه، واحتفظ بها في نفسه، وهو يصنع السفينة كما أمره ربه.

لكن، أكانت السفينة شيئاً معروفاً لهؤلاء القوم، ولها مثال سابق لديهم؟ لا، لم يكونوا يعرفون السفن، بدليل أنهم تعجَّبوا من فعْل نوح، وسخروا منه وهو يصنعها{ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ... }[هود: 38] فكان يردُّ عليهم في نفسه:{ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ }[هود: 38] فهو يعلم عاقبتهم وما يُبيِّته الله لهم.

والحق سبحانه يعطينا هذه اللقطة من قصة نوح - عليه السلام - لكي نجول في كل اللقطات، ونستحضر مواطن العبرة فيها، وفي قصة نوح مسائل كثيرة نستفيدها، فقد كان القوم يعبدون الأصنام: وداً، وسواعاً، ويغوث، ويعوق، ونسراً، ومنها نعلم أن ودادة الأنبياء ودادة قيم ومنهج، وودادة أعمال واقتداء، وأن أنسابهم أنساب تقوى وورع.

فنبوّة نوح لم تمنع ولده الضالّ من الغرق، حتى بعد أنْ دعا الله:{ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ... }

[هود: 45] فيعطيه الله الحكم في هذه المسألة، ويُصحِّح له:{ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ... }[هود: 46].

وليس معنى ذلك أن أمه أتتْ به من الحرام والعياذ بالله؛ لأن الله تعالى ما كان ليُدلِّس على نبي من أنبيائه، إنما هي كانت من الخائنين، وخيانتها أنها كانت تفشي أسراره لخصومه، وتخبرهم خبره؛ لذلك يقول تعالى عنها في سورة التحريم:{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ... }[التحريم: 10].

ويُبيِّن الحق سبحانه العلة في قوله: } إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ... { [هود: 46] بقوله: } إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ... { [هود: 46] حتى لا تذهب بنا الظنون في زوجة نبي الله، فالعلة أنه عمل غير صالح، وبنوة الأنبياء بُنوَّة عمل، لا بُنوَّة نَسَب.

ثم يقول الحق سبحانه: } فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ.... {.

(/3280)

فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)

أي: فأنجينا نوحاً عليه السلام { وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ... } [العنكبوت: 15] هم الذين يركبون معه فيها، فهم أصحابها، وقد صُنعت من أجلهم، لم يصنعها نوح لذاته، إنما صنعها لقومه الذين تعجَّبوا من صناعته لها وسَخروا منه واستهزأوا به، فهم أصحابها في الحقيقة، مَنْ آمن منهم ركب فيها، ومَنْ كفر أبى وأعرض، فكانت نهايته الغرق.

ونفهم من هذه القضية أن الحق سبحانه حينما يطلب من المؤمن شيئاً يعطيه لمَنْ لا يجد ذلك الشيء، سواء كان عِلْماً أو مالاً أو قدرة..إلخ افهم أنها حق له، وليستْ تفضلاً عليه، فلما صنع نوح السفينة جعلها الله من حق القوم فقال { وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ... } [العنكبوت: 15] فهي حقٌّ لهم، فليس المراد منها أن يصنعها مثلاً، ويُؤجرها لهم، لا بل هو يصنعها من أجلهم.

وكذلك قوله تعالى:{ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ }[المعارج: 24] وقد ورد هذا الحق في المال مرتين في القرآن الكريم، مرة{ حَقٌّ مَّعْلُومٌ }[المعارج: 24]، ومرة أخرى{ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ }[الذاريات: 19] دون أن يحدد مقداره، ودون أنْ يُوصف بالمعلومية.

وقد سمَّاهما الله حقاً، فالمعلوم هو الزكاة الواجبة في مقام الإيمان، وغير المعلوم هي الصدقة؛ لأنها لا تخضع لمقدار معين، بل هي حَسْب أريحية المؤمن وحُبه للطاعات، ودخوله في مقام الإحسان الذي قال الله فيه:{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ }[الذاريات: 15-19]وهذه الزيادة في العبادات دليل على عِشْق التكليف وحُبِّ الطاعة والثقة بأن الله تعالى ما كلَّفنا إلا بأقلّ مما يستحق سبحانه من العبادة؛ لذلك يقول العلماء: إياك أنْ تنتقل إلى هذا المقام وتُلزِم به نفسك، أو تجعله نَذْراً؛ لأنك إنْ فعلتَ صار في حقك فرضاً لا تستطيع أنْ تُنقِص منه.

إنما جعله لنشاطك ومقدرتك؛ لأنك إنْ تعوّدت على منهج وألزمت نفسك به ثم تراجعت، فكأنك تقول كلمة لا ينبغي أنْ تُقال، فكأنك - والعياذ بالله - جربت وُدّك لله فلم تجده - والعياذ بالله - أهلَ وُدٍّ فتركته.

إذن: فقوله سبحانه { وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ... } [العنكبوت: 15] يدلنا على أنها صُنِعَتْ بأمر الله من أجلهم، وبفراغ نوح من صناعتها كانت حقاً لهم، لا مِلْكاً له عليه السلام.

لكن كيف نفهم { وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ... } [العنكبوت: 15] وقد حمل فيها نوح - عليه السلام - من كُلٍّ زوجين اثنين؟ قالوا: الزوجان من غير البشر ليس لهما صُحْبة؛ لأنهما مملوكان لأصحاب الصُّحْبة.

وقوله سبحانه: { وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } [العنكبوت:15] أي: أمراً عجيباً لم يسبق له مثيل في حياة الناس، فقد صنعها نوح - عليه السلام - بوحي من ربه على غير مثال سابق، فوجه كَوْنها آية أن الله تعالى أعلمه وعلّمه صناعتها؛ لأن لها مهمة إيمانية عنده، فبها نجاة المؤمنين وغَرَق الكافرين، وهذه الآية { لِّلْعَالَمِينَ } [العنكبوت: 15] جميعاً.

ثم يذكر الحق سبحانه إبراهيم عليه السلام، فيقول: { وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ... }.

(/3281)

وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16)

الواو هنا لعطف الجمل، فالآية - معطوفة على{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً... }[العنكبوت: 14] إذن: فنوح وإبراهيم واقعتان مفعولاً به للفعل أرسلنا، وللسائل أنْ يسأل: لماذا لم تُنوَّن إبراهيم كما نُوِّنت نوح؟ لم تُنوَّن كلمة إبراهيم؛ لأنها اسم ممنوع من الصرف - أي من التنوين - لأنه اسم أعجمي.

ونلحظ في هذه المسألة أن جميع أسماء الأنبياء أسماء أعجمية تُمنع من الصرف، ما عدا الأسماء التي تبدأ بهذه الحروف (صن شمله) وهي على الترتيب: صالح، نوح، شعيب، محمد، لوط، هود. فهذه الأسماء مصروفة مُنوَّنة، عليهم جميعاً الصلاة والسلام.

والمعنى: { وَإِبْرَاهِيمَ... } [العنكبوت: 16] يعني: واذكر إبراهيم { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ... } [العنكبوت: 16] وقلنا: العبادة أنْ يطيع العابدُ المعبودَ في أوامره ونواهيه، إذن: لو جاء مَنْ يدَّعي الألوهية، وليس له أمر نؤديه، أو نهي نمتنع عنه فلا يصلح إلهاً.

لذلك كذب الذين قالوا:{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى... }[الزمر: 3] لأنهم ما عبدوا الأصنام إلا لأنها ليست لها أوامر ولا نواه، فألوهيتهم (منظرية) بلا تكليف، فأول الأدلة على بطلان عبادة هذه الآلهة المدَّعاة أنها آلهة بلا منهج.

ثم عطف الأمر { وَاتَّقُوهُ... } [العنكبوت: 16] على { اعْبُدُواْ... } [العنكبوت: 16] والتقوى من معانيها أنْ تطيع الأوامر، وتجتنب النواهي، فهي مرادفة للعبادة، لكن إنْ عطفت على العبادة فتعني: نفِّذوا الأمر لتتقوا غضب الله، اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال وقاية.

وسبق أنْ قلنا: إن لله تعالى صفات جلال: كالقهار، الجبار، المنتقم، المذلّ.. إلخ. وصفات جمال: كالغفار، الرحمن، الرحيم، التواب، وبالتقوى تنال متعلقات صفات الجمال، وتمنع نفسك وتحميها من متعلقات صفات الجلال.

وقوله تعالى: { ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [العنكبوت: 16] ذلكم، أي ما تقدَّم من الأمر بالعبادة والتقوى خير لكم، فإنْ لم تعلموا هذه القضية فلا خيرَ في علمكم، كما قال تعالى:{ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... }[الروم: 6-7].

فالعلم الحقيقي هو العلم بقضايا الآخرة، العلم بالأحكام وبالمنهج الذي يعطيك الخير الحقيقي طويل الأمد على خلاف علم الدنيا فإنْ نلتَ منه خيراً، فهو خير موقوت بعمرك فيها.

وسبق أنْ قُلْنا: إن العلم هو إدراك قضية كونية تستطيع أن تدلل عليها، وهذا يشمل كل معلومة في الحياة. أي: العلم المادي التجريبي وآثار هذا العلم في الدنيا، أما العلم السامي الأعلى فأنْ تعلم المراد من الله لك، وهذا للآخرة.

واقرأ في ذلك مثلاً قوله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ }

[فاطر: 27-28].

فذكر سبحانه علم النبات والجماد و{ وَمِنَ النَّاسِ.. }[فاطر: 28] أي: علم الإنسانيات{ وَالدَّوَآبِّ... }[فاطر: 28] علم الحيوان، وهكذا جمع كل الأنواع والأجناس، ثم قال سبحانه:{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ... }[فاطر: 28] مع أنه سبحانه لم يذكر هنا أيَّ حكم شرعي.

إذن: المراد هنا العلماء الذين يستنبطون قضية يقينية في الوجود، كهذه الاكتشافات التي تخدم حركة الحياة، وتدلُّ الناس على قدرة الله، وبديع صُنْعه تعالى، وتُذكِّرهم به سبحانه.

وتأمل في نفسك مثلاً وَضْع القصبة الهوائية بجوار البلعوم، وكيف أنك لو شرقت بنصف حبة أرز لا تستريح إلا بإخراجها، وتأمل، وَضْع اللهاة وكيف تعمل تلقائياً دون قَصْد منك أو تحكم فيها.

تأمل الأهداب في القصبة الهوائية، وكيف أنها تتحرك لأعلى تُخرج ما يدخل من الطعام لو اختلَّ توازن اللهاة، فلم تُحكِم سدَّ القصبة الهوائية أثناءَ البلع.

تأمل حين تكون جالساً مطمئناً لا يقلقك شيء، ثم في لحظة تجد نفسك محتاجاً لدورة المياه، ماذا حدث؟ ذلك لأن في مجرى الأمعاء ما يشبه (السقاطة) التي تُخرج الفضلات بقدر، فإذا زادتْ عما يمكن لك تحمله، فلا بُدَّ من قضاء الحاجة والتخلص من هذه الفضلات الزائدة.

تأمل الأنف وما فيه من شعيرات في مدخل الهواء ومُخَاط بالداخل، وأنها جُعلت هكذا لحكمة، فالشعيرات تحجز ما يعلَق بالهواء من الغبار، ثم يلتقط المخاط الغبارَ الدقيق الذي لا يعلق بالشعيرات ليدخل الهواء الرئتين نقياً صافياً، تأمل الأذن من الخارج وما فيها من تعاريج مختلفة الاتجاهات، لتصدَّ الهواء، وتمنعه من مواجهة فتحة الأذن.

والآيات في جسم الإنسان كثيرة وفوق الحَصْر، ولا سبيلَ إلى معرفتها إلا باستنباط العلماء لها، وكشفهم عنها، وهذا من نشاطات الذهن البشري، أما العلم الذي يخرج عن نطاق الذِّهْن البشري فهو نازل من أعلى، وهو قانون الصيانة الذي جعله الخالق سبحانه لحماية الخَلْق، فالذي يأخذ بالعلم الدنيوي التجريبي فقط يُحرَم من الخير الباقي؛ لأن قصارى ما يعطيك علم المادة في البشر أنْ يُرفه حياتك المادية، أمّا علم الآخرة فيُرفِّه حياتك الدنيا ويبقى لك في الآخرة.

إذن: فقوله تعالى: } ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ... { [العنكبوت: 16] أي: قانون الصيانة الرباني بافعل كذا ولا تفعل كذا، وإياك أنْ تنقل مدلول (افعل) في (لا تفعل) أو مدلول (لا تفعل) في (افعل)، وقد شبَّهنا هذا القانون (بالكتالوج) الذي يجعله الصانع لحماية الصنعة المادية لتؤدي مهمتها على أكمل وجه، كذلك منهج الله بالنسبة للخَلْق، فإنْ لم تعلموا هذه القضية فلن ينفعكم علم بعد ذلك.

يقول سبحانه:{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ }[الشورى: 20].

إذن: فالخير الباقي هو الخير في الآخرة.

ثم يقول الحق سبحانه: } إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً... {.

(/3282)

إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)

قوله تعالى: { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ... } [العنكبوت: 17] أي: على حَدِّ زعمهم، وعلى حَدِّ قولهم:{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى... }[الزمر: 3]، وإلا فلا عبادة لهذه الآلهة، حيث لا أمر عندهم ولا نهي ولا منهج، فعبادتهم إذن باطلة.

وهم يعبدون الأوثان من دون الله فإنْ ضُيِّق عليهم الخِنَاق قالوا:{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى... }[الزمر: 3] فهم بذلك مشركون، ومن لم يَقُلْ بهذا القول فهو كافر.

والوثن: ما نُصِب للتقديس من حجر، أياً كان نوعه: حجر جيري، أو جرانيت، أو مرمر. أو كان من معدن: ذهب أو فضة أو نحاس.. إلخ أو من خشب، وقد كان البعض منهم يصنعه من (العجوة)، فإنْ جاع أكله، وقد حَكَى هذا على سبيل التعجُّب سيدنا عمر رضي الله عنه.

وبأيِّ عقل أو منطق أنْ تذهب إلى الجبل وتستحسن منه حجراً فتنحته على صورة معينة، ثم تتخذه إلهاً تعبده من دون الله، وهو صَنْعة يدك، وإنْ أطاحتْ به الريح أقمتَه، وإنْ كسرته رُحْت تُصلح ما تكسَّر منه وتُرمِّمه، فأيُّ عقل يمكن أن يقبل هذا العمل؟

لذلك يخاطبهم القرآن:{ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ }[الصافات: 95] وكلما تقدَّم العالم تلاشتْ منه هذه الظاهرة؛ لأنها مسألة لم تَعُدْ تناسب العقل بأية حال.

ومعنى { وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً... } [العنكبوت: 17] أي: توجدون، والإيجاد يكون من عدم، فهم يًُوجدون من عدم، لكن أيُوجدون صِدْقاً؟ أم يُوجدون كذباً؟ إنهم يُوجدون { إِفْكاً... } [العنكبوت: 17] والإِفك تعمُّد الكذب الذي يقلب الحقائق، ومن ذلك قوله سبحانه:{ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىا }[النجم: 53] أي: القرى التي كفأها الله على نفسها.

وسبق أن أوضحنا أن الحقيقة هي القضية الصادقة التي توافق الواقع، فلو قُلْت مثلاً: محمد كريم، فلا بُدَّ أن هناك شخصاً اسمه محمد وله صفة الكرم، فإنِ اختلف الواقع فلم يوجد محمد أو وُجِد ولم تتوفر له صفة الكرم، فالقضية كاذبة لأنها مخالفة للواقع، هذا هو الإفك.

فالحق سبحانه لا يعيب عليهم الخَلْق؛ لأنه أثبت للعباد خَلْقاً، فقال سبحانه:{ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }[المؤمنون: 14].

والفَرْق أنك تخلق من موجود، أما الحق سبحانه فيخلق من العدم، فأنت تُوجِد الثوب من القطن مثلاً، وكوبَ الزجاج من الرمل، والمحراث من الحديد.. إلخ فأوجدت معدوماً عن موجود سابق، أما الخالق سبحانه فأوجد معدوماً عن لا موجود.

وسبق أنْ أوضحنا أن صَنْعة البشر تجمد على حالها، فالسكين مثلاً يظل سكيناً فلا يكبر، حتى يصير ساطوراً مثلاً، والكوب لا يلد لنا أكواباً أخرى. لكن خِلْقة الله سبحانه لها صفة النمو والحياة والتكاثر.. إلخ؛ لذلك أنصفك الله فوصفك بأنك خالق، لكن هو سبحانه أحسن الخالقين.

إذن: الحق سبحانه لا يعيب على هؤلاء أنهم يخلقون، إنما يعيب عليهم أنْ يخلقوا إفْكاً وكذباً.

ثم يقول سبحانه: } إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ... { [العنكبوت: 17] في موضع آخر بيَّن لهم الحق سبحانه أنهم يعبدون آلهة لا تضر ولا تنفع، وهنا يذكر مسألة مهمة هي استبقاء الحياة للإنسان بالقُوت الذي نسميه الرزق، فهذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله لا تملك لكم رزقاً، ولو امتنع عنكم المطر وأجدبت الأرض لمتُم من الجوع.

إذن: كان عليكم أنْ تتأملوا: من أين تأتي مقومات حياتكم، ومَنْ صاحب الفضل فيها، فتتوجَّهون إليه بالعبادة والطاعة، كما نقول في المثل (اللي ياكل لقمتي يسمع كلمتي) إنما أُطعمك وتسمع لغيري؟!!

والرزق هو الشُّغل الشاغل عند الناس، ففي أول الأمر كلنا يجتهد لنأكل ونشرب ونعيش، فلما تتحسَّن الأمور نرغب للمستقبل، فالموظف مثلاً يدخر لشهر، والزارع يدخل للعام كله.

ومن أعاجيب هذه المسألة أنك تجد الإنسان والفأر والنمل هم الوحيدون بين مخلوقات الله التي تدخر للمستقبل، أما بقية الحيوانات فتأخذ حاجتها من الطعام فقط، وتترك الباقي دون أنْ تهتمَّ بهذه المسألة، أو تُشغَل برزق غد أبداً، لا يأكل أكثر من طاقته، ولا يدخر شيئاً لغده.

لذلك يُذكِّر الله عباده بمسألة الرزق لأهميتها في حياتهم، ومن عجيب أمر الرزق أنه أعرَفُ بمكانك وعنوانك، منك بمكانة وعنوانه، فإنْ قُسِم لك الرزق جاءك بطرق عليك الباب، وإنْ حُرمت منه أعياك طلبه.

ومن أوضح الأمثلة على أن الرزق مقسوم مقدَّر من الله لكل منا أن المرأة حين تحمل يمتنع عنها الحيض الذي كان يأتيها بشكل دوريٍّ قبل الحمل، فأين ذهب هذا الدم؟ هذا الدم هو رزق الجنين في بطن أمه لا يأخذه ولا يستفيد به غيره حتى الأم.

فإنْ قُدِّر الجنين تحول هذا الدم إلى غذاء له خاصة، فإنْ لم يُقدَّر للأم أنْ تحمل نزل منها هذا الدم على صورة كريهة، لا بُدّ من التخلص منه؛ لأنه ضار بالأم إنْ بقي لا بُدَّ من نزوله، لأنه ليس رزقها هي، بل رزق ولدها في أحشائها، ولو لم يكُنْ هذا الدم رِزْقاً للجنين لكانت الأم تضعف كلما تكرَّرت لها عملية نزول الدم بهذه الصورة الدورية. إذن: لكل منا رِزْق لا يأخذه غيره.

لذلك يقول أحد الصالحين: عجبتُ لابن آدم يسعى فيما ضُمِن له ويترك ما طُلِب منه.

فربك قد ضمن لك رزقك فانظر إلى ما طُلِب منك، واشغل نفسك بمراد الله فيك؛ لذلك نتعجب من هؤلاء المتسولين الذين كنا نراهم مثلاً في مواسم الحج، وشرُّهم مَنْ يعرضون عاهاتهم وعاهات أبنائهم على الناس يتسولون بها، وكأنهم يشتكون الخالق للخَلْق، ويتبرَّمون بقضاء الله، والله تعالى لا يحب أن يشكوه عبده لخلقه.

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا بليتم فاستتروا "

ووالله لو ستر أصحاب البلاء بلاءهم، وقعدوا في بيوتهم لَساقَ الله إليهم أرزاقهم إلى أبوابهم.

إذن: الرزق مضمون من الله؛ لذلك يمتنُّ به على عباده وينفيه عن هذه الآلهة الباطلة } لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ... { [العنكبوت: 17] ثم يقول سبحانه: } وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ { [العنكبوت: 17] فإنْ لم تعبدوه لأنه يرزقكم ويطعمكم، فاعبدوه لأن مرجعكم إليه ووقوفكم بين يديه.

وكان يكفي أن نعمه عليكم مُقدَّمة على تكليفه لكم، لقد تركك تربع في نعمه دون أنْ يُكلِّفك شيئاً، إلى أنْ بلغتَ سِنَّ الرشد، وهي سِنُّ النُّضْج والبلوغ والقدرة على إنجاب مثلك، ثم بعد ذلك تقابل تكليفه لك بالجحود؟ إن عبادة الله وطاعته لو لم تكن إلا شُكْراً له سبحانه على ما قدَّمه لك لكانت واجبة عليك.

وقوله تعالى: } وَاشْكُرُواْ... { [العنكبوت: 17] لأن ربكم عز وجل يريد أن يزيدكم، فجعل الشكر على النعمة مفتاحاً لهذه الزيادة، فقال سبحانه:{ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ... }[إبراهيم: 7] فربُّك ينتظر منك كلمة الشكر، مجرد أن تستقبل النعمة بقولك الحمد لله فقد وجبت لك الزيادة.

حتى أن بعض العارفين يرى أن الحمد لا يكون على نِعَم الله التي لا تُعَدَّ ولا تُحصى فحسب، إنما يكون الحمد لله على أنه لا إله إلا الله، وإلا لو كان هناك إله آخر لَحِرْنا بينهما أيهما نتبع، فالوحدانية من أعظم نعم الواحد سبحانه التي تستوجب الشكر.

وقد أعطانا الحق سبحانه مثلاً لهذه المسألة بقوله سبحانه:{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ... }[الزمر: 29] يعني: مملوك لشركاء مختلفين، وليتهم متفقون{ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ... }[الزمر: 29] أي: مِلْك لسيد واحد{ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً... }[الزمر: 29] فكذلك الموحِّد لِلّه، والمشرك به.

ولذلك يقول بعض الصالحين في قوله تعالى:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ... }[البقرة: 172] فاللص الذي يأكل من الحرام يأكل رزقه، فهو رزقه لكنه من الحرام، ولو صبر على السرقة لأكله من الحلال ولسَاقه الله إليه.

فالمعنى أن الله خلقكم ورزقكم، ولا يعني هذا أنْ تُفلِتوا منه، فإنْ لم تُراعوا الجميل السابق فخافوا مما هو آتٍ.

(/3283)

وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)

قوله تعالى: { وَإِن تُكَذِّبُواْ... } [العنكبوت: 18] أي: ما قلنا لكم وما جاءكم به رسولنا؛ لأن تصديقه سيُدخلكم مدخل التكليف، ويحملكم مشقة المنهج، وسيُضيِّق عليكم منطقة الاختيار، والحق سبحانه قد شرَّفك حين أعطاك حرية الاختيار، في حين أن الكون كله لا اختيارَ له؛ لأنه تنازل عن اختياره لاختيار ربه.

كما قال سبحانه:{ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }[الأحزاب: 72].

فالكون كله مسخر يؤدي مهمته، كما يقول سبحانه:{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ... }[الإسراء: 44].

وقال سبحانه:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ... }[الحج: 18] فالقاعدة عامة، لا استثناء فيها، إلا عند الإنسان، فمنهم الطائع ومنهم العاصي.

فالمعنى: { وَإِن تُكَذِّبُواْ... } [العنكبوت: 18] فلستم بدعاً في التكذيب { فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ... } [العنكبوت: 18] لكن يجب عليكم أن تتنبهوا إلى ما صنع بالأمم المكذِّبة، وكيف كانت عاقبتهم، فاحذروا أنْ يُصيبكم ما أصابهم، هذه هي المسألة التي ينبغي عليكم التنبُّه لها.

وهنا وقف بعض المتمحكين يقول: كيف يقول القرآن في خطاب قوم إبراهيم { وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ... } [العنكبوت: 18] مع أنه لم يسبقهم إلا أمة واحدة هي أمة نوح عليه السلام؟ يظنون أنهم وجدوا مأخذاً على القرآن.

ونقول: نعم، كانت أمة نوح هي أمة الرسالة المقصودة بالإيمان، لكن جاء قبلها آدم وشيث وإدريس، وكانوا جميعاً في أمم سابقة على إبراهيم، أو نقول: لأن مدة بقاء نوح في قومه طالت حتى أخذت ألف سنة من عمر الزمان، وهذه الفترة تشمل قُرَابة العشرة أجيال، والجيل - كما قالوا - مائة سنة، كل منها أمة بذاتها.

ثم يقول تعالى: { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } [العنكبوت: 18] فمهمته مجرد البلاغ. يؤمن به مَنْ يؤمن، ويكفر مَنْ يكفر، الرسول لن نعطيه مكافأة أو عمولة على كل مَنْ يؤمن به، فإياكم أنْ تظنوا أنكم بكفركم تُقلِّلون من مكافأة النبي - خاصة وقد كانوا كارهين له - فالمعنى: عليَّ البلاغ فحسب، وقد بلَّغت فسآخذ جزائي وأجري من ربي، فأنتم لا تكيدونني بكفركم، بل تكيدون أنفسكم.

لذلك كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يحزن أشد الحزن، ويألم إنْ تفلَّت من يده واحد من أمته فكفر، حتى خاطبه ربه:{ لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ... }[البقرة: 272].

وخاطبه بقوله:{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ }[الشعراء: 3].

وحين نزل عليه صلى الله عليه وسلم:{ وَالضُّحَىا * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىا * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىا * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَىا * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىا }[الضحى: 1-5] انتهز النبي هذه الفرصة ودعا ربه: إذن لا أرضى وواحد من أمتي في النار؛ ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم مُحبٌّ لأمته، حريص عليهم، رؤوف رحيم بهم:{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }[التوبة: 128].

ووصف الحق سبحانه البلاغ بأنه مبين، أي: واضح ظاهر؛ لأن من البلاغ ما يكون مجرد عرض للمسألة دون تأكيد وإظهار للحجة التي تؤيد البلاغ.

ثم يقول الحق سبحانه: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ... }.

(/3284)

أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19)

الخطاب هنا مُوجَّه إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم: هؤلاء الذين كذبوا من قبل، وأنتم الذين تكذبون الآن، فأين عقولكم؟ لو استعملتم عقولكم في تأمل الكون الذي تعيشون فيه، والذي طرأتُم عليه، وقد أُعِدَّ لكم بكل مُقوِّمات حياتكم.

{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ... } [العنكبوت: 19] ويرى هنا بمعنى يعلم، كما في قوله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ }[الفيل: 1] أي: ألم تعلم؛ لأن رسول الله لم يَرَ حادثة الفيل، وعدل عن (تعلم) إلى (ترى) ليلفت أنظارنا إلى أن إخبار الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أوثق له من رؤيته بعينه.

ومن ذلك قول الصِّدِّيق أبي بكر لما سمع بحادث الإسراء والمعراج قال: " إنْ كان قال فقد صدق ".

والهمزة في { أَوَلَمْ يَرَوْاْ... } [العنكبوت: 19] استفهام للتقرير، كما تقول لولدك: ألم تَرَ إلى فلان الذي أهمل دروسه، تريد أنْ تنكر عليه أنْ يُهمل هو أيضاً، فتقرره بعاقبة الإهمال، وتدعه ينطقه بلسانه، فيقول لك: الذي أهمل دروسه رَسَب.

وكما تقول لمَنْ أنكر جميلك: ألم أُحسِن إليك بكذا وكذا، فيُقِر بها هو بدل أنْ تعددها له أنت، فهذا أبلغ في الاعتراف.

فساعة يأتي بعده الهمزة نَفْي يسمونه استفهاماً إنكارياً، تنكر ما هم عليه، وتريد أن تقررهم بما يقابله. والنفي بعد الإنكار نفي للنفي، ونفي النفي إثبات.

فالمعنى: أيكذبون ولم يَرَوْا ما حدث للأمم المكذِّبة من قبل؟ أيكذبون ولم يَروْا آيات الله، وقدرته شائعة في الوجود كله؟ لقد كان عليهم أن ينظروا نظرة اعتبار ليعلموا مَنْ خلق هذا الخَلْق، وإنك لو سألتهم: مَنْ خلق هذا الكون لا يجدون جواباً، ولا يملكون إلا أنْ يقولوا: الله، كما حكى القرآن:{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ... }[لقمان: 25].

لكن، كيف يُقِرُّون بهذه الحقيقة ويعترفون بها، مع أنهم كافرون بالله؟ قالوا: لأنها مسألة أظهر مَن أنْ ينكرها منكر، فكل صاحب صنعة مهما كانت ضئيلة يفخر بها وينسبها إلى نفسه، بل وينسب إلى نفسه ما لم يصنع، فما بالك بكَوْنِ أُعِدَّ بهذه الدقة وبهذه العظمة، ولم يدعه أحد لنفسه؟ والدعْوى تثبت لصاحبها ما لم يَقُمْ لها معارض.

لذلك قلنا: إن الحق سبحانه قبل أن يقول لا إله إلا أنا، وقبل أن يطلبها منا شهد بها لنفسه تعالى:{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ... }[آل عمران: 18]؛ لأن هذه الشهادة هي التي ستجعله يقول للشيء: كُنْ فيكون، ولو لم يكُنْ يؤمن بأنه إله ما قالها.

والحق سبحانه يقول: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ... } [العنكبوت: 19] كيف ونحن لم نَر الإعادة، فضلاً عن رؤيتنا للبدء؟

قالوا: نرى البدء والإعادة في مظاهر الوجود من حولنا، فنراها في الزرع مثلاً، وكيف أن الله تعالى يُحيي الأرض بالنبات، ثم يأتي وقت الحصاد فيحصد ويتناثر منه الحَبّ أو البذور التي تعيد الدورة من جديد.

والوردة تجد فيها رطوبة ونضارة وألواناً بديعة ورائحة زكية، فإذا قُطِفَتْ تبخَّر منها الماء، فجفَّتْ وتفتتت، وذهبت رائحتها في الجو، ثم تخلفها وردة أخرى جديدة، وهكذا.

انظر مثلاً إلى دورة الماء في الكون: هل زادتْ كمية الماء التي خلقها الله في الكون حين أعدَّه لحياة الإنسان منذ خلق آدم وحواء؟ الماء هو هو حتى الآن، مع ما حدث من زيادة في عدد السكان؛ لأن عناصر الكون هي هي منذ خلقها الله، لكن لها دورة تسير فيها بين بَدْء وإعادة.

واقرأ إن شئت قوله تعالى:{ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا... }[فصلت: 9-10].

فكأن قوت العالم من الزرع وغيره مُعَدٍّ من بَدْء الخليقة، وإلى أنْ تقوم الساعة لا يزيد، لكنه يدور في دورة طبيعية.

ثم يقول سبحانه: } إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ { [العنكبوت: 19] أيهما: الخَلْق أم الإعادة؟ أما الخلق فقد أقرُّوا به، ولا جدالَ فيه، إذن: فالكلام عن الإعادة، وهل الذي خلق من عدم يعجز عن إعادة ما خلق؟ الخَلْق الأول من عدم، أما الإعادة فمن موجود، فأيهما أهون في عُرْفكم وحسب منطقكم؟

لذلك يقول سبحانه:{ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ... }[الروم: 27] مع أن الحق سبحانه لا يُقال في حَقِّه: هذا هيِّن، وهذا أهون؛ لكنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.

ثم يخاطب الحق سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم: } قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ... {.

(/3285)

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)

السير: الانتقال من مكان إلى مكان، لكن نحن نسير في الأرض أم على الأرض؟ الحقيقة أننا كما قال سبحانه { قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ... } [العنكبوت: 20] أي: نسير فيها؛ لأن الغلاف الجوي المحيط بالأرض من الأرض، فبدونه لا تستقيم الحياة عليها، إذن: حين تسير تسير في الأرض فهي تحتك، وغلافها الجوي فوقك، فكأنك بداخلها.

والعلة في السير { فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ... } [العنكبوت: 20] وفي آية أخرى{ ثُمَّ انْظُرُواْ.. }[الأنعام: 11]؛ لأن السير من أرض لأخرى له دافعان: إما للسياحة والتأمل والاعتبار، وإما للتجارة والاستثمار، إنْ ضاق رزقك في بلادك. فقوله: { قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ... } [العنكبوت: 20] أي: نظر اعتبار وتأمل.

أما في{ ثُمَّ انْظُرُواْ.. }[الأنعام: 11] فثم تفيد العطف والتراخي، كأنه سبحانه يقول لنا: سيروا في الأرض للاستثمار، ثم انظروا نظرة التأمل والاعتبار، ولا مانع من الجمع بين الغرضين.

وتذكرون أن الحق سبحانه قال في السورة السابقة (القصص):{ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَىا مَعَادٍ... }[القصص: 85] والمراد بذلك الهجرة، وفي هذه السورة تأتي:{ ياعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ }[العنكبوت: 56].

والمعنى: إن ضاق رزقك في مكان فاطلبه في مكان آخر، أو: إنْ لم تكُنْ الآيات الظاهرة لك كافية لتشبع عندك الرغبة في الاعتبار والتأمل فسِرْ في الأرض، فسوف تجد فيها كثيراً من الآيات والعِبَر في اختلاف الأجناس والبيئات والثمار والأجواء.. إلخ.

لذلك يقول سبحانه:{ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا... }[النساء: 97].

فالأرض كلها لله لا حدودَ فيها، ولا فواصلَ بينها، فلما قسَّمها الناس وجعلوا لها حدوداً تمنع الحركة فيها حدثت كثير من الإشكالات، وصَعُبَ على الناس التنقل للسياحة أو لطلب الرزق إنْ ضاق بأحد رزقه.

وها هي السودان بجوارنا بها مساحات شاسعة من الأراضي الخِصْبة التي إنْ زُرِعت سدَّتْ حاجة العالم العربي كله، أنستطيع الذهاب لزراعتها؟ ساعتها سيقولون: جاءوا ليستعمرونا.

لذلك لما أتيح لي التحدث في هيئة الأمم قلت: إنه لا يمكن أنْ تُحلَّ قضايا العالم الراهنة إلا إذا طبَّقنا مبدأ الخالق - عز وجل - وعُدْنا إلى منهجه الذي وضعه لتنظيم حياتنا، وكيف نضع بيننا هذه الحدود الحديدية والأسلاك الشائكة، وربنا يقول:{ وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ }[الرحمن: 10].

فالأرض كلُّ الأرض للأنام كل الأنام، ويوم نحقق هذا المبدأ فلن يضيق الرزق بأحد، لأنه إنْ ضاقَ بك هنا طلبته هناك؛ لذلك أكثر الشكوى في عالم اليوم إمَّا من أرض بلا رجال، أو من رجال بلا أرض، فلماذا لا نُحِدث التكامل الذي أراده الله في كونه؟

إذن: فالسير هنا مترتب عليه الاعتبار { كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ... } [العنكبوت: 20] وما دُمْنا قد آمنا بأن الله تعالى هو الخالق بداية، فإعادة الخَلْق أهون، كما قال سبحانه:{ أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ... }[ق: 15] فيشكُّوا في الخَلْق الآخر؟ لذلك يؤكد الخالق سبحانه هذه القدرة بقوله:

{ إِنَّ اللَّهَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [العنكبوت: 20].

ثم يقول الحق سبحانه: { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ... }.

(/3286)

يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21)

لماذا بدأ الحق سبحانه هنا بذكر العذاب؟ في حين قدَّم المغفرة في آية أخرى:{ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ... }[المائدة: 18].

قالوا: لأن الكلام هنا عن المكذّبين المعرضين وعن الكافرين، فناسب أنْ يبدأ معهم بذكر العذاب { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ... } [العنكبوت: 21] فإنْ قُلْت: فلماذا يذكر الرحمة مع الكافرين بعد أنْ هدَّدهم بالعذاب؟ نقول: لأنه رب يهدد عباده أولاً بالعذاب ليرتدعوا وليؤمنوا، ثم يُلوِّح لهم برحمته سبحانه ليُرغِّبهم في طاعته ويلفتهم إلى الإيمان به.

وقد صَحَّ في الحديث القدسي: " رحمتي سبقت غضبي " ففي الوقت الذي يُهدِّد فيه بالعذاب يُلوِّح لعباده حتى الكافرين بأن رحمته تعالى سبقتْ غضبه.

وقوله سبحانه: { وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ } [العنكبوت: 21] أي: تُرجعون، وجاء بصيغة تقلبون الدالة على الغَصْب والانقياد عُنْوة ليقول لهم: مهما بلغ بكم الطغيان والجبروت والتعالي بنعم الله، فلا بُدَّ لكم من الرجوع إليه، والمثول بين يديْه، فتذكَّروا هذه المسألة جيداً، حيث لا مهربَ لكم منها؛ لذلك كان مناسباً أنْ يقول بعدها: { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ... }.

(/3287)

وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)

(معجزين): جمع معجز، وهو الذي يُعجز غيره، تقول: أعجزتُ فلاناً يعني: جعلته عاجزاً، والمعنى أنكم لن تفلتوا من الله، ولن تتأبَّوْا عليه، حين يريدكم للوقوف بين يديه، بل تأتون صاغرين.

ونلحظ هنا أن الحق سبحانه قال: { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ... } [العنكبوت: 22] ولم يقل مثلاً: لن تعجزوني حين أطلبكم؛ لأن نفيَ الفعل غير نفي الوصف، فحين تقول مثلاً: أنت لا تخيط لي ثوباً، فهذا يعني أنه يستطيع أنْ يخيط لك ثوباً لكنه لا يريد، فالقدرة موجودة لكن ينقصها الرضا بمزاولة الفعل، إنما حين تقول: أنت لستَ بخائط فقد نفيتَ عنه أصل المسألة.

لذلك لم ينْفِ عنهم الفعل حتى لا نتوهم إمكانية حدوثه منهم، فالهرب والإفلات من لقاء الله في الآخرة أمر غير وارد على الذِّهْن أصلاً، إنما نفي عنهم بالوصف من أساسه { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ... } [العنكبوت: 22].

ثم يقول سبحانه: { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } [العنكبوت: 22] حتى لا يقول قائل: إنْ كانوا هم غير معجزين، فقد يكون وراءهم مَنْ يعجز الله، أو وراءهم مَنْ يشفع لهم، أو يدافع عنهم، فنفى هذه أيضاً لأنه سبحانه لا يُعجزه أحد، ولا يُعجزه شيء.

لذلك يخاطبهم بقوله:{ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ }[الصافات: 25] أين الفتوات الأقوياء ينصرونكم؟

فنفى عنهم الولي، ونفى عنهم النصير؛ لأن هناك فَرْقاً بينهما: الوليّ هو الذي يقرب منك بمودة وحُبٍّ، وهذا يستطيع أنْ ينصرك لكن بالحُسْنى وبالسياسة، ويشفع لك إن احتجتَ إلى شفاعته، أمّا النصير فهو الذي ينصرك بالقوة و (الفتونة).

وهكذا نفى عنهم القدرة على الإعجاز، ونفى عنهم الولي والنصير، لكن ذكر { مِّن دُونِ اللَّهِ... } [العنكبوت: 22] يعني: من الممكن أن يكون لهم وليٌّ ونصير من الله تعالى، فإنْ أرادوا الولي الحق والنصير الحق فليؤمنوا بي، فأنا وليُّهم وأنا نصيرهم.

وكأنه سبحانه يقول لهم: إنْ تُبْتم ورجعتم عما كنتم فيه من الكفر واعتذرتم عما كان منكم، فأنا وليُّكم وأنا نصيركم.

وفي موضع آخر قال:{ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ }[العنكبوت: 25] ولم يقل من دون الله؛ لأن الموقف في الآخرة، والآخرة لا توبةَ فيها ولا اعتذار ولا رجوع، فقوله { مِّن دُونِ اللَّهِ... } [العنكبوت: 22] لا تكون إلا في الدنيا.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ... }.

(/3288)

وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)

فإنْ أصرَّ الكافر على كُفْره وعبادته للأصنام التي لا تنفع ولا تضر، ولم تُجْدِ معه موعظة ولا تذكير فلا ملجأ له ولا منفذ له إلى رحمة الله؛ لأنه عبد أولياء لا ينفعونه بشيء وكفر بي، فليس له مَنْ يحميه مني، ولا مَنْ ينصره من الأصنام التي عبدها، فليس له إلا اليأس.

واليأس: قَطْع الرجاء من الأمر، وقد قطع رجاء الكافرين؛ لأنهم عبدوا ما لا ينفع ولا يضر، وكفروا بمَنْ بيده النفع، وبيده الضُّر.

وقلنا: إن المراد بآيات الله إما الآيات الكونية التي تُثبت قدرة الله، وتلفت إلى حكمة الخالق - عز وجل - كالليل والنهار والشمس والقمر، أو آيات المعجزات التي تصاحب الرسل؛ ليؤيدهم الله بها ويُظهِر صِدْقهم في البلاغ عن الله؛ فكفروا بآيات القرآن الحاملة للأحكام.

وقد كفر هؤلاء بكل هذه الآيات، فلم يُصدِّقوا منها شيئاً، وما داموا قد كفروا بهذه الآيات، وكفروا أيضاً بلقاء الله في الآخرة؛ فرحمة الله بعيدة عنهم، وهم يائسون منها.

لذلك كانت عاقبتهم { وَأُوْلَـائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [العنكبوت: 23] ثم يقول الحق سبحانه: { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن... }.

(/3289)

فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)

كنا ننتظر منهم جواباً منطقياً، بعد أنْ دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وبيَّن لهم بطلان عبادة آلهتهم، وأنها لا تضر ولا تنفع، كان عليهم أن يجادلوه، وأن يدافعوا عن آلهتهم، وأن يُظهِروا حجتهم في عبادتهم.

إنما يأتي جوابهم دالاً على إفلاسهم { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ... } [العنكبوت: 24] أهذا جواب على ما قيل لكم؟ إنه مجرد هروب من المواجهة، وإفلاس في الحجة، إنه جواب مَنْ لم يجد جواباً، وليس لديه إلا التهديد والتلويح بالقوة وبالبطش، فهذه لغة مَنْ لا حجة عنده.

لكن، لماذا سمَّاه القرآن جواباً؟ قالوا: لأنهم لو لم يتكلموا بهذا الكلام لقيل عنهم أنهم لم يلتفتوا إلى كلام نبيهم ولم يأبهوا به، وأن كلامه لا وزنَ له، ولا يُرَد عليه، فإنْ كان كلامهم لا يُعَد جواباً فهو في صورة الجواب، وإنْ كان جواباً فاسداً.

وقولهم: { اقْتُلُوهُ... } [العنكبوت: 24] نعلم أن القتل هو هدم البنية هدماً يتبعه خروج الروح لأنها لا تجد بنية سليمة تسكنها، أما الموت فتخرج الروح أولاً، ثم تهدم البنية حين تتحلل في التراب، إذن: فهما سواء في أنهما هلاك.

وسبق أن أوضحنا هذه المسألة بلمبة الكهرباء التي تضيء، فالكهرباء لا توجد في اللمبة، إنما في شيء خارج عنها، لكن يظهر أثر الكهرباء في اللمبة إنْ كانت سليمة صالحة لإستقبال التيار، فإنْ كسرتها فلا تجد فيها أثراً للكهرباء ولا تضيء، وقد تمنع عنها الكهرباء وهي سليمة.

ثم قالوا { أَوْ حَرِّقُوهُ... } [العنكبوت: 24] وهل التحريق بعد القتل يُعَد ارتقاءً في العقوبة؟ لا شكَّ أن القتل أبلغ من التحريق، فقد يُحرق شخص، وتتم نجدته وإسعافه فلا يموت، فالقتل تأكيد للموت، أمّا التحريق فلا يعني بالضرورة الموت، فلماذا لم يقولوا فقد اقتلوه وتنتهي المسألة، أو يُصعدوا العقوبة فيقولوا: حرِّقوه أو اقتلوه؟

إنهم بدأوا بأقصى ما عندهم من عقوبة لشدة حَنَقهم عليه فقالوا { اقْتُلُوهُ... } [العنكبوت: 24] ثم تراءى لهم رأي آخر: ولماذا لا نحرقه بالنار، فربما يعود ويرجع عن دعوته حينما يجد ألم التحريق، وهذا يُعَد كسباً لهم، وتُحسَب الجولة لصالحهم.

لكن مَن الذي قال { اقْتُلُوهُ... } [العنكبوت: 24]؟ من الآمر بالقتل، ومَنِ المأمور؟ لقد اتفقوا جميعاً على قتله، فالآمر والمأمور سواء، وهذا واضح من الآية: { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ... } [العنكبوت: 24] فالقوم جميعاً تواطئوا على هذه المسألة. أو أن الآمر هم رؤساء القوم وكبارهم الذين يأتمر الناس بأمرهم، أما التنفيذ فمهمة الأتباع.

ونحن نرى ثورة الجمهور وانفعاله حينما تقع جريمة مثلاً، فالكل يغضب ويقول: اقتلوه، اسجنون، فكلهم قائل، وكلهم مقول له.

ثم يقول سبحانه { فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ.

.. { [العنكبوت: 24] وهنا يعترض الفلاسفة: كيف والنار من طبيعتها الإحراق؟ كيف يتخلف هذا القانون؟ لكن كيف معجزة إنْ لم تأْتِ على هذه الصورة؟

إن الحق سبحانه خلق الخَلْق وجعل فيه نواميس تفعل فعلها وتؤدي مهمتها تلقائياً، فالأرض مثلاً حينما تحرثها، وتلقي فيها الحَبَّ، ثم ترويها، الناموس أن تنبت، وحتى لا يظن ظانٌّ أن الكون إنما يسير على وَفْق هذه النواميس، لا وَفْقَ قدرة الله نجد أنه سبحانه يخرق هذه النواميس ليثبت لنا قيوميته على خَلْقه وطلاقة قدرته فيه.

لذلك إن لم يكُنْ لك رزق في حرثك هذا، فلا ينبت النبات، أو ينبت ثم تصيبه آفة أو إعصار فيُهلكه قبل استوائه. إذن: فالمسألة قيومية لله تعالى وليست (ميكانيكا).

وقد خرق الله نواميس الكون لموسى - عليه السلام - حينما ضرب البحر، فصار كل فِرْق كالطَّوْد العظيم، وتحولت سيولة الماء إلى جبل صلب. وخرق نواميس الكون لإبراهيم حينما قال للنار:{ قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَىا إِبْرَاهِيمَ }[الأنبياء: 69].

وخرق النواميس ليثبت الإعجاز، وليثبت أن يد الله تعالى لا تزال مسيطرة على مُلْكه سبحانه، لا أنه خلق النواميس وتركها تعمل في الكون دون تدخُّل منه سبحانه كما يقول الفلاسفة، فالحق سبحانه خلق النواميس لتفعل، ولكن قيوميته تعالى وقدرته تُعطِّل النواميس.

} فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ { [العنكبوت: 24] ونذكر في قصة السفينة أن الله تعالى قال عنها:{ وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ }[العنكبوت: 15] آية وهنا قال } لآيَاتٍ... { [العنكبوت: 24] وهناك قال{ لِّلْعَالَمِينَ }[العنكبوت: 15] وهنا قال: } لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ { [العنكبوت: 24] فالاختلاف إذن بين السياقين في أمرين:

قال في السفينة{ آيَةً... }[العنكبوت: 15] لأن العجيب في أمر السفينة ليس في صناعتها، فمَنَ رآها يمكن أنْ يصنع مثلها، إنما الآية فيها أن الله تعالى أعلمه بها قبل الحاجة إليها، ثم منع عنها الزوابع والأعاصير أن تلعب بها وتُغرق ركابها.

أمّا في مسألة الإحراق فعجائب كثيرة وآيات شتى، فكان من الممكن ألاَّ يمكنهم الله منه، وكان من الممكن بعد أن أمسكوا به وألقوه في النار أنْ يُنزل الله مطراً يطفيء نارهم وينجو إبراهيم، أو يسخر له من القوم أهل رأفة ورحمة ينقذونه من الإلقاء في النار.

لكن لم يحدث شيء من هذا، حيث أمكنهم الله منه حتى ألقوه في النار وهي مشتعلة، وهو مُوثق بالحبال، ومع ذلك لم تُصِبه النار بسوء، وظهرتْ الآيات بينات واضحات أمام أعين الجميع.

الأمر الآخر: قال هناك{ لِّلْعَالَمِينَ }[العنكبوت: 15] لأن السفينة حينما رسَتْ ونجا ركابها ظلَّتْ باقية في مكانها يراها الناس جميعاً ويتأملونها، فقد كان لها أثر باقٍ قائم مُشَاهد.

أمّا في مسألة إبراهيم - عليه السلام - فقال } لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ { [العنكبوت: 24] لأن نجاة إبراهيم - عليه السلام - كانت عبرة لمن شاهدها فقط، ونحن نؤمن بها لأن الله أخبرنا بها، ونحن مؤمنون بالله، فهي آيات للمؤمنين بالله لا للعالمين.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً... {.

(/3290)

وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)

المعنى: إنْ كنتم لم تؤمنوا بالآيات الكونية الدالة على قدرة الله، ولم تؤمنوا بالمعجزة التي رأيتموها حين نجاني ربي من النار، وكان عليكم أنْ تؤمنوا بأنه لا يقدر على ذلك إلا الله، فلماذا إصراركم على الكفر؟

فلا بُدَّ أنكم كفرتم بالله وعبدتم الأصنام، لا لأنكم مقتنعون بعبادتها، ولا لأنها تستحق العبادة، إنما عبدتموها { مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... } [العنكبوت: 25] يعني: نفاقاً ينافق به بعضكم بعضاً ومجاملة؛ لأنكم رأيتم رؤوس القوم فيكم يعبدونها فقلَّدتموهم دون اقتناع منكم بما تعبدون، أو مودةً لآبائكم الأولين، وسَيْراً على نهجهم، كما حكى القرآن:{ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىا أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىا آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ }[الزخرف: 23].

وفي آية أخرى{ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ... }[المائدة: 104].

لكن هذه المودة وهذه المجاملة وهذا النفاق عمرها (الحياة الدنيا) فحسب، وفي الآخرة ستتقطع بينكم هذه المودات:{ الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ... }[الزخرف: 67] يعني: ستنقلب هذه المودة وهذه المجاملة إلى عداوة، بل وإلى معركة حكاها القرآن:{ رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا... }[فصلت: 29].

وقال:{ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ }[البقرة: 166].

ويقرر هنا أيضاً هذه الحقيقة: { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } [العنكبوت: 25] ذلك لأن المقدمات التي سبقتْ كانت تقتضي أنْ يؤمنوا، فما كان منهم إلا الإصرار على الكفر.

وفي الوقت الذي تنقلب فيه مودة الكافرين عداوة تنقلب عداوة المؤمنين الذين تعاونوا على الطاعة إلى حُبٍّ ومودة، فيقول المؤمن لأخيه الذي جَرَّه إلى الطاعة وحمله عليها - على كُرْه منه وضيق - جزاك الله خيراً لقد أنقذتني.

ولا ينتهي الأمر عند هذه العقوبة التي يُوقعونها بأنفسهم من التبرؤ واللعن، بل ينصرفون إلى عقوبة أشدّ { وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } [العنكبوت: 25] ونلحظ هنا أن الحق سبحانه لم يقُلْ: وما لكم من دون الله؛ لأن الكلام في الآخرة حيث لا توبةَ لهم ولا رجوعَ، فقد انتفى أن يكون لهم ولي أو نصير من الله.

كذلك لا ناصرَ لهم من أوليائهم الذين عبدوهم من دون الله حيث يطلبون النُّصْرة من أحجار وأصنام، لا تنطق ولا تجيب.

وهكذا تنتهي هذه اللقطة السريعة من قصة سيدنا إبراهيم - عليه السلام - وله تاريخ طويل، وهو شيخ المرسلين وأبو الأنبياء، وإنْ أردتَ أن تحكي قصته لأخذتْ منك وقتاً طويلاً، ويكفي أن الله تعالى قال عنه:{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً... }[النحل: 120].

ثم يقول الحق سبحانه: { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ.... }.

(/3291)

فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)

أي: أن قوم إبراهيم - عليه السلام - ظلوا على كفرهم، والذي آمن به لوط - عليه السلام - وكان ابن أخيه، وكانوا في العراق، ثم سينتقلون بعد ذلك إلى الشام.

وكلمة { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ... } [العنكبوت: 26] حين نتتبع كلمة آمن في القرآن الكريم نجد أنها تدور حول الأمن والطمأنينة والراحة والهدوء، لكنها تختلف في المدلولات حسب اختلاف موقعها الإعرابي، فهنا { فَآمَنَ لَهُ... } [العنكبوت: 26] وهل يؤمن لوط لإبراهيم؟ والإيمان كما نقول يؤمن بالله فما دام السياق { فَآمَنَ لَهُ... } [العنكبوت: 26] فلا بُد أن المعنى مختلف، ولا يقصد هنا الإيمان بالله.

ومعنى (آمن) هنا كما في قوله تعالى عن قريش:{ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ }[قريش: 4] فالفعل هنا مُتعدٍّ، فالذي آمن الله، آمن قريشاً من الخوف. وكذلك في قوله تعالى:{ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ... }[يوسف: 64] ومعنى { فَآمَنَ لَهُ... } [العنكبوت: 26] أي: صدقه.

ومنه قوله تعالى:{ وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ }[يوسف: 17] أي: بمصدِّق، أما آمنت بالله: اعتقدت وجوده بصفات الكمال المطلق فيه سبحانه.

ولوط لا يصدق بإبراهيم، إلا إذا كان مؤمناً بإله أرسله، فكأنه آمن بالله ثم صدَّقه فيما جاء به وقصة لوط عليه السلام لها موضع آخر فُصِّلَت فيه، إنما جاء ذكره هنا؛ لأنه حصيلة الصفقة الجدلية والجهادية بين إبراهيم وقومه، فبعد أنْ دعاهم إلى الله ما آمن له إلا لوط ابن أخيه.

وأذكر أن الشيخ موسى - رحمه الله عليه - وكان يُدرس لنا التفسير، وجاءت قصة لوط عليه السلام فقلت له: لماذا ننسب رذيلة قوم لوط إليه فنقول: لوطي. وما جاء لوط إلا ليحارب هذه الرذيلة ويقضي عليها؟

فقال الشيخ: فماذا نقول عنها إذن؟ قلت: إن اللغة العربية واسعة الاشتقاق، فمثلاً عند النسب إلى عبد الأشهل قالوا: أشهلي، ولعبد العزيز قالوا: عبدزي، ولبختنصر قالوا: بختي، والآن نقول في النسب إلى دار العلوم دَرْعمي... إلخ فلماذا لا نتبع هذه الطريقة؟ فنأخذ القاف المفتوحة، والواو الساكنة من قوم، ونأخذ الطاء من لوط، ثم ياء النسب فنقول (قوْطي) ونُجنِّب نبي الله لوطاً عليه السلام أن ننسب إليه ما لا يليق أن يُنسب إليه.

وقد حضرت احتفالاً لتكريم طه حسين، فكان مما قلته في تكريمه: (لك في العلم مبدأ طَحَسْني)؛ لأنه كثيراً ما نجد بين العلماء اسم طه، واسم حسين.

إذن: فقوله تعالى { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ... } [العنكبوت: 26] جاءت جملة اعتراضية في قصة إبراهيم عليه السلام؛ لأنه المحصلة النهائية لدعوة إبراهيم في قومه؛ لذلك يعود السياق مرة أخرى إلى إبراهيم { وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىا رَبِّي... } [العنكبوت: 26] أي: منصرف عن هذا المكان؛ لأنه غير صالح لاستتباب الدعوة.

ومادة هجر وما يُشتق منها تدلُّ على ترْك شيء إلى شيء آخر، لكن هَجَرَ تعني أن سبب الهَجْر منك وبرغبتك، إنما هاجر فيها مفاعلة مثل شارك وقاتل، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يهجر مكة، إنما هاجر منها إلى المدينة.

وهذا يعني أنه لم يهاجر برغبته، إنما آذاه قومه واضطروه للخروج من بلده، إذن: فلهم دَخْل في الهجرة، وهم طرف ثَانٍ فيها.

لذلك يقول المتنبي:إذَا ترحّلْتَ عَنْ قوْمٍ وقَدْ قَدَرُوا أَلاَّ تُفارِقَهُم فالرَّاحِلُونَ هُمُوومن دقة الأداء القرآني في هذه المسألة أنْ يسمي نقلة رسول الله من مكة إلى المدينة هجرة من الثلاثي، ولا يقول مهاجرة؛ لأنه ساعة يهاجر يكره المكان الذي تركه، لكن هنا قال في الفعل: هاجر. وفي الاسم قال: هجرة ولم يقل مهاجرة.

وسبق أنْ ذكرنا أن هجرة المؤمنين الأولى إلى الحبشة كانت هجرة لدار أمن فحسب، لا دار الإيمان، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما وجَّههم إلى الحبشة بالذات قال: " لأن فيها ملكاً لا يُظْلم عنده أحد ".

وكأنه صلى الله عليه وسلم بُسِطت له خريطة الأرض كلها، فاختار منها هذه البقعة؛ لأنه قد تبيَّن له أنها دار أمن لمن آمن من صحابته، أمّا الهجرة إلى المدينة فكانت هجرة إلى دار إيمان، بدليل ما رأيناه من مواقف الأنصار مع المهاجرين.

وهنا يقول إبراهيم عليه السلام: } إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىا رَبِّي... { [العنكبوت: 26] فالمكان إذن غير مقصود له، إنما وجهة ربي هي المقصودة، وإلا فَلَك أن تقول: كيف تهاجر إلى ربك، وربك في كل مكان هنا وهناك؟

فالمعنى: مهاجر امتثالاً لأمر ربي ومتوجه وجهة هو آمر بها؛ لأنه من الممكن أن تنتقل من مكان إلى مكان بأمر رئيسك مثلاً، وقد كانت لك رغبة في الانتقال إلى هذا المكان فترحب بالموضوع؛ لأنه حقق رغبة في نفسك، فأنت - إذن - لا تذهب لأمر صدر لك، إنما لرغبة عندك.

لذلك جاء في الحديث: " فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَنْ كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ".

فالمعنى } إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىا رَبِّي... { [العنكبوت: 26] يعني: ليس الانتقال على رغبتي وحَسْب هواي، إنما حسب الوجهة التي يُوجِّهني إليها ربي. وأذكر أنه كان لهذه المسألة واقع في تاريخنا، وكنا جماعة من سبعين رجلاً، وقد صدر منا أمر لا يناسب رئيسنا، فأصدر قراراً بنقلنا جميعاً وشتَّتنا من أماكننا، فذهبنا عند التنفيذ نستعطفه عَلَّه يرجع في قراره، لكنه صمم عليه، وقال: كيف أكون رئيساً ولا أستطيع إنفاذ أمري على المرؤوسين؟

فقال له أحدنا وكان جريئاً: سنذهب إلى حيث شئتَ، لكن اعلموا أنكم لن تذهبوا بنا إلى مكان ليس فيه الله.

وكانت هذه كلمة الحق التي هزَّتْ الرجل، وأعادت إليه صوابه، فالحق له صَوْلة، وفعلاً سارت الأمور كما نريد، وتنازل الرئيس عن قراره.

فمعنى: } مُهَاجِرٌ إِلَىا رَبِّي... { [العنكبوت: 26] أن ربي هو الذي يُوجِّهني، وهو سبحانه في كل مكان. يؤيد ذلك قوله سبحانه:{ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.. }[البقرة: 115] وكأن الحق سبحانه يقول لنا: اعلموا أنني ما وجَّهتكم في صلاتكم إلى الكعبة إلا لأؤكد هذا المعنى: لأنك تتجه إليها من أي مكان كنت، ومن أية جهة فحيثما توجهتَ فهي قبلتُك.

ثم يقول: } إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ { [العنكبوت: 26] اختار الخليل إبراهيم - عليه السلام - من صفات ربه } الْعَزِيزُ { [العنكبوت: 26] أي: الذي لا يُغلب وهو يَغْلب. وهذه الصفة تناسب ما كان من محاولة إحراقه، وكأنه يقول للقوم: أنا ذاهب إلى حضن مَنْ لا يُغْلب.

و } الْحَكِيمُ { [العنكبوت: 26] أي: في تصرفاته، فلا بُدَّ أنه سبحانه سينقلني إلى مكان يناسب دعوتي، وأناس يستحقون هذه الدعوة بما لديهم من آذان صاغية للحق، وقلوب وأفئدة متشوقة إليه، وتنتظر كلمة الحق التي أعرضتم أنتم عنها.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ... {.

(/3292)

وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)

وجاء وقت الجزاء لينال إبراهيم - عليه السلام - من ربه جزاء صبره على الابتلاء، وثباته على الإيمان، ألم يقُلْ لجبريل لما جاءه يعرض عليه المساعدة وهو في طريقه إلى النار: يا إبراهيم، ألك حاجة؟ فيقول إبراهيم: أما إليك فلا. لذلك يجازيه ربه، ويخرق له النواميس، ويواليه بالنعم والآلاء، حتى مدحه سبحانه بقوله:{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ... }[النحل: 120].

وكان عليه السلام رجلاً خاملاً في القوم، بدليل قولهم عنه لما حَطّم أصنامهم:{ قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ }[الأنبياء: 60] فهو غير مشهور بينهم، مُهْمَل الذكر، لا يعرفه أحد، فلما والى الله والاه قال: لأجعلنك خليل الله وشيخ المرسلين ولأُجرينَّ ذِكْرك، بعد أنْ كنت مغموراً على كل لسان، وها نحن نذكره عليه السلام في التشهد في كل صلاة.

واقرأ قول إبراهيم في دعائه لربه؛ ليؤكد هذا المعنى:{ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ }[الشعراء: 84] وكأنه يقول: يا رب إن قومي يستقلونني، فاجعل لي ذِكْراً عندك.

ومعلوم أن للتناسل والتكاثر نواميسَ، فلما أنْ أنجبت السيدة هاجر إسماعيل - عليه السلام - غضبت الحرة سارة: كيف تنجب هاجر وهي الأَمَة وتتميز عليها، لكن كيف السبيل إلى الإنجاب وسِنُّها تسعون سنة، وسِنّ إبراهيم حينئذٍ مائة؟

قانون الطبيعة ونواميس الخَلْق تقول لا إنجاب في هذه السن، لكن سأخرق لك القانون، وأجعلك تُنجب هبة من عندي { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ... } [العنكبوت: 27] ثم { وَيَعْقُوبَ... } [العنكبوت: 27].

وفي آية أخرى قال:{ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً... }[الأنبياء: 72].

أي: زيادة، لأنه صبر على ذَبْح إسماعيل، فقال له ربه: ارفع يدك فقد أديتَ ما عليك، ونجحت في الامتحان، فسوف أفديه لك، بل وأهبك أخاً له، وسأعطيك من ذريته يعقوب.

وسأجعلهم فَضْلاً عن ذلك رسلاً { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ... } [العنكبوت: 27] لذلك حين نستقريء موكب الأنبياء نجد جمهرتهم من ذرية إبراهيم عليه السلام كل من جاء بعده من ذريته.

والذرية المذكورة هنا يُرَاد بها إسحق ويعقوب، وهما المُوهبَان من سارة، أمّا إسماعيل فجاء بالقانون العام الطبيعي الذي يشترك فيه إبراهيم وغيره.

وكأن الحق - سبحانه وتعالى - في هذه المسألة يُدلِّل على طلاقة القدرة بأسباب تظهر فيها قدرة المسبِّب، فيقول لإبراهيم: إن كان قومك قد كفروا بك ولم يؤمنوا، فسأهبُكَ ذرية ليست مؤمنة مهدية فحسب، إنما هادية للناس جميعاً.

وإذا كانت ذرية إسحق ويعقوب قد أخذتْ أربعة آلاف سنة من موكب النبوات، فقد جاء من ذرية إسماعيل خاتم الأنبياء وإمام المتقين محمد صلى الله عليه وسلم، وستظل رسالته باقية خالدة إلى يوم القيامة، فالرسل من ذرية إسحق كانوا متفرقين في الأمم، ولهم أزمنة محددة، أما رسالة محمد فعامة للزمان وللمكان، لا معقِّبَ له برسول بعده إلى يوم القيامة.

وقوله تعالى: } وَالْكِتَابَ... { [العنكبوت: 27] أي: الكتب التي نزلتْ على الأنبياء من ذريته، وهي: القرآن والإنجيل والتوراة والزبور.

ثم يقول سبحانه: } وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا... { [العنكبوت: 27] قالوا: إنه كان خامل الذّكْر فنبغ شأنه وعلا ذكْره، وكان فقيراً، فأغناه الله حتى حدَّث المحدِّثون عنه في السِّيَر أنه كان يملك من الماشية ما يسأم الإنسان أنْ يَعدَّها، وكان له من كلاب الحراسة اثنا عشر كلباً.. إلخ وهذا أجره في الدنيا فقط.

} وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ { [العنكبوت: 27] يعني: لن نقول له أذهبت طيباتك في حياتك الدنيا، بل هو في الآخرة من الصالحين، وهذا مُتمنَّى الأنبياء. إذن: فأجْره في الدنيا لم يُنقص من أجره في الآخرة.

لكن، لماذا وصف الله نبيه إبراهيم في الآخرة بأنه من الصالحين؟ قالوا: لأن إبراهيم أُثِر عنه ثلاث كلمات يسميها المتصيِّدون للأخطاء، ثلاث كذبات أو ذنوب: الأولى قوله لملك مصر لما سأله عن سارة قال: أختي، والثانية لما قال لقومه حينما دَعَوْه للخروج معهم لعيدهم: إني سقيم. والثالثة قوله:{ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـاذَا... }[الأنبياء: 63] أي: عندما حطَّم الأصنام.

ويقول هؤلاء المتصيدون: إنها أقوال منافية لعصمة الأنبياء. لكن ما قولكم إنْ كان صاحب الأمر والحكم شهد له بالصلاح في الآخرة؟

ثم إن المتأمل في هذه الأقوال يجدها من قبيل المعاريض التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: " إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب " فقوله عن سارة: إنها أختي، هي فعلاً أخته في الإيمان، وربما لو قال زوجتي لقتله الملك ليتزوجها هو.

أما قوله{ إِنِّي سَقِيمٌ... }[الصافات: 89] فهو اعتذار عن مشهد كافر لا ينبغي للمؤمن حضوره، كما أن السِّقْم يكون للبدن، ويكون للقلب فيحتمل أن يكون قصده سقيم القلب لما يراه من كفر القوم.

وقوله{ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـاذَا... }[الأنبياء: 63] أراد به إظهار الحجة وإقامة الدليل على بطلان عبادة الأصنام، فأراد أنْ يُنطقهم هم بما يريد أن يقوله؛ ليقررهم بأنها أصنام لا تضر ولا تنفع ولا تتحرك.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ... {.

(/3293)

وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28)

هنا ينتقل السياق من قصة إبراهيم لقصة ابن أخيه لوط، ونلحظ أن القرآن في الكلام عن نوح وإبراهيم ولوط بدأ الحديث بذكره أولاً، وعادة القرآن حينما يتكلم عن الرسل يذكر القوم أولاً، كما قال تعالى:{ وَإِلَىا عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً... }[الأعراف: 65]،{ وَإِلَىا ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً... }[الأعراف: 73]،{ وَإِلَىا مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً... }[الأعراف: 85].

قالوا: لأن قوم نوح، وقوم إبراهيم، وقوم لوط لم يكُنْ لهم اسم معروف، فذكر أنبياءهم أولاً، أمَّا عاد وثمود ومدين فأسماء لأناس معروفين، ولهم قرى معروفة، فالأصل أن القوم هم المقصودون بالرسالة والهداية؛ لذلك يُذكَرون أولاً فهم الأصل في الرسالة، أما الرسول فليستْ الرسالة وظيفة يجعلها الله لواحد من الناس.

{ وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ } [العنكبوت: 28] وسمى خسيسة قومه فاحشة؛ لذلك قال العلماء في عقوبتها: يصير عليها ما يصير على الفاحشة من الجزاء؛ لأن الحق سبحانه سمى الزنا فاحشة فقال{ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً... }[النساء: 22] والزنا شُرِع له الرجم، وكذلك يكون جزاء مَنْ يفعل فِعلْة قوم لوط الرجم.

وقوله: { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ } [العنكبوت: 28] لا يعني هذا أن أحداُ لم يفعلها قبلهم، لكنها إنْ فُعِلت فهي فردية، ليست وباءً منتشراً كما في هؤلاء.

(/3294)

أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)

قوله: { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ... } [العنكبوت: 29] دلالة على انحراف الغريزة الجنسية عندهم، والغريزة الجنسية جعلها الله في الإنسان لبقاء النوع، فالحكمة منها التناسل، والتناسل لا يكون إلا بين ذكر وأنثى، حيث تستقبل الأُنثى الحيوان المنوي الذكَري الذي تحتضنه البويضة الأنثوية، وتعلق في جدار الرحم وتكوّن الجنين؛ لذلك سمَّي الله تعالى المرأة حَرْثاً؛ لأنها مكان الاستنبات، وشَرْط في إتيان المرأة أن يكون في مكان الاستنبات.

لذلك، فالجماعة الذين كانوا ينادون بتشريع للمرأة يسمح للرجل بأن يأتيها كيفما يشاء، احتجوا بقوله تعالى:{ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىا شِئْتُمْ... }[البقرة: 223].

ونقول لهؤلاء: لقد أخطأتم في فَهْم الآية، فالحَرْث هو الزرع المستنبت من الأرض، فمعنى{ أَنَّىا شِئْتُمْ... }[البقرة: 223] أي: أنهم حرث، إذن: فاحتجاجهم باطل، وبطلانه يأتي من عدم فهمهم لمعنى الحرث، وعليه يكون المعنى ائتوهن على أيِّ وجه من الوجوه شريطة أن يكون في مكان الحَرْث.

ولحكمة ربط الحق سبحانه بقاء النوع بالغريزة الجنسية، وجعل لها لذة ومتَعة تفوق أيَّ لذة أخرى في الحياة، فمثلاً أنت ترى المنظر الجميل فتُسَرُّ به عينك، وتسمع الصوت العَذْب فتسعد به أذنك... إلخ فكل منافذ الإدراك لديك لها أشياء تمتعها.

لكن بأيِّ هذه الحواس تُدْرَك اللذة الجنسية؟ وأيّ ملكة فيك تُسَرُّ منها؟ كلُّ الحواس وكُلُّ الملكات تستمتع بها؛ لذلك لا يستطيع الإنسان مقاومتها، حتى قالوا: إنها اللحظة الوحيدة التي يمكن للإنسان فيها أنْ يغفل عن ربه؛ لذلك أمرنا بعدها بالاغتسال.

ولولا أن الخالق - عز وجل - ربط مسألة بقاء النوع بهذه اللذة لَزهد فيها كثير من الناس، لما لها من تبعات ومسئوليات ومشاكل، لا بُدَّ منها في تربية الأولاد.

وسبق أن ذكرنا الحكمة القائلة: " جَدَع الحلال أنفَ الغيرة " فالرجل يغَار على ابنته مثلاً، ولا يقبل مجرد نظر الغرباء إليها، ويثور إذا تعرَّض لها أحد، فإذا جاءه الشاب يطرق بابه ليخطب ابنته رحَّب به، واستقبله أهل البيت بالزغاريد وعلى الرَّحْب والسعة، فسقوا (الشربات) وأقاموا الزينات، فما الفرق بين الحالين؟ في الأولى كان دمه يغلي، والآن تنزل كلمات الله في عقد القرآن على قلبه بَرْداً وسلاماً.

أما خسيسة قوم لوط { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ... } [العنكبوت: 29] فهي انحراف عن الطبيعة السَّوية لا بقاءَ فيها للنوع، ومثلها إتيان المرأة في غير مكان الحرث.

وقوله تعالى: { وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ... } [العنكبوت: 29] أي: تقطعون الطريق على بقاء النوع؛ لأن الزنا وإنْ جاء بالولد فإنه لا يُوفر له البقاء الكريم الشريف في المجتمع. فالحق سبحانه جعل لبقاء النوع طريقاً واحداً، فلا تسلك غير هذا الطريق، لا مع رجل ولا مع امرأة.

والسبيل كلمة مطلقة وتعني الطريق، سواء كان الطريق المادي أي: الشارع الذي نمشي فيه أو: المعنوي وهو الطريقة التي نسير عليها، ومنها قوله تعالى:

{ قُلْ هَـاذِهِ سَبِيلِي... }[يوسف: 108] أي: طريقي ومنهجي؛ لذلك السبيل القيمي سبيل واحد، حتى لا نتصادم ولا نتخاصم في حركة الحياة المعنوية، أمّا السبيل المادي فمتعدد حتى لا نتزاحم في حركة الحياة المادية.

والسبيل المادي (الطريق) الذي نسير فيه يُعَدُّ سمة الحضارة في أي أُمة، ونذكر أن هتلر قبل أن يدخل الحرب سنة 1939 جعل كل همِّة في إنشاء شبكة من الطرق؛ لأن حركة الحرب غير العادية تحتاج إلى طرق إضافية أيام الحرب، ومن ذلك مثلاً الطريق الذي يُسمُّونه طريق المعاهدة، أي معاهدة سنة 1936.

إذن: كلما وُجدت حركة زائدة احتاجت إلى طرق إضافية، وهذه الطرق تتناسب والمكان الذي تنشأ فيه، فالطرق في المدن نُسمِّيها شوارع وفي الخلاء نسميها طرقاً تناسب المساحة داخل المباني، ومنها تتفرع الحارات، وهي أقل منها، ومن الحارة تتفرع العَطْفة، وهي أقل من الحارة، وكلما ازدحمتْ البلاد لجأ الناس إلى توسيع نظام الحركة لتيسير مصالح الناس.

كما نرى في القاهرة مثلاً من أنفاق وكَبَارٍ، حتى لا تُعاق الحركة، وحتى نوفر للناس انسيابية فيها.

والأنفاق أنسب للجمال في المدن، والكبارى أجمل في الفضاء، حيث ترى مع ارتفاع الكباري آفاقاً أوسع ومناظر أجمل، أما إنْ حدث عكس ذلك فأُنشئت الكبارى داخل الشوارع فإنها تُقلِّل من جمال المكان وتُحوِّل الشارع إلى أشبه ما يكون بعنابر الورش، كما أنها تؤذي سكان العمارات المجاورة لها.

وعلى الدولة أن تراعي هذه الأمور عند التخطيط، ألم نقرأ قوله تعالى:{ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ }[عبس: 20] لا بُدَّ أن نُيسِّر السبل للسالكين؛ لأن معايش الناس وحركتهم تعتمد على الحركة في هذه الطرق.

فقوله تعالى: } وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ... { [العنكبوت: 29] فكان من قوم لوط قُطَّاع طرق كالذين يخرجون على الناس في أسفارهم وحركتهم، فيأخذون أموالهم وينهبون ما معهم، وإنْ تأبوا عليهم قتلوهم. وبعد أن قطعوا السبيل على الناس قطعوا السبيل على بقاء النوع.

يقول سبحانه في حقهم: } وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ... { [العنكبوت: 29] فكانوا لا يتورعون عن فِعْل القبيح وقوله فيجلسون في الطرقات يستهزئون بالمارة ويؤذونهم كالذين يجلسون الآن على المقاهي ويتسكعون في الطرق ويؤذون خَلْق الله، ويتجاهرون بالقبيح من القول والفعل، فلا يسْلَم من إيذائهم أحد.

لذلك يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم آداب الطريق، " فيقول لمن سأله: " وما حَقُّ الطريق يا رسول الله؟ قال:غَضُّ البصر، وكَفُّ الأذى، وردُّ السلام ".

وقد انتشر بين قوم لوط سوء الأخلاق، بحيث لا ينهى بعضهم بعضاً، كما قال سبحانه عن اليهود أنهم:{ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ... }[المائدة: 79].

والنادي: مكان تجمُّع القوم، ومنه قوله تعالى:{ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ }[العلق: 17] أي: مكان تجمُّع رؤوس القوم وكبارهم، كما نرى الآن: نادي كذا، ونادي كذا.

والنادي وهو مكان عام يُعَدُّ المرحلة الأخيرة لانضباط السلوك الذي يجب أن يكون في المجتمع، فأنت مثلاً لك حجرة في بيتك خاصة بك، ولك فيها انضباط خاص بنفسك، وكذلك في صالة البيت لك انضباط أوسع، وفي الشارع لك انضباط أوسع.

والانضباط يتناسب مع الواقع الذي تعيشه، فحين تكون مثلاً بين أناس لا يعرفونك لا يكون انضباطك بنفس الدرجة التي تحرص عليها بين مَنْ تعرفهم كالموظف في مكتبه، والطالب في مدرسته.

إذن: فهؤلاء القوم قطعوا السبيل في بقاء النوع، حيث أتوا غير مَأْتيٍّ وانحرفوا عن الفطرة السَّوية، وقطعوا السبيل المادي، فأخافوا الناس وروَّعوهم ونهبوا أموالهم، وأخذوهم من الطرق بغرض هذه الفِعْلة النكراء، ثم كانوا يتبجحون بأفعالهم هذه، ويجاهرون بها في أنديتهم وأماكن تجمعاتهم.

فبماذا أجابه القوم؟

} فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ { [العنكبوت: 29] أي: من الصادقين في أنك مُبلِّغ عن الله، فنحن من العاصين، وأَرِنا العذاب الذي تتوعدنا به، وقولهم } ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ... { [العنكبوت: 29] مع أن العذاب شيء مؤلم، ولا يطلب أحد إيلام نفسه، فهذا دليل على عدم فهمهم لهذا الكلام، وأنهم غير متأكدين من صدقه، وإلا لو وَثِقوا بصدقه ما طلبوا العذاب.

وفي موضع آخر، حكى القرآن عنهم:{ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ }[النمل: 56].

إذن: حدث منهم موقفان وجوابان: الأول } ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ... { [العنكبوت: 29] فلما لم يُجبهم إلى هذا الطلب الأحمق، وظل يتابع دعوته لهم، فلم ييأس منهم لجأوا إلى حيلة أخرى، فقالوا{ أَخْرِجُواْ آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ... }[النمل: 56] والعلة{ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ }[النمل: 56] لأن الطَهْر في نظر هؤلاء عيب، والاستقامة جريمة، وهذا دليل على فساد عقولهم، وفساد قياسهم في الحكم.

ثم يقول الحق سبحانه: } قَالَ رَبِّ انصُرْنِي... {.

(/3295)

قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)

وفَرْق بين الفاسد في ذاته والمفسد لغيره، فيا ليتهم كانوا فاسدين في أنفسهم، إنما كانوا فاسدين مفسدين، يتعدَّى فسادهم إلى غيرهم.

(/3296)

وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31)

جاء هنا إبراهيم - عليه السلام - في سياق قصة لوط، كما جاء لوط في سياق قصة إبراهيم. ومعنى { رُسُلُنَآ... } [العنكبوت: 31] أي: من الملائكة؛ لأن الله تعالى قال:{ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ... }[الحج: 75].

وقد جاءت الملائكة لإبراهيم بالبشرى، ولم يذكر مضمون البُشْرى هنا، وهو البشارة بإسحق ويعقوب وذرية صالحة منهما، وجاءته بإنذار بأن الله سيُهلك أهل هذه القرية، وبالبشرى والإنذار يحدث التوازن؛ لأننا نُبشِّر إبراهيم بذرية صالحة مُصْلحة في الكون، ونهلك أهل القرية الذين انحرفوا عن منهج الله.

وتلحظ في الآية أنها لم تذكر العلة في البُشْرى فلم تقل لأنه كان مؤمناً ومجاهداً وعادلاً، إنما ذكرت العلة في إهلاك أهل القرية { أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ } [العنكبوت: 31] لماذا؟ لأن المتفضّل لا يمنُّ بفضله على أنه عمل بمقابل، لكن المعذب يبين سبب العذاب.

فماذا كان الانفعال الأوليّ عند إبراهيم - عليه السلام - ساعةَ سمع البُشْرى والإنذار؟ لم يسأل عن البشرى، مع أنه كان متلهفاً عليها، إنما شغلته مسألة إهلاك القرية، وفيها ابن أخيه لوط. لذلك قال: { قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ... }.

(/3297)

قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32)

فلم يستشرف إبراهيم للبشرى، واهتم بمسألة إهلاك قرية قوم لوط؛ لأن فيها لوطاً مما يدلُّ على أن الإنسان لا يشغله الخير لنفسه عن الشر لغيره، وهنا ردَّ الملائكة { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا... } [العنكبوت: 32] فهذه مسألة لا تخفى علينا.

ثم يُطمئنونه على ابن أخيه { لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ... } [العنكبوت: 32] وأهله: تشمل كل الأهل؛ لذلك استثنوا منهم { إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } [العنكبوت: 32].

والغابرون: جمع غابر، ولها استعمالان في اللغة: نقول: الزمان الغابر أي الماضي، وغابر بمعنى باقٍ أيضاً، فهي إذن تحمل المعنى وضده؛ ذلك لأنهم جاءوا لإهلاك هذه القرية، وامرأة لوط باقية لتهلك معهم، وتذهب مع مَنْ سيذهبون بالإهلاك، فهي إذن باقية في العذاب. فجاءت الكلمة { مِنَ الْغَابِرِينَ } [العنكبوت: 32] لتؤدي هذين المعنيين.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً... }.

(/3298)

وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33)

شهد إبراهيم هذا الموقف مع لوط، وعلم سبب حضورهم إليه، لكن لماذا سيء بهم، مع أنهم رسل الله ملائكة جاءوه على أحسن صورة؟ قالوا: لأن الملَك يأتي على أجمل صورة، حتى إذا أردنا أن نمدح شخصاً بالجمال نقول: مثل الملاك، ومن ذلك قول النسوة لامرأة العزيز عن يوسف عليه السلام:{ مَا هَـاذَا بَشَراً إِنْ هَـاذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ }[يوسف: 31].

فلما رآهم لوط على هذه الصورة خاف عليهم، بدل أنْ يفرح بمرآهم الجميل؛ لأن قومه قوم سوء وأهل رذيلة، ولا بُدَّ أنْ ينالوا ضيوفه بسوء؛ لذلك { سِيءَ بِهِمْ... } [العنكبوت: 33] أي: أصابه السوء بسببهم { وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً... } [العنكبوت: 33] الذرع هو طول الذراعين، فنقول: فلان باعُه طويل. يعني: يتناول الأشياء بسهولة؛ لأن يده طويلة، فالمعنى: ضاق بهم ذَرْعاً. يعني: لم يتسع جهده لحمايتهم من القوم.

ونلحظ هنا اختلاف السياق بين الآيتين:{ وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ... }[العنكبوت: 31] أما في لوط فقال: { وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً... } [العنكبوت: 33] لأنهم تأخروا بعض الشيء عند إبراهيم عليه السلام.

فلما أن أصابه السوء بمرآهم، بدل أنْ يسعد بهم، وخاف عليهم طمأنوه { وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرينَ } [العنكبوت: 33] لا تخَفْ علينا من هؤلاء الأراذل، فلسنا بشراً، إنما نحن ملائكة ما جئْنا إلا لنريحك منهم، ونقطع جذور هذه الفِعْلة الخبيثة، وسوف ننجيك وأهلك من العذاب النازل بهم.

ثم يستثنون من أهله { إِلاَّ امْرَأَتَكَ... } [العنكبوت: 33] فكثيراً ما ضايقته، وأفشتْ أسراره، ودلَّتْ القوم على ضيوفه { كَانَتْ مِنَ الْغَابِرينَ } [العنكبوت: 33] الباقين في العذاب.

لكن، ما الطريقة التي ستقضون بها على هؤلاء القوم؟

(/3299)

إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34)

الرجز: العذاب ينزل عليهم من السماء، والحجارة التي يمطرهم الله بها { بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } [العنكبوت: 34] أي: بسبب فِسْقهم وخروجهم عن منهج الله.

(/3300)

وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آَيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)

لأن هذا العذاب استأصلهم، وقضى عليهم، وجعلهم عبرة لكل عاقل متأمل وآية في الكون لكل عابر بها، كما قال سبحانه:{ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ }[الصافات: 137] إذن: فالعبرة باقية بأهل سَدُوم كلما مر الناس بقُراهم.

لذلك قال الله عنها { آيَةً بَيِّنَةً } [العنكبوت: 35] الآية: الشيء العجيب الذي يدعو للتأمل { بَيِّنَةً... } [العنكبوت: 35] واضحة كدليل باقٍ، وظاهر لا يخفى على أحد { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [العنكبوت: 35] يعني: يبحثون ويتأملون بسبب ما حاق بهذه القرى، وما نزل بها من عذاب الله.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَإِلَىا مَدْيَنَ أَخَاهُمْ... }.

(/3301)

وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36)

مدين: اسم من أسماء أولاد إبراهيم عليه السلام، وسُمِّيت باسمه القبيلة؛ لأنهم كانوا عادة ما يُسمُّون القوم باسم أبرز أشخاصها، فانتقل الاسم من الشخص إلى القبيلة، ثم إلى المكان، بدليل قوله تعالى في موضع آخر:{ وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ... }[القصص: 23] فصارت مدين عَلَماً على البقعة، وقالوا: إنها من الطور إلى الفرات.

هذه برقية موجزة لقصة مدين وأخيهم شعيب، وقد ذُكِرت أيضاً في قصة موسى عليه السلام. وقال { أَخَاهُمْ... } [العنكبوت: 36] ليدلّك أن الله تعالى حين يصطفي للرسالة يصطفي مَنْ له وُدٌّ بالقوم، ولهم معرفة به وبأخلاقه وسيرته، ولهم به تجربة سابقة، فهو عندهم مُصلْح غير مُفْسِد، حتى إذا ما بلَّغهم عن الله صدَّقوه، وكانت له مُقدِّمات تُيسِّر له سبيل الهداية.

وقوله: { فَقَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ... } [العنكبوت:36] كلمة { ياقَوْمِ... } [العنكبوت: 36]: القوم لا تُقال إلا للرجال؛ لأنهم هم الذين يقومون لمهمات الأمور، ويتحملون المشاق؛ لذلك يقول تعالى:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىا أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىا أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ... }[الحجرات: 11] فأطلق القوم، وهم الرجال في مقابل النساء.

والعبادة: قلنا: طاعة الأمر والنهي { اعْبُدُواْ اللَّهَ... } [العنكبوت: 36] أطيعوه فيما أمر، وانتهوا عما نهى عنه ما دُمْتم قد آمنتم به إلهاً خالقاً، فلا بُدَّ أنْ تسمعوا كلامه فيما ينصحكم به من توجيه بافعل ولا تفعل.

وتعلم أنه سبحانه بصفات الكمال أوجدك وأوجد لك الأشياء، فأنت بعبادتك له لا تضيف إليه صفة جديدة، فهو إله قبل أن توجد أنت، وخالق بكامل القدرة قبل أنْ توجد، وخلق لك الكون قبل أنْ توجد.

ثم بعد ذلك تعصاه وتكفر به، فلا يحرمك خيره، ولا يمنع عنك نعمه. إذن: فهو سبحانه يستحق منك العبادة والطاعة؛ لأن طاعته تعود عليك أنت بالخير.

لذلك سبق أنْ قُلْنَا إن كلمة (العبودية) كلمة مذمومة تشمئز منها النفس، إنْ كانت عبودية للبشر؛ لأن عبودية البشر للبشر يأخذ فيها السيد خير عبده، لكن عبودية البشر لله تعالى يأخذ العبد خير سيده، فالعبودية لله عزٌّ وقوة ومنَعة وللبشر ذٌلٌّ وهوان؛ لذلك نرى كل المصلحين يحاربون العبودية للبشر، ويدعون العبيد إلى التحرر.

فأوَّل شيء أمر به شعيب قومه { اعْبُدُواْ اللَّهَ... } [العنكبوت: 36] كذلك قال إبراهيم لقومه{ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ... }[العنكبوت: 16]، لكن لوطاً عليه السلام لم يأمر قومه بعبادة الله، إنما اهتم بمسألة الفاحشة التي استشرتْ فيهم، مع أن كل الرسل جاءوا للأمر بعبادة الله.

ونقول في هذه المسألة: لم يأمر لوط قومه بعبادة الله؛ لأنه كان من شيعة إبراهيم عليه السلام ومؤمناً بديانته، بدليل قوله تعالى:{ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ... }[العنكبوت: 26] فهو تابع له؛ لذلك ينفذ التعاليم التي جاء بها إبراهيم، فلم يأمر بالعبادة لأن إبراهيم أمر القوم بها، لكنه تحمَّل مسألة أخرى، وخصَّه الله بمهمة جديدة، هي إخراج قومه من ممارسة الفاحشة التي انتشرت بينهم.

وقوله تعالى: } وَارْجُواْ الْيَوْمَ الأَخِرَ... { [العنكبوت: 36] فلا بُدَّ أن اليوم الآخر لم يكُنْ في بالهم، ولم يحسبوا له حساباً، كأنهم سيفلتون من الله، ولن يرجعوا إليه؛ لذلك يُذكِّرهم بهذا اليوم، ويحثُّهم على العمل من أجله.

وكيف لا نعمل حساباً لليوم الآخر؟ ونحن في الدنيا نعامل أنفسنا بنفس منطق اليوم الآخر؟ فأنت مثلاً تتعب وتشقى في زراعة الأرض، وتتحمل مشاق الحرْث والبَذْر والسقي.. إلخ طوال العام، لكن حين تجمع زرعك يوم الحصاد، ويوم تملأ به مخازنك تنسى أيام التعب والمشقة، وساعتها يندم الكسول الذي قعد عن العمل والسعي، يوم الحصاد سترى أن أردب القمح الذي أخذتَه من المخزن وظننتَ أنه نقص من حسابك قد عاد إليك عشرة أرادبّ، فأخْذُك لم يقلل إنما زاد.

وكذلك اليوم الآخر نفهمه بهذا المنطق، فنتحمل مشاقّ العبادة والطاعات في الدنيا لننال النعيم الباقي في الآخرة؛ لأن نعيم الدنيا مهما كان، يُنغصه عليك أمران: إما أنْ تفوته أنت بالموت، أو يفوتك هو بالفقر.

أما في الآخرة فلا يفوتك نعيمها ولا تفوته. إذن: فالأَوْلى بك أنْ تزرع للآخرة، وأن تعمل لها ألف حساب، فإنْ كان في العبادة مشقة، وللإيمان تَبعات، فانظروا إلى عِظَم الجزاء، وإذا استحضرتَ الثواب على الطاعة هانتْ عليك مشقة الطاعة، وإذا استفظعت العقاب على المعصية، زهدتَ فيها ونأيْتَ عنها.

إذن: الذي يجعل الإنسانَ يتمادى في المعصية أنه لا يستحضر العقاب عليها، ويزهد في الطاعة؛ لأنه لا يستحضر ثوابها.

لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " والمعنى: لو استحضر الإيمان ما فعل، إنما غفل عن إيمانه فوقع في المعصية.

ومَن استحضر ثواب الطاعة وجد لها حلاوة في نفسه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة: " أرحنا بها يا بلال ".

وقوله: } وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ { [العنكبوت: 36] العثو: الفساد المستور والفساد يقال للظاهر، فالمعنى: لا تعثَوا في الأرض عثواً، فالمفعول المطلق بمعنى الفعل، فقوله تعالى: } وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ { [العنكبوت: 36] كما نقول: اجلس قعوداً.

والفاء في قوله: } فَقَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ... { [العنكبوت: 36] تدل على أنها تعطف هذا الكلام على كلام سابق، والتقدير: وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيباً فقال: يا قوم إني رسول الله إليكم، ثم ذكر المطلوب منهم } ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ... { [العنكبوت: 36] والجمع بين عبادة الله ورجاء اليوم الآخر يعني: لا تفصلوا العبادة عن غايتها والثواب عليها، ولا تفصلوا المعصية عن عقابها.

وقوله: } وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ { [العنكبوت: 36] فلا أقول لكم: أصلحوا فلا أقلَّ من أن تتركوا الصالح على صلاحه لا تفسدوه؛ لأن الخالق - عز وجل - أعدَّ لنا الكون على هيئة الصلاح، وعلينا أنْ نُبقيه على صلاحه.

فالنيل مثلاً هبة من هِبَات الخالق، وشُريان للحياة يجري بالماء الزلال، وتذكرون يوم كان الفيضان يأتي بالطمي فترى الماء مثل الطحينة تماماً، وكذا نملأ منه (الزير)، وبعد قليل يترسب الطمي آخذاً معه كل الشوائب، ويبقى الماء صافياً زلالاً. أما الآن فقد أصابه التلوث وفسَد ماؤه بما يُلْقى فيه من مُخلَّفات، وأصبحنا نحن أول مَنْ يعاني آثار هذا التلوث.

لذلك أصبح ساكن المدن مهما توفرت له سُبُل الحضارة لا يرتاح إلا إذا خرج من المدينة إلى أحضان الطبيعة البكْر التي ظلتْ على طبيعتها كما خلقها الله، لا ضوضاء، ولا ملوثات، ولا كهرباء، ولا مدنية.

ثم يقول الحق سبحانه: } فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ... {.

(/3302)

فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)

فلماذا يُكذّب الناس دعوة الخير؟

قالوا: لا يُكذِّب دعوة الخير إلا المستفيدون من الشر؛ لأن الخير سيقطع عليهم الطريق، ويسحب منهم مكانتهم وسلطتهم وسيادتهم، فكل الذين عارضوا رسل الله كانوا أكابر القوم ورؤساءهم، وقد ألفوا السيادة والعظمة، واعتادوا أن يكون الناس عبيداً لهم، فكيف إذن يُفسِحون الطريق للرسل ليأخذوا منهم هذه المكانة؟

وإلا، فلماذا كان عبد الله بن أُبَيٍّ يكره رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لأنه يوم وصل رسول الله إلى المدينة كانوا يُعِدُّون التاج لعبد الله بن أبي، لينصبوه مَلِكاً على المدينة، فلما جاءها رسول الله شغلوا بهذا الحدث الكبير، وانصرفوا عن هذه المسألة.

لكن، ماذا قال شعيب لقومه حتى يُكذِّبوه؟ لقد قال لهم أمرين هما:{ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَارْجُواْ الْيَوْمَ الأَخِرَ }[العنكبوت: 36] ونهي واحد في{ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ }[العنكبوت: 36] ومعلوم أن الأمر والنهي قوْل لا يحتمل الصِّدْق، ولا يحتمل الكذب؛ لأنه إنشاء وليس خبراً، لأنه ما معنى الكذب؟ الكذب أن تقول لشيء وقع أنه لم يقع، أو لشيء لم يقع أنه وقع، وهذا يسمونه خبراً.

فإنْ وافق كلامك الواقعَ فهو صِدْق، وإنْ خالف الواقع فهو كذب، إذن: كيف نحكم على ما لم تقع له نسبة أنه صِدْق أو كذب؟ حينما تقول مثلاً: قِفْ. هل نقول لك إنك كاذب؟ لا، لأن واقع الإنشاء لا يأتي إلا بعد أنْ تتكلم، لذلك قسَّموا الكلام العربي إلى خبر وإنشاء.

ولكي نبسط هذه المسألة على المتعلم نقول: المتكلم حين يتكلم يأتي بنسبة اسمها نسبة كلامية، قبل أن يتكلم بها جالتْ في ذهنه، فقبل أن أقول: زيد مجتهد دارتْ في ذهني هذه المسألة، وكان في الواقع يوجد شخص اسمه زيد وهو مجتهد فعلاً.

إذن: عندنا نسبة ذهنية، ونسبة كلامية، ونسبة واقعية، فإنْ وُجِدت النسبة الواقعية قبل الذهنية والكلامية، فالكلام هنا خبر يُوصَف بالصدق أو يُوصَف بالكذب.

إذن: النسبة الواقعية لا تأتي نتيجة النسبة الكلامية، إنما حين تقول: قف فتأتي النسبة الواقعية نتيجة النسبة الكلامية، وما دامت النسبة الواقعية تأخرتْ عن الكلامية، فلا يُوصَف القول إذن لا بصدْق ولا بكذب.

ونعود إلى قول نبي الله شعيب نجده عبارة عن أمرين:{ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَارْجُواْ الْيَوْمَ الأَخِرَ... }[العنكبوت: 36] ونهي واحد:{ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ }[العنكبوت: 36] والأمر والنهي من الإنشاء الذي لا يُوصَف بالصِّدْق ولا بالكذب، فكيف إذن يُكذِّبونه؟

فأول إشكال: { فَكَذَّبُوهُ... } [العنكبوت: 37] ومنشأ هذا الإشكال عدم وجود الملَكَة العربية التي يفهمون بها كلام الله. فالحق سبحانه قال هنا { فَكَذَّبُوهُ... } [العنكبوت: 37] لأنه أمرهم بعبادة الله وهو رسول من عند الله فيأمرهم بعبادته؛ لأن عبادته تعالى واجبة عليهم، وما أمرهم إلا ليُؤدُّوا الواجب عليهم، واليوم الآخر كائن لا محالة فارجوه، والإفساد في الأرض مُحرم.

إذن: فالمعنى يحمل معنى الخبر، فالأمران هنا، والنهي أمر واجب فكذَّبوه لعلّة الأمرين، ولعلَّة النهي.

ومعنى{ اعْبُدُواْ اللَّهَ... }[العنكبوت: 36] خصُّوه سبحانه بالعبادة، وهي الطاعة في الأمر والانتهاء عن المنهي عنه، وهذه العبادة مطلوبة من الكل، وهي شريعة كل الأنبياء والرسل:{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىا بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىا وَعِيسَىا أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ... }[الشورى: 13].

إذن: فمسألة العبادة والإيمان باليوم الآخر من القضايا العامة التي لا تختلف فيها الرسالات، أما الشرائع: افعل كذا، ولا تفعل كذا فتختلف من نبي لآخر.

ومعنى:{ وَارْجُواْ الْيَوْمَ الأَخِرَ.. }[العنكبوت: 36] أي: اعملوا ما يناسب رجاءكم لليوم الآخر، وأنت لماذا تحب اليوم الآخر، ولماذا ترجوه؟ لا يحبه ولا يرجوه إلا مَنْ عمل عملاً صالحاً فينتظره لينال جزاء عمله وثواب سَعْيه، وإلا لو كانت الأخرى لقال: وخافوا اليوم الآخر.

إذن: الرجاء معناه: اعملوا ما يُؤهّلكم لأنْ ترجُوا اليوم الآخر، والإنسان لا يرجو إلا النافع له. وهنا لك أنْ تسأل: هل إذا آمن الإنسان ونفَّذ أحكام ربه أمراً ونهياً، فجزاؤهم في الآخرة رجاء يرجوه أم حَقٌّ له؟ المفروض أن يقول للطائعين: ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون، فهي واجبة له ومن حَقِّه، فكيف يسميه القرآن رجاءً وهو واقع؟

قالوا: لأن جزاءنا في الجنة فَضْلٌ من الله، لأنه سبحانه خلقنا وخلق لنا، وأمدَّنا بالطاقات والنعم قبل أنْ يُكلِّفنا شيئاً، فحين تعبد الله حقَّ العبادة فإنك لا تقضي ثمن جميله عليك، ولا توفيه سبحانه ما يستحق، فإذا أثابك في الآخرة فبمحْض فَضلْه وكرمه.

لذلك قال سبحانه:{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }[يونس: 58].

كما لو أنكَ استخدمت أجيراً بمائة جنيه مثلاً في الشهر، وقبل أن يعمل لك شيئاً أعطيته أجره فهل يطلب منك أجراً آخر؟ فلو جئتَ في آخر الشهر وأعطيته عشرة جنيهات، فهي فَضْل منك وتكرُّم.

لذلك قال{ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ }[العنكبوت: 36] لأن الجزاء في الآخرة عند التحقيق والتعقُّل محض فَضلْ من الله؛ لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمَّدني الله برحمته ".

والنهي في:{ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ }[العنكبوت: 36] أي: لا تفسدوا فساداً ظاهراً، أو: لا تعملوا أعمالاً هي في ظنكم نافعة وهي ضارة، تذكرون زمان كان القطن هو المحصول الرئيسي في مصر ومصدر الدَّخلْ، وكانت تهدده دودة القطن فنقاومه مقاومة يدوية، إلى أنْ خرج علينا الأمريكان بالمبيدات، واستخدمنا مادة اسمها (دي دي تي) فقضتْ على الدودة في بادئ الأمر، وظنَّ الفلاح أن هذه المشكلة قد حُلّت.

لكن بعد سنوات تعودتْ الدودة على هذه المادة، وأصبح عندها حصانة، وكأن (الدي دي تي) أصبح (كيفاً) عندها، وبدأنا نحن نعاني الأمرَّين من آثار هذه المبيدات في الماء، وفي التربة، وفي الزراعة، وفي صحة الإنسان والحيوان. إذن: ينبغي النظر في العواقب قبل البدء في الشيء، وأنْ يُقاسَ الضرر والنفع.

كذلك الحال عندما اخترعوا السيارات، وقالوا: إنها ستريح الناس في أسفارهم وفي حمل أمتعتهم، وبعد ما توصل العالم إليه من ثورة في وسائل النقل لو قارنا نفعها بضررها لوجدنا أن ضررها أكبر لما تُسبِّبه من تلوث، ولو عُدْنا إلى الوسائل البدائية، واستخدمنا الدواب لكان أفضل.

وأذكر عندما جئنا إلى مصر سنة 1936 - 1938 وجدنا في الميادين العامة مواقفَ للحمير، مثل مواقف السيارات الآن، وكانت هي الوسيلة الوحيدة للانتقال، ويكفي أن رَوَثَ الحمار يُخصِّب الأرض، أمّا عوادم السيارات فتسبب أخطر الأمراض وتؤدي للموت.

فماذا بعد أنْ كذَّب قومُ شعيب نبيهم؟

كانت سنة الله في الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم أن يُبلِّغ الرسول رسالة ربه، لكن لا يُؤمر بحمل السيف ضد الكفار، إنما إنْ كذّبوا بالآيات عاقبهم رب العزة سبحانه، وتُحسم المسألة بهلاك المكذِّبين.

وكوْن الحق - تبارك وتعالى - لا يأمر الناسَ بقتال الكفار هذا أمر منطقي، والدليل رأيناه في بني إسرائيل لما طلبوا من الله أنْ يفرض عليهم القتال، فقال:{ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ.. }[البقرة: 246].

ولم يُؤْمر بالقتال لنشر الدعوة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ومَنْ آمن معه مأمونون على هذا، ولأنه صلى الله عليه وسلم آخر الرسل والأنبياء، فلا بُدَّ أن يستوفي كل الشروط.

ونتيجة التكذيب } فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ { [العنكبوت: 37] وهذا عقاب الله؛ لأنه كان سبحانه يتولّى المكذِّب. وفي (الحجر) وفي (هود) قال (الصيحة) وحتى لا تتهم الآيات بالتضارب نقول: الصيحة: صوت شديد مزعج، وهذا الصوت لا نسمعه إلا بتذبذب الهواء بشدة، ولو كان تذبذب الهواء بلطف ما سميت صيحة.

إذن: الصيحة تخلخل في الهواء بشدة؛ لا بد أنْ ينتج عنه رجفة أي: هزة شديدة كالتي تهدم بالبيوت والعمارات نتيجة قنبلة مثلاً، فالصيحة وُجدت أولاً، تبعتها الرجفة، لكن القرآن مرة يذكر الأصل فيقول (الصيحة) ومرة يذكر النتيجة فيقول (الرجفة).

} فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ { [العنكبوت: 37] قال (فَأصْبَحُوا) ولم يقُلْ مثلاً: فصاروا ليُحدِّد وَقْت أخذهم بالصباح، والعادة أن تكون الإغارة وقت الصباح قبل أن يستعد خَصْمك لملاقاتك، فما يزال في أعقاب النوم خاملاً، وإلى الآن يفضل رجال الحرب والقادة أن تبدأ الحرب في الصباح، حيث يُفَاجأ بها العدو.

وقد أصبح هذا الوقت قضية عامة، تُعَدُّ مخالفتها من قبيل المكْر والخدعة في الحرب، كما خالفها قادتنا في حرب أكتوبر 73، حيث فاجأوا عدوهم في وقت الظهيرة، وقد تمت لهم المفاجأة، وأخذوا عدوهم على غِرَّة؛ لأنهم غيَّروا الوقت المعتاد، وهو الصبح.

إذن: على الإنسان ألاَّ يتخذ في أموره قضية رتيبة، بل يُخضِع أموره لما يناسبها.

ومن الطرائف: حرص الرجل على أنْ يوقظ ولده مبكراً ليذهب إلى عمله، ويقضي مصالحه، فقال له الوالد: ابن فلان استيقظ مبكراً، فوجد محفظة بها مائة جنيه، فقال الولد - وكان كسولاً لا يريد أن يستقيظ مبكراً: هذه المحفظة وقعتْ من واحد استيقظ قبله.

ومعنى } جَاثِمِينَ { [العنكبوت: 37] يعني: هامدين بلا حراك.

ثم تنتقل بنا الآيات إلى لقطات أخرى موجزة من مواكب الرسالات، وكأنها برقيات: } وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ... {.

(/3303)

وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)

نلحظ في هذه البرقيات السريعة أنها تذكر المقدمة، ثم النهاية مباشرة { وَعَاداً وَثَمُودَاْ... } [العنكبوت: 38] هذه المقدمة { وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ... } [العنكبوت: 38] هذا موجز لما نزل بهم، وكأن الحق سبحانه يقول لنا: لن أحكي لكم ما حاق بهم؛ لأنكم تشاهدون ديارهم، وتمرون عليها ليل نهار{ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وَبِالَّيلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }[الصافات: 137-138].

والآن مع الثورة العلمية استطاعوا تصوير ما في باطن الأرض، وظهرت كثير من الآثار لهذه القرى عاد وثمود والأحقاف، واقرأ قوله سبحانه وتعالى:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ }[الفجر: 6-7].

وطبيعي الآن أن نجد آثار السابقين تحت التراب، ولا بُدَّ أن نحفر لنصل إليها؛ لأن عوامل التعرية طمرتها بمرور الزمن، ولمَ لا والواحد منّا لو غاب عن بيته شهراً يعود فيجد التراب يغطي أسطح الأشياء، مع أنه أغلق الأبواب والنوافذ، ولك أن تحسب نسبة التراب هذه على مدى آلاف السنين في أماكن مكشوفة.

وحكَوْا أن الزوابع والعواصف الرملية في رمال الأحقاف مثلاً كانت تغطي قافلة بأكملها، إذن: كيف ننتظر أن تكون آثار هذه القرى باقية على سطح الأرض؟ والآن نشاهد في الطرق الصحراوية مثلاً إذا هبَّتْ عاصفة واحدة فإنها تغطي الطرق بحيث تعوق حركة المرور إلى أنْ تُزَاح عنها هذه الطبقة من الرمال.

إذن: علينا أن نقول: نعم يا رب رأينا مساكنهم ومررنا بها - ولو من خلال الصور الحديثة التي التقطت لهذه القرى { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ... } [العنكبوت: 38] يعني: أغواهم بالكفر، وأقنعهم أنه الأسلوب السليم والأمثل في حركة الحياة { فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ... } [العنكبوت: 38] فما دام قد زيَّن لهم سبيل الشيطان فلا بُدَّ أنْ يصدَّهم عن سبيل الإيمان { وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ } [العنكبوت: 38] يعني: لم نأخذهم على غِرَّة.

لأن المبدأ الذي اختاره الله تعالى لخلقه{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىا نَبْعَثَ رَسُولاً }[الإسراء: 15] رسولاً يُبيِّن لهم وينذرهم، ويحذرهم عاقبة الكفر؛ لذلك لم يأخذهم الله تعالى إلا بعد أنْ أرسل إليهم رسولاً فكذَّبوه.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ... }.

(/3304)

وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39)

مازالت الآيات تُحدِّثنا عن مواكب الرسالات، لكنها تتكلم عن المكذِّبين عاداً وثمود، وهنا { وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ... } [العنكبوت: 39] والدليل على قوله سبحانه في الآية السابقة{ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ }[العنكبوت: 38] قوله تعالى هنا { وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مُّوسَىا بِالْبَيِّنَاتِ... } [العنكبوت: 39] أي: بالأمور الواضحة التي لا تدع مجالاً للشك في صدْق الحق سبحانه، وفي صِدْق الرسول في البلاغ عن الله.

{ فَاسْتَكْبَرُواْ فِي الأَرْضِ... } [العنكبوت: 39] استكبر: يعني افتعل الكِبْر، فلم يقُلْ تكبَّر، إنما استكبر كأنه في ذاته ما كان ينبغي له أنْ يستكبر؛ لأن الذي يتكبّر يتكبَّر بشيء ذاتي فيه، إنما بشيء موهوب؟ لأنه قد يسلب منه، فكيف يتكبَّر به؟

لذلك نقول للمتكبِّر أنه غفلت عينه عن مَرأْى ربه في آثار خَلْقه، فلو كان ربه في باله لاستحى أنْ يتكبّر.

فالإنسان لو أنه يلحظ كبرياء ربه لَصَغُر في نفسه، ولاستحى أن يتكبَّر، كما أن المتكبر بقوته وعافيته غبي؛ لأنه لم ينظر في حال الضعيف الذي يتعالى عليه، فلربما يفوقه في شيء آخر، أو عنده عبقرية في أمر أهم من الفتوة والقوة، ثم ألم ينظر هذا الفتوة أنها مسألة عرضية، انتقلتْ إليه من غيره، وسوف تنتقل منه إلى غيره.

إذن: فقارون وفرعون وهامان لما جاءهم موسى بآيات الله الواضحات استكبروا في الأرض، وأنفوا أن يتبعوا لا بطبيعتهم وطبيعة وجود ذلك فيهم، إنما افتعالاً لغير حق { وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ } [العنكبوت: 39] فنفى عنهم أن يكونوا سابقين، كما قال سبحانه:{ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ }[الواقعة: 60].

والسبق لا يُمدح ولا يُذم في ذاته، لكن بنتيجته: إلى أيِّ شيء سبق؟ كما نسمع الآن يقولون: فلان رجعي، والرجعية لا تُذَم في ذاتها، وربما كان الإنسان مُسْرفاً على نفسه، ثم رجع إلى منهج ربه، فنِعمْ هذه الرجعية، فالسبق لا يُذَم لذاته، واقرأ إنْ شئت قوله تعالى:{ وَسَارِعُواْ إِلَىا مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ... }[آل عمران: 133] أي: سابقوا.

والمعنى هنا { وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ } [العنكبوت: 39] أن هناك مضمارَ سباق، فمن سبق قالوا: أحرز قَصَب السبق، فإنْ كان مضمار السباق هذا في الآخرة أيسبقنا أحد ليفلتَ من أخْذنا له؟ إنهم لن يسبقونا، ولن يُفلِتوا من قبضتنا، ولن يُعجِزوا قدرتنا على إدراكهم.

ويقول الحق سبحانه: { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا... }.

(/3305)

فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)

الكلام هنا عن المكذِّبين والكافرين الذين سبق ذكرهم: قوم عاد، وثمود، ومدين، وقوم لوط، وقارون، وفرعون، وهامان، فكان من المناسب أنْ يذكر الحق سبحانه تعليقاً يشمل كُلَّ هؤلاء لأنهم طائفة واحدة. فقال: { فَكُلاًّ... } [العنكبوت: 40] أي: كل مَنْ سبق ذكرهم من المكذِّبين فالتنوين في { فَكُلاًّ... } [العنكبوت: 40] عوض عن كل من تقدَّم ذكرهم، كالتنوين في:{ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ }[الواقعة: 84] فهو عِوَض عن جملة{ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ }[الواقعة: 83].

وقوله سبحانه: { أَخَذْنَا بِذَنبِهِ... } [العنكبوت: 40] والأخذ يناسب قوة الأخذ وقدرته؛ لذلك يقول سبحانه عن أخْذه للمكذِّبين{ أَخْذَ عِزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ }[القمر: 42] فالعزيز: الذي يغلب ولا يُغلب، والمقتدر أي: القادر على الأَخْذ، بحيث لا يمتنع منه أحد؛ فهو عزيز.

والأخذ هنا بسبب الذنوب { بِذَنبِهِ... } [العنكبوت: 40] ليس ظلماً ولا جبروتاً ولا جزافاً، إنما جزاءً بذنوبهم وعدلاً؛ ولذلك يأتي في تذييل الآية:

{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [العنكبوت: 40].

ثم يُفصِّل الحق سبحانه وتعالى وسائل أَخْذه لهؤلاء المكذبين: { فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً... } [العنكبوت: 40] الحاصب: هو الحصَى الصِّغار ترمي لا لتجرح، ولكن يُحْمي عليها لتكون وتلسع حين يرميهم بها الريح، ولم يقُلْ هنا: أرسلنا عليهم ناراً مثلاً؛ لأن النار ربما إنْ أحرقته يموت وينقطع ألمه، لكن رَمْيهم بالحجارة المحمية تلسعهم وتُديم آلامهم، كما نسمعهم يقولون: سأحرقه لكن على نار باردة؛ ذلك ليطيل أمد إيلامه.

ثم يقول سبحانه: { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ... } [العنكبوت: 40] وهو الصوت الشديد الذي تتزلزل منه الأرض، وهم ثمود { وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ... } [العنكبوت: 40] أي: قارون { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا... } [العنكبوت: 40] وهم قوم نوح، وفرعون.

هذه وسائل أربعة لإهلاك المكذِّبين، النار في الحصباء، والهواء في الصيحة، والتراب في الخسف، ثم الماء في الإغراق، ورحم الله الفخر الرازي حين قال في هذه الآية أنها جمعت العناصر التي بها وجود الإنسان والعناصر الأساسية أربعة: الماء والنار والتراب والهواء. وكانوا يقولون عنها في الماضي العناصر الأربعة، لكن العلم فرَّق بعد ذلك بين العنصر والمادة.

فالمادة تتحلَّل إلى عناصر، أمّا العناصر فلا يتحلل لأقل منه، فهو عبارة عن ذرات متكررة لا يأتي منها شيء آخر، فالهواء مادة يمكن أنْ نُحلِّله إلى أكسجين و... إلخ وكذلك الماء مادة تتكوَّن من عدة عناصر وذرات إلى أن جاء (مندليف) ووضع جدولاً للعناصر، وجعل لكل منهما رقماً أسماها الأرقام الذرية، فهذا العنصر مثلاً رقم واحد يعني: يتكون من ذرة واحدة، وهذا رقم اثنين يعني يتكون من ذرتين.. إلخ إلى أنْ وصل إلى رقم 93، لكن وجد في وسط هذه الأرقام أرقاماً ناقصة اكتشفها العلماء فيما بعد.

فمثلاً، جاءت مدام كوري، واكتشفت عنصر الراديوم، فوجدوا فعلاً أن رقمه من الأرقام الناقصة في جدول (مندليف)، فوضعوه في موضعه، وهذا يدل على أن الكون مخلوق بعناصر مرتبة وصلت مع التقدم العلمي الآن إلى 105 عناصر.

ولما حلَّل العلماء عناصر التربة المخصبة التي نأكل منها المزروعات وجدوها 16 عنصراً، تبدأ بالأكجسين كأعلى نسبة، وتنتهي بالمنجنيز كأقل نسبة، لأنها لم تصل إلى الواحد من الألف. فلما حلَّلوا عناصر جسم الإنسان وجدوا نفس هذه العناصر الستة عشرة..

وكأن الحق - سبحانه وتعالى - أقام حتى الكفار ليثبتوا الدليل على صِدْقه تعالى في خَلْق الإنسان من طين، لنعلم أن الحق سبحانه حينما يريد أنْ يُظهِر سِرَّاً من أسرار كونه يأتي ربه ولو على أيدي الكفار.

وأول مَنْ قال بالعناصر الأربعة التي يتكون منها الكون فيلسوف اليونان أرسطو الذي توفي سنة 384 قبل الميلاد، وعلى أساس هذه العناصر الأربع كانوا يحسبون النجم، فمثلاً عن الزواج يحسبون نجم الزوج والزوجة حسب هذه العناصر، فوجدوا نجم الزوج هواءً، ونجم الزوجة ناراً، فقالوا (هيجعلوها حريقة)، وفي مرة أخرى وجدوا الزوجة مائية والزوج ترابياً فقالوا (هيعملوها معجنة).

ومعلوم أن الحق سبحانه لطلاقة قدرته وتعالى يجعل عناصر البقاء هي نفسها عناصر الفناء، وهو سبحانه القادر على أنْ يُنجي ويُهلك بالشيء الواحد، كما أهلك فرعون بالماء، وأنجى موسى - عليه السلام - بالماء.

كذلك حين نتأمل هذه العناصر الأربعة نجدها عناصر تكوين الإنسان، حيث خلقه الله من ماء وتراب فكان طيناً، ثم جفَّ بالحرارة حتى صار صلصالاً كالفخار، ثم هو بعد ذلك يتنفس الهواء، فبنفس هذه العناصر التي كان منها الخَلْق يكون بها الهلاك.

والحق - سبحانه وتعالى - يريد من خَلْقه أنْ يُقبلوا على الكون في كل مظاهره وآياته بيقظة ليستنبطوا ما فيه من مواطن العبر والأسرار؛ لذلك نجد أن كل الاكتشافات جاءت، نتيجة دِقَّة الملاحظة لظواهر الكون.

ويلفتنا ربنا إلى أهمية العلم التجريبي، فيقول:{ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }[يوسف: 105] فينبغي إذن أن نتأمل فيما نرى وما توصَّل الإنسان إلى عصر البخار وإلى قانون الطَّفْو عند أرشميدس، وما توصل إلى الكهرباء والجاذبية والبنسلين إلا بالتأمل الدقيق لظواهر الأشياء، لذلك فالملاحظة هي أساس كل علم تجريبي أولاً، ثم التجريب ثانياً، ثم إعادة التجريب لتخرج النتيجة العلمية.

والهواء سبب أساسي في حياة الإنسان، وبه يحدث التوازن في الكون، لكن إنْ أراد الحق سبحانه جعله زوبعة أو إعصاراً مدمراً. وسبق أن قلنا: إنك تصبر على الطعام شهراً، وعلى الماء عشرة أيام، لكن لا تصبر على الهواء إلا بمقدار شهيق وزفير، فالهواء إذن أهم سبب من أسباب بقاء الحياة؛ لذلك نسمعهم يقولون في شدة الكيد: (والله لأكتم أنفاسه) لأنها السبيل المباشر إلى الموت؛ لذلك فالهواء عامل أساسي في وسائل الإهلاك المذكورة.

وبالهواء تحفظ الأشياء توازنها، فالجبال العالية والعمارات الشاهقة ما قامت بقوة المسلحات والخرسانات، إنما بتوازن الهواء، بدليل أنك لو فرَّغْتَ جانباً منها من الهواء لانهارتْ في هذا الجانب فوراً.

وبهذه النظرية يحدث الدمار بالقنابل؛ لأنها تعتمد على نظرية تفريع الهواء وما يسمونه مفاعل القبض ومفاعل البسط، فما قامتْ الأشياء من حولك إلا لأن الهواء يحيط بها من كل جهاتها.

وقلنا: إن القرآن الكريم حينما يحدثنا عن الهواء يحدثنا عنه بدقة الخالق الخبير، فكل ريح مفردة جاءت للتدمير والإهلاك، وكل ريح بصيغة الجمع للنماء والخير والإعمار، واقرأ إن شئت قوله تعالى:{ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ... }[الحجر: 22].

وقوله سبحانه:{ وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ }[الحاقة: 6] لأنها ريح واحدة تهبُّ من جهة واحدة فتدمر.

ثم تُختم الآية بهذه الحقيقة: } وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ { [العنكبوت: 40] لأن الخالق - عز وجل - كرَّم الإنسان{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ... }[الإسراء: 70] كرَّمه من بين جميع المخلوقات بالعقل والاختيار، فإذا نظرتَ في الكون واستقرأتَ أجناس الوجود لوجدتَ الإنسان سيد هذا الكون كله.

فالأجناس في الكون مرتبة: الإنسان ودونه مرتبة الحيوان، ثم النبات، ثم الجماد، فالجماد إذا أخذ ظاهرة من ظواهر فَضْل الحق عليه من النمو يصير نباتاً، وإذا أخذ النبات ظاهرة من ظواهر فيض الحق على الخَلْق فأعطاه مثلاً الإحساس يصير حيواناً، فإذا تجلى عليه الحق سبحانه بفضله وأعطاه نعمة العقل يصير إنساناً.

لكن هل النبات حين يأخذ خاصية النمو فَفُضِّل عن الجماد يخرج عن الجمادية؟ لا إنما تظل فيه الجمادية بدليل أنه إذا امتنع عنه النمو يعود جماداً كالحجر، وكذلك الحيوان أخذ ظاهرة الحسِّ وتميَّز بها عن النبات، لكن تظل فيه النباتية حيث ينمو ويكبر.

والإنسان وهو سيد الكون الذي كرَّمه ربه بالعقل تظل فيه الجمادية بدليل أثر الجاذبية عليه، فإذا ألقى بنفسه من مكان عالٍ لا يستطيع أن يمسك نفسه في الهواء، وكذلك تظل فيه النباتية والحيوانية، ففيه إذن كل خصائص الأجناس الأخرى دونه، ويزيد عليهم العقل.

لذلك لا يكلّفه الله إلا بعد أنْ ينضج عقله ويبلغ، وبشرط أن يسلم من العطب في عقله كالجنون مثلاً، وأن يكون مختاراً فالمكره لا تكليفَ عليه؛ لأنه غير مختار.

والإنسان الذي كرَّمه ربه بالعقل والاختيار، وفضَّله على كل أجناس الوجود لا يليق به أن يخضع أو يعبد إلا أعلى منه درجة، أما أنْ يتدنى فيعبد ما هو أقل منه رتبة، فهذا شيء عجيب لا يليق به، فالعابد لا بُدَّ أنْ يكون أدنى درجةً من المعبود، وأنت بالحكم أعلى درجة مما تحتك من الحيوان والنبات والجماد، فكيف تجعله يتصرف فيك، مع أنه من تصرفاتك أنت حين تُوجِده نَحْتاً، وتقيمه في المكان الذي تريده وإن انكسر تصلحه؟!!

إذن: كرَّمك ربك، وأهنْتَ نفسك، ورضيت لها بالدونية، جعلك سيداً وجعلت نفسك عبداً لأحقر المخلوقات؛ لذلك يقول تعالى في الحديث القدسي

" يا ابن آدم، خلقتُك من أجلي، وخلقتُ الكون كله من أجلك، فلا تشتغل بما هو لك عما أنت له ".

إذن: } وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ... { [العنكبوت: 40] أي: لا ينبغي لله تعالى أنْ يظلمهم، فساعةَ تسمع ما كان لك أنْ تفعل كذا، فالمعنى أنك تقدر على هذا، لكن لا يصح منك، فالحق سبحانه ينفي الظلم عن نفسه، لا لأنه لا يقدر عليه، إنما لا ينبغي له أنْ يظلم؛ لأن الظلم يعني أن تأخذ حقَّ الغير، والله سبحانه مالك كل شيء، فلماذا يظلم إذن.

ومثال ذلك نَفْي انبغاء قول الشعر من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه:{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ.... }[يس: 69] فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يستطيع أن يقول شعراً، فلديه كل أدواته، لكن لا ينبغي للرسول أن يكون شاعراً؛ لأنهم كذابون، وفي كل واد يهيمون، ففَرْق بين انبغاء الشيء ووجوده فعلاً.

ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى:{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }[فصلت: 46] بصيغة المبالغة ظلام، ولم يقل ظالم، لماذا؟ لأن الله تعالى إنْ أباح لنفسه سبحانه الظلم، فسيأتي على قَدْر قوته تعالى، فلا يقال له ظالم إنما ظلاَّم - وتعالى الله عن هذا عُلُواً كبيراً.

ولما تكلمنا عن المبالغة وصيغها قلنا: إن المبالغة قد تكون في الحدث ذاته، كأن تأكل في الوجبة الواحدة رغيفاً، ويأكل غيرك خمسة مثلاً، أو تكون في تكرار الحدث، فأنت تأكل ثلاث وجبات، وغيرك يأكل ستاً، فنقول: فلان آكل، وفلان أَكُول أو أكال، فالمبالغة نشأتْ إما من تضخيم الحدث ذاته، أو من تكراره.

ففي قوله تعالى:{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }[فصلت: 46] لم يقل للعبد، إذن: تعدُّد الناس يقتضي تعدُّد الظلم - إن تُصور - فجاء هنا بصيغة المبالغة (ظََلاَّم).

وهناك قضية لغوية في مسألة المبالغة تقول: إن نَفْي المبالغة لا ينفي الأصل، وإثبات الأصل لا يثبت المبالغة، فحين نقول مثلاً: فلان أكول، فهو آكل من باب أَوْلَى، وحين نقول: فلان آكل، فلا يعني هذا أنه أكول. فنَفْي المبالغة في{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }[فصلت: 46] لا ينفي الأصل (ظالم)، وحاشا لله تعالى أن يكون ظالماً.

وقوله تعالى: } وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ { [العنكبوت: 40] وظلمهم لأنفسهم جاء من تدنّيهم وإهانتهم لأنفسهم بالكفر بعد أنْ كرّمهم الله، وكان عليهم أنْ يُصعِّدوا هذا التكريم، لا أن يُهينوا أنفسهم بعبادة الأدنى منهم.

وبعد أن حدثتنا الآيات عن الكافرين الذين اتخذوا الشركاء مع الله، وعن المكذِّبين للرسل وما كان من عقابهم، تعطينا مثلاً يُقرِّب لنا هذه الحقائق، فيقول سبحانه: } مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ... {.

(/3306)

مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)

كلمة (مَثَلُ) وردت بمشتقاتها في القرآن الكريم مرات عدة، ومادة الميم والثاء واللام جاءت لتعبر عن معنى يجب أنْ نعرفه، فإذا قيل (مِثْل) بسكون الثاء، فمعناها التشبيه، لكن تشبيه مفرد بمفرد.

كما في قوله تعالى:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ... }[الشورى: 11] وقوله تعالى:{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا... }[الشورى: 40].

أما (مَثَل ) بالفتح، فتعني تشبيه قصة أو متعدّد بمتعدّد، كما في قوله تعالى:{ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ... }[الكهف: 45].

فالحق - سبحانه وتعالى - لا يُشبِّه شيئاً بشيء إنما يُشبه صورة متكاملة بصورة أخرى: فالحياة الدنيا في وجودها وزهرتها وزخرفها وخضرتها ومتاعها، ثم انتهائها بعد ذلك إلى زوال مثل الماء حين ينزل من السماء فيختلط بتربة الأرض، فينبت النبات المزهر الجميل، والذي سرعان ما يتحول إلى حطام.

لذلك اعترض بعض المتمحكين على أسلوب القرآن في قول الحق سبحانه وتعالى عن موسى عليه السلام:{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىا عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ... }[آل عمران: 59].

ووجه اعتراضه أن (مَثَل) جاءت تُشبه مفرداً بمفرد، وهو عيسى بآدم عليهما السلام، ونحن نقول: إنها تشبه صورة متكاملة بأخرى ونقول: هذا الاعتراض ناتج عن عدم فهم المعنى المراد من الآية، فالحق سبحانه لا يُشبِّه عيسى بآدم كأشخاص، إنما يُشبِّه قصة خَلْق آدم بقصة خلق عيسى، فآدم خُلِق من غير أب، وكذلك عيسى خُلِق من غير أب.

والمعنى: إنْ كنتم قد عجبتم من أن عيسى خُلِق بدون أب، فكان ينبغي عليكم أنْ تعجبُوا أكثر من خَلْق آدم؛ لأنه جاء بلا أب وبلا أم، وإذا كنتم اتخذتم عيسى إلهاً؛ لأنه جاء بلا أب، فالقياس إذنْ يقتضي أن تكون الفتنة في آدم لا في عيسى.

والمسألة أن الله تعالى شاء أن يعلن خلْقه عن طلاقة قدرته في أنه لا يخلق بشكل مخصوص، إنما يخلق كما يشاء سبحانه من أب وأم، أو من دون أب، ومن دون أم، ويخلق من أب فقط، أو من أم فقط.

إذن: هذه المسألة لا تخضع للأسباب، إنما لإرادة المسبِّب سبحانه، فإذا أراد قال للشيء: كُنْ فيكون. وقد يجتمع الزوجان، ويكتب عليهما العقم، فلا ينجبان، وقد يصلح الله العقيم فتلد، ويُصلح العجوز فتنجب - والأدلة على ذلك واضحة - إذن: فطلاقة القدرة في هذه المسألة تستوعب كل الصور، بحيث لا يحدها حَدٌّ.

والحق سبحانه حين يضرب لنا الأمثال يريد بذلك أنْ يُبيِّن لنا الشيء الغامض بشيء واضح، والمبهم بشيء بيِّن، والمجمل بشيء مُفصَّل، وقد جرى القرآن في ذلك على عادة العرب، حيث استخدموا الأمثال في البيان والتوضيح.

ويُحكَي أن أحدهم، وكان صاحب سمعة طيبة وسيرة حسنة بين الناس، فحسده آخر، وأراد أنْ يلصق به تهمة تُشوِّه صورته، وتذهب بمكانته بين الناس فاتهمه بالتردد على أرملة حسناء، وقد رآه الناس فعلاً يذهب إلى بيتها، فتخرج له امرأة فيعطيها شيئاً معه.

ولما تحقق الناس من المسألة وجدوها عجوزاً لها أولاد صغار وهم فقراء، وهذا الرجل يعطف عليهم ويفيض عليهم مما رزقه الله، فلما عرفوا ذلك عن الرجل عظَّموه، ورفعوا من شأنه، وزاد في نظرهم مجداً وفضلاً.

وقد أخذ الشاعر هذا المعنى وعبَّر عنه قائلاً مستخدماً المثل:وإذَا أرادَ الله نَشْر فَضِيلةٍ طُويَتْ أَتاحَ لَها لِسَانَ حَسُودلَوْلا اشْتِعالُ النارِ فيما جاورَتْ مَا كان يعرف طِيب عَرْفِ العٌودِوالعود نوع من البخور، طيب الرائحة، لا تنتشر رائحته إلا حين يُحرَق.

ومن مشتقاتها أيضاً (مَثُلَة) كما في قوله تعالى:{ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ... }[الرعد: 6] وهي العقوبات التي حاقتْ بالأمم المكذِّبة، حتى جعلتها عبرةً لغيرها.

فإذا اشتهر المثَل انتشر على الألسنة، وضربه الناس مثلاً كما اشتهر حاتم الطائي بالكرم والجود حتى صار مضرب المثل فيه، وقد تشتهر بيننا عبارة موجزة، فتصير مثلاً يضرب في مناسبها كما نقول للتلميذ الذي يهمل طوال العام، ثم يجتهد ليلة الامتحان (قبل الرماء تملأ الكنائن) مع الاحتفاظ بنص المثل في كل مناسبة، وإن لم يكُنْ هناك رمي ولا كنائن.

كما أن المثل يقال كما هو دون تغيير، سواء أكان للمفرد، أم المثنى، أم الجمع المذكر، أو للمؤنث. كذلك نقول (ماذا وراءك يا عصامِ) بالكسر؛ لأنها قيلت في أصل المثَل لامرأة.

يقول الحق سبحانه: } مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً... { [العنكبوت: 41].

فهذا مثل في قمة العقيدة، ضربه الله لنا للتوضيح وللبيان، ولتقريب المسائل إلى عقولنا، وإياك أن تقول للمثل الذي ضربه الله لك: ماذا أراد الله بهذا؟ لأن الله تعالى قال:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا... }[البقرة: 26].

فالبعض يرى أن البعوضة هذه شيء تافه، فكيف يجعله الله مثلاً؟ والتحقيق أن البعوضة خَلْق من خَلْق الله، فيها من العجائب والأسرار ما يدعوك للتأمل والنظر، وليست شيئاً تافهاً كما تظن، بل يكفيك فَخْراً أنْ تصل إلى سِرِّ العظمة فيها.

ففي هذا المخلوق الضئيل كل مُقوِّمات الحياة والإدراك، فهل تعرف فيها موضع العقل وموضع جهازها الدموي.. إلخ وفضلاً عن الذباب والناموس وصغار المخلوقات ألا ترى الميكروبات التي لا تراها بعينك المجردة ومع ذلك يصيبك وأنت القوى بما يؤرقك وينغص عليك.

إذن: لا تقُلْ لماذا يضرب الله الأمثال بهذه الأشياء لأن الله{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا... }[البقرة: 26] ما فوقها أي: في الصِّغَر والاستدلال. أي: ما دونها صِغَراً؛ لأن عظمة الخلق كما تكون بالشيء الأكثر ضخامة تكون كذلك بالشيء الأقلّ حجماً الأكثر دِقَّة.

لو نظرتَ مثلاً إلى ساعة (بج بن) وهي أضخم وأشهر ساعة في العالم، وعليها يضبط العالم الوقت لوجدتَها شيئاً ضخماً من حيث الحجم ليراها القادم من بعيد، ويستطيع قراءتها، فدلَّتْ على عظمة الصِّنْعة ومهارة المهندسين الذين قاموا ببنائها، فعظمتها في ضخامتها وفخامتها، فإذا نظرتَ إلى نفس الساعة التي جعلوها في فصِّ الخاتم لوجدتَ فيها أيضاً عظمة ومهارة جاءت من دِقَّة الصنعة في صِغَر الحجم.

كذلك الراديو أول ما ظهر كان في حجم (النورج)، والآن أصبح صغيراً في حجم الجيب.

ومن مخلوقات الله ما دق؛ لدرجة أنك لا تستطيع إدراكه بحواسك، والعجيب أن يطلب الإنسان أنْ يرى الله جهرة، وهو لا يستطيع أنْ يرى آثار خَلْقه وصَنْعته. فأنت لا ترى الجن، ولا ترى الميكروب والجراثيم، ولا ترى حتى روحك التي بين جنبيك والتي بها حياتُك، لا يرى هذه الأشياء ولا يدركها بوسائل الإدراك الأخرى، فمن عظمته تعالى أنه يدرك الأبصار، ولا تدركه الأبصار.

نعود إلى المثَل الذي ضربه الله لنا: } مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ... { [العنكبوت: 41] أي: شركاء وشفعاء } كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ... { [العنكبوت: 41] هذا المخلوق الضعيف الذي ينسج خيوطه بهذه الدقة التي نراها، والذي نسج خيوطه على الغار في هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشترك مع الحمامة في التعمية على الكفار.

} اتَّخَذَتْ بَيْتاً... { [العنكبوت: 41] أي: من هذه الخيوط الواهية } وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ... { [العنكبوت: 41] فخطأ العنكبوت ليس في اتخاذ البيت، إنما في اتخاذ هذه الخيوط الواهية بيتاً له وهبّة ريح كافية للإطاحة بها، ويشترط في البيت أن يكون حصيناً يحمي صاحبه، وأن تكون له أبواب ونوافذ وحوائط..إلخ. أما لو اتخذها شبكة لصيد فرائسه لكان أنسب، وكذلك الكفار اتخذوا من الأصنام آلهة، ولو اتخذوها دلالة على قدرة الحق في الخَلْق لكان أنسب وأَجدْى.

وكما أن بيت العنكبوت تهدمه هَبَّة ريح وتُقطعه وأنت مثلاً تنظف بيتك، وربما تقتل العنكبوت نفسه، فكذلك طبْق الأصل يفعل الله بأعمال الكافرين:{ وَقَدِمْنَآ إِلَىا مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً }[الفرقان: 23].

وكذلك يضرب لهم مثلاً آخر:{ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ... }[إبراهيم: 18].

ومعنى: } لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ { [العنكبوت: 41] أي: حقيقة الأشياء، فشبكة العنكبوت لا تصلح بيتاً، ولكن تصلح مصيدةً للحشرات، وكذلك الأصنام والأحجار لا تنفع لأنْ تكون آلهة تُعبد، إنما لأنْ تكون دلالة على قدرة الخالق - عز وجل - فلو فكَّروا فيها وفي أسرار خَلْقها لاهتدوا من خلالها للإيمان.

فهي - إذن - دليلُ قدرة لو كانوا يعلمون، فالجبل هذا الصخر الذي تنحتون منه أصنامكم هو أول خادم لكم، ولمن هو أَدْنى منكم من الحيوان والنبات، وسبق أن قلنا: إن الجماد يخدم النبات، ويخدم الحيوان، وهم جميعاً في خدمة الإنسان.

إذن: فالجماد خادم الخدامين، ومع ذلك جعلتموه إلهاً، فانظروا إذن إلى هذه النقلة، وإلى خِسَّة فكركم، وسوء طباعكم حيث جعلتم أدنى الأشياء وأحقرها أعلى الأشياء وأشرفها - أي: في زعمكم.

فكيف وقد ميَّزك الله على كل الأجناس؟ لقد كان ينبغي منك أن تبحث عن شيء أعلى منك يناسب عبادتك له، وساعتها لن تجد إلا الله تتخذه إلهاً.

بل واقرأ إنْ شِئْتَ عن الجماد قوله تعالى:{ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا... }[فصلت: 9-10] أي: في الأرض{ رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ }[فصلت: 10].

فكأن الجبال الصَّماء الراسية هي مخازن القوت للناس على مَرِّ الزمان، فمنها تتفتت الصخور، ويتكوَّن الطمي الذي يحمله إلينا الماء في أيام الفيضانات، ومنها تتكون الطبقة المخصبة في السهول والوديان، فتكون مصدر خصْب ونماء دائم ومتجدد لا ينقطع. وتذكرون أيام الفيضان وما كَان يحمله نيل مصر إلينا من خير متجدد كل عام، وكيف أن الماء كان يأتينا أشبه ما يكون بالطحينة من كثرة ما به من الطمي.

فياليت عُبَّاد الأصنام الذين نحتوا الصخور أصناماً تأملوا هذه الآيات الدالة على قدرة الخالق سبحانه بدل أن يعبدوها من دون الله.

وفي موضع آخر يضرب لنا الحق سبحانه مثلاً في قمة العقيدة أيضاً فيقول سبحانه:{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }[الزمر: 29].

ففَرْق بين عبد مملوك لسيد واحد يتلقَّى منه وحده الأمر والنهي، وبين عبد مملوك لعدة شركاء، وليتهم متفقون، لكن{ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ... }[الزمر: 29] مختلفون لكلٍّ أوامر، ولكلٍّ منهم مطالب، فكيف إذن يُرضيهم؟ وكيف يقوم بحقوقهم وهم يتجاذبونه؟

فالذي يعبد الله وحده لا شريك له كالعبد لسيد واحد، والذين يعبدون الأصنام كالعبد فيه شركاء متشاكسون. إذن: فالحق سبحانه يضرب الأمثال للناس في الحقائق ليُبيِّنها لهم بياناً واضحاً.

ثم يقول الحق سبحانه: } إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا... {.

(/3307)

إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)

يقول سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ... } [العنكبوت: 42] لأنهم حين ضُيِّق عليهم الخناق قالوا: نحن لا نعبد الأصنام، إنما نعبد الكواكب التي تُسيِّر هذه الأصنام أو الملائكة، فردَّ الله عليهم: { مِن شَيْءٍ... } [العنكبوت: 42] للتقليل، كأنَّ ما يدعونه من دونه لا يُعَد شيئاً، أو هو أتفه من أن يكون شيئاً، أو يعلم سبحانه ما يدعون من دونه من أي شيء.

أو أن يعلم سبحانه ما يدعون من دونه من أي شيء.

أو أن (شيء) من قولنا: شاء يشاء شيئاً، فالشيء ما يُراد من الغير أنْ يفعله، والذي شاء هو الله تعالى، وكأنهم يعبدون الشيء ويتركون خالقه، وهو الأحقُّ بالعبادة سبحانه، فماذا جرى لكم؟! تعبدون المخلوق وتتركون الخالق، وبعد أن كرمكم الله تهينون أنفسكم، وترضون لها الدون، حيث تعبدون ما هو أقلّ منكم مرتبةَ في الخَلْق، والأصنام جمادات، وهي أدنى أجناس الوجود.

ثم يقول سبحانه: { وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [العنكبوت: 42] العزيز الذي يَغْلب، ولا يُغلب، وهو الحكيم في كُلِّ ما قضى وأمر.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا... }.

(/3308)

وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)

فمَنْ يسمع المثل من الله تعالى ثم لا يعقله فليس بعالم؛ لذلك ليسوا علماء الذين اعترضوا على قوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا... }[البقرة: 26] حيث استقلُّوا البعوضة، ورأوها لا تستحق أنْ تُضرب مثلاً.

ونقول لهم: أنتم لستم عاقلين ولا عالمين بدقة المثل، واقرأوا:{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ.... }[الحج: 73] بل وأكثر من ذلك:{ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ... }[الحج: 73].

دَعْك من مسألة الخَلْق، وتعالَ إلى أبسط شيء في حركة حياتنا إذا وقع الذباب على طعامك، فأخذ منه شيئاً أتستطيع أن تسترده منه مهما أُوتيتَ من القوة والجبروت؟

إذن: فالذبابة ليست شيئاً تافهاً كما تظنون، بل واقلّ منها الناموس (والميكروب) وغيره مما لا يُرَى بالعين المجردة مخلوقات لله، فيها أسرار تدلُّ على قدرته تعالى.

كما قال سبحانه:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا... }[البقرة: 26] أي: ما فوقها في الصِّغَر، ولك أن تتأمل البعوضة، وهي أقلّ حجماً من الذباب، وكيف أن لها خرطوماً دقيقاً ينفذ من الجلد، ويمتصّ الدم الذي لا تستطيع أنت إخراجه إلا بصعوبة، (والميكروب) الذي لا تراه بعينك المجردة ومع ذلك يتسلل إلى الجسم فيمرضه، ويهدّ كيانه، وربما انتهى به إلى الموت.

إذن: ففي هذه المخلوقات الحقيرة في نظرك عبر وآيات، لكن لا يعقلها إلا العالمون، ومعظم هذه الآيات والأسرار اكتشفها غير مؤمنين بالله، فكان منهم مَنْ عقلها فآمن، ومَنْ لم يعقلها فظلَّ على كفره على أنه أَوْلَى الناس بالإيمان بالله؛ لأن لديه من العلم ما يكتشف به أسرار الخالق في الخَلْق. لذلك جاء في الأثر: " العالم الحق هو الذي يعلم مَنْ خلقه، ولِمَ خلقه ".

ثم يقول الحق سبحانه: { خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ... }.

(/3309)

خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)

أراد الحق سبحانه أن يبرهن لنا على طلاقة قدرته تعالى، فقال: { خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ... } [العنكبوت: 44] والخَلْق: إيجاد المعدوم، لكن الغرض مخصوص، ولمهمة يؤديها، فإنْ خلقت شيئاً هكذا كما اتفق دون هدف منه فلا يُعَد خلقاً.

ومسألة الخَلْق هذه هي الوحيدة أقرَّ الكفار بها لله تعالى، فلما سألهم:{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ... }[لقمان: 25] فلماذا أقرُّوا بهذه بالذات؟ ولماذا ألجمتهم؟

هذا ليس عجيباً منهم؛ لأننا نشاهد كل مَنْ يأتي بجديد في الكون حريصاً على أنْ ينسبه لنفسه، وعلى أنْ يُبيِّن للناس مجهوداته وخبراته، وأنه اخترع كذا أو اكتشف كذا، كالذي اكتشف الكهرباء أو اخترع (التليفون أو التليفزيون).

ما زِلْنا حتى الآن نذكر أن قانون الطفو لأرشميدس، وقانون الجاذبية لنيوتن، والناس تسجل الآن براءات الاختراع حتى لا يسرق أحد مجهودات أحد، ولتحفظ لأصحاب التفوق العقلي والعبقري ثمرة عبقريتهم.

وكذلك كان العرب قديماً يذكرون لصاحب الفضل فَضلْه، حتى إنهم يقولون: فلان أول مَنْ قال مثلاً: أما بعد. وفلان أول من فعل كذا.

إذن: فنحن نعرف الأوائل في كل المجالات، وننسب كل صنعة وكل اختراع واكتشاف إلى صاحبه، بل ونُخلِّد ذكراه، ونقيم له تمثالاً.. إلخ.

إذن: فما بالك بالخالق الأعظم سبحانه الذي خلق السماوات والأرض وما فيهما ومَنْ فيهما، أليس من حقه أن يعلن عن نفسه؟ أليس من حقه على عباده أن يعترفوا له بالخَلْق؟ خاصة وأن خَلْق السماوات والأرض لم يدَّعه أحد لنفسه، ولم ينازع الحق فيه منازع، ثم جاءنا رسول من عند الله تعالى يخبرنا بهذه الحقيقة، فلم يوجد معارض لها، والقضية تثبُت لصاحبها إلى أنْ يوجد معارض.

وقد مثَّلنا لهذه المسألة - ولله المثل الأعلى - بجماعة جلسوا في مجلس، فلما انفضَّ جمعهم وجد صاحب البيت محفظة نقود لواحد منهم، فسألهم: لمن هذه المحفظة؟ فقالوا جميعاً: ليست لي إلا واحد منهم قال: هي محفظتي، فهل يشكُّ صاحب البيت أنها لمن ادَّعاها؟

ولك أنْ تسأل: ما دام الحق سألهم{ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ... }[لقمان: 25] فقالوا (الله) فلماذا يذكر الله هذه القضية؟ قالوا: الحق - تبارك وتعالى - لا يريد بهذه الآية أن يخبرنا أنه خالق السماوات والأرض، إنما يريد أن يخبرنا أن خَلْق السماوات والأرض بالحق، والحق: الشيء الثابت الذي لا يتغير مع الحكمة المترتبة على كل شيء في الوجود، فإذا نظرنا إلى خَلْق السماوات والأرض لوجدناه ثابتاً لم يتغير شيء فيه.

لذلك يقول سبحانه:{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ.. }[غافر: 57].

فالسماوات والأرض خَلْق هائل عظيم، بحيث لو قارنته بخَلْق الإنسان لكان خَلْق الإنسان أهون. وانظر مثلاً في عمر السماوات والأرض وفي عمر الإنسان: أطول أعمار البشر التي نعلمها حتى الآن عمر نوح عليه السلام، وبعد هذا العمر الذي نراه طويلاً انتهى إلى الموت، فعمر الإنسان معلوم يكون سنة واحدة، أو ألف سنة لكن لا بُدَّ أن يموت.

أما السماوات والأرض وما فيها من مخلوقات إنما خُلقت لخدمة الإنسان، فالخادم عمره أطول من المخدوم، فالشمس مثلاً خلقها الله تعالى من ملايين السنين، ومازالت كما هي لم تتغير، ولم تتخلف عن مهمتها، وكذلك القمر:{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ }[الرحمن: 5].

أي: بحساب دقيق؛ لذلك يقولون: سيحدث كسوف مثلاً أو خسوف يوم كذا الساعة كذا، وفي نفس الوقت يحدث فعلاً كسوف للشمس أو خسوف للقمر مما يدلّ على أنهما خُلِقا بحساب بديع دقيق، ويكفي أننا نضبط على الشمس مثلاً ساعاتنا، ومع ما عُرِف عن الشمس والقمر، من كِبَر حجمهما، فإنهما يسيران في مسارات وأفلاك دون صدام، كما قال تعالى:{ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }[الأنبياء: 33].

هذا كله من معنى خَلْق السماوات والأرض بالحق. أي: بنظام ثابت دقيق منضبط لا يتغير ولا يتخلف في كُلِّ مظاهره، فأنت أيها الإنسان يمكن أنْ تتغير؛ لأن الله جعل لك اختياراً فتستطيع أن تطيع أو أن تعصي، تؤمن أو والعياذ بالله تكفر، لكن خَلْق السماوات والأرض جاء على هيئة القهر والتسخير، وإن كانت مختارة بالقانون العام والاختيار الأول، حيث قال تعالى:{ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }[الأحزاب: 72].

إذن: خُيِّرت فاختارت ألاَّ تختار، وخرجت عن مرادها لمراد ربها.

ثم يقول سبحانه: } إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ { [العنكبوت: 44] لماذا قال (للمؤمنين) مع أنها آية للناس جميعاً؟ وسبق أنْ خاطب الله الكافرين{ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ... }[لقمان: 25] فلماذا خصَّ هنا المؤمنين دون الكافرين؟

قالوا: هناك فَرْق بين خَلْق السماوات والأرض، وبين كَوْنها مخلوقة بالحق، فالجميع يؤمن بأنها مخلوقة، لكن المؤمنين فقط هم الذين يعرفون أنها مخلوقة بالحق.

يقول الحق سبحانه: } اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ... {.

(/3310)

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)

بعد أن ذكر الله تعالى بعض مواكب الرسل في إبراهيم وفي موسى ونوح وصالح وهود ولوط وفي شعيب، ثم تكلَّم سبحانه عن الذين كذبوا هؤلاء الرسل{ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ... }[العنكبوت: 40] أراد سبحانه أن يُسلِّي رسوله صلى الله عليه وسلم بأن لا يزعجه، ولا يرهقه، أو يتعب نفسه موقف الكافرين به الذين يصدون عن سبيل الله، ويقفون من الدعوة موقف العداء.

فقال له مُسلِّياً: { اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ... } [العنكبوت: 45] يعني: لِمَ تحزن يا محمد ومعك الأُنْس كله، الأُنْس الذي لا ينقضي، وهو كتاب الله ومعجزته التي أنزلها إليك، فاشتغل به، فمع كل تلاوة له ستجد سكناً إلى ربك.

وإذا كان هؤلاء الذين عاصروك لم يؤمنوا به، ولم يلتفتوا إلى مواطن الإعجاز فيه فداوم أنت على تلاوته عَلَّ الله يأتي من هؤلاء بذرية تصفو قلوبهم لاستقبال إرسال السماء، فيؤمنون بما جحده هؤلاء، والأمر بالتلاوة لبقاء المعجزة.

{ اتْلُ... } [العنكبوت: 45] اقرأ ولا تعجز ولا تيأس، فالقرآن سلوة لنفسك؛ لأن الذي يرسل رسولاً من البشر بشيء أو في أمر من الأمور، ثم يكذب يرجع إلى مَنْ أرسله، فما دام قومك قد كذَّبوك، فارجع إليَّ بأن تستمع إلى كتابي الذي أنزلتُه معجزة لك تؤيدك، وانتظر قوماً يأتون يسمعون منك كلام الله، فيصادف منهم قلوباً صافية، فيؤمنون به.

وفَرْق بين الفاعل والقابل، والقرآن يُوضِّح هذه المسألة، فمن الناس مَنْ إذا سمعوا القرآن تخشع له قلوبهم، وتقشعر جلودهم، ومنهم مَنْ إذا سمعوه قالوا على سبيل الاستهزاء{ مَاذَا قَالَ آنِفاً... }[محمد: 16] تهويناً من شأن القرآن، ومن شأن رسول الله.

ثم يقرر القرآن هذه الحقيقة:{ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى... }[فصلت: 44].

إذن: فالقرآن واحد، لكن المستقبل للقرآن مختلف، فالعبرة في صفاء الاستقبال لأن الإرسال واحد، وهل تتهم الإذاعة إنْ كان جهار (الراديو) عندك معطلاً، لا يستقبل إرسالها؟

كذلك مَنْ أراد أن يستقبل إرسال السماء فعليه أنْ يُعِد الأذن الواعية والقلب الصافي غير المشوش بما يخالف إرسال السماء، عليك أنْ تُخرِج ما في نفسك أولاً من أضداد للقرآن، ثم تستقبل كلام الله وتنفعل به.

وسبق أنْ مثَّلْنا لاختلاف المنفعل للفعل بمَنْ ينفخ في يده وقت البرد بقصد التدفئة، وبمَنْ ينفخ بنفَسه في الشاي مثلاً ليبرده، فهذه للحرارة، وهذه للبرودة، الفعل واحد، لكن المنفعل مختلف.

فقوله تعالى: { اتْلُ مَا أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ... } [العنكبوت: 45] هذه هي مَيْزة معجزتك يا محمد أنك تستطيع أنْ تكرِّرها في كل وقت، وأن تتلوها كما تشاء، وأن يتلوها بعدك مَنْ سمعها، وستظل تتردد إلى يوم القيامة.

أما معجزات الرسل السابقين فكانت خاصة بمَنْ شاهد المعجزة، فإذا مات مَنْ شهدها فلا يعرفها أحد بعدهم حتى لو كان معاصراً لها ولم يَرَهَا، فالذين عاصروا مثلاً انقلاب عصا موسى حية ولم يشاهدوا هذا الموقف، ماذا عندهم من هذه المعجزة؟ لا شيء إلا أننا نُصدِّقها ونؤمن بها؛ لأن القرآن أخبرنا بها.

إذن: فمعجزات السابقين تأتي كلقطة واحدة أشبه ما تكون بعود الكبريت الذي يشتعل مرة واحدة، رآها مَنْ رآها وتنتهي المسألة، ولكن القرآن حدثنا بكل معجزات الرسل السابقين فانظر إذن ما أصاب الرسل جميعاً من خيرات سيدنا رسول الله، وكيف خَلَّد القرآن ذكرهم، وامتدت معجزاتهم بامتداد معجزته.

فكأن القرآن أسدى الجميل إلى كل الرسل، وإلى كل المعجزات؛ لذلك قال تعالى عن القرآن:{ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ... }[المائدة: 48].

ثم يقول سبحانه: } وَأَقِمِ الصَّلاَةَ... { [العنكبوت: 45] وملعوم أن اتْلُ: التلاوة قَوْل من فعل اللسان و } وَأَقِمِ... { [العنكبوت: 45] من فعل الجوارح، والإنسان له جوارح متعددة اشتهر منها خمس هي: العين للإبصار، والأذن للسمع، والأنف للشم، واللسان للتذوق، والأنامل للَّمس.

فقالوا على سبيل الاحتياط: الجوارح الخمسة الظاهرة وقد ظهر فعلاً مع تقدُّم العلوم اكتشفوا في الإنسان حواسَّ أخرى ووسائلَ إدراك لم تُعرف من قبل، كحاسة العضل التي تزن بها ثقل الأشياء، وإلا فبأيِّ حاسة من حواسِّك الخمسة تعرف الثقل قبل أن ترفع الشيء من على الأرض؟

وكحاسة البَيْن، والتي بها تستطيع أنْ تُميِّز بين سُمْك الأشياء بين أناملك، فحين تذهب مثلاً إلى تاجر الأقمشة، فتتناول القماش بين أناملك و (تفركه) برفق، فتستطيع أن تعرف أن هذا أَسْمَك من هذا.

ومن عجيب الأمر في مسألة الجوارح أن يأخذ اللسان شطر الجوارح كلها، ففعل الحواس الخمسة يسمى عملاً، والعمل ينقسم: إما قول، وإما فعل. فكل تحريك لجارحة لتؤدي مهمة يسمى عملاً، لكن عمل اللسان يسمى قولاً، أما من بقية الجوارح فيسمى فعلاً.

فأخذ اللسان هذه المكانة؛ لأن به الإنذار من الحق، وبه التبشير، وبه البلاغ من الرسول؛ لذلك يقول الحق سبحانه:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }[الصف: 2].

ولم يقل: ما لا تعملون. لأن القول يقابله الفعل، وهُما معاً عمل، والعمل بنية القلب.

لكن، لماذا اختار الصلاة من بين أعمال الجوارح؟ قالوا: لأنها قمة العمل كما سماها النبي صلى الله عليه وسلم: " الصلاة عماد الدين " وبها نُفرِّق بين المؤمن والكافر. ويبقى السؤال: لماذا أخذتْ الصلاة هذه المكانة من بين أركان الإسلام؟

ونحب أنْ نشير هنا إلى أن خصوم الإسلام وبعض أهله الذين يخافون من بعثه أنْ يقضي على سلطتهم وطُغْيانهم وجبروتهم يريدون حَصْر الإسلام في أركانه الخمسة، فإنْ قُلْت بهذه المقولة لا يتعرضون لك، وأنت حر في إطار أركان الإسلام هذه، لكن إياك أن تقول: إن الإسلام جاء ليُنظِّم حركة الحياة؛ لأن حظهم في حَصْر الإسلام في أركانه فقط.

وما فَهم هؤلاء أن الأركان ليست هي كل الإسلام، إنما هي أسُسه وقواعده التي يقوم عليها بناؤه، لكنهم يريدون أنْ يعزلوا الإسلام عن حركة الحياة. فنقول لهم: نعم، هذه أركان الإسلام، أمَّا الإسلام فيشمل كل شيء في حياتنا، بداية من قمة العقيدة في قولنا: لا إله إلا الله محمد رسول الله إلى إماطة الأذى عن الطريق؛ لأن الإسلام دين يستوعب كل أقضية الحياة، كيف لا وهو يُعلِّمنا أبسط الأشياء في حياتنا.

ألاَ تراه يهتم بأحكام قضاء الحاجة ودخول الخلاء، وما يتعلق به من آداب وأحكام؟ أَلاَ ترى أن صاحب الحِسْبة المكلَّف بمراقبة الأسواق، وتنفيذ أحكام منهج الله في الأرض إذا رأى جزاراً ينفخ ذبيحته بفمه يقوم بإعدام هذه الذبيحة؛ لأن الهواء المستخدم في نفخها هواء غير صحي، فهو زفير مُحمَّل بثاني أكسيد الكربون، وقد يحمل غازات أخرى ضارة لا بُدَّ أنْ تنتقل إلى لحم الذبيحة؟

كما أن من مهمته أن يمر بالحلاقين، ويتفقد مدى نظافتهم وسلامتهم من الأمراض، وإذا اشتم من أحدهم رائحة ثوم أو بصل مثلاً أمره بإغلاق محله، وعدم العمل في هذا اليوم حتى لا يتأذى الناس برائحته.

فأيُّ شرع هذا الذي يحافظ على سلامة الناس ومشاعرهم إلى هذا الحدِّ؟ إنه دين الله ومنهجه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة في حركة الحياة إلا ووضع لها أحكاماً وآداباً. أمِثْل هذا الشرع يُعزل عن حركة الحياة ويُقيّد وينحصر في مسائل العبادات وحدها؟

إنك حين تنظر إلى متاعب العالم المتخلف الآن - دَعْك من العالم المتقدم - ستجد أن متاعبه اقتصادية، ولو تقصيْتَ الأسباب لوجدتها تعود إلى التخلي عن منهج الله وتعطيل أحكامه، ووالله لو أنهم أخذوا في أزمتهم الاقتصادية بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع ".

لو عملوا بهذا وتأدَّبوا بأدب رسولهم لخرجوا من هذه الأزمة، وتقلَّبوا في رَغَد من العيش، إنك لو تحليْتَ بهذا الأدب في مسألة الطعام والشراب لكفتْك اللقمة واللقمتان، وأشهى الطعام ما كان بعد جوع مهما كان بسيطاً.

أما الآن، فنرى الناس يلجئون إلى المشهِّيات قبل الطعام، وإلى المهضِمات بعده، لماذا؟ لأنهم خالفوا هَدْي رسولهم صلى الله عليه وسلم، فهم يأكلون على شِبَع، ويأكلون بعد الشِّبَع.

والحق - تبارك وتعالى - يقول:{ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ... }[الأعراف: 31] وأُثِر عن العرب الذين عاشوا في شظف من العيش: نِعمْ الإدام الجوع. نعم إنه (الغموس) الحقيقي، والمشهِّي الأول.

نعود إلى مكانة الصلاة بين العبادات، ولماذا كانت هي عماد الدين، ومعنى: " الصلاة عماد الدين " و " بُنِي الإسلام على خمس "

أن الدين أشياء أخرى، وهذه هي أُسُسه وقواعده، وحين نتتبع هذه القواعد نجد أن الركن الأول، وهو أشهد ألاّ إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله يمكن أن أقولها ولو مرة واحدة، أما الزكاة فلا تجب مثلاً على الفقير فلا يزكي، وكذلك المريض لا يصوم، والمسافر والحائض.. إلخ، وكذلك الحج غير واجب إلا على المستطيع.

إذن: ما هو الركن الثابت الذي يلازم كل مسلم، ولا يسقط عنه بحال؟ إنها الصلاة؛ لذلك أخذتْ مساحة كبيرة من الوقت على مدى اليوم والليلة، وبها يكون إعلان الولاء الدائم لله تعالى، وبها تفرق بين المؤمن وغير المؤمن، فإنْ رأيتَ شخصاً مثلاً لا يصوم أو لا يزكي أو لا يحج، فلك أنْ تقول ربما يكون من أصحاب الأعذار، ومن غير القادرين، لكن حين ترى شخصاً لا يُصلِّي، وقد تكرَّر منه ذلك فإنك لا بُدَّ شاكّ في إسلامه.

لذلك استحقت الصلاة هذه المكانة بين سائر العبادات منذ بدايات التشريع، ألا ترى أن كل فرائض الدين شُرعت بالوحي إلا الصلاة، فقد شُرعت بالخطاب المباشر من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في رحلة المعراج.

وسبق أنْ مثَّلْنا لذلك، ولله المثل الأعلى، برئيس العمل الذي يُصدر أوامره بوسائل مختلفة حَسْب أهمية المأمور به، فقد يكتفي بأن (يُؤشر) على ورقة، وقد يُوصي بها، أو يطلب الموظف المختص فيُحدِّثه (بالتليفون)، فإنْ كان الأمر هاماً استدعاه شرطياً إلى مكتبه وكلَّفه بما يريد.

وكان هذا الاستدعاء تشريفاً لسيدنا رسول الله بقرب المرسل من المرسل، فأراد الحق - سبحانه وتعالى - ألاَّ يحرم أمه محمد فضل أسبغه على محمد فكأنه قال: مَنْ أراد من عبادي أنْ يقرب من كما قرب محمد فكان قاب قوسين أو أدنى فليُصلِّ.

ومعنى } وَأَقِمِ الصَّلاَةَ... { [العنكبوت: 45] إقامة الشيء: أداؤه على الوجه الأكمل الذي يؤدي غايته، فالصلاة المطلوبة هي الصلاة المستوفاة الشروط والتي تقيمها كما يريدها مُشرِّعها } إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَىا عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ... { [العنكبوت: 45].

والصلاة إذا استوفتْ شروطها نهتْ صاحبها عن الفحشاء والمنكر، فإذا رأيتَ صلاة لا تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر، فاعلم أنها ناقصة عما أراده الله لإقامتها، وعلى قَدْر النقص تكون ثمرة الصلاة في سلوك صاحبها، وكأن وقوعك في بعض الفحشاء وفي بعض المنكر يُعَدُّ مؤشراً دقيقاً لمدى إتقانك لصلاتك وحرصك على تمامها وإقامتها.

ومعنى } إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَىا عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ... { [العنكبوت: 45] واضح في قول النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: " يا رسول الله، إن فلاناً يصلي، لكن صلاته لا تنهاه عن الفحشاء والمنكر، فقال: " دعوه، فإن صلاته تنهاه " ".

فالمعنى هنا أن الأمر ليس أمراً كونياً ثابتاً لا يتخلف، بل هو أمر تشريعي عُرْضة لأنْ يُطاع، وعُرْضة لأنْ يُعصى، فلو كان الأمر كونياً ما جرؤ صاحب صلاة عل الفحشاء والمنكر، ومثال ذلك أن أقول مثلاً لأولادي قبل أن أموت: يا أولادي، هذا بيت يكرم مَنْ يدخله.

كلام على سبيل الخبر ولم أقل: أكرموا مَنْ يدخله، فالذي يحترم وصيتي منهم يكرم مَنْ يدخل بيتي من بعدي، والذي لا يحترم الوصية لا يُكرم مَنْ يدخله. أما لو قلت: أكرموا مَنْ يدخل هذا البيت فقد ألزمتَ الجميع بالإكرام.

وأوضح من هذا قوله تعالى في شأن المسجد الحرام:{ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً... }[آل عمران: 97] فلما حدث أن اقتحمه بعض أصحاب الأهواء، وأطلقوا النار في ساحاته، وقتلوا فيه الآمنين قامتْ ضجة كبيرة تُشكِّك في هذه الآية: كيف يحدث هذا والله يقول{ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً... }[آل عمران: 97] فأقاموا هذه الأحداث دليلاً على كذب الآية والعياذ بالله.

وهذا المسلك منهم يأتي عن عدم فهم لمعنى الأمر الكوني والأمر التشريعي، فقوله تعالى:{ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً... }[آل عمران: 97]أمر تشريعي قابلٌ لأنْ يُطاع، ولأنْ يٌعصي، كأن الحق - سبحانه وتعالى - قال: أمِّنُوا مَنْ دخل البيت، فبعض الناس امتثل للأمر، فأمَّن مَنْ في البيت الحرام، وبعضهم عصى فروَّع الناس، وقتلهم في ساحته، ولو كان أمراً كونياً ما تخلَّف أبداً كما لو تتخلف الشمس مثلاً يوماً من الأيام.

وكذلك الأمر في } إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَىا عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ... { [العنكبوت: 45] فالصلاة تشريع من الله، فإذا كان الله تعالى هو المشرِّع، وقال:{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَىا وَيَنْهَىا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر... }[النحل: 90] يعني: لا يوجد معها فحشاء ولا منكر، وهذا أيضاً صحيح؛ لأنني حين أدخل في الصلاة بتكبيرة الإحرام فإن هذه التكبيرة تحرم عليَّ كل ما كان حلالاً لي قبل الصلاة، ففي الصلاة مثلاً لا آكل ولا أشرب ولا أتحرك، مع أن هذه المسائل كانت حلالاً قبل الصلاة، فما بالك بما كان حراماً عليك أصلاً قبل الصلاة؟ إذن: فهو حرام من باب أَوْلَى.

فالصلاة بهذا المعنى تمنعك من الفحشاء والمنكر في وقتها؛ لأن تكبيرة الإحرام (الله أكبر) تعني أن الله أكبر من كل شيء في الوجود حتى من شهوات النفس ونزواتها، وإلاَّ فكيف تقيم نفسك بين يدي ربك، ثم تخالف منهجه؟ فالصلاة بهذا المعنى تنهى على حقيقتها عن الفحشاء والمنكر.

ومعنى (الفَحْشَاء) كل ما يُسْتفحش من الأقوال والأفعال (والمنكَر) كل شيء يُنكره الطبع السليم } وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ... { [العنكبوت: 45] ذكر: مصدر، والمصدر يُضاف للفاعل مثل: أعجبني ضَرْب الأمير لزيد، ويُضاف للمفعول مثل: أعجبني ضرَبْ زيد من الأمير، فحين تقول ذكر الله يصح أن يكون المعنى: ذِكْر صادر من الله، أو ذِكْر صادر من العبد لله.

فإنْ قلتَ: ذِكْر صادر من الله، أي للمصلِّي، فحين يصلي الإنسان، ويذكر الله بالكبرياء في قوله الله أكبر ويُنزِّهه بقول سبحان الله، ويسجد له سبحانه ويخضع، فقد فعلتَ إذن فِعْلاً ذكرتَ الله فيه ذِكْراً بالقول والفعل، والله تعالى يجازيك بذكرك له بأن يذكرك، فالذكر ذكر من الله لمن ذكره في صلاته.

ولا شكَّ أن ذكر الله لك أكبر، وأعظم من ذِكْرك له سبحانه؛ لأنك ذكرتَ الله منذ بلوغك إلى أن تموت، أما هو سبحانه فسيعطيك بذكرك له منازل عالية لا نهايةَ لها في يوم لا تموت فيه ولا تنقطع عنك نِعَمه وآلاؤه، فالمعنى: ولذِكر الله لك بالثواب والرحمة أكبر من ذِكْركَ له بالطاعة. هذا على معنى أن الذكر صادر من الله للعبد.

المعنى الآخر أن يكون الذكْر صادراً من العبد لله، يعني: ولذكْر الله خارج الصلاة أكبر من ذِكْر الله في الصلاة، كيف؟ قالوا: لأنك في الصلاة تُعِد نفسك لها بالوضوء، وتتهيأ لها لتكون في حضرة ربك بعد تكبيرة الإحرام، فإذا ما انتهتْ الصلاة وخرجتَ منها إلى حركة الحياة فذِكْرك لله وأنت بعيد عن حضرته وأنت مشغول بحركة حياتك أعظم وأكبر من ذِكْرك في الحضرة.

ومثال ذلك - ولله تعالى المثل الأعلى - مَنْ يمدح الأمير ويُثني عليه في حضرته، ومَنْ يمدحه في غيبته، فأيُّهما أحلى، وأيُّهما أبلغ وأصدق في الذكْر؟

واقرأ في ذلك قوله تعالى عن صلاة الجمعة:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَىا ذِكْرِ اللَّهِ... }[الجمعة: 9].

يعني: ذِكْر الله في الصلاة، ولا تظنوا أن الذكْر قاصر على الصلاة فقد إنما:{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }[الجمعة: 10] فيجب ألاَّ يغيب ذِكْر الله عن بالك أبداً؛ لأن ذِكْرك لربك خارج الصلاة أكبر من ذِكْرك له سبحانه في الصلاة.

ورُوِي عن عطاء بن السائب أن ابن عباس سأل عبد الله بن ربيعة: ما تقول في قوله تعالى: } وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ... { [العنكبوت: 45]؟ فقال: قراءة القرآن حَسَن، والصلاة حسن، وتسبيح الله حسن، وتحميده حسن، وتكبيره حسن, التهليل له حسن. لكن أحسن من ذلك أن يكون ذِكْر الله عند طروق المعصية على الإنسان، فيذكر ربه، فيمتنع عن معصيته.

فماذا قال ابن عباس - مع أن هذا القول مخالف لقوله في الآية -؟ قال: عجيب والله، فأعجب بقول ابن ربيعة، وبارك فهمه للآية، ولم ينكر عليه اجتهاده؛ لأن الإنسانَ طبيعي أن يذكر الله في حال الطاعة، فهو متهيئ للذكْر، أما أنْ يذكره حال المعصية فيرتدع عنها، فهذا أقْوى وأبلغ، وهذا أكبر كما قال سبحانه } وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ... { [العنكبوت: 45].

لذلك جاء في الحديث الشريف: " سبعة يظلهم الله في ظِلِّه، يوم لا ظِلَّ إلا ظله - ومنهم: ورجل دَعَتْه امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله "

هذا هو ذِكْر الله الأكبر؛ لأن الدواعي دواعي معصية، فيحتاج الأمر إلى مجاهدة تُحوِّل المعصية إلى طاعة.

أما قول ابن عباس في } وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ.. { [العنكبوت: 45] أن ذِكْر ربكم لكم بالثواب والرحمة أكبر من ذِكْركم له بالطاعة. وحيثيات هذا القول أن ربك - عز وجل - لم يُكلِّفك إلا بعد سِنِّ البلوغ، وتركك تربَع في نعمه خمسة عشر عاماً دون أنْ يُكلفك، ثم يُوالي عليك نِعَمه، ولا يقطع عنك مدده حتى لو انصرفتَ عن منهجه، بل حتى لو كفرتَ به لا يقبض عنك يد عطائه ونعمه.

إذن: فذِكْر الله لك بالخَلْق من عدم، والإمداد من عُدم، وموالاة نِعَمه عليك أكبر من ذِكْرك له بالطاعة، وقد ذكرك سبحانه قبل أنْ يُكلِّفك أَن تذكره. كما أن ذكركم له سبحانه بالطاعة في الدنيا موقوت، أما ذِكْره لكم بالثواب والجزاء والرحمة في الآخرة فممتد لا ينقطع أبداً.

ثم تختم الآية بقوله سبحانه: } وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ { [العنكبوت: 45] هذه الكلمة نأخذها على أنها بشارة للمؤمن، ونذارة للكافر، كما تقول للتلاميذ يوم الامتحان: سينجح المجتهد منكم، فهي بشارة للمجتهد، وإنذار للمهِمل، فالجملة واحدة، والإنسان هو الذي يضع نفسه في أيهما يشاء.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ... {.

(/3311)

وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)

الحق - تبارك وتعالى - يُعلِّمنا كيف نجادل أهل الكتاب، وقبل أن نتكلم عن ألوان الجدل في القرآن الكريم نقول: ما معنى الجدل؟

الجدل: مأخوذ من الجَدْل، وهو فَتْل الشيء ليشتد بعد أنْ كان ليناً كما نفتل حبالنا في الريف، فالقطن أو الصوف مثلاً يكون منتفشاً يأخذ حيزاً واسعاً، فإذا أردْنا أن نأخذ منه خيطاً جمعنا بعض الشعيرات ليُقوِّي بعضها بعضاً بلفِّها حول بعضها، وبجَدْل الخيوط نصنع الحبال لتكون أقوى، وعلى قَدْر الغاية التي يُراد لها الحبل تكون قوته.

ومن الجدل أُخِذ الجدال والجدَل والمجادلة، وفي معناها: الحوار والحجاج والمناظرة، ومعناه أن يوجد فريقان لكل منها مذهب يؤيده ويدافع عنه ليفتن الآخر أي: ليلفته عن مذهبه إلى مذهبه هو.

فإذا كان المقصود هو الحق في الجدال أو الحِجَاج أو المناظرة فهذا الاسم يكفي، لكن إنْ دخل الجدال إلى مِراءٍ أو لجاجة، فليس القصد هو الحق، إنما أنْ يتغلَّب أحد الفريقين على الآخر، والجدل في هذه الحالة له أسماء متعددة، منها قوله تعالى:{ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ.. }[المؤمنون: 75].

لكن إذا فَتَلْنا الشيء المنفوش حتى صار مُضْمراً، وأخذ من الضمر قوة، أأنت تجعل في الجدل خَصْمك قوياً؟ إنك تحاول أنْ تُقوِّي نفسك في مواجهته. قالوا: حين أنهاه عن الباطل وأعطفه ناحية الحق، فإنه يقوي يقينه في شيء ينفعه، وكأنه كان منتفشاً آخذاً حيِّزاً أكبر من حجمه بالباطل الذي كان عليه، فأنا قوّيته بالحق. وفي العامية نقول (فلان منفوخ على الفاضي) أو نقول (فلان نافش ريشه) كأنه أخذ حيزاً أكبر من حجمه.

لذلك نلحظ أن التغلب في الجدل لا يكون لمجرد الجدل، إنما تغلُّبك لحق ينفع الغير ويُقويه ويردّه إلى حجمه الطبيعي.

أو: أن الجدل مأخوذ من الجدال وهي الأرض، كأن يطرح القوي الضعيف أرضاً في صراع مثلاً.

والجدال يكون بين شخصين، لكل منهما رأيه الذي يألفه ويحبه ويقتنع به، فحين تجادله تريد أنْ تُخرِجه عن رأيه الذي يألف إلى رأيك الذي لا يألفه ولم يعتده، فأنت تجمع عليه أمرين: أنْ تُخرجه عما أَلف واعتاد إلى ما لم يألف، فلا يكُنْ ذلك بأسلوب يكرهه حتى لا تجمع عليه شدتين.

فعليك إذن باللين والاستمالة برفق؛ لأن النصح ثقيل كما قال شوقي رحمه الله: فلا تجعله جبلاً، ولا ترسله جَدَلاً، وعادة ما يُظهِر الناصح أنه أفضل من المنصوح. ويقولون: الحقائق مرة، فاستعيروا لها خِفَّة البيان؛ لأنك تُخِرج خَصْمك عما أَلِف، فلا تخرجه عما ألف بما يكره، بل بما يحب.

والإنسان قج يُعبِّر عن الحقيقة الواحدة تعبيراً يُكره، ويُعبِّر عنها تعبيراً يُحب وترتاح إليه، كالملك الذي رأى في منامه أن كل أسنانه قد سقطتْ، فطلب مَنْ يُعبِّر له ما رأى، فجاءه المعبِّر واستمع منه، ثم قال: معنى هذه الرؤيا يا مولاي أن أهلك جميعاً سيموتون، فتشاءم من هذا التعبير ولم يُعجبه، فأرسلوا إلى آخر فقال: هذا يعني أنك ستكون أطولَ أهل بيتك عُمراً، فَسُرَّ الملك بقوله.

فهنا المعنى واحد، لكن أسلوب العرض مختلف.

ودخل رجل على آخر، فوجده يبكي فقال: ما يُبكيك؟ قال: أخذْتُ ظلماً، فتعجب وقال: فكيف بك إذا أُخِذْتَ عدلاً؟ أكنت تضحك. والمعنى أن مَنْ أُخذ ظلماً لا ينبغي له أن يحزن؛ لأنه لم يفعل شيئاً يشينه، والأَوْلَى بالبكاء من أُخذ عدلاً وبحقٍّ.

ورجل قُتِل له عزيز فجلس يصرح ويولول، فدخل عليه صاحبه مُواسياً فقال له الرجل: إن ابني قُتِل ظلماً، فقال صاحبه: الحمد لله الذي جعل منك المقتول، ولم يجعل منك القاتل.

إذن: سلامة المنطق وخِفَّة البيان أمر مهم، وعلى المجادل أن يراعي بيانه، وأن يتحين الفرصة المناسبة، فلا تجادل خصمك وهو غضبان منك أو وأنت غضبان منه. قالوا: مَرَّ رجل فوجد صبياً يغرق في البحر، فلم ينتظر حتى يخلع ثيابه، وألقى بنفسه وأنقذ الصبي، ثم أخذ يضربه ويلطمه، والولد يقول: شكراً لك بارك الله فيك، لماذا؟ لأنه قسا عليه بعد أنْ أنقذه، لكن ما الحال لو وقف على البَرِّ، وكال له الشتائم وعنَّفه، لماذا ينزل البحر وهو لا يعرف العوم؟ لذلك يقول الحكماء: آسِ ثم أنصح.

لذلك يُعلِّمنا ربنا - عز وجل - أصول الجدل وآدابه؛ لأنه يريد أن يُخرِج بهذا الجدل أناساً من الكفر إلى الإيمان، ومن الجحود إلى اليقين، وهذا لا يتأتّى إلا باللطف واللين، كما قال سبحانه:{ ادْعُ إِلَىا سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ... }[النحل: 125].

ويُعلِّمنا سبحانه أن للجدل مراتبَ بحسب حالة الخَصم، فالذي ينكر وجود الله له جدل مخصوص، والذي يؤمن بوجود الله ويقول: إن معه شريكاً. له جدل آخر، ومَنْ يؤمن بالله ويقول سأتبع نبيِّ ولن أتبعك له جدل آخر وبشكل خاص، والمختلفون معك من أهل مِلَّتك لهم جدل يليق بحالهم.

إذن: للجدل مراتب نلحظها في أسلوب القرآن، فبم جادل الذين لا يؤمنون بوجود إله؟ قال:{ أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُواْ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ }[الطور: 35 - 36].

فأتى لهم بمسألة الخَلْق الظاهرة التي لم يدَّعها أحد، ولا يجرؤ أحد على إنكارها، حتى المشركون والملاحدة؛ لأن أتفه الأشياء في صناعاتهم يعرفون صانعها، ويُقرُّون له بصنعته، ولو كانت كوباً من زجاج أو حتى قلم رصاص، لا بُدَّ أن لكل صنعة صانعاً يناسبها.

أليس مَنْ خلق السماوات والأرض والشمس والقمر.. إلخ أَوْلَى بأن يعترفوا له سبحانه بالخَلْق؟ وهم أنفسهم مخلوقون ولم يقولوا إنَّا خلقنا أنفسنا، ولم يقولوا خلقنا غيرنا، فمَنْ خلقهم إذن؟

وقلنا: إن الدَّعْوى تثبت لصاحبها ما لم يَقُم لها معارض، والحق - سبحانه وتعالى - قال علانية، وعلى لسان رسله، وفي قرآن يُتْلَى إلى يوم القيامة، وأسمع الجميع: أنا خالق هذا الكون.

فإنْ قال معاند: فَمَنْ خلق الله؟ نقول: الذي خلقه عليه أن يعلن عن نفسه.

والحق سبحانه شهد لنفسه أنه لا إله إلا هو{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ... }[آل عمران: 18] ولم يقُلْ أحد أنا الإله. إذن: الذين ينكرون الخالق لا حَقَّ لهم. هذا في جدال الملاحدة الذين ينكرون وجود الله.

أما الذين يؤمنون بوجود الله، لكن يتخذون معه سبحانه شركاء، فنجادلهم على النحو التالي: شركاؤكم مع الله غَيْب أم شهادة؟ إنْ قالوا: غَيْب فإن الله تعالى شهد لنفسه بالوحدانية. وقال: أنا واحد لا شريك لي، فأين كان شركاؤكم؟

لماذا لم يدافعوا عن ألوهيتهم مع الله؟ إما لأنهم ما دروا بهذا الإعلان، وإما أنهم دَرَوا وعجزوا عن المواجهة، وفي كلتا الحالتين تنفي عنهم صفة الألوهية، فأيُّ إله هذا الذي لا يدري بما يدور حوله، أو يجبن عن مواجهة خَصْمه؟

فإنْ قالوا: شركاؤنا الأصنام والأشجار والكواكب وغيرها، فهذه من صُنْع أيديهم، فكيف يعبدونها، ثم هي آلهة لا منهجَ لها ولا تكاليفَ، وإلا فبماذا أمرتهم وعَمَّ نهتْهم؟ إذن: عبادتهم لها باطلة.

ثم نسأل الذين يتخذون مع الله شركاء: أهؤلاء الذين تشركونهم مع الله يتواردون على الأشياء بقدرة واحدة، أم يتناوبون عليها، كل منهم بقدر على شيء معين؟

إنْ كانوا يزاولون بقدرة واحدة، فواحد منهم يكفي والباقون لا فائدة منهم، وإنْ كانوا يتناوبون على الأشياء، فكلٌّ منهم قادر على شيء عاجز عن الشيء الآخر، والإله لا يكون عاجزاً.

وقد رَدَّ الحق سبحانه على هؤلاء بقوله تعالى:{ قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىا ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً }[الإسراء: 42] أي: لَذهبوا إليه إما ليُعنِّفوه ويُصَفّوا حساباتهم معه، وكيف أخذ الأمر لنفسه، وإما ليتوددوا إليه ويعاونوه.

وفي موضع آخر:{ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَـاهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىا بَعْضٍ... }[المؤمنون: 91].

وبعد أنْ بينَّا جدال الملاحدة الذين ينكرون وجود الإله وجدال أهل الشرك نجادل أهل الكتاب، وهم ألطفُ من سابقيهم؛ لأنهم مؤمنون بإله وأنه الخالق، ومؤمنون بالبلاغ عن الله، ومؤمنون بالكتب التي نزلت، والخلاف بيننا وبينهم أنهم لا يؤمنون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم في حين نؤمن نحن برسلهم وكتبهم، وهذه أول مَيزة تميَّز بها الإسلام على الأديان الأخرى.

ونقول لهؤلاء: لقد آمنت برسولك، وقد سبقه رسل، فلماذا تنكر أن يأتي رسول بعده؟ ثم هل جاء الرسول بعد رسولك ليناقضه في أصول الأشياء؟ إنهم جميعاً متفقون على أصول العقيدة والأخلاق، متفقون على أنهم عباد لله متحابون، فلماذا تختلفون أنتم؟

فربنا - تبارك وتعالى - يُعلِّمنا } وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.

.. { [العنكبوت: 46] لأنهم ليسوا ملاحدة ولا مشركين، فهُمْ مؤمنون بإلهكم وبالرسل وبالكتب، غاية ما هنالك أنهم لا يؤمنون برسولكم.

لذلك يعترض بعض الناس: كيف يبيح الإسلام أنْ يتزوج المسلم من كتابية، ولا يبيح للمسلمة أن تتزوج كتابياً؟ نقول: لأن أصل القِوَامة في الزواج للرجل، والزوج المؤمن حين يتزوج كتابية مؤمن برسولها، أما الزوج الكتابي فغير مؤمن برسول المؤمنة، فالفَرْق بينهما كبير.

ومعنى: } إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ... { [العنكبوت: 46] أن في الجدال حسناً وأحسن، وقد سبق الجدال الحسن في قوله تعالى:{ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىا هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }[سبأ: 24] ونوح عليه السلام يتلطف في جدال قومه، فيقول:{ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرِمُونَ }[هود: 35].

فينسب الافتراء إلى نفسه، ويتهم نفسه بالإجرام إنِ افترى، فإنْ لم يكُنْ هو المفتر، وهو المجرم فَهُمْ.

ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول في جدال قومه:{ قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ }[سبأ: 25] فيذكر صلى الله عليه وسلم الجريمة في حقه هو ولا يذكرها في حَقِّ المعاندين المكذِّبين، فأيُّ أدب في الدعوة أرفع من هذا الأدب؟

إذن: جادل غير المؤمنين بالحسن، وجادل أهل التكاب بالتي هي أحسن، لما يمتازون به عن غيرهم من ميزة الإيمان بالله. فإنْ تعدَّوْا وظلموا أنفسهم في مسألة القمة الإيمانية، فادعوا أن لله ولداً أو غيره، فإِنهم بذلك يدخلون في صفوف سابقيهم من المشركين، فإنْ كنا مأمورين بأن نجادلهم بالتي هي أحسن وقالوا بهذا القول، فعلينا أن نجادلهم بما يقابل الأحسن، نجادلهم إما بالحسن، وإما بغير الحسن أي: بالسيف.

لكن، هل يفرض السيف عقائد؟ السيف لا يأخذ من الناس إلا قوالبهم.

أمّا القلوب فلا يخضعها إلا الإيمان، والله تعالى لا يريد قوالب، إنما يريد قلوباً.

واقرأ قوله تعالى في سورة الشعراء:{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ }[الشعراء: 3-4] فإنِ أراد سبحانه قَهْر القوالب والقلوب على الخضوع، بحيث لا يستطيع أحد أنْ يتأبَّى على الإيمان ما وُجد كافر، وما كفر الكافر إلا لما أعطاه الله من منطقة الاختيار؛ فالحق سبحانه يريد منّا قلوباً تحبه سبحانه وتعبده؛ لأنه سبحانه يستحق أنْ يُعبد.

إذن: الذين يخرجون عن نطاق الكتابية بتجاوزهم الحدَّ، وقولهم أن عيسى ابن الله، أو أن الله ثالث ثلاثة، إنما يدخلون في نطاق الشرك والكفر، ولن نقول لهؤلاء: اتبعوا رسولنا، وإنما اتبعوا رسولكم، والكتاب الذي جاءكم به من عند الله، وسوف تجدون فيه البشارة بمحمد{ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ... }[الأعراف: 157].

إذن: فحين تكفر فأنت لا تكفر بمحمد ولا بالقرآن، إنما تكفر أولاً بكتابك أنت؛ لذلك يعلمنا الحق سبحانه:

{ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ... }[المائدة: 17] وقال أيضاً:{ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ... }[المائدة: 73].

أي: لا تعاملوهم على أنهم كتابيون، ولما سُئلْنا في الخارج من أبنائنا الذين يرغبون في الزواج من أجنبيات، فكنت أقول للواحد منهم: سَلْها أولاً: ماذا تقول في عيسى، فإنْ قالت هو رسول الله فتزوجها وأنت مطمئن؛ لأنها كتابية، وإن قالت: ابْن الله، فعاملها على أنها كافرة ومشركة.

هذا في معنى قوله تعالى: } إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ... { [العنكبوت: 46] ونحن لا نحمل السيف في وجه هؤلاء؛ لأن السيف ما جاء إلا ليحمي اختيار المختار، فلي أنْ أعرض ديني، وأنْ أُعلنه وأشرحه، فإنْ منعوني من هذه فلهم السيف، وإنْ تركوني أعلن عن ديني فهم أحرار، يؤمنون أو لا يؤمنون.

إنْ آمنوا فأهلاً وسهلاً، وإنْ لم يؤمنوا فهم أهل ذمة، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ويدفعون الجزية نظير ما يتمعون به في بلادنا، وعليهم ما علينا، وما نُقدِّمه لهم من خدمات، وإلا فكيف نفرض على المؤمنين الزكاة ونترك هؤلاء لا يقدمون شيئاً؟

لذلك نرى الكثيرين من أعداء الإسلام يعترضون على مسألة دَفْع الجزية، ويروْنَ أن الإسلام فُرِض بقوة السيف، وهذا قول يناقض بعضه بعضاً، فما فرضنا عليكم الجزية إلا لأننا تركناكم تعيشون معنا على دينكم، ولو أرغمناكم على الإسلام ما كان عليكم الجزية.

والحق - تبارك وتعالى - يقول:{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ... }[البقرة: 256] لأنني لا أُكرهك على شيء إلا إذا كنتَ ضعيف الحجة، وما دام أن الرشدْ بيِّن والغيّ بيِّن، فلا داعي للإكراه إذن.

لكن البعض يفهم هذه الآية فهماً خاطئاً فحين تقول له: صَلِّ يقول لك{ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ... }[البقرة: 256] ونقول له: لم تفهم المراد، فلا إكراه في أصل الدين في أنْ تؤمن أو لا تؤمن، فأنت في هذه حُرٌّ، أما إذا آمنتَ وأعلنتَ أنه لا إله إلا الله محمد رسول الله، فليس لك أن تكسر حَدّاً من حدود الإسلام، وفَرْق بين " لا إكراه في الدين " و " لا إكراه في التدين ".

ومن حكمة الإسلام أن يعلن حكم الردة لمن أراد أنْ يؤمن، نقول له قف قبل أن تدخل الإسلام، اعلم أنك إنْ تراجعت عنه وارتددتَ قتلناك، وهذا الحكْم يضع العقبة أمام الراغب في الإسلام حتى يفكر أولاً، ولا يقدم عليه إلا على بصيرة وبينة.

وإذا قيل } أَهْلَ الْكِتَابِ... { [العنكبوت: 46] أي: الكتاب المنزَّل من الله، وقد علَّم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أنْ يجادل المشركين بقوله:{ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ }[النحل: 43] فعلم الرسول أن يرجع إلى أهل الكتاب، وأنْ يأخذ بشهادتهم، وفي موضع آخر علَّمه أن يقول لمن امتنع عن الإيمان.

{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَىا بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ }[الرعد: 43].

إذن: فرسولنا يستشهد بكم، لما عندكم من البينات الواضحة والدلائل على صدقه. حتى قال عبد الله بن سلام: لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد، ولم لا يعرفونه وقد ذُكر في كتبهم باسمه ووصفه:{ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ... }[الأعراف: 157].

ثم ألم يحدث منكم أنكم كنتم تستفتحون به على المشركين في المدينة، وتقولون: لقد أطلَّ زمان نبي يُبعث في مكة، فنتبعه ونقتلكم به قَتْل عاد وإرم؟ فلما جاءكم النبي الذي تعرفوه أنكرتموه وكفرتم به:{ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ... }[البقرة: 89].

كيف يستشهد الله على صدق رسوله بكم وبكتبكم ثم تكذبون؟ قالوا: كذَّبوا لما لهم من سلطة زمنية يخافون عليها، ورأوا أن الإسلام سيسلبهم إياها.

وكلمة } بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ... { [العنكبوت: 46] وردت في القرآن، لكن في غير الجدل في الدين، وردت في كل شيء يُوجب جدلاً بين أُناس؛ وذلك في قوله سبحانه:{ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }[فصلت: 34].

وقد جاءني رجل يذكر هذه الآية، وما يترتب على الإحسان، يقول: عملتُ بالآية فلم أجد الولي الحميم؟ قلت له: كوْنك تحمل هذا الأمر في رٍأسك دليل على أنك لم تدفع بالتي هي أحسن؛ لأن الله تعالى لا يقرر قضية قرآنية، ويُكذِّبها واقع الحياة، فإنْ دفعتَ بالتي هي أحسن بحقٍّ لا بُدَّ وأنْ تجد خَصْمك كأنه وليٌّ حميم.

لذلك يقول أحد العارفين:يَا مَنْ تُضَايِقه الفِعَالُ مِنَ التِي وَمنَ الذِي ادْفَعْ فديْتُكَ بالتي حتَّى تَرى فإذَا الذيوالمعنى: من التي تسيء إليك، أو الذي يسيء إليك{ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ... }[فصلت: 34] حتى ترى{ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }[فصلت: 34].

وأذكر أنه جاءني شاب يقول: إن عمي مُوسِر، وأنا فقير، وهو يتركني ويتمتع بماله غيري، فقلت له: بالله أتحب النعمة عند عمك؟ فسكت، قلت له: إذن أنت لا تحبها عنده، لكن اعلم أن النعمة تحب صاحبها أكثر من حُبِّ صاحبها لها؛ لذلك لا تذهب إلى كارهها عند صاحبها.

فما عليك إلا أنْ تثوب إلى الحق، وأنْ تتخلص مما تجد في قلبك لعمك، وثِقْ بأن الله هو الرزاق، وإنْ أردتَ نعمة رأيتها عند أحد فأحببها عنده، وسوف تأتيك إلى بابك، لأنك حين تكره النعمة عند غيرك تعترض على قدر الله.

بعد هذا الحوار مع الرجل - والله يشهد - دَقَّ جرس الباب، فإذا به يقول لي: أما دريتَ بما حدث؟ قلت: ماذا؟ قال: جاءني عمي قبل الفجر بساعة، فلما أنْ فتحت له الباب انهال عليَّ ضَرْباً وشَتْماً يقول: لماذا تتركني للأجانب يأكلون مالي وأنت موجود؟ ثم أعطاني المفاتيح وقال: من الصباح تباشر عملي بنفسك.

فقلت له: لقد أحببتها عند عمك، فجاءت تطرق بابك.

وقوله سبحانه } إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ... { [العنكبوت: 46] أي: ظلموا أنفسهم بالشرك؛ لأن الله تعالى قال:{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }[لقمان: 13] تظلم نفسك لا تظلم الله؛ لأن الظالم يكون أقوى من المظلوم. وجعل الشرك ظلماً عظيماً لأنه ذنبٌ لا يغفر:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذالِكَ لِمَن يَشَآءُ... }[النساء: 116].

فالشرك ظلم عظيم عليك نفسك، أما الذنوب دون الشرك فلها مخرج، وقد تنفكّ عنها إما التوبة برحمة الله ومغفرته.

ثم يُعلِّمنا الحق - تبارك وتعالى - التي هي أحسن في الردِّ على الذين ظلموا منهم: } وَقُولُواْ آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـاهُنَا وَإِلَـاهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ { [العنكبوت: 46].

يعني: فعلامَ الاختلاف، ما دام أن الإله واحد، وما دام أن كتابكم يذكر الرسول الذي يأتي بعد رسولكم، وقد سبق رسولكم رسل، فكان يجب عليكم أن تؤمنوا به، وأنْ تُصدِّقوه.

جاءت امرأة تشتكي أن زوجها لم يُوف بما وعدها به، وقد اشترطتْ عليه قبل الزواج ألاَّ يذهب إلى زوجته الأولى، فقُلْت لها: يعني أنت الثانية وقد رضيت به وهو متزوج؟ قالت: نعم، قلت: فلماذا رضيتِ به؟ قالت: أعجبني وأعجبته، قلت: فلا مانع إذن أنْ تعجبه أخرى فيتزوجها، وتقول له: إياك أنْ تذهب إلى الثانية، فهل هذا يعجبك؟ إذن: فاحترمي حقَّ الأولى فيه، لتحترم الثالثة حقك فيه، فقامت وانصرفت.

وقال: } وَإِلَـاهُنَا وَإِلَـاهُكُمْ وَاحِدٌ... { [العنكبوت: 46] لأن الكلام هنا للذين ظلموا وقالوا بالتعدد.

وهنا قال تعالى } وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ { [العنكبوت: 46] ولم يقل مثلاً: ونحن به مؤمنون، ولماذا؟ لأن الإيمان عقيدة قلبية أنْ تؤمن بإله، أمّا الإيمان فليس كلاماً، الإيمان أن تثق به، وأنْ تأمنه على أنْ يُشرِّع لك، وأنْ يُسلم له الأمر " افعل كذا " " ولا تفعل كذا " ، وهناك أناس ليسوا بمؤمنين بقلوبهم، ومع ذلك يعملون عمل المسلمين، إنهم المنافقون.

لذلك يقول تعالى:{ قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ وَلَـاكِن قُولُواْ أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ... }[الحجرات: 14].

إذن: فَرْق بين إيمان وإسلام، فقد يتوفر أحدهما دون الآخر؛ لذلك قال سبحانه{ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ... }[العصر: 1-3] فقال هنا: } وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ { [العنكبوت: 46] يعني: مُنفِّذين لتعاليم ديننا.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ... {.

(/3312)

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)

قوله تعالى { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ... } [العنكبوت: 47] أي: كما أنزلنا كتباً على مَنْ سبقك أنزلنا إليك كتاباً يحمل منهجاً، والكتب السماوية قسمان: قسم يحمل منهج الرسول في (افعل كذا) و (لا تفعل كذا)، وذلك شركة في كل الكتب التي أُنزِلَتْ على الرسل، وكتاب واحد هو القرآن، هو الذي جاء بالمنهج والمعجزة معاً.

فكلُّ الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم كان للواحد منهم كتاب فيه منهج ومعجزة منفصلة عن المنهج، فموسى عليه السلام كان كتابه التوراة، ومعجزته العصا، وعيسى عليه السلام كان كتابه الإنجيل، ومعجزته إحياء الموتى بإذن الله.

أما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتابه القرآن ومعجزته القرآن، فانظر كيف التقت المعجزة بالمنهج لتظل لصيقة به؛ لأن زمن رسالة محمد ممتدٌّ إلى قيام الساعة، فلا بُدَّ أنْ تظل المعجزة موجودة ليقول الناس محمد رسول الله، وهذه معجزته.

في حين لا نستطيع مثلاً أن نقول: هذا عيسى رسول الله وهذه معجزته؛ لأنها ليست باقية، ولم نعرفها إلا من خلال إخبار القرآن بها، وهذا يُوضِّح لنا فَضْل القرآن على الرسل وعلى معجزاتهم حيث ثبتها عند كل مَنْ لم يَرهَا، فكل مَنْ آمن بالقرآن آمن بها.

لكن، أكُلُّ رسول يأتي بمعجزة؟ المعجزة لا تأتي إلا لمن تحدَّاه، واتهمه بالكذب، فتأتي المعجزة لتثبت صِدْقه في البلاغ عن ربه؛ لذلك نجد مثلاً أن سيدنا شيثاً وإدريس وشَعيباً ليست لهم معجزات.

وأبو بكر - رضي الله عنه - والسيدة خديجة أم المؤمنين هل كانا في حاجة إلى معجزة ليؤمنا برسول الله؟ أبداً، فبمجرد أنْ قال: أنا رسول الله آمنوا به، فما الداعي للمعجزة إذن؟

إذن: تميَّز صلى الله عليه وسلم على إخوانه الرسل بأن كتابه هو عَيْن معجزته وسبق أنْ قلنا: إن الحق - تبارك وتعالى - يجعل المعجزة من جنس ما نبغ فيه القوم، فلو تحداهم بشيء لا عِلْم لهم به لقالوا: نحن لا نعلم هذا، فكيف تتحدّانا به؟ والعرب كانوا أهل فصاحة وبيان، وكانوا يقيمون للقوْل أسواقاً ومناسبات، فتحداهم بفصاحة القرآن وبلاغته أنْ يأتوا بمثله، ثم بعشر سُور، ثم بسورة واحدة، فما استطاعوا، والقرآن كلام من جنس كلامهم، وبنفس حروفهم وكلماتهم، إلا أن المتكلم بالقرآن هو الله تعالى؛ لذلك لا يأتي أحد بمثله.

والقرآن أيضاً كتاب يهيمن على كل الكتب السابقة عليه، يُبقي منها ما يشاء من الأحكام، ويُنهِي ما يشاء. أما العقائد فهي ثابتة لا نسخَ فيها، وأيضاً لا نسخَ في القصص والأخبار.

والنسْخ لا يتأتى إلا في التشريع بالأحكام افعل ولا تفعل، ذلك لأن التشريع يأتي مناسباً لأدواء البيئات المختلفة.

لذلك كان بعض الرسل يتعاصرون كإبراهيم ولوط، وموسى وشعيب، عليهم السلام، ولكل منهم رسالته؛ لأنه متوجه إلى مكان بعينه ليعالج فيه داءً من الداءات، في زمن انقطعت فيه سُبُل الالتقاء بين البيئات المختلفة، فالجماعة في مكان ربما لا يَدْرون بغيرهم في بيئة مجاورة.

أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد جاء - كما يعلم ربه أَزَلاً - على موعد مع التقاء البيئات وتداخُل الحضارات، فالحدث يتم في آخر الدنيا، نعلم به، بل، ونشاهده في التوِّ واللحظة، وكأنه في بلادنا. إذن: فالداءات ستتحد أيضاً، وما دامت داءات الأمم المختلفة قد اتحدتْ فيكفي لها رسول واحد يعالجها، ويكون رسولاً لكل البشر.

ثم يقول سبحانه: } فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ... { [العنكبوت: 47] أي: من قبلك } يُؤْمِنُونَ بِهِ... { [العنكبوت: 47] لأنه لا سلطة زمنية تعزلهم عن الكتاب الجديد، فينظرون في أوصاف النبي الجديد التي وردتْ في كتبهم ثم يطابقونها على أوصاف رسول الله؛ لذلك لما بلغ سلمان الفارسي أن بمكة نبياً جديداً، ذهب إلى سيدنا رسول الله، وأخذ يتأمله وينظر إليه بإمعان، فوجد فيه علامتين مما ذكرتْ الكتب السابقة، وهما أنه صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ولا يقبل الصدقة، فراح ينظر هنا وهناك لعله يرى الثالثة، ففطن إليه رسول الله بما آتاه الله من فِطْنة النبوة التي أودعها الله فيه، وقال: لعلك تريد هذا، وكشف له عن خاتم النبوة، وهو العلامة الثالثة.

ومن لباقة سيدنا عبد الله بن سلام، وقد ذهب إلى سيدنا رسول الله وهو - ابن سلام - على يهوديته - فقال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بُهْت - يعني يُكثرون الجدال دون جدوى - وأخشى إنْ أعلنتُ إسلامي أن يسبوني، وأن يظلموني، ويقولوا فِيَّ فُحْشاً، فأريد يا رسول الله إنْ جاءوك أن تسألهم عني، فإذا قالوا ما قالوا أعلنت إسلامي، فلما جاء جماعة من اليهود إلى رسول الله سألهم: ما تقولون في عبد الله بن سلام؟ قالوا: شيخنا وحَبْرنا وسيدنا.. إلخ فقال عبد الله: أما وقد قالوا فيَّ ما قالوا: يا رسول الله، فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقالوا لتوِّهم: بل أنت شرنا وابن شرنا، ونالوا منه، فقال عبد الله: ألم أقُلْ لك يا رسول الله أنهم قوم بُهْت؟

وقوله سبحانه } وَمِنْ هَـاؤُلاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ... { [العنكبوت: 47] أي: من كفار مكة مَنْ سيأتي بعد هؤلاء، فيؤمن بالقرآن } وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الْكَافِرونَ { [العنكبوت: 47] الجحد: إنكار متعمد؛ لأن من الإنكار ما يكون عن جهل مثلاً، والجحد يأتي من أن النِّسب إما نفي، وإما إثبات، فإنْ قال اللسان نسبة إيجاب، وفي القلب سَلْب أو قال سلب وفي القلب إيجاب، فهذا ما نُسمِّيه الجحود.

لذلك يُفرِّق القرآن بين صيغة اللفظ ووجدانيات اللفظ في النفس، واقرأ مثلاً قول الله تعالى:

{ إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ.. }[المنافقون: 1] وهذا منهم كلام طيب وجميل{ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ... }[المنافقون: 1] أي: أنه كلام وافق علم الله، لكن{ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }[المنافقون: 1] فكيف يحكم الحق عليهم بالكذب، وقد قالوا ما وافق علم الله؟

نقول: كلام الله يحتاج إلى تدبُّر لمعناه، فالحق يحكم عليهم بأنهم كاذبون، لا في قولهم: إنك لرسول الله، فهذه حق، بل في شهادتهم؛ لأنها شهادة باللسان لا يوافقها اعتقاد القلب، فالمشهود به حق، لكن الشهادة كذب.

لكن، لماذا خَصَّ الكافرين في مسألة الجحود؟ قالوا: لأن غيرالكافر عنده يقظة وجدان، فلا يجرؤ على هذه الكلمة؛ لأنه يعلم أن الله تعالى لا يأخذ الناس بذنوبهم الآن، إنما يُؤجِّلها لهم ليوم الحساب، فهذه المسألة تحجزهم عن الجحود.

(/3313)

وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)

قوله: { تَتْلُواْ... } [العنكبوت: 48] أي: تقرأ، واختار تتلو لأنك لا تقرأ إلا ما سمعت، فكأن قراءتك لما سمعت تجعل قولك تالياً لما سمعتَ، نقول: يتلوه يعني: يأتي بعده { وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ... } [العنكبوت: 48] يعني: الكتابة.

وفَرْق بين أنْ تقرأ، وبين أنْ تكتب، فقد تقرأ لأنك تحفظ، وتحفظ نتيجة السماع، كإخواننا الذين ابتلاهم الله بكفِّ نظرهم ويقرأون، إنما يقرأون ما سمعوه؛ لأن السمع كما قلنا أول حاسة تؤدي مهمتها في الإنسان، فمن الممكن أن تحفظ ما سمعت، أما أن تكتبه فهذا شيء آخر.

والكلام هنا لون من ألوان الجدل والإقناع لكفار قريش الذين يُكذِّبون رسول الله، ولوْن من ألوان التسلية لرسول الله، كأنه يقول سبحانه لرسوله: اطمئن. فتكذيب هؤلاء لك افتراء عليك؛ لأنك ما تلوْتَ قبله كتاباً ولا كتبته بيمينك، وهم يعرفون سيرتك فيهم.

كما قال سبحانه في موضع آخر:{ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }[يونس: 16].

أربعون سنة قضاها رسول الله بين قومه قبل البعثة، ما جرَّبوا عليه قراءة ولا كتابة ولا خطبة، ولا نمَّق قصيدة، فكيف تُكذِّبونه الآن؟

فإن قالوا: كانت عبقرية عند محمد أجَّلها حتى سِنَّ الأربعين. نقول: العبقرية عادة مَا تأتي في أواخر العقد الثاني من العمر في السابعة عشرة، أو الثامنة عشرة، ومَنْ ضمن لمحمد البقاء حتى سِنِّ الأربعين، وهو يرى مصارع أهله، جده وأبيه وأمه؟

لو كان عندك شيء من القراءة أو الكتابة لكان لهم عذر، ولكان في الأمر شبهة تدعو إلى الارتياب في أمرك، كما قالوا:{ وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىا عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً }[الفرقان: 5].

وقالوا:{ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ... }[النحل: 103] فردَّ القرآن عليهم{ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ }[النحل: 103].

وقالوا: ساحر. وقالوا: شاعر. وقالوا: مجنون. وكلها افتراءات وأباطيل واهية يسهل الردُّ عليها: فإنْ كان ساحراً، فلماذا لم يسحركم أنتم أيضاً وتنتهي المسألة؟ وإنْ كان شاعراً فهل جرَّبتم عليه أنْ قال شعراً قبل بعثته؟

وإنْ قُلْتم مجنون، فالجنون فَقْد العقل، بحيث لا يستطيع الإنسان أنْ يختار بين البدائل، فهل جرَّبتم على محمد شيئاً من ذلك؟ وكيف يكون المجنون على خُلُق عظيم بشهادتكم أنتم أنه الصادق الأمين، فعنده انضباط في الملَكات وفي التصرفات، فكيف تتهمونه بالجنون؟

وكلمة { مِن قَبْلِهِ... } [العنكبوت: 48] لها عجائب في كتاب الله منها هذه الآية: { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ... } [العنكبوت: 48] فيقول بعض العارفين (من قبله): أي من قبل نزول القرآن عليك، وهذا القول { قَبْلِهِ.. } [العنكبوت: 48] يدل على أنه من الجائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم كيف يقرأ وكيف يكتب بعد نزول القرآن عليه، حتى لا يكون في أمته من هو أحسن حالاً منه في أي شيء، أو في خصلة من خصال الخير.

ثم تأمل قوله تعالى:{ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللَّهِ مِن قَبْلُ... }[البقرة: 91] ألاَ يدخل في روع رسول الله أنهم ربما يجترئون عليه فيقتَلوه، فيتهيب منهم، أو يدخل في نفوسهم هم، فيجترئون عليه كما قتلوا الأنبياء من قبل؛ لذلك جاءتْ الآية لتقرر أن هذا كان في الماضي، أما الآن فلن يحدث شيء من هذا أبداً، ولن يُمكِّنكم الله من نبيه.

وكلمة } وَمَا كُنتَ... { [العنكبوت: 48] تكررت كثيراً في كتاب الله، ويُسمُّونها في الزمن الماضي، والحاضر، والمستقبل.

كما في قوله تعالى:{ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى الأَمْرَ... }[القصص: 44].

وقوله تعالى:{ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا... }[القصص: 45].

وقوله تعالى:{ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ... }[آل عمران: 44].

وهنا: } وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ... { [العنكبوت: 48].

لذلك وصفه ربه - عز وجل - بأنه{ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ... }[الأعراف: 157] وإياك أن تظن أن الأمية عَيْب في رسول الله، فإنْ كانت عيباً في غيره، فهي فيه شرف؛ لأن معنى أمي يعني على فطرته كما ولدتْه أمه، لم يتعلم شيئاً من أحد، وكذلك رسول الله لم يتعلَّم من الخَلْق، إنما تعلم من الخالق فعلَتْ مرتبةُ علمه عن الخَلْق.

ومن ذلك المكانة التي أخذها الإمام علي - رضي الله عنه - في العلم والإفتاء حتى قال عنه عمر رضي الله عنه - مع ما عُرف عن عمر من سداد الرأي حتى إن القرآن لينزلُ موافقاً لرأيه، ومُؤيّداً لقوله - يقول عمر: بئس المقام بأرض ليس فيها أبو الحسن. لماذا؟

لأنه كان صاحب حجة ومنطق وصاحب بلاغة، ألم يراجع الفاروقَ في مسألة المرأة التي ولدتْ لستة أشهر من زواجها، وعمر يريد أنْ يقيم عليها الحد؛ لأن الشائع أن مدة الحمل تسعة أشهر فتسرَّع البعض وقالوا: إنها سُبق إليها، لكن يكون للإمام على رأي آخر، فيقول لعمر: لكن الله يقول غير هذا، فيقول عمر: وما ذاك؟ قال: ألم يقُل الحق سبحانه وتعالى:{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ... }[البقرة: 233] قال: بلى.

قال: ألم يقل:{ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً... }[الأحقاف: 15] وبطرح العامين من ثلاثين شهراً يكون الباقي ستة أشهر، فإذا ولدتْ المرأة لستة أشهر، فهذا أمر طبيعي لا ارتيابَ فيه.

وفي يوم دخل حذيفة على عمر رضي الله عنهما - فسأله عمر: كيف أصبحتَ يا حذيفة؟ فقال حذيفة: يا أمير المؤمنين، أصبحت أحب الفتنة، وأكره الحق، وأُصلِّي بغير وضوء، ولي في الأرض ما ليس لله في السماء.

فغضب عمر، وهَمَّ أن يضربه بدرة في يده، وعندها دخل عليٌّ فوجد عمر مُغْضباً فقال: مالي أراك مغضباً يا أمير المؤمنين؟ فقصَّ عليه ما كان من أمر حذيفة، فقال علي:

نعم يا أمير المؤمنين يحب الفتنة؛ لأن الله تعالى قال:

{ إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ... }[التغابن: 15].

ويكره الحق أي: الموت فهو حقّ لكنا نكرهه، ويُصلِّي على النبي بغير وضوء، وله في الأرض ولد وزوجة، وليس ذلك لله في السماء. فقال عمر قولته المشهورة: بئس المقام بأرض ليس فيها أبو الحسن.

فلماذا تميَّز عليٌّ بهذه الميزة من العِلْم والفقه والحجة؟ لأنه تربَّى في حِجرْ النبوة فاستقى من نَبْعها، وترعرع في أحضان العلوم الإسلامية منذ نعومة أظافره، ولم يعرف شيئاً من معلومات الجاهلية، فلما تتفاعل عنده العلوم الإسلامية لا تَلِد إلا حقاً.

ثم يقول سبحانه } إِذاً... { [العنكبوت: 48] يعني: لو حصل منك قراءة أو كتابة } لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ { [العنكبوت: 48] أي: لَكَان لهم عُذْر ووجهة نظر في الارتياب، والارتياب لا يعني مجرد الشك، إنما شك باتهام أي: يتهمون رسول الله بأنه كان على عِلْم بالقراءة والكتابة؛ لذلك وصفهم بأنهم مبطلون في اتهامهم له صلى الله عليه وسلم.

(/3314)

بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)

{ بَلْ... } [العنكبوت: 49] حرف يفيد الإضراب عما قبله، وتأكيد ما بعده { هُوَ } أي: القرآن { آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ... } [العنكبوت: 49] ولم يقل مثلاً: في ذاكرتهم؛ لأن الأذن تستقبل الكلام وتعرضه على العقل، فإنْ قبله يستقر في القلب وفي الصدر، وفيه يتحول إلى عقيدة وإلى يقين لا يقبل الشكَّ ولا يتزحزح.

لذلك يقول تعالى عن القرآن:{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَىا قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ }[الشعراء: 193-194] فقال:{ عَلَىا قَلْبِكَ... }[الشعراء: 194] أي: مباشرة استقر في قلبه، ولم يقُلْ على أذنك.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ... }.

(/3315)

وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)

أي: بعد أنْ جاءهم القرآن وبعد أنْ أعجزهم يطلبون آيات أخرى، وسبق أنْ قلنا: إن الحق سبحانه كان إذا اقترح القومُ آيةً من رسولهم فأجابهم إلى ما طلبوا، فإنْ كذبوا بعدها أخذهم أَخْد عزيز مقتدر.

واقرأ مثلاً قوله سبحانه:{ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا... }[الإسراء: 59] فلما كذَّبوا بالآية التي طلبوها أهلكهم الله؛ لأن المسألة إذن ليست مسألة آيات وإقناع، إنما هي الإصرار على الكفر،إذن: فطلب الإنزال لآية خاصة باقتراحهم ليس مانعاً لهم أنْ يكفروا أيضاً برسول الله.

لذلك يقول سبحانه:{ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ... }[الإسراء: 59] أي: التي اقترحوها{ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ... }[الإسراء: 59] وحين تنزل الآية ويُكذِّبون بها تنزل بهم عقوبة السماء، لكن الحق - سبحانه وتعالى - قطع العهد لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ألاَّ يُعذِّب أمته وهو فيهم، كما قال سبحانه:{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }[الأنفال: 33].

فهذا هو السبب المانع من أنْ تأتي الآية المقترحة، ثم إن الآيات المقترحة آيات كونية تأتي وتذهب، كما تشعل عود الثقاب مرة واحدة، ثم ينطفئ، رآه مَنْ رآه، وأصبح خبراً لمن لم يَرَه.

وكلمة { لَوْلاَ... } [العنكبوت: 50] تستخدم في لغة العرب استخدامين: إنْ دخلتْ على الجملة الاسمية مثل: لولا زيد عندك لَزرتُك، وهي هنا حرف امتناع لوجود، فقد امتنعتْ الزيارة لوجود زيد. وإنْ دخلتْ على الجملة الفعلية مثل: لولا تذاكر دروسك، فهي للحضِّ وللحثِّ على الفعل.

فقولهم { لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ... } [العنكبوت: 50] كان الآية التي جاءتهم من عند الله لا يعترفون بها، ثم يناقضون أنفسهم حينما يقولون:{ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف: 31].

إذن: أنتم معترفون بالقرآن، مقتنعون به، لكن ما يقف في حلوقكم أن ينزل على محمد من بين الناس جميعاً. ثم نراهم يناقضون أنفسهم في هذه أيضاً، ويعترفون من حيث لا يشعرون بأن محمداً رسول الله حينما قالوا:{ لاَ تُنفِقُواْ عَلَىا مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّىا يَنفَضُّواْ... }[المنافقون: 7] فما دُمْتم تعرفون أنه رسول الله، فلماذا تُعادونه؟ إذن: فالبديهة الفطرية تكذِّبهم، ينطق الحق على ألسنتهم على حين غفلة منهم.

ويرد الحق - تبارك وتعالى - عليهم: { قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ... } [العنكبوت: 50] فهي عند الله، ليست عندي، وليست بالطلب حسب أهوائكم { وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [العنكبوت: 50] أي: هذه مهمتي، واختار الإنذار مع أنه صلى الله عليه وسلم بشير ونذير، لكن خَصَّهم هنا بالإنذار، لأنهم أهل لِجَاج، وأهل باطل وجحود، فيناسبهم كلمة الإنذار دون البشارة ثم يقول الحق سبحانه: { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ... }.

(/3316)

أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)

والاستفهام هنا للتعجُّب وللإنكار، يعني: كيف لا يكفيهم القرآن ولا يقنعهم وهو أعظم الآيات، وقد أعجزهم أنْ يأتوا ولو بآية من آياته، وجاءهم بالكثير من العِبر والعجائب؟ إذن: هم يريدون أنْ يتمحّكوا، وألا يؤمنوا، وإلا لو أنهم طلاب حَقٍّ باحثون عن الهداية لكفاهم من القرآن آية واحدة ليؤمنوا به.

وقوله تعالى: { يُتْلَىا عَلَيْهِمْ... } [العنكبوت: 51] لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي بعدة آيات، وقد يطول إلى رُبْعين أو ثلاثة أرباع، فلما أن يسري عنه يتلو ما نزل عليه على صحابته ليكتبوه، يتلوه كما أُنزِل عليه، فيكتبه الكتبة، ويحفظه مَنْ يحفظه منهم، وكانوا أمة رواية وأمة حفظ.

ثم يأتي وقت الصلاة فيصلي بهم رسول الله بما نزل عليه من الآيات، يُعيدها كما أملاها، وهذه هبة ربانية منحها لرسوله صلى الله عليه وسلم وخاطبه بقوله:{ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىا }[الأعلى: 6].

وإلا، فَلَك أن تتحدى أكثر الناس حِفْظاً أنْ يُعيد عليك خطبة أو كلمة ألقاها على مدى نصف ساعة مثلاً، ثم يعيدها عليك كما قالها في المرة الأولى.

ثم يقول سبحانه: { إِنَّ فِي ذالِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىا... } [العنكبوت: 51] لكن لمن { لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [العنكبوت: 51] لأن القرآن لا يثمر إلا فيمن يُحسن استقباله ويؤمن به، أما غير المؤمنين فهو في آذانهم وَقْر وهو عليهم عمى، لا يفقهونه ولا يتدبرونه؛ لأنهم يستقبلونه لا بصفاء نفس، وإنما ببُغْض وكراهية استقبال، فلا ينالون نوره ولا بركته ولا هدايته.

لذلك يقول تعالى في الذين يُحسِنون استقبال كلام الله:{ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ... }[فصلت: 44].

أما الذين يجحدونه ولا يُحسنون استقباله، فيقول عنهم:{ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى... }[فصلت: 44].

وسبق أنْ قلنا: إن الفعل واحد، لكن المستقبل مختلف، ومثَّلْنا لذلك بمن ينفخ في يده ليُدفئها في البرد، ومَنْ ينفخ في الشاي ليُبرده، وأنت أيضاً تنفخ في الشمعة لتطفئها، وتنفخ في النار لتشعلها.

وفي موضع آخر يقول تعالى:{ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ... }[الإسراء: 82]، ففرْق بين الشفاء والرحمة، الشفاء يعني: أنه كانت هناك علة، فبرأت، لكن الرحمة ألاَّ تعاودك العلة، ولا يأتيك الداء مرة أخرى، فالقرآن نزل ليعالج الداءات النفسية، يعالجها بالقراءة ويُحصِّنك ضدها فلا تصيبك، وإنْ وقعت في شيء من هذه الداءات فاقرأ ما جاء فيها من القرآن فإنها تبرأ بإذن الله، إذن: الشفاء يعالج الداء إنْ وقع في غفلة من سلوك النفس.

ولو طبقنا قضايا القرآن في نفوسنا لنالتنا هذه الرحمة، فالإنسان بدن وقيم ومعان وأخلاق، هذه المعاني في الإنسان يسمونها النفسيات، فقد يكون سليم البنية والجسم لكنه سقيم النفس؛ لذلك نجد بين تخصصات الطب الطب النفسي، وكل مريض لا يجدون لمرضه سبباً عضوياً يُشخِّصونه على أنه مرض نفسي، وحين تسأل الطبيب النفسي تجد أن كل ما عنده عقاقير تهديء المريض أو تهده فينام حتى لا يفكر في شيء، وهل هذا هو العلاج؟

ولو تأملنا كتاب ربنا لوجدنا فيه العلاجيْن: العضوي والنفسي، فسلامة الجسم في أن الله تعالى أحلّ لك أشياء، وحرَّم عليك أشياء، وما عليك إلا أنْ تستقيم على منهج ربك فتسلم من داءات الجسد، فإنْ كنت من هؤلاء الذين يحبون الأكل من الحلال لكنهم يبالغون فيه إلى حَدِّ التًّخمة، فاقرأ في القرآن:

{ يَابَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }[الأعراف: 31].

ثم تجد في السنة النبوية مُذكِّرة تفسيرية لهذه الآية: " بحسب ابن آدم لُقيْمات يُقمْنَ صُلْبه " ، فإنْ كان ولا بُدَّ: " فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه ".

فالأصل أن يأكل الإنسان ليعيش، لا أن يعيش ليأكل. وبعض السطحيين يقولون: ما معنى " ثلث لنفَسه " ، وهل النفَس في المعدة؟ والآن، ومع تطور العلوم عرفنا أن تُخمة البطن تضغط على الحجاب الحاجز وتضيق مجال الرئة فينتج عن ذلك ضيق في التنفس.

أما الناحية النفسية، فالمرض النفسي ناتج إما عن انقباض الجوارح عن طبيعة تكوينها، أو انبساطها عن طبيعة تكوينها، كالبيضة مثلاً لها حجم معين فإنْ ضيَّقْتَ هذا الحجم أو بسطته تنكسر.

وهذا أيضاً أساس الداء في النفس البشرية؛ لأن ملكات النفس ينبغي أنْ تظل في حالة توازن واستواء، وتجد هذا التوازن في منهج ربك - عز وجل - حيث يقول سبحانه:{ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىا مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ... }[الحديد: 23].

فمعنى:{ لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَىا مَا فَاتَكُمْ... }[الحديد: 23] الانقباض{ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ... }[الحديد: 23] الانبساط. وكلاهما مذموم منهيٌّ عنه، لكن مَن ذا الذي لا يأسى على ما فات، ولا يفرح بما هو آتٍ؟

لذلك نجد البُلَداء الذين لا تَهزهم الأحداث بصحة قوية؛ لأنهم لا يهتمون للخطوب، حتى أن الشعراء لم يَفُتْهم هذا المعنى، حيث يقول أحدهم:وَفِي البَلادةِ مَا في العَزْمِ منْ جَلَد إنَّ البليد قويُّ النفْسِ عَاتيهافَاسْأل أُوِلي العَزْم إنْ خارتْ عزائمهمْ عَنِ البَلادةِ هَلْ مَادتْ رَوَاسِيهَا؟فالذي تظنه بلادة هو عزم قويٌّ في استقبال الأحداث والصمود لها.

إذن: الرحمة في منهج الله إنِ التزمنا به نأمن من الأدواء، ماديةَ كانت أم معنوية.

(/3317)

قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)

(قُلْ) أي: للمنكرين لك { كَفَىا بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً.. } [العنكبوت: 52] أي: حسبي أن يشهد الله لي بأنِّي بلّغْتُ، فشهادتكم عندي لا تنفع، كما أنه لا ينفعني إيمانكم، ولا يضرني كفركم، فأجري آخذه من ربي على مجرد البلاغ وقد بلَّغْتُ، وشهد الله لي بذلك.

وفي موضع آخر يقول سبحانه:{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَىا بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ... }[الرعد: 43] أي: أنكم لم تكتفوا بالآيات، ولم تؤمنوا بها، لكني أكتفي برب هذه الآيات شهيداً بيني وبينكم، إذن: هناك خصومة في البلاغ بين محمد صلى الله عليه وسلم وقومه الذين يُكذِّبونه في البلاغ عن ربه.

فلا بُدَّ إذن من فَصْل في هذه الخصومة، وإذا ما نظرنا إلى قضايا الخَلْق في الخصومات وجدنا إمَّا أنْ يُقر المتهم، وإما أن يشهد شاهد حَقٍّ لا شاهد زور، ثم يعرض الأمر على القاضي ليحكم بالشهادة أو البينة.

ولا بُدَّ في القاضي ألاّ يكون صاحب هوى، ثم يأتي دور تنفيذ الحكم، وهي السلطة التنفيذية، وهذه أيضاً ينبغي ألاَّ يكون لها هوى، فتنفذ الحكم على حقيقته، فكأن الخصومات عند البشر تمرُّ بمراحل متعددة، وقد تتميع الحقائق إذا لم تتوفر الشروط اللازمة لهذه الأطراف، فلو شهد الشاهد زوراً أو مال القاضي أو المنفِّذ للحكم ودلَّس في التنفيذ لانقلبت المسائل.

أما في حكومة الحق - سبحانه وتعالى - في الخصومة بين محمد وقومه، فكفى به سبحانه حاكماً وقاضياً ومُنفِّذاً، لماذا؟ لأنه سبحانه: { يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... } [العنكبوت: 52].

فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، يعلم السر وأَخْفى، فأيُّ شهادة إذن أعدل من شهادته؟ وهو سبحانه قاضٍ عادل يحكم بالحق؛ لأنه ليس له سبحانه هوىً يميل به إلى الباطل، وهو سبحانه لا يُبدل في تنفيذ الأحكام؛ لأنه يُنفّذ حكمه هو سبحانه.

إذن: مَنِ الفائز في حكومة قاضيها الحق - تبارك وتعالى - وأطراف الخصومة فيها محمد وقومه؟ فاز رسول الله في أن يكون الله هو الشهيد، وخسر الكافرين حين كفروا به، ولم تكْفِهم البينة التي جاءتهم في القرآن الكريم.

وعِلْم الله للغيب ليس علاجاً ومذاكرة ليعلم، إنما تأتي الأمور بتوقيت منه قديم أزلاً، والعالم يظهر على وَفْق ما يراه أزلاً؛ لذلك يقول سبحانه:{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }[يس: 82].

أي: يقول للشيء، فكأنه موجود فعلاً ينتظر الأمر من الله بالظهور للناس، فقوله (كُنْ) للظهور فقط، أما مسألة الخَلْق فمنتهية أزلاً، و(الماكيت) موجود، فالحق سبحانه يعلم غَيْب السماوات والأرض، أما نحن فلا نعلم حتى غَيْب أنفسنا.

ويقول سبحانه:{ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى }[طه: 7] فهل هناك أخفى من السر؟ قالوا: السر ما تُسِرُّه في نفسك، والأخفى منه أنْ يعلمه سبحانه قبل أن يكون في نفسك.

وقد وقف البعض عند قوله تعالى:{ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ }[النور: 29] وقوله سبحانه:{ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ }[الأنبياء: 110].

يقولون: ما وجه امتنان الله بعلم الجهر من القول، وبعِلْم ما نُبدي، فهذا شيء غير مستور يعرفه الجميع؟

ونقول: افهم عن الله مراده، فالمعنى لم يقُلْ سبحانه: أعلم ما تبدي أنت، ولا ما تجهر به أنت، إنما ما تبدون كلكم، وما تجهرون به كلكم، ولتوضيح هذه المسألة تصوَّر مظاهرة من عدة مئات أو عدة آلاف تختلط بينهم الهتافات والأصوات وتتداخل الكلمات، بحيث لا تستطيع أن تميز صوت هذا من صوت ذاك.

لكن الحق سبحانه يستطيع تمييز هذه الأصوات، وإعادة كل منها إلى صاحبه؛ لذلك نرى في المظاهرات أن كل إنسان يستطيع أن يقول ما يشاء، ويهتف بما لا يجرؤ أن يهتف به منفرداً؛ لأن صوته سيختلط مع الأصوات، ويستتر فيها فلا يعرف مصدره، وهكذا يكون علم الجَهْر أقوى من علم الغَيْب.

فإنْ قلت: إن بعض العلماء باكتشافاتهم وبحوثهم توصلوا إلى معرفة أسرار كانت مستترة في الكون، كالكهرباء والذرة وغيرها، فهُمْ بذلك يعلمون الغيب. نقول: نعم، علموا شيئاً كان مستوراً في الكون، لكن علموه بمقدمات خلقها الله ويسَّرها لهم، فأخذوا هذه المقدمات وتوصَّلوا بها إلى اكتشافاتهم، كما يحلّ ولدك مثلاً تمرين الهندسة، فيستعين بالمعطيات.

إذن؛ فهو في حقيقة الأمر ليس غيباً، بل هو شيء موجود، لكن له ميلاد ووقت يظهر فيه، فإنْ جاء وقته يسَّر الله لخَلْقه الوصول إليه، إما بالبحث واستخدام المقدمات، فإذا صادف ميلاد السر بحث الخلق يُقال: إنهم أحاطواعِلْماً ببعض غيب الله.

ويقول تعالى:{ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ... }[البقرة: 255] أي: شاء أنْ يُولد، فإنْ جاء ميلاد السر، ولم يتوصَّلوا إليه ببحوثهم، ولم يقفوا على مقدماته كشفه الله لهم ولو مصادفة، وقد اكتشفوا كثيراً من أسرار الكون مصادفة.

فالغيب الحقيقي: هو الذي ليس له مقدمات تُوصِّل إليه، ولا يعلمه أحد إلا الله، والذي قال الله عنه:{ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىا غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَىا مِن رَّسُولٍ... }[الجن: 26-27] فالرسول - إذن - لا يعلم الغيب، إنما عُلِّم الغيب.

ثم يقول تعالى: } وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِالْبَاطِلِ... { [العنكبوت: 52] أي: بعبادة ما دون الله من الأصنام والأوثان } وَكَفَرُواْ بِاللَّهِ... { [العنكبوت: 52] الخالق واجب الوجود } أُوْلَـائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ { [العنكبوت: 52] لأن كفر الخَلْق بالخالق لا يؤثر في ذاته سبحانه، ولا في صفات الكمال فيه، لأنه سبحانه بصفات الكمال خلقهم، فله سبحانه صفات الكمال، آمنوا أم كفروا.

لكن فَرْق بين مَنْ يؤمن ومَنْ يكفر، فالإنسان بطبعه حريص على الحياة متمسك بها، حتى إنه إنْ أصابه مرض طلب العلاج ليصون حياته وهو يخاف الموت، ويرى مصارع الناس من حوله، وكيف سبقه أجداده ولم يخلد منهم أحد، ويرى أن الموت يأتي بلا أسباب؛ حتى قيل: والموت من غير سبب هو السبب.

إذن: فالموت حقيقة، لكن يشكُّ الناس فيها ولا يتصورونها لأنفسهم لأنهم يكرهونها؛ لذلك يقال في الأثر: ما رأيتْ يقيناً أشبه بالشكِّ من يقين الناس بالموت.

وليقين الإنسان في الموت نراه يحب البقاء في ولده، وفي ولد ولده ليبقى ذِكْره أطول فترة ممكنة، وما دام الأمر كذلك، فلماذا لا تؤمن بالله فيورثك الإيمانُ حياةً خالدة باقية لا نهايةَ لها، لا تفارقها ولا تفارقك، وهي حياة الآخرة. إذن: فمَن الخاسرون؛ الخاسرون هم الكافرون الذي قصروا حياتهم على عمرهم في الدنيا.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ... {.

(/3318)

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53)

عجيب أنْ يطلب الإنسان لنفسه العذاب، وأن يستعجله إن أبطأ عليه، إذن: ما طلبه هؤلاء إلا لاعتقادهم أنه غير واقع بهم، وإلا لو ووَثِقُوا من وقوعه ما طلبوه.

{ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ... } [العنكبوت: 53] لأن كل شيء عند الله بميقات، وأجل، والأجل يختلف باختلاف أصحابه وهو أجل الناس وأعمارهم، وهي آجال متفرقة فيهم، لكن هناك أجل يجمعهم جميعاً، ويتفقون فيه، وهو أجل الساعة.

فقوله تعالى:{ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ }[الأعراف: 34] أي: بآجالهم المتفرقة. أما أجل القيامة فأجل واحد مُسمّى عنده تعالى، ومن عجيب الفَرْق بن الأجلين أن الآجال المتفرقة في الدنيا تنهي حياة، أمّا أجل الآخرة فتبدأ به الحياة.

والمعنى { وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ... } [العنكبوت: 53] أن المسألة ليست على هواهم ورغباتهم؛ لذلك يقول تعالى:{ خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ... }[الأنبياء: 37] ويقول:{ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ }[الأنبياء: 37].

لذلك " لما عقد النبي صلى الله عليه وسلم صلح الحديبية بينه وبين كفار مكة، ورضي أنْ يعود بأصحابه دون أداء فريضة العمرة غضب الصحابة وعلي وعمر، ولم يعجبهم هذا الصلح، وكادوا يخالفون رسول الله غيرةً منهم على دينهم، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة رضي الله عنها وقال: " هلك المسلمون " قالت: ولم يا رسول الله؟ قال: " أمرتهم فلم يمتثلوا " فقالت: يا رسول الله اعذرهم، فهم مكروبون، جاءوا على شَوْقٍ لبيت الله، وكانوا على مقربة منه هكذا، ثم يُمنعون ويُصدُّون، اعذرهم يا رسول الله، ولكن امْضِ فاصنع ما أمرك الله به ودَعْهم، فإنْ هم رأوْكَ فعلتَ فعلوا، وعلموا أن ذلك عزيمة.

وفعلاً ذهب رسول الله، وتحلّل من عمرته، ففعل القوم مثله " ، ونجحت مشورة السيدة أم سلمة، وأنقذت الموقف.

" ثم بيَّن الله لهم الحكمة في العودة هذا العام دون قتال، ففي مكة إخوان لكم آمنوا، ويكتمون إيمانهم، فإنْ دخلتم عليهم مكة فسوف تقتلونهم دون علم بإيمانهم.

وكان عمر - رضي الله عنه - كعادته شديداً في الحق، فقال: يا رسول الله، ألسنا على الحق؟ قال: صلى الله عليه وسلم: " بلى " قال: أليسوا على الباطل؟ قال صلى الله عليه وسلم " بلى " قال: فَلِمَ نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر: الزم غَرْزك يا عمر " . يعني قِف عند حدِّك وحجِّم نفسك، ثم قال بعدها ليبرر هذه المعاهدة: ما كان فتح في الإسلام أعظمَ من فتح الحديبية - لا فتح مكة.

لماذا؟ لأن الحديبية انتزعت من الكفار الاعترافَ بمحمد، وقد كانوا معارضين له غير معترفين بدعوته، والآن يكاتبونه معاهدة ويتفقون معه على رأي، ثم إنها أعطت رسول الله فرصة للتفرغ لأمرالدعوة ونشرها في ربوع الجزيرة العربية، لكن في وقتها لم يتسع ظنُّ الناس لما بين محمد وربه، والعباد عادةً ما يعجلون، والله - عز وجل - لا يعجل بعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد سبحانه.

ثم يقول تعالى: } وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ { [العنبكوت: 53] يعني: فجأة، وليس حسب رغبتهم } وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ { [العنكبوت: 53] لا يشعرون ساعتها أم لا يشعرون الآن أنها حق، وأنها واقعة لأجل مسمى؟

المراد لا يشعرون الآن أنها آتية، وأن لها أجلاً مُسمى، وسوف تباغتهم بأهوالها، فكان عليهم أن يعلموا هذه من الآن، وأن يؤمنوا بها. إذن: فليس المراد أنهم لا يشعرون بالبغتة؛ لأن شعورهم بالبغتة ساعتها لا ينفعهم بشيء.

ثم يقول الحق سبحانه: } يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ.... {.

(/3319)

يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54)

أي: قُلْ لهم إنْ كنتم تستعجلون العذاب فهو آتٍ لا محالة، وإنْ كنتم في شوق إليه فجهنم في انتظاركم، بل ستمتلئ منكم وتقول: هل من مزيد؟ والعذاب يتناسب وقدرة المعذِّب قوة وضعفاً، وإحاطة وشمولاً، فإذا كان المعذِّب هو الله - عز وجل - فعذابه لا يُعذِّبه أحد من العالمين.

ومعنى { لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } [العنكبوت: 54] الإحاطة أن تشمل الشيء من جميع جهاته، فالجهات أربع: شمال وجنوب وشرق وغرب، وبين الجهات الأصلية جهات فرعية، وبين الجهات الفرعية أيضاً جهت فرعية، والإحاطة هي التي تشمل كل هذه الجهات.

ومن ذلك قوله تعالى:{ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا... }[الكهف: 29] يعني: من كل جهاتهم.

ومن عجيب أمر النار في الآخرة أن النار في الدنيا يمكن أنْ تُعذِّب شخصاً بنار تحوطه لا يستطيع أنْ يُفلت منها، لكن النار بطبيعتها تعلو؛ لأن اللهب يتجه إلى أعلى، أما إنْ كانت تحت قدمك فيمكنك أنْ تدوسها بقدمك، كما تطفئ مثلاً (عُقْب) السيجارة، فحين تدوسه تمنع عنه الأكسوجين، فتنطفئ النار فيه، أما في نار الآخرة فتأتيهم من كل جهاتهم: { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ... }.

(/3320)

يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)

وفي موضع آخر يقول سبحانه:{ لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ }[الزمر: 16].

وهاتان الجهتان لا تأتي منهما النار في الدنيا؛ لأن النار تطبيعتها تصعد إلى أعلى، وإنْ كانت تحت القدم تنطفيء. إذن: هذا ترقٍّ في العذاب، حيث لا يقتصر على الإحاطة من جميع جهاته، إنما يأتيهم أيضاً من فوقهم ومن تحتهم.

لكن قد يتجلَّد المعذَّب للعذاب، ويتماسك حتى لا تشمت فيه، وهذا يأتيه عذاب من نوع آخر، عذاب يُهينه ويُذلُّه، ويُقال له:{ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ }[الدخان: 49] لذلك وصف العذاب، بأنه: مهين، وأليم، وعظيم، وشديد.

وقوله تعالى: { وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [العنكبوت: 55] لم يقل: ذوقوا النار، إنما ذوقوا ما عملتم، كأن العمل نفسه سيكون هو النار التي تحرقهم.

ثم يقول الحق سبحانه: { ياعِبَادِيَ الَّذِينَ... }.

(/3321)

يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)

بعد أنْ تحدَّث الحق سبحانه عن الكفار والمكذَّبين أراد أنْ يُحدِث توازناً في السياق، فحدَّثنا هنا عن المؤمنين ليكون أنكَى للكافرين، حين تردف الحديث عنهم، وعما يقع لهم من العذاب بما سينال المؤمنين من النعيم، فتكون لهم حسرة شديدة، فلو لم يأخذ المؤمنون هذا النعيم لكانَ الأمر أهونَ عليهم.

وقوله تعالى: { ياعِبَادِيَ... } [العنكبوت: 56] سبق أن قُلْنا: إن الخَلْق جميعاً عبيد الله، وعبيد الله قسمان: مؤمن وكافر، وكل منهما جعله الله مختاراً: المؤمن وعبيد الله قسمان: مؤمن وكافر، وكل منهما جعله الله مختاراً: المؤمن تنازل عن اختياره لاختيار ربه، وفضَّل مراده سبحانه على مراد نفسه، فصار عبداً في كل شيء حتى في الاختيار، فلما فعلوا ذلك استحقوا أن يكونوا عبيداً وعباداً لله.

أما الكافر فتأبَّى على مراد ربه، واختار الكفر على الإيمان، والمعصية على الطاعة، ونسي أنه عبد الله مقهور في أشياء لا يستطيع أن يختار فيها، وكأن الله يقول له: أنت أيها الكافر تمردْتَ على ربك، وتأبَّيْتَ على منهجه في (افعل) و (لا تفعل)، واعتدْتَ التمرد على الله. فلماذا لا تتمرد عليه فيما يُجريه عليك من أقدار، لماذا لا تتأبَّى على المرض أو على الموت؟ إذن: فأنت في قبضة ربك لا تستطيع الانفلات منها.

وعليه، فالمؤمن والكافر سواء في العبودية لله، لكن الفرْق في العبادية حيث جاء المؤمن مختاراً راضياً بمراد الله، وفَرْق بين عبد يُطيعك وأنت تجرُّه في سلسلة، وعبد يخدمك وهو طليق حُرٌّ. وهكذا المؤمن جاء إلى الإيمان بالله مختاراً مع إمكانية أنْ يكفر، وهذه هي العبودية والعبادية معاً.

ومعنى { إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ... } [العنكبوت: 56] يخاطبهم ربهم هذا الخطاب وهم في الأرض وفي سعتها، ليلفت أنظارهم أنهم سيضطهدون ويُعذَّبون، وسيقع عليهم إيذاء وإيلام، فيقول لهم: إياكم أن تَصِرْفكم هذه القسوة، إياكم أنْ تتراجعوا عن دعوتكم، فإذا لم يناسبكم هذا المكان فاذهبوا إلى مكان آخر فأرضي واسعة فلا تُضيِّقوها على أنفسكم.

لذلك يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الأرض لله، والعباد كلهم لله، فإنْ أبصرتَ خيراً فاقِمْ حيث يكون ".

فالذي نعاني منه الآن هو هذه الحدود وهذه القيود التي وضعناها في جغرافية أرض الله، فضيَّقنا على أنفسنا ما وسَّعه الله لنا، فأرْضُ الله الواسعة ليست فيها تأشيرات دخول ولا جوازات سفر ولا (بلاك لست).

لذلك قلنا مرة في الأمم المتحدة: إنكم إنْ سعيتُم لتطبيق مبدأ واحد من مبادئ القرآن فلن يوجد شر في الأرض، ألا وهو قوله تعالى:{ وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ }[الرحمن: 10].

والمعنى: الأرض كل الأرض للأنام كل الأنام، فإن ضاق رزقك في مكان فاطلبه في مكان آخر، وإلا فالذي يُتعِب الناس الآن أن توجد أرض بلا رجال، أو رجال بلا أرض، وها هي السودان مثلاً بجوارنا، فيها أجود الأراضي لا تجد مَنْ يزرعها، لماذا؟ للقيود التي وضعناها وضيَّقنا بها على أنفسنا.

وصدق الشاعر حين قال:لَعْمرُكَ مَا ضَاقَتْ بِلادٌ بأهِلْها ولكنَّ أخْلاق الرجَالِ تَضِيقُثم يقول سبحانه } فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ { [العنكبوت: 56] فإنْ أخذنا بمبدأ الهجرة فلا بُدَّ أن نعلم أن للهجرة شروطاً أولها: أنْ تهاجر إلى مكان يحفظ عليك إيمانك ولا ينقصه، وانظر قبل أنْ تخرج من بلدك هل ستتمكن في المهجر من أداء أمور دينك كما أوجبها الله عليك؟ فإنْ كان ذلك فلا مانع، وإلا فلا هجرةَ لمكان يُخرِجني من دائرة الإيمان، أو يحول بيني وبين أداء أوامر ديني.

وهل يُرضيك أنْ تعيش لتجمع الأموال في بلاد الكفر، وأنْ تدخل عليك ابنتك مثلاً وفي يدها شاب لا تعرف عنه شيئاً قد فُرِض عليك فَرْضاً، فقد عرفته على طريقة القوم، ساعتها لن ينفعك كل ما جمعت، ولن يصلح ما جُرِح من كرامتك.

وسبق أن أوضحنا أن الهجرة قد تكون إلى دار أَمْن فقط، حيث تأمن فيها على دينك، وتأمن ألاَّ يفتنك عنه أحد، ومن ذلك الهجرة التي أمر بها رسول الله إلى الحبشة، وهي ليست أرْضَ إيمان، بل أرض أَمْن.

وقد عَّلل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالهجرة إليها بقوله: " إن فيها مَلِكاً لا يُظْلَم عنده أحد " وقد تبيَّن بعد الهجرة إليها صِدْق رسول الله، وكأنه على علم تام بالبيئة المحيطة به وبأحوال أهلها.

لذلك لم يأمرهم مثلاً بالهجرة أو أطراف الجزيرة العربية؛ لأنها كانت خاضعة لقريش بما لها من سيادة على الكعبة، فلا يستطيع أحد أنْ يحمي مَنْ تطلبه قريش، حتى الذين هاجروا بدينهم إلى الحبشة لم يَسْلَموا من قريش، فقد أرسلتْ إلى النجاشي مَنْ يكلمه في شأنهم، وحملوا إليه الهدايا المغرية ليسلمهم المهاجرين من المؤمنين بمحمد، لكن لم تفلح هذه الحيلة مع الملك العادل الذي راود الإيمانُ قلبه، فأحب المؤمنين ودافع عنهم ورفض إعادتهم ويقال: إنه آمن بعد ذلك، ولما مات صلَّى عليه رسول الله.

أما الهجرة إلى المدينة بعد الهجرة إلى الحبشة فكان لدار أَمْن وإيمان معاً، حيث تأمن فيها على دينك، وتتمكن فيها من نشره والدعوة إليه، وتجد بها إخواناً مؤمنين يُواسُونك بأموالهم، وبكل ما يملكون، وقد ضرب الأنصار في مدينة رسول الله أروع مثل في التاريخ في المواساة، فالأنصاري كان يرى أخاه المهاجر ترك أهله في مكة، وله إرْبة وحاجة للنساء، فيُطلِّق له إحدى زوجاته ليتزوجها، فانظر ماذا فعل الإيمان بالأنصار.

وفي قوله سبحانه } فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ { [العنكبوت: 56] أسلوب يُسمُّونه أسلوب قَصْر، مثل قوله تعالى:{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }[الفاتحة: 5].

وفَرْق بين أنْ نقول: نعبدك. و(إياك نعبد): نعبدك لا تمنع أنْ نعبد غيرك، أمّا (إيَّاك نَعْبد) فتقصر العبادة على الله - عز وجل - ، ولا تتجاوزه إلى غيره.

فالمعنى - إذن: إنْ كنت ستهاجر فلتكُن هجرتك لله، وقد فسَّرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: " فَمْن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَنْ كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ".

ثم يقول الحق سبحانه: } كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ... {.

(/3322)

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)

يعني: إنْ كنتم ستقولون - وقد قالوا بالفعل - ليس لنا في المدينة دار ولا عقار، وليس لنا فيها مصادر رزق، وكيف نترك أولادنا وبيئتنا التي نعيش فيها، فاعلموا أنكم ولا بُدَّ مفارقون هذا كله، فإنْ لم تُفارقوها وأنتم أحياء فسوف تفارقونها بالموت؛ لأن { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ... } [العنكبوت: 57].

ومَنْ يدريكم لعلكم تعودون إلى بلدكم مرة أخرى، كما قال الله لرسوله:{ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَآدُّكَ إِلَىا مَعَادٍ... }[القصص: 85].

وعلى فَرْض أنكم لن تعودوا إليها فلن يُضيركم شيء؛ لأنكم لا بُدَّ مفارقوها بالموت. وكأن الحق - تبارك وتعالى - يخفف عنهم ما يلاقونه من مفارقة الأهل والوطن والمال والأولاد.

كما أننا نلحظ في قوله سبحانه { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ... } [العنكبوت: 57] بعد{ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ... }[العنكبوت: 56] أن الخواطر التي يمكن أن تطرأ على النفس البشرية حين يُشرِّع الله أمراً يهيج هذه الخواطر مثل{ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ... }[العنكبوت: 56] وما تثيره في النفس من حب الجمع والتملّك يجعل لك مع الأمر ما يهبِّط هذه الخواطر.

{ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ... } [العنكبوت: 57] حتى لا نطمعَ في حطام الدنيا، ويُلهينا إغراء المال والهجرة لجمعه، فالنهاية بعد ذلك كله الموت، وفقدان كل ما جمعت.

وهذه القضية واضحة في قوله سبحانه:{ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـاذَا... }[التوبة: 28].

فلما أراد الله تعالى أن يُنهي وجود المشركين في البيت الحرام علم سبحانه أن المسلمين سيحسبون النتيجة المادية لمنع المشركين من دخول الحرم، وأنها ستؤثر على تجارتهم وأرزاقهم في مواسم التجارة والحج.

لذلك قال بعدها مباشرة:{ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ.... }[التوبة: 28] فساعةَ يقرأونها في التشريع يعلمون أن الله اطَّلع على ما في نفوسهم، وجاءهم بالردِّ عليه حتى لا يتكلموا به، وهذا يعني أن التشريع يأتي ليعالج كل خواطر النفس، فلا ينزعك من شيء تخافه إلا ومع التشريع ما يُذهِب هذه المخاوف.

{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ... }.

(/3323)

وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58)

هذه في مقابل:{ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ... }[العنكبوت: 54-55] وذكر المقابل لزيادة النكاية بالكافرين، كما يقول سبحانه:{ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ }[الانفطار: 13-14].

فجَمْع المتقابلين يزيد من فَرْحة المؤمن، ويزيد من حَسْرة الكافر.

ومعنى { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً... } [العنكبوت: 58] أي: نُنزلهم ونُمكِّنهم منها، كما جاء في قوله تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم:{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ... }[آل عمران: 121] يعني: تُنزِلهم أماكنهم.

والجنة تُطلق على الأرض ذات الخضرة والأشجار والأزهار في الدنيا، كما جاء في قوله سبحانه:{ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ... }[البقرة: 266].

وقوله سبحانه:{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ... }[القلم: 17].

وقوله سبحانه:{ وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ... }[الكهف: 32].

فإذا كانت جنة الدنيا على هذه الصورة من الخِصْب والنماء والجمال، وفيها أسباب القُوت والترف، إذا كان ذلك في دنيا الأسباب التي نراها، فما بالك بما أعدَّه الله لخَلْقه في الآخرة؟

ومن عجائب الجنة أنها { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ... } [العنكبوت: 58] ونحن نعرف أن أنهار الدنيا تجري خلالها عبر الشُّطان التي تحجز الماء، أمّا في الجنة فتجري أنهارها بلا شُطآن.

لذلك لما كنا نسافر إلى بلاد المدنية والتقدّم، ونرى زخارف الحياة وترفها كنتُ أقول لمن معي: خذوا من هذا النعيم عِظَة، فهو ما أعدَّه البشر للبشر، فما بالكم بما أعدَّه ربُّ البشر للبشر؟

فإذا رأيتَ نعيماً عند أحد فلا تحقد عليه، بل ازْدَدْ به يقيناً في الله تعالى، وأن ما عنده أعظم من هذا. أَلاَ ترى أن الحق - تبارك وتعالى - حينما يخبرنا عن الجنة يقول:{ مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ... }[محمد: 15] فيجعلها مثلاً؛ لأن ألفاظ اللغة لا تؤدي المعاني التي في الجنة ولا تَصِفها.

لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " فيها ما لا عَيْن رأت، ولا أذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر " فكل ما جاء فيها ليس وصفاً لها إنما مجرد مثَل لها، ومع ذلك لما أعطانا المثل للجنة صَفّى المثل من شوائبه، فقال:{ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى... }[محمد: 15] ويكفي أن تعلم أن نعيم الجنة يأتي مناسباً لقدرة وإمكانيات المنِعم سبحانه.

وقوله سبحانه { خَالِدِينَ فِيهَا... } [العنكبوت: 58] لأن النعيم مهما كان واسعاً، ومهما تعددتْ ألوانه، فيُنغِّصه ويُؤرِّق صاحبه أن يزول إما بالموت وإما بالفقر، أما نعيم الجنة فدائم لا يزول ولا ينقطع، فلا يفوتك ولا تفوته، كما قال سبحانه:{ لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ }[الواقعة: 33] لا يُكدِّرها شيء.

إذن: فالرابح مَنْ آثر الآخرة على الدنيا؛ لأن نعيم الدنيا مآله إلى زوال، ولا تقُلْ: إن عمر الدنيا كم مليون سنة، إنما عمرها مدة بقائك أنت فيها، وإلا فماذا تستفيد من عمر غيرك؟

ثم إنك تتمتع في الدنيا على قدر إمكاناتك ومجهوداتك، فنعيم الدنيا بالأسباب، لكن نعيم الآخرة بالمسبِّب سبحانه، لذلك ترى نعيماً صافياً لا يُنغِّصه شيء، فأنت ربما تأكل الأكْلة في الدنيا فتسبِّب لك المتاعب والمضايقات، كالمغص والانتفاخ، علاوة على ما تكرهه أثناء قضاء الحاجة للتخلُّص من فضلات هذه الأكلة.

أما في الآخرة فقد أعدَّ الله لك الطعام على قَدْر الحاجة، بحيث لا تكون له فضلات، لأنه طُهِي بكُنْ من الله تعالى.

لذلك سُئِل أحد علماء المسلمين: تقولون: إن الجنة تأكلون فيها، ولا تتغوطون، فكيف ذلك؟ فقال: ولم التعجب، أَلاَ تروْنَ الجنين في بطن أمه يتغذى وينمو ولا يتغوط؛ لأن الله تعالى يعطيه غذاءه على قدر حاجته للنمو، فلا يبقى منه فضلات، ولو تغوَّط في مشيمته لمات في بطن أمه.

وقوله تعالى: } نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ { [العنكبوت: 58] نعم، نعْم هذا الأجر؛ لأنك مكثْتَ إلى سِنَّ التكليف ترْبَع في نعم الله دون أنْ يُكلِّفك بشيء، ثم يعطيك على مدة التكليف أجراً لا ينقطع، ولا نهاية له، فأيُّ أجر أَسْخى من هذا؟ ويكفي أن الذي يقرِّر هذه الحقيقة هو الله، فهو سبحانه القائل: } نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ { [العنكبوت: 58].

ثم يقول الحق سبحانه: } الَّذِينَ صَبَرُواْ... {.

(/3324)

الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59)

فهذه من صفات العاملين { الَّذِينَ صَبَرُواْ... } [العنكبوت: 59] فلا تظن أن العمل ما كان في بحبوحة العيش وترَف الحياة، فالعامل الحق هو الذي يصبر، وكلمة { الَّذِينَ صَبَرُواْ... } [العنكبوت: 59] تدل على أنه سيتعرَّض للابتلاء، كما قال سبحانه:{ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ }[العنكبوت: 2].

فالذين اضطهدوا وعُذِّبوا حتى اضطروا للهجرة بدينهم صبروا، لكن هناك ما هو أكبر من الصبر؛ لأن خَصْمك من الجائز أنْ يصبر عليك، فيحتاج الأمر إلى المصابرة؛ لذلك قال سبحانه{ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ }[آل عمران: 200] ومعنى: صابره. يعني: تنافس معه في الصبر.

والصبر يكون على آفات الحياة لتتحملها، ويكون على مشقة التكاليف، وعلى إغراء المعصية، يقولون: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصدق الشاعر حين قال:وكُنْ رجلاً كالضِّرس يرسُو مكَانَهُ ليَمْضُغَ لاَ يَعْنيه حُلْو ولاَ مُرّفالمعنى { الَّذِينَ صَبَرُواْ... } [العنكبوت: 59] على الإيذاء { وَعَلَىا رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [العنكبوت: 59] أي: في الرزق، وكان المهاجرون عند هجرتهم يهتمون لأمر الرزق يقولون: ليس لنا هناك دار ولا عقار ولا.. إلخ. فأراد سبانه أنْ يُطمئِن قلوبهم على مسألة الرزق، فقال { وَعَلَىا رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [العنكبوت: 59].

فالذي خلقك لا بُدَّ أنْ يخلق لك رزقك، ومن عجيب أمر الرزق أن رزقك ليس هو ما تملك إنما ما تنتفع به حقيقة، فقد تملك شيئاً ويُسرق منك، وقد يُطهى لك الطعام، ولا تأكله، بل أدقّ من ذلك قد تأكله ولا يصل إلى معدتك، وربما يصل إلى المعدة وتقيئه، وأكثر من ذلك قد يتمثل الغذاء إلى دم ثم ينزف منك في جُرْح أو لدغة بعوضة أو غير ذلك؛ لأن هذا ليس من رزقك أنت، بل رزق لمخلوق آخر.

إنك تعجب حينما ترى التمساح مثلاًعلى ضخامته وخوف الناس منه، ومع ذلك تراه بعد أنْ يأكل يخرج إلى اليابسة، حيث يفتح فمه لصغار الطيور، فتتولى تنظيف ما بين أسنانه من فضلات الطعام، وترى بينهما انسجاماً تاماً وتعاوناً إيجابياً، فحين يتعرض التمساح مثلاً لهجمة الصياد يُحدِث صوتاً معيناً يفهمه التمساح فيسرع بالهرب.

فانظر من أين ينال هذا الطير قوته؟ وأين خبأ الله له رزقه؟ لذلك يقولون (اللي شَقُّه خلق لقُّه).

وسبق أن ضربنا مثلاً على خصوصية الرزق بالجنين في بطن أمه، فحينما تحمل الأم بالجنين يتحول الدم إلى غذاء للطفل، فإنْ لم تحمل نزل هذا الدم ليرمي به دون أنْ تستفيد منه الأم، لماذا؟ لأنه رِزْق الجنين، وليس رزقها هي.

لذلك نجد الآية بعدها تقول: { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ... }.

(/3325)

وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)

يريد سبحانه أن يُطمئن خَلْقه على أرزاقهم، فيقول { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ... } [العنكبوت: 60] كأيٍّ لها مَعَانٍ متعددة، مثل كم الخبرية حين تقول لمن ينكر جميلك: كم أحسنتُ إليك؟ يعني: كثيراً جداً، كذلك في { وَكَأَيِّن... } [العنكبوت: 60] أي: كثير كما في{ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ... }[آل عمران: 146].

والدابة: هي التي تدبّ على الأرض، والمراد كل حيٍّ ذي حركة، وقد تقول: فالنمل - مثلاً - لا نسمع له دبَّة على الأرض أيُعَدُّ من الدابة؟ نعم فله دبَّة على الأرض، لكنك لا تسمعها، فالذي خلقها يسمع دبيبها؛ لأن الذي يقبل الصغر يقبل الكبر، لكن ليس عندك أنت آلة السماع.

بدليل أن الذي يعاني من ضعف السمع مثلاً ينصحه الطبيب بتركيب سماعة للأذن فيسمع، وكذلك في النظارة للبصر، إذن: فكل شيء له أثر مرئي أو مسموع، لكن المهم في الآلة التي تسمع أو ترى؛ لذلك يقولون إنْ أرادوا المبالغة؛ فلان يسمع دَبّة النملة.

ومعنى { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا... } [العنكبوت: 60] ليست كلّ الدواب تحمل رزقها، فكثير منها لا تحمل رزقاً، ومع ذلك تأكل وتعيش، ويحتمل أن يكون المعنى: لأنها لا تقدر على حمله، أو تقدر على حمله ولكنها لا تفعل، فمثلاً القمل والبراغيث التي تكثر مع الإهمال في النظافة الشخصية أتحمل رزقاً؟ والناموسة التي تتغذى مع ضَعْفها على دم الإنسان الفتوة المتجبر، الميكروب الذي يفتك بالإنسان.. إلخ هذه أشياء لا تحمل رزقها.

أما الحمار مثلاً مع قدرته على الحمل لا يحمل رزقه؛ لذلك تراه إنْ شبع لا يدخر شيئاً، وربما يدوس الأكل الباقي، أو يبول عليه، وكذلك كل الحيوانات حتى أنهم يقولون: لا يعرف الادخار من المخلوقات إلا الإنسان والفأر والنمل.

وقد جعل الله الادخار في هؤلاء لحكمة ولبيان طلاقة قدرته تعالى، وأن الادخار عند هذه المخلوقات ليس قُصوراً من الخالق سبحانه في أن يجعل بعض الدوابّ لا تحمل رزقها، بل يخلق لها وسائل تعجز أنت عنها.

ولك أن تتأمل قرى النمل وما فيها من عجائب، فقد لاحظ الباحثون في هذا المجال أنك لو تركت بقايا طعام مثلاً تأتي نملة وتحوم حوله ثم تنصرف وترسل إليه عدداً من النمل يستطيع حمل هذه القطعة، ولو ضاعفت وزن هذه القطعة لتضاعف عدد النمل.

إذن: فهي مملكة في غاية التنظيم والدقة والتخصص، والأعجب من ذلك أنهم لاحظوا على النمل أنها تُخرِج فُتاتاً أبيض صغيراً أمام الأعشاش، فلما فحصوه وجدوه الزريعة التي تُسبِّب الإنبات في الحبة حتى لا تنبت، فتهدم عليهم العُشَّ، فسبحان الذي خلق فسوَّى والذي قدَّر فهدى.

وأعجب من ذلك، وجدوا النمل يفلق حبة الكسبرة إلى أربعة أقسام، لأن نصف حبة الكسبرة يمكنه أنْ يَنبت منفرداً، فقسموا النصف.

إذن: فكثير من الدواب لا تحمل رزقها } اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ... { [العنكبوت: 60] فذكر الدواب أولاً في مجال الرزق ثم عطف عليها } وَإِيَّاكُمْ... { [العنكبوت: 60] فنحن معطوفون في الرزق على الدواب، مع أن الإنسان هو الأصل، وهو المكرّم، والعالم كله خُلِق من أجله لخدمته، ومع ذلك لم يقُلْ سبحانه: نحن نرزقكم وإياهم، لماذا؟ قالوا: لأنك تظن أنها لا تستطيع أن تحمل أو تُدبِّر رزقها، ولا تتصرف فيه، فلفت نظرك إلى أننا سنرزقها قبلك.

وقد وقف المستشرقون الذين يأخذون القرآن بغير الملَكة العربية يعترضون على قوله تعالى:{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ... }[الإسراء: 31].

وقوله سبحانه:{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ... }[الأنعام: 151].

يقولون: أيّهما أبلغ من الأخرى، وإن كانت إحداهما بليغة، فالأخرى غير بليغة.

وهذا الاعتراض ناتج عن ظنهم أن الآيتين بمعنى واحد، وهما مختلفتان، فالأولى{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ... }[الإسراء: 31] فالفقر هنا غير موجود وهم يخافونه، أما في:{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ... }[الأنعام: 151] فالفقر موجود فعلاً. فهما مختلفتان في الصَّدْر، وكذلك مختلفتان في العَجُز.

ففي الأولى قال:{ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم... }[الإسراء: 31] لأن الفقر غير موجود، وأنت غير مشغول برزقك، فبدأ بالأولاد، أمّا في الثانية فقال:{ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ... }[الأنعام: 151] وقدم الآباء؛ لأن الفقر موجود، والإنسان مشغول أولاً برزق نفسه قبل رزق أولاده.

إذن: فلكل آية معنى وانسجام بين صَدْرها وعَجُزها، المهم أن تتدبر لغة القرآن، وتفهم عن الله مراده.

وقوله سبحانه: } وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ { [العنكبوت: 60] واختار هنا السميع العليم؛ لأن الحق سبحانه له قيُّومية على خَلْقه، فلم يخلقهم ثم يتركهم للنواميس، إنما خلق الخَلْق وهو سبحانه قائم عليه بقيوميته تعالى؛ لذلك يقول في بيان عنايته بصنعته{ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ... }[البقرة: 255] يعني: يا عبادي ناموا مِلْءَ جفونكم؛ لأن ربكم لا ينام.

ومناسبة السميع هنا؛ أن الجوع إذا هَزَّ إنساناً ربما يصيح صيحة، أو يُحِدث شيئاً يدل على أنه جائع، فكأنه يقول: لم أجعلكم كذلك.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ... {.

(/3326)

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)

يقول تعالى للذين لا تكفيهم آية القرآن التي نزلت على رسول الله، ويطلبون منه آيات أخرى، يقول لهم: لقد جعل الله لكم الآيات في الكون قبل أنْ يرسل الرسل، آيات دالة على الإعجاز في السماوات وفي الأرض، فهل منكم مَنْ يستطيع أنْ يخلق شيئاً منها مهما صَغُر؟

إن خلق السماوات والأرض معجزة كونية لا تنتهي، فلماذا تطلبون المزيد من الآيات، وما جعلها الله إلا لبيان صِدْق الرسل في البلاغ عن الله ليؤمن الناس بهم.

لذلك يقول سبحانه في الرد عليهم:{ هَـاذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ... }[لقمان: 11] فخلْق السماوات والأرض والشمس والقمر إعجاز للدنيا كلها، وخصوصاً الكفرة فيها.

ومسألة الخَلْق هذه من الوضوح بحيث لا يستطيع أحد إنكارها - كما سبق أنْ أوضحنا - لذلك يقولون هنا في إجابة السؤال { لَيَقُولُنَّ اللَّهُ... } [العنكبوت: 61] وهذا الاعتراف منهم يستوجب من المؤمن أنْ يحمد الله عليه، فيقول: الحمد لله أن اعترفوا بهذه الحقيقة بأنفسهم، الحمد لله الذي أنطقهم بكلمة الحق، وأظهر الحجة التي تبطل كفرهم.

وقوله تعالى { فَأَنَّىا يُؤْفَكُونَ } [العنكبوت: 61] أي: كيف بعد هذا الاعتراف ينصرفون عن الله، وينصرفون عن الحق؟

{ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ... }.

(/3327)

اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)

{ يَبْسُطُ الرِّزْقَ... } [العنكبوت: 62]: يُوسِّعه، { وَيَقْدِرُ... } [العنكبوت: 62] يعني يضيق، وآفة الناس في هذه المسألة أنهم لا يفسرون الرزق إلا بالمال، والرزق في الواقع كل ما ينتفع به الإنسان، فالعلم رزق، والحلم رزق، والجبروت رزق، والاستكانة رزق، وإتقان الصَّنْعة رزق.. إلخ.

والله سبحانه يُوسِّع الرزق لمَنْ يشاء، ويُضيِّقه على مَنْ يشاء، فالذي ضُيِّق عيه يحتاج لمن بسط له، وكذلك يبسط الرزق في شيء ويُضيِّقه في شيء آخر، فهذا بسط له في العقل مثلاً، وضيق عليه في المال.

فكأن الحق - سبحانه وتعالى - نثر مواهب الملكات بين خَلْقه، لم يجمعها كلها في واحد، وسبق أن أوضحنا أن مجموع الملكات عند الجميع متساوية في النهاية، فَمنْ بُسِط له في شيء ضُيِّق عليه في آخر؛ ليظل المجتمع مربوطاً برباط الاحتياج، ولا يستغني الناس بعضهم عن بعض، وحتى تتكامل المواهب بين الناس، فتساند لا تتعاند.

إذن: فالحق - سبحانه وتعالى - حين يبسط الرزق لعبد، ويَقْدره على آخر، لا يعني هذا أنه يحب الأول ويكره الآخر، ولو نظرتَ إلى كل جوانب الرزق وزوايا العطاء لوجدتها متساوية.

وحين نتأمل قوله سبحانه:{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ... }[الزخرف: 32] فأيُّ بعض مرفوع؟ وأيُّ بعض مرفوع عليه؟ الكل مرفوع في جهة اختصاصه، ومرفوع عليه في غير جهة اختصاصه، إذن: فالجميع سواء.

وسبق أنْ ضربنا مثلاً لهذه القضية. وقلنا: إن العظيم الذي يسكن القصر يحتاج إلى العامل البسيط الذي يصلح له دورة المياه، وينقذه من الرائحة الكريهة التي يتأفف منها، فيسعى هو إليه ويبحث عنه، وربما ذهب إليه في محل عمله وأحضره بسيارته الفارهة، بل ويرجوه إنْ كان مشغولاً.

ففي هذه الحالة، ترى العامل مرفوعاً على الباشا العظيم، فلا يظهر الرفع إلا في وقت الحاجة للمرفوع.

وأيضاً لو لم يكُنْ بين الناس غني وفقير، مَنْ سيقضي لنا المصالح في الحقل، وفي المصنع، وفي السوق.. إلخ لا بُدَّ أنْ تُبنى هذه المسائل على الاحتياج، لا على التفضُّل. إذن: إنْ أردت أن تقارن بين الخَلْق فلا تحقِرنَّ أحداً؛ لأنه قد يفضل عليك في موهبة ما، فتحتاج أنت إليه.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ... }.

(/3328)

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)

وهنا أيضاً قالوا { اللَّهُ } لأن إنزال المطر من السماء وإحياء الأرض به بعد موتها آية كونية واضحة لم يدَّعِها أحد، فهي ثابتة لله تعالى، لا يُنكرها أحد حتى الكافرون، فلئن سألتهم هذا السؤال { لَيَقُولُنَّ اللَّهُ... } [العنكبوت: 63] لذلك يأمرنا الحق سبحانه بأن نقول بعد هذا الإقرار { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ... } [العنكبوت: 63] الذي أنطقهم بالحق، وأقام عليهم الحجة { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [العنكبوت: 63] لأنهم أقرُّوا بآيات الله في خَلْق الكون، ومع ذلك كفروا به.

(/3329)

وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)

الحياة: نعرفها بأنها ما يكون في الإنسان الأعلى في الوجود من حِسٍّ وحركة، فإذا انتهى حِسُّه وحركته لم تَعُدْ له حياة، وهذه الحياة موصوفة هنا بأوصاف ثلاثة: دنيا ولهو ولعب، كلمة دنيا تدل على أن مقابلها عُلْيا فساعة تسمع هذا الوصف " الحياة الدنيا " فاعلم أن هذا الوصف ما جاء إلا ليميزها عن حياة أخرى، تشترك معها في أنها حياة لله إلا أنها حياة عليا، هذه الحياة العُلْيا هي التي قال عنها ربنا - تبارك وتعالى - " الدار الآخرة ".

وإنْ كنا قد عرَّفنا الحياة الدنيا بأنها الحِسُّ والحركة في الإنسان، فالواقع عند التقنين أن لكل شيء في الوجود حياةً تُناسب مهمته، بدليل قوله تعالى حين يُنهي هذه الحياة:{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ... }[القصص: 88].

فما يُقال له شيء لا بُدَّ أنْ يطرأ عليه الهلاك، والهلاك تقابله الحياة، بدليل قوله سبحانه:{ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىا مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ... }[الأنفال: 42].

فالحياة ضد الهلاك، إلا أنك تعرف الحياة عندك بالحس والحركة، وكذلك الحياة في كل شيء بحسبه، حتى في الجماد حياة نلحظها في أن الجبل يتكون من أصناف كثيرة من الحجارة، ترتقي مع الزمن من حجارة إلى أشياء أخرى أعلى من الحجارة وأثمن، وما دامت يطرأ عليها هذا التغيير فلا بُدَّ أن فيها حياةً وتفاعلاً لا ندركه نحن.

إذن: فكل شيء له حياة، لكن الآفة أننا نريد حياة كالتي فينا نحن، وأذكر نحن في مراحل التعليم قالوا لنا: هناك شيء اسمه المغناطيس، وعملية اسمها الممغنطة، فحين تُمغنط قطعة من الحديد تُكسِبها قدرة على جَذْب قطعة أخرى وفي اتجاه معين، إذن: في الحديد حياة وحركة وتفاعل، لكن ليس عندك الآلة التي تدرك بها هذه الحركة، وفيها ذرات داخلية لا تُدرَك بالعين المجردة تم تعديلها بالمغنطة إلى جهة معينة.

واقرأ قوله تعالى:{ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ... }[فصلت: 21] فللجوارح نفسها حياة، ولها كلام ومنطق، لكن لا ندركه نحن؛ لأن حياتها ليست كحياتنا. إنك لو تتبعتَ مثلاً طبقاً أو كوباً من البلاستيك لوجدته تغيَّر لونه مع مرور الزمن، وتغيُّر اللون فيه يدل على وجود حياة وحركة بين ذراته، ولو لم تكُنْ فيه حياة لكان جامداً مثل الزجاج، لا يطرأ عليه تغيُّر اللون.

والحق - تبارك وتعالى - يصف الدار الآخرة بأنها { الْحَيَوَانُ.. } [العنكبوت: 64] وفرْق بين الحياة والحيوان، الحياة هي هذه التي نحياها في الدنيا يحياها الأفراد، ويحياها النبات، ثم تؤول إلى الموت والفناء، أمّا الحيوان فيعني الحياة الأرقى في الآخرة؛ لأنها حياة باقية حياة حقيقية.

والحق - سبحانه وتعالى - أعطانا صورة للحياة الدنيا، الحياة المادية في قوله تعالى عن آدم

{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي... }[الحجر: 29] فمن الطين خَلق آدم، وسوَّاه ونفخ فيه من روحه تعالى، فدبَّتْ فيه الحياة المادية.

لكن هناك حياة أخرى أسمى من هذه يقول الله عنها:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ... }[الأنفال: 24] فكيف يخاطبهم بذلك وهم أحياء؟ لا بُدَّ أن المراد حياة أخرى غير هذه الحياة المادية، المراد حياة الروح والقيم والمنهج الذي يأتي به رسول الله.

لذلك سمَّى المنهج روحاً{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا... }[الشورى: 52] وسمَّى الملَك الذي نزل به روحاً:{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ }[الشعراء: 193].

إذن: } وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ... { [العنكبوت: 64] أي: الحياة الحقيقية التي لا تفوتها ولا تفوتك، ولا يفارقك نعيمها، ولا يُنغِّصه عليك شيء، كما أن التنعُّم في الدنيا على قَدْر إمكاناتك وأسبابك، أمّا في الآخرة فالنعيم على قَدْر إمكانات المنعم سبحانه وتعالى.

ثم يأتي وَصْف الدنيا بأنها لَهْو، ولَعِب، وهما حركتان من حركات جوارح الإنسان، لكنها حركة لا مَقصدَ لها إلا الحركة في ذاتها دون هدف منها؛ لذلك نقول لمن يعمل عملاً لا فائدة منه " عبث ".

إذن: اللهو واللعب عبث، لكن يختلفان من ناحية أخرى، فاللعب حركة لا فائدة منها، لكنه لا يصرفك عن واجب يعطي فائدة، كالولد حين يلعب، فاللعب لا يصرفه عن شيء إذن: فاللعب لمن لم يبلغ، أمّا البالغ المكلف فاللعب في حقِّه يسمى لَهْواً، لأنه كُلِّف فترك ما كُلِّف به إلى ما لم يكلّف به، ولَهَا عن الواجب، ومنه: لَهْو الحديث.

فقوله تعالى } وَمَا هَـاذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ... { [العنكبوت: 64] أي: إنْ جُرِّدت عن الحياة الأخرى حياة القيم التي تأتي باتباع المنهاج.

وقوله: } لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ { [العنكبوت: 64] يُحتمل أن تكون الجملة هنا امتناعية يعني: امتنع علمهم بها، أو تكون تمنياً يعني: يا ليتهم يعلمون هذه الحقيقة، حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة؛ لأنهم لو علموها لأقبلوا على منهج ربهم لينالوا كُلَّ هذا العطاء الممتدّ، ولَسلكوا طريق الإيمان بدل طريق الكفر، فكأن المعنى أنهم لم يعرفوا.

ثم يقول الحق سبحانه: } فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ... {.

(/3330)

فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)

ينقلنا السياق هنا من الكلام عن حقيقة كل من الدنيا والآخرة إلى الحديث عن الفُلْك، فما العلاقة بينهما؟

المتكلم هنا هو الله تعالى، وواضع كل شيء في موضعه، ولا يغيب عنك أنه لا بُدَّ أنْ تتدبر كلام الله لتفهم مراده، فالله لا يريدنا مُقبلين على ظاهر القرآن فحسب، إنما أنْ نتعمق في فهمه وتأمله، وننظر في معطياته الحقيقية:{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ... }[النساء: 82].

والعلاقة هنا أن الآية السابقة جاءتْ لتقرر أن الدنيا دار لهو ولعب لا فائدة منها إذا ما بَعُدت عن منهج الله، ولم تحسب حساباً لحياة أخرى هي الحياة الحقيقية وهي الحيوان، فكان على العاقل أنْ يحرص على الآخرة، وأنْ يعمل لها باتباع منهج الله في الدنيا.

إذن: فالدنيا ليست غاية، بل هي وسيلة، وأنت أيها الذي أعرضتَ عن منهج ربك جلعتَ الدنيا غايتك، والدنيا إنْ كانت هي الغاية فما أتفهها من غاية، إنما اجعلها وسيلة للآخرة ومزرعة لدار الحيوان. وكذلك الحال في الفُلْك، فهي وسيلة تُوصِّلك إلى هدف، وإلى غاية، وليست هي غاية في حَدٍّ ذاتها.

{ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ... } [العنبكوت: 65] والفلك: السفينة، وتُطلق على المفرد وعلى الجمع، فيقول تعالى:{ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ... }[هود: 38] وقوله{ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ... }[يونس: 22] واضح من السياق أنها ليستْ دعوة الحمد، كأن يقولوا مثلاً{ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَـاذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ }[الزخرف: 13] بل هي دعوة الاضطرار بعد أنْ تعرَّضوا لشدة وعطب لا تنجيهم منها أسبابهم، بدليل قوله تعالى بعدها: { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [العنكبوت: 65].

فهذه تعطينا أنهم ركبوا في السفينة، فلما تعرَّضوا للعطب، وضاقتْ بهم أسبابهم دعوا الله مخلصين له الدين.

وفي لقطة أخرى يقول القرآن:{ حَتَّىا إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـاذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ }[يونس: 22].

فمعنى{ أُحِيطَ بِهِمْ... }[يونس: 22] أي: لا يوجد لهم مفر ولا مهرب ولا مفزع يفزعون إليه إلا أنْ يتوجهوا إلى الله بدعاءخالص ويقين إيمان في أنهم لا ملجأ لهم إلا الله، وقد كانوا في أول الرحلة فرحين بمركبهم مسرورين به، وساعتها لم يكُن الله في بالهم، إنما لما ضاقت بهم الحيل عادوا إلى الحق، فالوقت لا يحتمل المراوغة.

لأن الإنسان عادةً لا يخدع نفسه، فحتى الكافر حين تضيق به أسباب النجاة يلجأ بالفطرة إلى الله الحق، وينسى آلهته ومعبوداته من دون الله؛ لأنه لا يسلم نفسه أبداً، ولا يتمادى حينئذ في كذبة الآلهة والأصنام.

لذلك: { دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.

.. { [العنكبوت: 65] دعوة خالصة بيقين ثابت في الإله الحق، دعوة لا تشوبها شائبة شرك، لا ظاهر، ولا خفي، فلا ينفع في هذا الوقت إلا الله المعبود بحقٍّ.

وسبق أنْ أوضحنا هذه المسألة بمثَل من حياتنا الواقعية، قلنا: إن حلاق الصحة كان يقوم بدور الطبيب في القرية، وله بين الناس نفس مكانة الطبيب في وقت لم يكُنْ هناك أطباء، فلما خرَّجَتْ كلية الطب أطباء وانتشروا في القرى كان الحلاق أول المهاجمين للطبيب؛ لأنه يزاحمه في رزقه، ويصرف الناس عنه؛ لذلك كان يذم في الطبيب ويُشكِّك في خبرته وقدراته.

لكن لما مرض ابنه، وارتفعت درجة حرارته، وخاف عليه قال لزوجته: انتظري إلى ظلام الليل لأذهب به إلى الطبيب - يعني: في غفلة الناس.

فالإنسان بطبعه لا يخدع نفسه، ولا يسلمها إذا جدَّ الجد، وفيه فطرة إيمانية إذا ما صفيتها في الذات البشرية لا تجد في النهاية إلا قوة واحدة هي قوة الله.

حتى الملاحدة حين تضيق بهم الأسباب يقولون: يا رب، يا الله. يقولونها من تلقاء أنفسهم، دون مرور بالعقل الذي أنكروا به وجود الله. وهذا يعني أن الفطرة الإيمانية قد تحجبها الأغيار البشرية وتلغيها، فإذا ما نامت الأغيار البشرية وتلاشتْ لحدثٍ من الأحداث ظهرتْ الفطرة الإيمانية على السطح تلهمك بلا شعور.

لذلك نلحظ في قوله سبحانه:{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىا أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىا شَهِدْنَآ... }[الأعراف: 172] شهدوا لأنهم ما يزالون في عالم الذر، لا تتحكم فيهم الأغيار البشرية{ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ... }[الأعراف: 172-173].

والله خلق الإنسان خليفة له في الأرض، وسخر له كل هذا الكون، فإنْ ظلَّ متمسكاً بهذا المنهج، ووقف عند حد الخلافة يفوز، أما إنْ ظن أنه أصيل في الكون يخيب ويخسر، لكن الله الذي خلقه يعلم الأغيار فيه وهو خَلْقه وصنعته؛ لذلك وجهه: أنت خليفتي في أرضي، وعليك أن تنظر إلى ما طُلِب منك فتؤديه، وإلا فسدت حياتك وتصادمت مع الآخرين؛ لأنك لست وحدك فيها، ولكي تنسجم مع غيرك لا بُدَّ أن تسير وَفْق منهجي، وفي دائرة قوانين من استخلفك.

ثم يُنبِّهه من ناحية أخرى: يقول أنت أيها الإنسان، اعلم أن الأسباب ستستجيب لك، فإياك أن تظن أن لك قدرةً عليها، أو أن لك جاهاً وعظمة، فتنسى أنك خليفة؛ لذلك يقول سبحانه:{ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىا * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىا }[العلق: 6 - 7] احذر حين تتم لك الأمور وتطاوعك الأسباب{ إِنَّ إِلَىا رَبِّكَ الرُّجْعَىا }[العلق: 8] فسوف يقابلك من الأحداث ما لا تستطيع أسبابك أنْ تدفعَها، ولن تجد مرجعاً إلا إليَّ.

وكيف يطغى الإنسان وقد أعطاه الله فيضاً من فيض كماله، أعطاه قدرة من قدرته، وعلماً من علمه.

. إلخ فإذا نظرتَ نظرة بسيطة في فيوضات الله عليك لوجدتها كثيرة، بالله ماذا تفعل إنْ أردتَ أن تقوم من مكانك، أو أن تُحرِّك يدك أو رِجْلك؟ لا شيء، بمجرد أن تريد تنفعل لك أعضاؤك، وتطاوعك من حيث لا تدري.

وسبق أنْ قارنّا بين حركة الإنسان وحركة الحفار مثلاً، وكيف أنه يحتاج إلى عمليات مُعقدة، فكل حركة منه لها زرّ خاص يؤديها، فماذا تفعل أنت إنْ أردتَ أنْ تؤدي مثل هذه الحركات؟

إنك بمجرد الإرادة ينفعل لك العضو، وكأن فيك فيضاً من قوله تعالى:{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }[يس: 82] فإذا كنتَ أنت تفعل بمجرد أن تريد، فلماذا لا تصدق هذا في حقِّ الله تبارك وتعالى؟

لكن هذه الحركة وانفعال الأعضاء لك ليس ذاتياً فيك، ويستطيع خالقك أنْ يسلبها منك، فتريد أن ترفع يدك فلا تستطيع، فأنت تحت قيوميته تعالى، فلم يُعطِكَ من صفاته، ثم يتركك.. فربنا سبحانه يحذرنا: إذا استغنيتَ ستَطغى؛ فتنبَّه أن إلى ربك الرُّجْعى.

ثم يلفت نظرنا من الآن إلى قضية أخرى قبل أنْ نتعرض للمخاطر:{ وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ.... }[يونس: 107] فلا تتعب نفسك، وتذهب هنا أو هناك؛ لأنه{ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ... }[يونس: 107].

هذه نصيحتي لك؛ لأنك صنعتي، وأنا أحب أن تكون صنعتي على أرقى ما تكون من الكمال، فإذا مسَّك ضر لا تقدر على دَفْعه بأسبابك، فعليك بباب ربك.

هذه ثلاث قضايا أو نصائح نقدمها لك قبل أنْ تحلَّ بك الأحداث والمصائب: إن استغنيت ستطغى، وأن إلى ربك الرجعى، وإذا مسَّك ضر، ولا حيلةَ لك في دفعه بأسبابك، فليس لك إلا الله تفزع إليه، والإله الذي يُنبِّهنا إلى المخاطر لنتلافاها إله رحيم.

إذن: فأنتم تحبون الحياة، ولما نزلتْ بكم الأحداث والخطوب في السفينة خِفْتم الموت، ودعوتُم الله بالنجاة، فأنتم حريصون على الحياة الدنيا، فلماذا لا تؤمنون بالله فتنالون حياة أخرى أبْقى وأدوم؟ والطريق إليها بالإيمان واليقين، وبمنهج الله في (افعل) و (لا تفعل).

هذه قضية ذكرها القرآن، أمَّا واقع الحياة فقد أكدها، وجاءت الأحداث وَفْق ما قال. القضية:{ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ... }[يونس: 12] الإنسان يعني مُطْلق الإنسان: المؤمن والكافر{ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً... }[يونس: 12] يعني: في كل الأحوال، فلما جاءه الخطر وأصابه الضر دعا الله على أيِّ حال كان.

وهذه الأحوال تمثل مراحل راحات النفس، فمثلاً حين تسير وأنت تحمل شيئاً، فحين تتعب أولاً تضع عنك هذا الحِمْل، ثم تتوقف عن السير لتستريح، فإنْ كان التعب أشد تقعد، وإلا تَضطجع على جنبك.

فأنت في وضع الوقوف تحمل ثقل الجسم كله على القدمين فتكون الراحة أقل، أمّا في حالة القعود يُوزع ثقل الجسم على الوركين والمقعدة، وفي الاضطجاع يُوزع نصف الجسم على نصفه فتكون الراحة أكبر، وفي ضوء هذا نفهم أن الله يستجيب لك حين تدعوه قائماً، أو قاعداً، أو على جنبك.

وعجيب أمر الإنسان إذا نجَّاه الله مما يخاف وكشف عنه الضر عاد مرة أخرى ظالماً لنفسه:{ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرٍّ مَّسَّهُ... }[يونس: 12].

وفي لقطة أخرى يقول تعالى في هذه المسألة:{ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ... }[الزمر: 8] أيُّ ضر{ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ... }[الزمر: 8] ويا ليته نسي وسكت إنما{ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً... }[الزمر: 8] فقال: الفضل لفلان، وقد استغثت بفلان، ولجأت إلى فلان.

نلحظ أن الكلام في هذه الآيات عن الإنسان المفرد، والإنسان حين يتضرع إلى الله لا يطلع عليه أحد، فالأمر بينه وبين ربه، لكن الحق سبحانه يريد أن يفضح الناس ببعض، فيقول في موضع آخر:{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ... }[الإسراء: 67].

فذكر الجماعة ليفضحهم أمام بعض؛ لأن الإنسان يستر على نفسه، فالحكمة من الجمع هنا أن رؤية الناس قد تكون مانعة من الشر، فمثلاً في موسم الحج ترى أكابر القوم وأوسطهم وأدناهم سواسية في الطواف، ويقف الواحد منهم يبكي عند الملتزم، وحين يراك صاحب المنصب أو المركز وهو مَنْ هو في بلده ساعة يعرف أنك رأيته وهو يبكي في هذا الموقف تراه يتواضع لك، ولا يتعالى عليك بعدها.

فالحق سبحانه حين يُحذِّرنا من العودة إلى المعصية بعد أنْ يكشف عنا الضر إنما يعطينا المصل الواقي بصورة تحدث في الواقع، وكأنه تعالى يقول لنا: خذوا بالكم، واعلموا أنكم مفضوحون بكتاب الله فيما تُحدثون من أحداث في حياتكم، فكل منكم ينبغي أنْ يعلم أنه مراقب من الأزل ومكتوبة عليه خواطره؛ لأن معنى القرآن الحق أنه لا يتغير، وإذا قال الله فيه شيئاً فلا بُدَّ أنْ يحدث كما أخبر الله به.

(/3331)

لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)

واللام في { لِيَكْفُرُواْ... } [العنكبوت: 66] ليست لام التعليل؛ لأن الكفر لم يكُنْ مقصداً لهم، وحين عادوا بعد أن نجاهم الله إنما عادوا إلى أصلهم، فاللام هنا لام الأمر كما لو قلت: قم يا زيد وليقم عمرو، وعلامة لام الأمر أن تكون ساكنة، وهي هنا مكسورة لأنها في بداية الكلام، حيث لا يُبدأ بساكن، ولو وضعنا قبلها حرفاً لتبيَّن سكونها.

ومثالها في قوله تعالى:{ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ }[الحج: 29].

وقوله سبحانه:{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ اللَّهُ... }[الطلاق: 7].

والدليل على أنها لام الأمر سكون اللام بعدها في قراءة من سكنها، وفي { وَلِيَتَمَتَّعُواْ... } [العنكبوت: 66] وقوله سبحانه: { فَسَوْفَ يَعلَمُونَ } [العنكبوت: 66] فرْق في الاستقبال بين السين وسوف، فلو قال: فسيعلمون لَدلَّتْ على التهديد في المستقبل القريب، وأنه سيحل بهم العذاب في الدنيا، أمّا " سوف " فتدلّ على المستقبل البعيد، فتشمل التهديد في الدنيا وفي الآخرة فهي تستغرق الزمن كله؛ لأن المسلمين في باديء الأمر كانوا مستضعفين، لا يستطيعون حماية أنفسهم، وذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون منه أن يستنصر الله لهم فلو قال حينئذ في تهديد الكفار " فسيعلمون " لم تكن مناسبة، إنما أعطى الأمد الأوسع للتهديد، فقال: { فَسَوْفَ يَعلَمُونَ } [العنكبوت: 66].

لذلك تجد الدقة في أخْذ العهد من الأنصار للرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الرسول للأنصار، فلما قابلوا رسول الله قالوا: خُذْ لنفسك. قال: تحمونني مما تحمون منه أنفسكم وأعراضكم وأموالكم.

فقالوا: فما لنا إنْ فعلنا؟ كان من الممكن أن يقول لهم: ستملكون الأرض أو ستنشر دعوة الله بكم وتنتصرون على عدوكم، لكن هذه الوعود قد يراها بعضهم، ويموت بعضهم قبل أنْ تتحقق، فلا يرى منها شيئاً؛ لذلك ذكر لهم جزاءً يستوي فيه الجميع مَنْ يعيش منهم، ومَنْ يموت، فقال: " لكم الجنة ".

وأيضاً حين يصرفهم عن دنيا الناس إلى أمر يكون في الدنيا أيضاً، فهي صفقة خاسرة، إنما أراد أنْ يصرفهم عن دنيا الناس إلى شيء أعظم مما في دنيا الناس، وليس هناك أعظم من دنيا الناس إلا الجنة.

والصحابي الذي أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بأن الجنة جزاء الشهيد، وكان يمضغ تمرة في فمه فقال: يا رسول الله، أليس بيني وبين الجنة إلا أنْ أُقتل في سبيل الله؟ قال: بلى، فألقى التمرات وبادر إلى ساحة القتال يستعجل هذا الجزاء.

إذن: فسوف صالحة للزمن المستقبل كله، أمّا السين فللقريب؛ لذلك يستخدمها القرآن في مسائل الدنيا، كما في قوله تعالى:{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ... }[فصلت: 53].

وهذه الرؤية ممتدة من زمن رسول الله، وإلى أنْ تقوم الساعة، فكل يوم يجدُّ في ظواهر الكون أمور تدل على قدرة الله تعالى، فمستقبل أسرار الله في كونه لا تنتهي أبداً إلا بالسر الأعظم في الآخرة، ففي زمن رسول الله قال

{ سَنُرِيهِمْ... }[فصلت: 53] وستظل كذلك{ سَنُرِيهِمْ... }[فصلت: 53] إلى أنْ تقوم الساعة.

ونلحظ أن المصاحف ما زال في رسمها كلام حتى الآن، فهنا } وَلِيَتَمَتَّعُواْ... { [العنكبوت: 66] تجد تحت اللام كسرة، مع أنها ساكنة، وهذا يعني أن كتاب الله غالب، وليس هناك محصٍ له.

وأذكر أن سيدنا الشيخ عبد الباقي رضي الله عنه وجزاه الله عَمَّا قدَّم للإسلام خير الجزاء - أعدَّ المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم وحاول أن يحصي ألفاظه لا سيما لفظ الجلالة (الله) الذي من أجله أعدَّ هذا الكتاب، ومع ذلك نسي لفظ الجلالة في البسملة، وبدأ من{ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الفاتحة: 2]؛ لذلك نقص العدد عنده واحداً. وما ذلك إلا لأن كتاب الله أعظم وأكبر من أنْ يُحاط به.

ثم يقول الحق سبحانه: } أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً... {.

(/3332)

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)

(رأى) قلنا: تأتي بصرية، وتأتي بمعنى عَلِم، ومنه قولنا في الجدال مثلاً أرى في الموضوع الفلاني كذا وكذا، ويقولون: (وَلِرَأىَ الرؤْيا انْمِ ما لِعَلِمَا)، وتجد في أساليب القرآن كلاماً عن الرؤيا المخاطب بها غير راء للموضوع، كما في قوله سبحانه مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ }[الفيل: 1].

ومعلوم أن النبي لم يَرَ ما حدث من أمر الفيل؛ لأنه وُلِد في هذا العام فرأى هنا بمعنى علم، لكن لماذا عدل عن (ألم تعلم) إلى (ألم تر)؟ قالوا: لأن المتكلم هنا هو الله تعالى، فكأنه يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: إذا أخبرتُك بشيء، فإن إخباري لك به أصدق من رؤيتك.

يقول سبحانه: { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ... } [العنكبوت: 67] فالحرم آمِن رغم ما حدث له من ترويع قبل الإسلام حين فزّعه أبرهة، وفي العصر الحديث لما فزَّعه (جهيمان)، وعلى مَرِّ العصور حدثتْ تجاوزات في الحرم تتناقض في ظاهرها مع هذا الأمن.

ونقول: كلمة { حَرَماً آمِناً.... } [العنكبوت: 67] في القرآن بالنسبة للكعبة فيها ثلاث إطلاقات: فالذين يعيشون فيه وقت نزول هذه الآيات يروْنَ أنه حرم آمن، وهذا الأمن موهوب لهم منذ دعوة سيدنا إبراهيم - عليه السلام -.

فحين دعا ربه:{ رَّبَّنَآ إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ.... }[إبراهيم: 37] كان مكاناً خالياً، لا حياة فيه وغير مسكون، ومعنى ذلك أنه لم تكُنْ به مُقوِّمات الحياة، فالإنسان لا يبني ولا يستقر إلا حيث يجد مكاناً يأمن فيه على نفسه، ويتوفر له فيه كل مُقوِّمات حياته.

لذلك دعا إبراهيم ربه أنْ يجعل هذا المكان بلداً آمناً يعني يصلح لأنْ يكون بلداً، فقال:{ رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا بَلَداً آمِناً }[البقرة: 126].

وبلد هنا نكرة تعني: أيْ بلد لمؤمنين أو لكافرين، فلما استجاب الله له، وجعلها بلداً كأيِّ بلد تتوفر له مُقوِّمات الحياة دعا مرة أخرى:{ رَبِّ اجْعَلْ هَـاذَا الْبَلَدَ آمِناً... }[إبراهيم: 35] أي: هذه التي صارت بلداً أريد لها مَيْزة على كل البلاد، وأمناً أزيد من أمن أيّ بلد آخر، أمناً خاصاً بها، لا الأمن العام الذي تشترك فيه كل البلاد، لماذا؟ لأن فيها بيتك.

لذلك يرى فيها الإنسان قاتلَ أبيه، ولا يتعرَّض له حتى يخرج، فالجاني مؤمَّن إنْ دخل الحرم، لكن يُضيق عليه أسباب الحياة حتى يخرج، حتى لا يجترئ الناس على بيت الله ويفسدون أمنه، ومن هذا الأمن الخاص ألاَّ يصاد فيه، ولا يُعْضَد شجرة، ولا يُروَّع ساكنه.

وكأن الحق - سبحانه وتعالى - يقول للمشركين: لماذا لا تؤمنون بهذا الدين الذي جعل لكم بلداً آمناً، في حين يُتخطف الناس من حولكم؟ لماذا لا تحترمون وجودكم في هذا الأمن الذي وهبه الله لكم.

وعجيب منهم أن يقولوا كما حكى القرآن عنهم:{ وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىا مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ... }[القصص: 57] كيف وقد حَمْيناكم أيام كنتم مشركين تعبدون الأصنام، أنترككم بعد أنْ تؤمنوا مع رسول الله.

وقصة هذا الأمن أولها في حادثة الفيل، لما جاء أبرهةُ ليهدم بيت الله ويُحوِّل الناس إلى بيت بناه باليمن، فردَّ الله كيدهم، وجعلهم كعصف مأكول، وحين نقرأ هذه السورة على الوَصْل بما بعدها تتبين لنا العِلَّة من هذا الأمن، ومن هذه الحماية، اقرأ:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ }[الفيل: 1-5] لماذا؟{ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ }[قريش: 1-2].

فالعلة في أن جعلهم الله كعصف مأكول{ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ }[قريش: 1] لأن اللام في (لإيلاَف) للتعليل، وهي في بداية كلام فالعلة في أن الله لم يُمكِّن الأعداء من هدم البيت لتظلّ لقريش مهابتها ومكانتها بين العرب، ومهابتها مرتبطة بالبيت الذي يقصده الناس من كل مكان.

وهذه المكانة تُؤمِّن تجارة قريش في رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام، لا يتعرَّض لهم أحد بسوء، وكيف يجتريء أحد عليهم أو يتعرّض لتجارتهم وهم حُماة البيت؟

فمعنى{ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ }[قريش: 1] أن الله أهلك أبرهة وجنوده ولم يُمكِّنهم من البيت لتظل لقريش، وليُديم الله عليها أنْ يُؤْلَفوا وأنْ يُحبُّوا من الناس جميعاً، ويواصلوا رحلاتهم التجارية الآمنة.

لذلك يقول تعالى بعدها{ فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـاذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ }[قريش: 3-4] فكان من الواجب عليهم أن يعبدوا رب البيت الذي وهبهم هذه النعم، فما هم فيه من أمن وأمان وطعام وشراب ليس بقوتهم، إنما بجوارهم لبيت الله، ولبيت الله قداسته عند العرب، فلا يجرؤ أحد منهم على الاعتداء على تجارة قريش.

فقولهم لرسول الله:{ ۤإِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىا مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ... }[القصص: 57] حجة لله عليهم، ففي الوقت الذي يُتخطّف الناس فيه من حولهم كانوا هم في أمان، فهي حجة عليهم.

ثم إن الشرط هنا{ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىا مَعَكَ... }[القصص: 57] غير مناسب للجواب{ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ... }[القصص: 57] فما دمتم قلتم عن الدين الذي جاءكم به محمد أنه هدى - يعني هدى لله - فكان يجب عليكم أنْ تؤمنوا به لو تأكد لديكم أنه هدى، وإلا فأنتم كاذبون في هذا القول، ولِمَ لا وأنتم تُكذِّبون القرآن وتقولون عنه افتراءوكذب وسحر، والآن تقولون عنه هدى، وهذا تناقض عجيب.

ألم يقولوا{ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف: 31] ومعنى هذا أن القرآن لا غبارَ عليه، لكن آفته أنه نزل على هذا الرجل بالذات.

وقوله تعالى } أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ.

.. { [العنكبوت: 67] أي: بالأصنام } وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ { [العنكبوت: 67] قال } وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ { [العنكبوت: 67] ولم يقل مثلاً: وبعبادة الله، أو بالإيمان بالله يكفرون؛ لأن إيمانهم لو لم يكُنْ له سبب إلا نِعمَ الله عليهم أنْ يُطعِمهم من جوع، ويُؤمنهم من خوف لكان واجباً عليهم أنْ يؤمنوا به.

والباطل مقابل الحق، وهو زَهُوق لا دوامَ له، فسرعان ما يفسد وينتهي، فإنْ قلتَ ما دام أن الباطل زهوق وسينتهي، فما الداعي للمعركة بين حَقٍّ وباطل؟

نقول: لولا عضة الباطل للمجتمع لما استشرفَ الناس للحق ينقذهم، فالباطل نفسه جُنْد من جنود الحق، كما أن الكفر جُنْد من جنود الإيمان، فلولا الكفر وما يفعله الكافرون بالناس لما اشتاق الناس للإيمان، الذي يُوفِّر لهم الأمن والطمأنينة والراحة والمساواة.

كما أن معنى كَفَرَ يعني ستر الإله الواجب الوجود، والسَّتْر يحتاج إلى مستور، فما هو المستور بالكفر؟ المستور بالكفر الإيمان، فكلمة كفر نفسها دليلُ وجود الإيمان.

وسبق أن قلنا: إن الإنسان قد يكره بعض الأشياء، وهي لمصلحته ولحكمة خلقها الله، ومثَّلْنا لذلك بالألم الذي يتوجّع منه الإنسان، وهو في الحقيقة تنبيه له واستنهاض ليعلم سبب هذ الألم ويتنبه، فيدفع المرض عن نفسه، ويطلب له الدواء.

فالألم بهذا المعنى جُنْد من جنود العافية، وإلاَّ فأفتَكُ الأمراض بالبشر ما ليس له ألم يُنبّه إليه، فيظل كامناً في الجسم حتى يستفحل أمره، وتعزّ مداواته؛ لذلك يصفونه بالمرض الخبيث؛ لأنه يتلصَّص في الجسم دون أنْ يظهر له أثر يدل عليه.

فالحق - سبحانه وتعالى - خلق الألم لحكمة؛ ليُنبِّهك أن في موضع الالم عطباً، وأن الجارحة التي تألم غير صالحة لأداء مهمتها؛ لذلك يقولون في تعريف العافية: العافية ألاَّ تشعر باعضائك، لك أسنان تأكل بها، لكن لا تدري بها، وربما لا تتذكر هذه النعمة إلا إذا أصابها عَطَب فآلمتك.

إذن: حين تعلم جارحتك وتتألم، فاعلم أنها غير طبيعية، وأنها لا تؤدي مهمتها كما ينبغي، فعليك أنْ تبادر بعلاجها.

وأيضاً حين يزدهر الباطل، وتكون هل صَوْلة، فإنما ذلك ليُشعرك بحلاوة الحق، فتستشرف له وتتمناه. لذلك انتشر الإسلام في البلاد التي فيها أغلبية إسلامية، لا بالسيف كما يحلو للبعض أن يقول، إنما انتشر برؤية الناس لمبادئه وسماحته.

ففي بلاد فارس والروم ذاق الناسُ هناك كثيراً من المتاعب من دياناتهم ومن قوانينهم، فلما سمعوا عن الإسلام ومبادئه وسماحة تعاليمه أقبلوا عليه.

فلولا أن الباطل عضَّهم لما لجأوا للإيمان، فالإسلام انتشر انتشاراً عظيماً في نصف قرن من الزمان، ولم يكن هذا نتيجة الاندفاع الإيماني ليدخل الناس في الإسلام، إنما لجذْب الضلال للإيمان، فكأن الإسلام مدفوع بأمرين: أهله الحريصون على انتشاره، وباطل يجذب الناس إليه.

والحق - سبحانه وتعالى - يعطينا مثلاً للحق وللباطل في قوله تعالى:

{ أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ }[الرعد: 17].

فالزبَد: هو القشّ والفُتات الذي يحمله الماء، فيكون طبقة على سطح الماء، ثم يزيحه الهواء إلى الجوانب، ويظل الماء بعده صافياً، فالزبَد مثلٌ للباطل؛ لأنه يعلو على سطح الماء، لكن إياك أن تظن أنه ذو شأن، أو أن عُلوه سيدوم؛ لأنه غثاء لا قيمة له، وسرعان ما يزول ويبقى الماء النافع، وكما يتكون الزبَد على سطح الماء كذلك يتكوَّن عند صَهْر المعادن، فحين يصهر الصائغ مثلاً الذهب أو الفضة يخرج المعدن الأصيل تاركاً على الوجه الخبَث الذي خالطه.

لذلك يقول بعض العارفين: إن الله تعالى لا يترك الحق، ولا يُسْلِمه أبداً للباطل، إنما يتركه لحين ليبلو غيرة الناس عليه، فإذا لم يغاروا على الحق غار هو سبحانه عليه.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَىا عَلَى اللَّهِ... {.

(/3333)

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68)

هذا استفهام يريد منه الحق - سبحانه وتعالى - قضية يُقرها المقابل، فلم يوردها بصيغة الخبر: لا أظلم؛ لأن الخبر في ذاته يحتمل الصدق أو الكذب، فجاء بصيغة الاستفهام لتنطق أنت بالقضية، كما تقول لمن ينكر معروفك: مَنْ أعطاك هذا الثوب؟ فلا يملك إلا أنْ يعترف بفضلك، لكن إنْ قلت له إخباراً: أنا أعطيتُك هذا الثوب، فالخبر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب، وربما ينكر فيقول: لا لم تعطني شيئاً.

إذن: إيراد الكلام بأسلوب الاستفهام أقوى في تقرير واقع من أسلوب الخبر؛ لأن الخبر يأتي من المتكلم، أمّا الإقرار فمن السامع، وأنت لا تُلِقي بالاستفهام إلا وأنت واثق أن الجواب سيأتي على وَفْق ما تريد.

فمعنى { وَمَنْ أَظْلَمُ... } [العنكبوت: 68] لا أحد أظلم، والظلم: نَقْل الحق من صاحبه إلى غيره، والظلم قد يكون كبيراً وعظيماً، وهو الظلم في القمة في العقيدة، كما قال سبحانه:{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }[لقمان: 13].

وقد يكون الظلم بسيطاً هيِّناً، فالذي افترى على الله الكذب، لا أحدَ أظلم منه؛ لأنه لو افترى على مثله لكان أمره هيناً، لكنه افترى على مَنْ؟ على الله، فكان ظلمه عظيماً، ومن الحمق أن تفتري على الله؛ لأنه سبحانه أقوى منك يستطيع أن يُدلل، وأنْ يبرهن على كذبك، ويستطيع أن يدحرك، وأن يُوقفك عند حدِّك، فمَنِ اجترأ على هذا النوع من الظلم فإنما ظلم نفسه.

وقلنا: إن الافتراء كذب، لكنه متعمد؛ لأن الإنسان قد يكذب حين يخبر على مقتضى علمه، إنما الواقع خلاف ما يعلم، لذلك عرَّف العلماء الصدق والكذب فقالوا: الصدق أنْ يطابق الكلامُ الواقعَ، والكذب أن يخالف الكلامُ الواقعَ، فلو قلتُ خبراُ على مقتضى علمي، ولم أقصد مخالفة الواقع، فإن خالف كلامي الواقع فالخبر كاذب، لكن المخبر ليس بكاذب.

وقوله سبحانه: { أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ... } [العنكبوت: 68] فيا ليته افترى على الله كذباً ابتداءً، إنما صعَّد كذبه إلى مرحلة أخرى فعمد إلى أمر صِدْق وحقٍّ فكذَّبه، ثم يقرر جزاء هذا التكذيب بأسلوب الاستفهام أيضاً { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } [العنكبوت: 68] يعني: أضاقتْ عنهم النار، فليس بها أمكنة لهؤلاء؟ بلى بها أمكنة لهم، بدليل أنها ستقول وهي تتشوق إليهم حين تسأل:{ هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ }[ق: 30].

وكأن الحق سبحانه يقول: لماذا يفتري هؤلاء على الله الكذب؟ ولماذا يُكذِّبون الحق؟ اعلموا أن جهنم ليس بها أماكن لهم؟ فالاستفهام في { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } [العنكبوت: 68] استفهام إنكاري يُنكر أن يظن المكذبون الكافرون أنه لا مكان لهم في جهنم.

فالحق سبحانه في إرادته أزلاً أن يخلق الخَلْق من لَدُن آدم - عليه السلام - وإلى أنْ تقوم الساعة، وأنْ يعطيهم الاختيار

{ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ... }[الكهف: 29] وقدر أن يؤمنوا جميعاً فأعدَّ لهم أماكنهم في الجنة، وقدر أن يكفروا جميعاً فأعدَّ لهم أماكنهم في النار.

فإذا كان يوم القيامة يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النارَ، يورث الله المؤمنين في الجنة أماكن الكافرين فهيا فيتقاسمونها بينهم، وكذلك يتقاسم أهل النار أماكن المؤمنين في النار بالرد، فمَنْ كان له في النار مكان واحد يصير له مكانان.

كما أن الاستفهام } أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ { [العنكبوت: 68] يجعل السامع يشاركك الكلام، وفيه معنى التقريع والتوبيخ، كما في قوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَـاؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }[المطففين: 29-36].

يلتفت الله إلى المؤمنين الذين اسْتُهزئ بهم في الدنيا: هل قدرنا أنْ نجازي هؤلاء الكافرين، ونردّ إليكم حقوقكم - وفي هذا إيناسٌ للمؤمنين وتقريعٌ للكافرين - فيقولون: نعم يا رب، نعم يا رب، نعم يا رب، فالحق سبحانه يريد أنْ يحرش المؤمنين بهم، فلا يلينون لهم، ولا يعطفون عليهم، لأنهم طَغَوْا وتكبَّروا، وعرضت عليهم الحجج والأدلة فكذَّبوها وأصرُّوا على عنادهم، فبالغوا في الظلم.

(/3334)

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)

نقول: جَهدَ فلان يجهد أي أتعب نفسه واجتهد: ألح في الاجتهاد وجاهد غيره، فجاهد تدل على المفاعلة والمشاركة، وهي لا تتم إلا بين طرفيْن، وفي هذه الصيغة (المفاعلة) نغلب الفاعلية في أحدهما والمفعولية في الآخر، مع أنهما شركاء في الفعل، فكلٌّ منهما فاعل في مرة، ومفعول في الأخرى، كأنك تقول: شارك زيدٌ عمراً، وشارك عمرو زيداً. أو: أن الذي له ضِلع أقوى في اشركة يكون فاعلاً والآخر مفعولاً.

وبعد أن بيَّن الحق سبحانه أن مثوى الكافرين المكذِّبين في جهنم وحرَّش المؤمنين بهم، وما داموا قد ظَلموا هذا الظلم العظيم لا بُدَّ أن يوجد تأديب لهم، هذا التأديب لا لإرغامهم على الإيمان،{ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ... }[الكهف: 29] إنما التأديب أن نجهر بدعوتنا، وأن نعلي كلمة الحق، فمن شاء فليؤمن، ومَنْ شاء فليظل على حاله، إذن: فالآية تبين موقف المؤمنين أمام هؤلاء المكذبين: { فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا... } [العنكبوت: 69].

معنى (جاهدوا فينا) أي: من أجلنا ولنصرة ديننا، والخصومات التي نجاهدها في الله كثيرة: خصمة في مسألة القمة الإيمانية ووجود الإله الواحد كالملاحدة الذين يقولون بعدم وجود إله في الكون، وهؤلاء لهم جهاد، وأهل الشرك الذين يقرون بوجود الله لكن يدَّعُون أن له شريكاً، وهؤلاء لهم جهاد آخر.

فجهاد الملاحدة بالمنطق وبالحجة ليقولوا هم بأنفسهم بوجود إله واحد، ونقول لهم: هل وٌجِد مَن ادعى أنه خلق ذاته أو خلق غيره؟ بل تأملوا في أتفه الأشياء التي تستخدمونها في حياتكم: هذا الكوب الزجاجي وهو ترف ليس من ضروريات الحياة هل تقولون: إنه وُجد هكذا دون صانع؟ إذن: كيف وُجِد؟ هل لدينا شجرة مثلاً تطرح لنا هذه الأكواب؟

إذن: هي صنعة لها صانع، استخدم العقل الذي منحه الله إياه، وأعمله في المواد التي جعلها الله في الكون، واستنبط منها هذه المادة (الزجاج).

مصباح الكهرباء الذي اخترعه (إديسون) كم أخذ منه من جهد وبحث ودراسة، ثم يحتاج في صناعته إلى معامل ومهندسين وصيانة، ومع ذلك حصاة صغيرة تكسره فينطفيء، وقد أخذ (أديسون) كثيراً من الشهرة وخلِّدنا ذكراه، وما زالت البشرية تذكر له فضله.

أفلا ينظرون في الشمس التي تنير الدنيا كلها منذ خلقها الله وإلى قيام الساعة دون أنْ تحتاج إلى صيانة، أو إلى قطعة غيار؟ وهل يستطيع أحد أن يتناولها ليصلحها؟ وهل تأبَّتْ الشمس عن الطلوع في يوم من الأيام، وما تزال تمدكم بالحرارة والأشعة والدفء والنور؟

أتعرف مَنْ صنع المصباح، ولا تعرف مَنْ صنع الشمس؟ لقد فكرتم في أتفه الأشياء وعرفتم مَنْ صنعها، وأرَّخْتُم لهم، وخلدتم ذكراهم، ألم يكن أَوْلَى بكم التفكُّر في عظمة خلق الله والإيمان به؟

ثم قُلْ لي أيها الملحد: إذا غشيك ظلام الليل، كيف تضيئه؟ قالوا: كل إنسان يضيء ظلام ليله على حَسْب قدرته، ففي الليل ترى الإضاءات مختلفة، هذا يجلس في ضوء شمعة، وهذا في ضوء لمبة جاز، وهذا في ضوء لمبة كهرباء، وآخر في ضوء لمبة نيون، فالأضواء في الليل متباينة تدل على إمكانات أصحابها، فإذا ما طلعتْ الشمس، وأضاء المصباح الرباني أطفئت كل هذه الأضواء، ولم يَعُدْ لها أثر مع مصباح الخالق الأعظم سبحانه.

أليس في هذا إشارة إلى أنه إذا جاءنا حكم من عند الله ينبغي أنْ نطرح أحكامنا جميعاً لنستضيء بحكم الله؟ أليس في صدق المحسوس دليل على صدق المعنويات؟

وأنت يا مَنْ تدّعي أن لله شريكاً في مُلكه: مَنِ الذي قال إن لله شريكاً؟ لقد قلتها أنت من عند نفسك؛ لأن الله تعالى حين قال: أنا إله واحد لا شريك لي لم يعارضه أحد، ولم يدَّعِ أحد أنه شريك لله.

فهذا دليل على أن الشريك غير موجود، أو أنه موجود ولم يَدْرِ، أو درى ولم يقدر على المواجهة، وفي كلتا الحالتين لا يصلح أن يكون إلهاً.

ثم على فرض أنه موجود، ما منهجه؟ بماذا أمرك وعَمَّ نهاك؟ ماذا أعدَّ لك من النعيم إنْ عبدته؟ وماذا أعد لك من العذاب إنْ كفرتَ به؟ إذن: فهذا الإله المزعوم إله بلا منهج، فعبادته باطلة.

أما هؤلاء الذين يؤمنون بدين سماوي ولا يؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم فنقول لهم: يكفي من جوانب العظمة في شخصية محمد بن عبد الله أنه لا يتعصب لنفسه؛ لأن قلبه مع كل مَنْ يؤمن بالله حتى وإنْ كفر به، محمد يحب كل مَنْ آمن بربه، وإنْ كفر بمحمد، إنه يتعصب لربه حتى فيمن كذبه.

ثم أنتم يا أصحاب الديانات اليهودية أو المسيحية الذين عاصرتم ظهور الإسلام فأنكرتموه، مع أن دينكم جاء بعد دين، ورسولكم جاء بعد رسول سابق، فلماذا لما جاءكم محمد كذَّبتموه وكفرتم به؟ لماذا أبْحتم أنْ يأتي عيسى بعد موسى عليهما السلام، وأنكرتُم أنْ يأتي بعد عيسى محمد؟

إذن: لكل خصومة في دين الله جدل خاص ومنطق للمناقشة نقوم به في ضوء: } وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا... { [العنكبوت: 69] وعليك أن تنظر أولاً ما موقع الجهاد الذي تقوم به، فجهاد الملاحدة بأسلوب، وجهاد المشركين بأسلوب، وجهاد أهل الكتاب بأسلوب، وجهاد المسلم للمسلم كذلك له منطق إنْ دبَّ بينهما الخلاف، مع أن الله تعالى قال:{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ... }[الأنعام: 159].

فساعةَ ترى كلاً منهما في طرف، بحيث لا تستطيع أن تتبع أحدهما، فاعلم أنهما على باطل؛ لأن الإسلام شيء واحد سبق أنْ شبَّهناه بالماء الأبيض الصافي الذي لم يخالطه لون ولا رائحة ولا طعم، فإنْ لوَّنته الأهواء وتحزَّب الناس فيه كما يُلوِّنون العصائر فقد جانبهم الصواب وأخطأوا الدين الصحيح.

لأن ما جاء فيه حكم صريح من عند الله اتفقنا عليه، وما تركه الله لاجتهادنا فينبغي على كُلٍّ منا أن يحترم اجتهاد الآخر، وأن يقول: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيري خطأ يحتمل الصواب، وبهذا المنطق تتعايش الآراء.

والحق - سبحانه وتعالى - يعطينا المثل على ذلك، فما أراده سبحانه في المنهج مُحكماً يأتي محكماً في قول واحد لا خلاف فيه، وضربنا مثلاً لذلك بآية الوضوء:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ... }[المائدة: 6].

فلم يحدد الوجه؛ لأنه لا خلاف في تحديده بين الناس، إنما حدد الأيدي لأنها محل خلاف. إذن: فالقضايا التي تُثار بين المسلمين ينبغي أن يكون لها جدل خاص في هذا الإطار دون تعصُّب، فما جاءك مُحْكماً لا مجالَ فيه لرأي التزم به الجميع، وما تُرِك بلا تنصيص لا يحتمل الخلاف، فليذهب كل واحد إلى ما يحتمله النص.

فالباء في لغتنا مثلاً تأتي للتبعيض، أو للاستعانة، أو للإلصاق، فإنْ أخذتَ بمعنىً فلا تحجر على غيرك أنْ يأخذ بمعنى آخر.

فإنِ استعر القتال بين طائفتين من المسلمين، فيجب أن تكون هناك طائفة معتدلة تتولى أمر الإصلاح، كما قال سبحانه:{ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىا الأُخْرَىا فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّىا تَفِيءَ إِلَىا أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }[الحجرات: 9].

نلحظ أن الله تعالى سماهم مؤمنين، ومعنى ذلك أن الإيمان لا يمنع أن نختلف، وهذا الإيمان الذي لا يمنع أن نختلف هو الذي يُوجب علينا أن يكون منا طائفة معتدلة على الحياد لا تميل هنا أو هناك، تقوم بدورْ الإصلاح وبدوْر الردع للباغي المعتدي حتى يفييء إلى الجادة وإلى أمر الله.

فإنْ فاءت فلا نترك الأمور تُخيّم عليها ظلال النصر لفريق، والهزيمة لفريق آخر، إنما نصلح بينهما، ونزيل ما في النفوس من غِلٍّ وشحناء، فقد تنازل القوي عن كبريائه لما ضربنا على يده، وَقوي الضعيف، بوقوفنا إلى جانبه، فحدث شيء من التوازن وتعادلتْ الكِفّتان، فليعُدْ الجميع إلى حظيرة الأمن والسلام.

بقي لنا أن نتحدث عن جهاد آخر أهم، هو جهاد النفس البشرية؛ " لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما عاد من إحدى الغزوات قال: " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " فوصف جهاد النفس بأنه الجهاد الأكبر، لماذا؟ لأنك في ساحة القتال تجاهد عدواً ظاهراً، يتضح لك عدده وأساليبه، أمّا إنْ كان عدوك من نفسك ومن داخلك، فإنه يعزّ عليك جهاده، فأنت تحب أنْ تحقق لنفسك شهواتها، وأنْ تطاوعها في أهوائها ونزواتها، وهي في هذا كله تُلِح عليك وتتسرَّب من خلالك.

فعليك أنْ تقف في جهاد النفس موقفاً تقارن فيه بين شهوات النفس العاجلة وما تُورِثك إياه من حسرة آجلة باقية، وما تضيعه عليك من ثواب ربك في جنة فيها من النعيم، ما لا عَيْن رأتْ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

ضع ربك ونفسك في هذه المقابلة وتبصّر، واعلم أن لربك سوابقَ معك، سوابق خير أعدّها لك قبل أن توجد، فالذي أعدَّ لك كل هذا الكون، وجعله لخدمتك لا شكَّ مأمون عليك، وأنت عبده وصنعته، وهل رأيت صانعاً يعمد إلى صنعته فيحطمها؟

أما إن رأيت النجار مثلاً يمسك (بالفارة) وينحت في قطعة الخشب، فاعلم أنه يُصلحها لأداء مهمتها، وأذكر قصة الطفل (أيمن) الذي جاء أمه يبكي؛ لأن الخادمة تضرب السجادة، فأخذتْه أمه وأرتْه التراب الذي يتساقط من السجادة في كل ضربة من ضربات الخادمة، ففهم الطفل على قدر عقله.

وكذلك الحق سبحانه حين يبتلي خَلْقه، فإنما يبتليهم لا كَيْداً فيهم، بل إصلاحاً لهم. ألم نسمع كثيراً أماً تقول لوحيدها (إلهي أشرب نارك)؟ بالله ما حالها لو استجاب الله لها؟ وهي في الحقيقة لا تكره وحيدها وفلذة كبدها، إنما تكره فيه الخصلة التي أغضبتها منه.

وكذلك الحق - سبحانه وتعالى - لا يكره عبده، إنما يكره فيه الخصال السيئة فيريد أنْ يُطهِّره منها بالبلاء حتى يعود نقياً كيوم ولدته أمه، فأحسن أيها الإنسان ظنك بربك.

إذن: نقول: إن من أعظم الجهاد جهادك لنفسك، لأنها تُلِح عليك أن تُشبع رغباتها، كما أنها عُرْضة لإغراء الهوى ووسوسة الشيطان الذين يُزيِّن لها كل سوء، ويُحبِّب إليها كل منكر.

وسبق أنْ بيَّنا: كيف نُفرِّق بين تزيين الشيطان وتزيين النفس؛ لأن النفس مدخلاً في المعصية بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النار، وصُفِّدت الشياطين ".

فلو كانت الذنوب كلها بسبب الشيطان لم نجد من يذنب في رمضان، إنما هناك كثير من الذنوب تُرتكب في رمضان، وهذا يعني أنها من تزيين النفس، وكأن الحق سبحانه أراد أنْ يكشف ابن آدم: ها أنا قد صفَّدْت الشياطين ومع ذلك تذنبون.

فإنْ أردتَ أنْ تعرف هل المعصية من النفس أم من الشيطان، فإن النفس تقف بك عند معصية بعينها لا تريد سواها، ولا تنتقل بك إلى غيرها، وتظل تُلح عليك إلى أنْ تُوقِعك فيها، أما الشيطان فإنه يريدك عاصياً بأية صورة وعلى أية حال، فإنْ تأبَّيْتَ عليه نقلك إلى معصية أخرى.

وعلى العاقل أن يتأمل، فالمعصية تعطيك لذة عاجلة ومتعة فانية، لا تليق أبداً بهذا الإنسان الذي كرَّمه الله، وجعله خليفة له في الأرض، وسيداً لهذا الكون، والكون كله بأرضه وسمائه خادم له، فهل يُعقل أنْ يكون الخادم أطول عمرا من المخدوم؟

إنك تموت بعد عام أو بعد مائة عام، في حين أن الشمس التي تخدمك تعمر ملايين السنين: إذن: لا بُدَّ أن لك حياة أخرى أبقى وأدوم من حياة خادمك، فإنْ كنتَ الآن في حياة تُوصَف بأنها دنيا، فهذا يعني أنها تقابلها حياة أخرى تُوصَف بأنها عليا، وهي حياتك في الآخرة، حيث لا موتَ فيها أبداً.

والقرآن الكريم حينما يُحدِّثنا عن الجهاد يقول مرة:{ وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ... }[التوبة: 41] ويقول: } وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا... { [العنكبوت: 69].

الجهاد في سبيل الله أي في الطريق إلى الله لإثبات الإيمان بالإله الواحد، وصدق البلاغ من الرسول المؤيَّد بالمعجزة وبالمنهج، فإذا وضح لك السبيل فآمنت بالله الواحد الأحد قال لك: اجعل كل حركة حياتك في إطار } وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا... { [العنكبوت: 69] يعني: من أجلنا مخلصين لله لا ينظرون إلى غيره.

والإنسان مهما تحرَّى الإخلاص في عمله، وقصد به وجه الله لا يأمن أن يخالطه شيء من رياء أو سمعة، حتى أن المعصوم محمداً صلى الله عليه وسلم ليقول: " اللهم إني استغفرك من كل عمل أردتُ به وجهك، فخالطني فيه ما ليس لك ".

وهذا معنى (جاهدوا فينا) أن يكون العمل كله لله خالصاً، وإلاَّ فما الفَرْق بين المؤمن والكافر، وكلاهما يعمل ويسعى في الدنيا لكسب لقمة العيش له ولأولاده، فهما في السعي سواء، فما مزية المؤمن إذن؟

الميزة أن الكافر يعمل على قَدْر حاجته فحسب، أمّا المؤمن فيعمل على قدر طاقته، فيأخذ ما يكفيه ويعود بالفضل على مَنْ لا طاقةَ عنده للعمل، ففي نيته أن يعمل له وللمحتاج غير القادر.

ونمثل لذلك بالبقال الذي فتح الله عليه، فباع كثيراً في أول النهار وأخذ كفايته، ثم أغلق محله فلم ينظر إلى الذين يعاملونه على الشهر، ويأخذون حاجتهم لأجَل، ولم ينظر إلى ربة البيت التي تنتظر عودة زوجها لتشتري ما يلزمها، فقد نظر إلى حظ نفسه، ونسي حظ الآخرين.

واقرأ إنْ شئت قوله تعالى:{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَـاةِ فَاعِلُونَ }[المؤمنون: 1-4] ولم يقل مُؤدُّون إنما: فاعلون من أجل الزكاة أي: يعملون على قَدْر طاقتهم، لا على قدْر حاجتهم. فالذين يعملون في إطار } وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا... { [العنكبوت: 69] لا يغيب الله أبداً عن بالهم.

ولكي نفقه هذه المسألة انظر إلى عمل أو جميل قدَّمته لغير وجه الله ترى أن صاحبه أنكره، بل ربما لا ينالك منه إلا الذمّ، وساعتها لا تلومنّ إلا نفسك، لأنك أخطأت التوجه، وقد عملت للناس فخُذْ أجرك منهم، إنما إنْ عملتَ لوجه الله فثِقْ أن جميلك محفوظ عند الله وعند الناس.

والحق - سبحانه وتعالى - حينما أعطى للإنسان الاختيار في أن يؤمن أو أنْ يكفر يلفت بهذا أنظارنا أنه إذا صنعتَ جميلاً في إنسان، ثم أنكر جميلك وكفر به، فلا تحزن؛ لأن الناس فعلوا ذلك مع الله - عز وجل - فقد خلقهم ورزقهم ثم كفروا به.

ثم يأتي جزاء الجهاد في ذات الله: } وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا... { [العنكبوت: 69] أي: ندلّهم على الطرق الموصِّلة إلينا، كأن الطريق إلى الله ليس واحداً، إنما سبل شتى؛ لذلك لا تحقرنَّ من الطاعة شيئاً مهما كان يسيراً، فإن الله تعالى غفر لرجل سقى كلباً يلهث من العطش، ولا تحقرن من المعصية شيئاً، فإن الله أدخل امرأة النار لأنها حبست قطة، ولا تحتقرن عبداً مهما كان، فإن الله تعالى أخفى أسراره في خَلْقه؛ فرُبَّ أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبرّه.

فإذا علمتَ من نفسك ميزة على الآخرين فانظر فيم يمتازون به عنك، ودَعْك من نظرة تُورثك كبراً، واستعلاء على الخَلْق، فإنْ كنت أفضل في شيء فأنت مفضول في أشياء كثيرة، وسبق أن قلنا: إن الله نثر المواهب بين الخَلْق ليظلوا ملتحمين بحاجة بعضهم إلى بعض.

فقوله تعالى } لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا... { [العنكبوت: 69] أي: السبل الموصِّلة لنعيم الآخرة، سبل الارتقاء في اليقين الإيماني الذي قال الله عنه:{ يَسْعَىا نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم... }[الحديد: 12].

ويقول سيدنا عمر بن عبد العزيز: ما قصَّر بنا في علم ما جهلناه، إلا تقصيرنا في العمل بما علمناه فالذي جعلنا لا نعرف أسرار الله أننا قصرنا في العمل بما أمرنا به، إذن: فلماذا يعطينا ونحن لا نعمل بما أخذنا من قبل، لكن حين تعمل بما علمتَ، فأنت مأمون على منهج الله، فلا يحرمك المزيد، كما قال سبحانه:{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ }[محمد: 17].

وقوله تعالى:{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً... }[الأنفال: 29] والفرقان من أسماء القرآن، فحين تتقي الله على مقتضاه، وبمدلول منهجه في القرآن، يمنحك فرقاناً آخر ونوراً آخر تبصر به حقائق الأشياء، وتهتدي به إلى الحكم الصحيح، هذا النور الذي وهبه الله للإمام علي - رضي الله عنه - حينما دخل على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فوجده يريد أنْ يقيم الحَدَّ على زوجة ولدتْ لستة أشهر، والشائع أن فترة الحمل تسعة أشهر، فقال لعمر: لكن الله قال غير ذلك يا أمير المؤمنين، قال عمر: وماذا قال يا علي؟

قال علي: قال الله تعالى:{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ... }[البقرة: 233] يعني: أربعة وعشرون شهراً.

وقال في موضع آخر:{ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً... }[الأحقاف: 15] وبطرح العددين يكون الباقي ستة أشهر، وهي أقل مدة للحمل.

هذا هو الفرقان الذي يمنحه الله للمؤمنين الذين عملوا بما عملوا؛ لذلك كان عمر بن الخطاب وما أدراك ما عمر؟ عمر الذي كان ينزل الوحي على وَفْق رأيه، كان يقول: بئس المقام بأرض ليس فيها أبو الحسن.

ومعلوم أن علياً - رضي الله عنه - تربَّى في حجرْ رسول الله، وشرب من معينه، فكل معلوماته إسلامية، وله في الحق حجة ومنطق. فمثلاً في موقعه صِفِّين التي دارتْ بين علي ومعاوية كان عمار بن ياسر في صفوف علي، فقتله جنود معاوية، فتذكر الصحابة قول رسول الله لعمار " وَيْح عمار، تقتله الفئة الباغية " فعلموا أنها فئة معاوية.

فأخذ الصحابة يتركون صفوف معاوية إلى صفوف علي، فأسرع عمرو بن العاص وكان في جيش معاوية، فقال له: يا أمير المؤمنين فَشَتْ فاشيةٌ في الجيش، إنْ هي استمرت فلن يبقى معنا أحد، قال: وما هي؟ قال: تَذَكَّر الناس قول رسول الله " ويح عمار تقتله الفئة الباغية " قال معاوية: فأفْشِ فيهم، إنما قتله مَنْ أخرجه للقتال - أي علي - فلما بلغ علياً هذه المقالة قال بما عنده من الفرقان والحجة: إذن قولوا له مَنْ قتل حمزة بن عبد المطلب؟

فمن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم، ومثَّلْنا لذلك قلنا: هب أن لك ولداً متعثراً غير مُوفَّق في حياته العملية، فنصحك إخوانك بأنْ تعطيه فرصة، وتجربه ولو بمشروع صغير في حدود مائة جنيه، فلما فعلتَ بدَّد هذا المبلغ ولم ينتفع به، أتجرؤ على منحه مبلغاً آخر؟ وإنما لو ثمَّر هذا المبلغ ونماه لأعطيته أضعافاً.

ثم يقول سبحانه: } وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ { [العنكبوت: 69] الإحسان من الإنسان أن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإنه يراه، والإحسان في الأداء أن تزيد عما فرض الله عليك، لكن من جنس من فرض، فإذا أنت أحسنتَ أحسن الله إليك بأنْ يزيدك إشراقاً، ويزيدك نورانية، ويُخفِّف عنك أعباء الطاعة، ويُقبِّح في نفسك المعاصي.

لذلك بلغت محبة أحد العارفين للطاعة حتى قال: اللهم إني أخاف ألاّ تثيبني على طاعتي؛ لأنني أصبحتُ أشتهيها. يعني: لو لم تكن هناك جنة ولا نار لفعلتُ الطاعة؛ لأنها أصبحتْ بالنسبة لي شهوة نفس، وقد أمرتنا يا ربّ أن نخالف شهوة النفس لذلك أخاف ألاَّ تثيبني عليها، ولمثل هذا نقول.

} وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ { [العنكبوت: 69].

كملة (مع) تفيد المعية، والمعية في أعراف البشر أنْ يلتقي شيء بشيء، لكن إذا كانت المعية مع الله فافهم أنها معية أخرى غير التي تعرفها مع زميلك أو صديقك، خُذْها في إطار{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ }[الشورى: 11] فلك وجود ولله وجود، لكن أوجودك كوجود الله؟ الله يعلم أننا نسجل الآن في مسجد أبي بكر الصديق، لكن هل علْمنا كعِلْمه تعالى؟ الله يعلم هذا قبل أن ينشأ المسجد، وقبل أنْ نُولد نحن.

لذلك يضرب الله لنا مثلاً فيقول:{ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ }[الذاريات: 21] هذا مَثَل للرد على الذين يطلبون رؤية الله عز وجل وهو غَيْب، مثل للذين قالوا لنبيهم{ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً... }[النساء: 153].

لكن كيف يرونه والعظمة في الإله ألاَّ يُرى، ولا تدركه الحواس، والحق سبحانه يعطينا الدليل في أنفسنا{ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ }[الذاريات: 21] فتأمل في أقرب شيء إليك في نفسك، لا في الآفاق من حولك، أليست فيك روح تُحرِّك جسمك، وبها تحيا وتنفعل أعضاؤك، أليست فيك روح تُحرِّك جسمك، وبها تحيا وتنفعل أعضاؤك، بدليل إذا خرجتْ منك هذه الروح تصير جثة هامدة؟ أرأيت هذه الروح وهي بين جنبيك؟ أأدركتها بأيِّ حاسة من حواسك؟

إذن: هي معك، لكن ليست تحت إدراكك، وهي خَلْق بسيط من خَلْق الله، فكيف تتطلع إلى أن ترى الخالق سبحانه وأنت لا تقدر على رؤية المخلوق؟ لكن إن قُلْت: فرؤية المؤمنين لله في الآخرة؟ ففي الآخرة يخلقني الله خَلْقاً آخر أستطيع أن أراه سبحانه، حيث سيكون للخَلْق معايير أخرى، ألستَ تأكل وتشرب في الآخرة، ومع ذلك لا تتغوَّط في الجنة؟

لذلك لما سأل حاكم الروم أحد علماء المسلمين: كيف تأكلون وتشربون في الجنة ولا تتغوطون؟ فقال له: وما العجيب في ذلك؟ ألم تر إلى الطفل في بطن أمه يتغذى وينمو وهو لا يتغوط، ولو تغوَّط في مشيمته لاحترق.

ثم سأله: وتقولون إن نعيم الجنة تأخذون منه ولا ينتهي ولا ينقص؟ فقال: هَبْ أن لك مصباحاً، وجاءت الدنيا كلها، وقبستْ من مصباحك ناراً، أينقص منه شيء؟

فسأله: فأين تذهب الأرواح التي كانت فينا بعد أن نموت؟ فقال: تذهب حيث كانت قبل أنْ تسكن فينا.

هذه مسائل ونماذج للتوفيق والهداية للحق في إطار: } جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا... { [العنكبوت: 69] وهي فَيْض مما قال الله فيه:{ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً... }[الأنفال: 29].

(/3335)

الم (1)

{ الـم } [الروم: 1] سبق أن تكلمنا كثيراً عن الحروف المقطعة في بدايات السور، ولا أريد إعادة ما قُلْته، لكن أريد من العلماء أنْ يلتفتوا إلى هذه المسألة لفتة إشراقية تُرينا جميعاً، وتكشف لنا الحكمة والأسرار في هذه الحروف.

وقلنا: إن هذه الحروف (الم) بنيت على الوقف، كل حرف منها على حِدَة، مع أن القرآن في مجملة مبني على الوصل في آياته وفي سوره، فآخر حرف في السورة موصول بأول حرف في التي تليها - فهنا نقول: (وَإِنَّ اللهَ لَمعَ المحْسِنينَ بسْمِ اللهِ الرحْمنِ الرحيمِ...)

بل أعجب من هذا، نجد أن آخر سورة الناس مبنيٌّ على الوصل بأول الفاتحة، فنقول: (... مِنَ الجِنَّةِ والنَّاسِ بسْم اللهِ الرحْمَنِ الرَّحيم الْحَمدُ لله رَبِّ العَالمين).

فالقرآن إذن موصول، لا انقطاعَ فيه. فلماذا بُنيت الحروف المقطعة في أوائل السور على الوقْف، لماذا لا نقول: ألفٌ لامٌ ميمٌ؟ قالوا: لأن الله تعالى لم يشأ أنْ يجعلها كلمة واحدة، فجاءت على القطع، ويؤنسنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف " فنريد وننتظر من يدركه الله ليكون من المحسنين، ويدلُّنا على ما في هذه الحروف من سِرٍّ يُوقف عنده، ولا يُوصل بغيره.

قال الحق سبحانه: { غُلِبَتِ... }.

(/3336)

غُلِبَتِ الرُّومُ (2)

كلمة { غُلِبَتِ... } [الروم: ] تدل على وجود معركة غلب فريقٌ، وغُلب فريق، فالذي غُلب هنا الروم، وكانوا أهل كتاب ومقرهم الشام وعراق العرب، فالعراق منها قسم ناحية العرب، وقسم ناحية فارس، والروم نسبة إلى روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم.

(/3337)

فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)

قوله { أَدْنَى... } [الروم: 3] يعني: أقرب لأرض العرب، كما في{ إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَىا }[الأنفال: 42] فالعُدْوة الدنيا أي: القريبة من المدينة، والقُصْوى البعيدة عنها. فالمعنى { فِي أَدْنَى الأَرْضِ... } [الروم: 3] أقرب أرض للجزيرة العربية.

وفي قوله سبحانه: { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } [الروم: 3] بشرى للمسلمين، فالفرس قوم كانوا يعبدون النار، أما الروم فأهل كتاب، إذن: فالخلاف بيننا وبين الفرس في القمة الإلهية، أمَّا الخلاف بيننا وبين الروم ففي القمة الرسالية، فَهُم أقرب إلينا؛ لأنهم يؤمنون بإلهنا، وإنْ كانوا لا يؤمنون برسولنا.

وهذا من عظمة الإسلام، فالذي يؤمن بالإله أقرب إلى نفوسنا من الذي لا يؤمن بالإله؛ لأنه على الأقل موصول بالسماء؛ لذلك لما غُلِبت الروم فرح كفار قريش وحزن المؤمنون، وفرح كفار قريش لأن في هزيمة الروم دليلاً على أن محمداً وأصحابه سينهزمون كأصحابهم.

وكلمة { غَلَبِهِمْ... } [الروم: 3] مصدر يُضاف للفاعل مرة، ويُضاف للمفعول مرة أخرى، تقول أعجبني ضَرْبُ الأمير مذنباً، فأضفت المصدر للفاعل. وتقول: أعجبني ضَرْب المذنب فأضفتَ المصدر للمفعول، وكذلك هنا { غَلَبِهِمْ... } [الروم: 3] مصدر أضيف إلى المفعول.

لكن لماذا قال سبحانه: { سَيَغْلِبُونَ } [الروم: 3] وجاء بالسين الدالة على الاستقبال، ثم قال بعدها{ فِي بِضْعِ سِنِينَ }[الروم: 4] وهي أيضاً دالة على الاستقبال؟ قالوا: لأن الغلبة لا تأتي فجأة، إنما لا بُدَّ لها من إعداد طويل وأَخْذ بأسباب النصر، وتجهيز القوة اللازمة له، فكأنهم في مدة البضع سنين يُعدون للنصر، فكلما أعدوا عُدَّة أخذوا جزءاًَ من النصر، فالنصر إذن لا يأتي في بضع سنين، إنما من عمل دائم على مدى بضع سنين.

فهتلر مثلاً لما انهزم في الحرب العالمية، وتألَّبتْ عليه كل الدول، جاء في عام 1939 وهدد العالم كله بالحرب، فهل سقطت عليه القوة التي يهدد بها فجأة؟ لا، بل ظل عدة سنوات يُعد العدة ويُجهِّز الجيش والأسلحة والطرق إلى أنْ توفرتْ له القوة التي يهدد بها.

(/3338)

فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)

أثارت فرحة الكفار حفيظة المؤمنين، إلى أنْ نزلت { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ... } [الروم: 3-4] ففرح المؤمنون حتى قال أبو بكر: والله لا يسرُّ الله هؤلاء، وسينصر الروم على فارس بعد ثلاث سنين.

لأن كلمة بضع تعني من الثلاثة إلى العشرة، فأخذها الصِّدِّيق على أدنى مدلولاتها، لماذا؟ لأنه الصِّديق، والحق - سبحانه وتعالى - لا يُحمِّل المؤمنين مشقة الصبر مدة التسع سنين، وهذه من الصديقية التي تميز بها أبو بكر رضي الله عنه.

" لذلك قال أبو بكر لأُبيِّ بن خلف: والله لا يقرّ الله عيونكم - يعني: بما فرحتم به من انتصار الكفار - وقد أخبرنا الله بذلك في مدة بضع سنين، فقال أُبيٌّ: أتراهنني؟ قال: أراهنك على كذا من القلائص - والقلوص هي الناقة التي تركب - في ثلاث سنين عشر قلائص إن انتصرت الروم، وأعطيك مثلها إن انتصرت فارس.

فلما ذهب أبو بكر إلى رسول الله، وأخبره بما كان قال: " يا أبا بكر زِدْه في الخطر ومادِّه " ، يعني زِدْ في عدد النوق من عشرة إلى مائة وزده في مدة من ثلاث سنين إلى تسع، وفعلاً ذهب الصِّديق لأبيٍّ وعرض عليه الأمر، فوافق في الرهان على مائة ناقة.

فلما اشتدّ الأذى من المشركين، وخرج الصَّدِّيق مهاجراً رآه أُبيُّ بن خلف فقال: إلى أين أبا فصيل؟ وكانوا يغمزون الصِّدِّيق بهذه الكلمة، فبدل أن يقولوا: يا أبا بكر. والبَكْر هو الجمل القوي يقولون: يا أبا فصيل والفصيل هو الجمل الصغير - فقال الصِّديق: مهاجر، فقال: وأين الرهان الذي بيننا؟ فقال: إن كان لك يكفلني فيه ولدي عبد الرحمن، فلما جاءت موقعة بدر رأى عبد الرحمن أُبياً فقال له: إلى أين؟ فقال: إلى بدر، فقال: وأين الرهان إنْ قتلْتَ؟ فقال: يعطيك ولدي.

وفي بدر أصيب أُبيٌّ بجرح من رسول الله مات فيه، وقدَّم ولده الجُعْل لعبد الرحمن، فذهبوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " تصدقوا به " ".

وهنا وقفة إعجازية إيمانية عقدية: سبق أنْ تكلمنا عن الغيب وعن المشهد. وقلنا: إن الغيب أنواع: غيب له مقدمات تُوصِّل إليه، كما تعطي التلميذ تمريناً هندسياً، وكالأسرار الكونية التي يتوصَّل إليها العلماء ويكتشفونها من معطيات الكون، كالذي اكتشف الآلة البخارية، وأرشميدس لما اكتشف قانون الأجسام الطافية.. إلخ ولا يقال لهؤلاء: إنهم علموا غيباً، إنما أخذوا مقدمات موجودة واستنبطوا منها معدوماً.

أمّا الغيب المطلق فهو الذي ليس له مقدمات تُوصِّل إليه، فهو غيب عن كل الناس، وفيه يقول تعالى:{ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىا غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَىا مِن رَّسُولٍ... }

[الجن: 26-27].

ومن الغيب ما يغيب عنك، لكن لا يغيب عن غيرك، كالشيء الذي يُسرق منك، فهو غيب عنك لأنك لا تعرف مكانه، وليس غيباً عَمَّنْ سرقه منك.

وآفة الإنسان أنه لا يستغل المقدمات للبحث في أسرار الكون ليرتقي في الكونيات، إنما يستغلها لمعرفة غيب الآخرين، ونقول له: إن كنت تريد أن تعلم غيب الآخرين، فاسمح لهم أنْ يعلموا غيبك وأعتقد أن أحداً لا يرضى ذلك.

إذن: سَتْر الغيب عن الخَلْق نعمة كبرى لله تعالى؛ لأنه سبحانه رب الناس جميعاً، ويريد سبحانه أن ينتفع خَلْقه بخَلْقه، ألا ترى أنك إنْ علمتَ في إنسان سيئة واحدة تزهدك في كل حسناته، وتجعلك تكرهه، وتكره كل حسنة من حسناته، فستر الله عنك غَيْب الآخرين لتنتفع بحسناتهم.

والغيب حجزه الله عنا، إما بحجاب الزمن الماضي، أو الزمن المستقبل، أو بحجاب المكان، فأنت لا تعرف أحداث الماضي قبل أنْ تُولد إلى أنْ يأتي مَنْ تثق به، فيخبرك بما حدث في الماضي، وكذلك لا تعرف ما سيحدث في المستقبل، أما حاجز المكان فأنت لا تعرف ما يوجد في مكان آخر غير مكانك، وقد يكون الشيء في مكانك، لكن له مكين فلا تطلع عليه.

ومن ذلك قوله تعالى:{ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ... }[المجادلة: 8].

فمَنِ الذي أخبر رسول الله بما في نفوسهم؟ لقد خرق الله له حجاب المكان، وأخبره بما يدور في نفوس القوم، وأخبرهم رسول الله به، أَمَا كان هذا كافياً لأن يؤمنوا بالله الذي أخرج مكنون صدورهم؟ إذن: المسألة عندهم عناد ولجاجة وإنكار.

وكذلك ما كان من رسول الله في غزوة مؤتة التي دارتْ على أرض الأردن ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة - ونعلم أن أهل السيرة لا يطلقون اسم الغزوة إلا على التي حضرها رسول الله، وكل حدث حربي لم يحضره رسول الله نسميه سرية إلا مؤتة هي التي انفردتْ بهذه التسمية، فلماذا مع أن رسول الله لم يشهدها؟

قالوا: بل شهدها رسول الله وهو بالمدينة، بما كشف الله له من حجاب المكان وأطلعه على ما يدور هناك حتى كان يخبر صحابته بما يدور في الحرب كأنه يراها، فيقول: أخذ الراية فلأن فقُتِل، فأخذها فلان فقُتِل، فلما جاءهم الخبر وجدوا الأمر كما أخبر به سيدنا رسول الله.

كما خَرق له حجاب الماضي، فأخبره بحوادث في الأمم السابقة كما في قوله سبحانه:{ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى الأَمْرَ... }[القصص: 44]{ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا... }[القصص: 45].

كما خرق له صلى الله عليه وسلم حجاب المستقبل، كما في هذه الآية التي نحن بصدد الحديث عنها: } وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ.

.. { [الروم: 3-4] فأروني أيّ قوة (كمبيوتر) في الدنيا تُنبئنا بنتيجة معركة ستحدث بعد ثلاث إلى تسع سنين.

فمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو النبي الأمي المقيم في جزيرة العرب ولا يعرف شيئاً عن قوة الروم أو قوة الفرس - يخبرنا بهذه النتيجة؛ لأن الذي يعلم الأشياء على وَفْق ما تكون هو الذي أخبره، وكون محمد صلى الله عليه وسلم يعلنها ويتحدَّى بها في قرآن يُتْلَى إلى يوم القيامة دليل على تصديقه بمنطق الله له، وأنه واثق من حدوث ما أخبر به.

ولهذه الثقة سُمِّي الصِّديق صدِّيقاً، فحين أخبروه بمقالة رسول الله عن الإسراء ما كان منه إلا أنْ قال: إنْ كان قال فقد صدق ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بهذه النتيجة، ويراهن المشركين عليها، ويتمسك بها، وما ذاك إلا لثقته في صدق هذا البلاغ، وأنه لا يمكن أبداً أنْ يتخلف.

وقوله تعالى } لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ... { [الروم: 4] يعني: إياكم أنْ تفهموا أن انتصار الفرس على الروم أو انتصار الروم على الفرس خارج عن مرادات الله، فلله الأمر من قبل الغلب، ولله الأمر من بعد الغلب.

فحين غَلبت الروم لله الأمر، وحين انتصرت الفرس لله الأمر؛ لأن الحق سبحانه يهيج أصحاب الخير بأن يُغلِّب أصحاب الشر، ويُحرِّك حميتهم ويُوقظ بأعدائهم مشاعرهم، ويُنبّههم إلى أن الأعداء لا ينبغي أن يكونوا أحسن منهم.

إذن: فنصر المكروه لله على المحبوب لله جاء بتوقيت من الله؛ لذلك إياك أن تحزن حين تجد لك عدواً، فالأحمق هو الذي يحزن لذلك، والعاقل هو الذي يرى لعدوه فَضْلاً عليه، فالعدو يُذكِّرني دائماً بأن أكون قوياً مستعداً، يُذكِّرني بأن أكون مستقيماً حتى لا يجد مني فرصة أو نقيصة. العدو يجعلك تُجنِّد كل ملكاتك للخير لتكون أفضل منه؛ لذلك يقول الشاعر:عدايَ لَهٌمْ فَضْلٌ عليَّ ومِنَّةٌ فَعِنْدي لهُم شُكْرٌ على نَفْعهم ليَافَهُمْ كدَواءٍ والشِّفاء بمُرِّهِ فَلا أَبْعَد الرحمنُ عنِّي الأعَادِيَاوهْم بحثُوا عَنْ زَلَّتي فَاجْتنبتُها وهُمْ نافسُوني فاكتسبْتُ المعَاليَاإذن: لله الأمر من قبل ومن بعد، وله الحكمة في أنْ ينتصر الباطل، أَلاَ ترى غزوة أحد، وكيف هُزِم المسلمون لما خالفوا أمر رسول الله وتركوا مواقعهم طمعاً في مغنم، انهزموا في أول الأمر، مع أن رسول الله معهم؛ لأن سنة الله في كونه تقضي بالهزيمة حين نخالف أمر رسول الله، وكيف يكون الحال لو انتصر المسلمون مع مخالفتهم لأمر رسولهم؟ لو انتصروا الفقد أمر الرسول مصداقيته، ولما أطاعوا له أمراً بعد ذلك.

وفي يوم حنين:{ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ... }[التوبة: 25] حتى إن أبا بكر نفسه ليقول: لن نٌغلب اليوم عن قِلّة، فلما نظروا إلى قوتهم ونسُوا تأييد الله هُزِموا في بداية الأمر، ثم يحنّ الله عليهم، وتتداركهم رحمته تعالى، فينصرهم في النهاية.

إذن: فلله الأمر من قبل ومن بعد، فإياك أن تظن أن انتصار الباطل جاء غصْباً عن إرادة الله، أو خارجاً عن مراده، إنما أراده الله وقصده لحكمة.

ثم يقول سبحانه:{ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ... }[الروم: 4-5] أيّ نصر الذي يفرح به الؤمنون؟ أيفرحون لانتصار الروم على الفرس؟ قالوا: بل الفرح هنا دوائر متشابكة ومتعالية، فهم أولاً يفرحون لانتصار أهل دين وأهل كتاب على كفار وملاحدة، ويفرحون أن بشرى رسول الله تحققتْ، ويفرحون لأنهم آمنوا برسول الله، وصدَّقوه قبل أن ينطق بهذه البشرى.

إنهم يفرحون لأنهم أصابوا الحق، فكلما جاءت آية فرح كل منهم بنفسه؛ لأنه كان محقاً حينما آمن بالإله الواحد الذي يعلم الأمور على وفق ما ستكون واتبع رسوله صلى الله عليه وسلم. إذن: لا تقصر هذه الفرحة على شيء واحد، إنما عَدِّها إلى أمور كثيرة متداخلة.

كما أن اليوم الذي انتصر فيه الروم صادف اليوم الذي انتصر فيه المسلمون في بدر.

وقوله تعالى } يَنصُرُ مَن يَشَآءُ... { [الروم: 5] الفرس أو الروم، ما دام أن له الأمر من قبل ومن بعد } وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ { [الروم: 5] الحق سبحانه وصف نفسه بهاتين الصفتين: العزيز الرحيم، مع أن العزيز هو الذي يغلب ولا يٌغْلب، فقاهريته سبحانه عالية في هذه الصفة - ومع ذلك أتبعها بصفة الرحمة ليُحِدث في نفس المؤمن هذا التوازن بين صفتي القهر والغلبة وبين صفة الرحمة.

كما أننا نفهم من صفة العزة هنا أنه لا يحدث شيء إلا بمراده تعالى، فحين ينتصر طرف وينهزم طرف آخر حتى لو انتصر الباطل لا يتم ذلك إلا لمراده تعالى؛ لأن الله تعالى لا يُبقي الباطل ولا يُعلي الكفر إلا ليظهر الحق، فحين يُعَضُّ الناس بالباطل، ويشقَوْن بالكفر يفزعون إلى الإيمان ويتمسكون به.

واقرأ قوله تعالى:{ وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَىا وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا... }[التوبة: 40] ولم يقل: وجعل كلمة الله هي العليا؛ لأنها ليستْ جَعْلاً لأن الجَعْل تحويل شيء إلى شيء، أما كلمة الله فهي العليا بداية ودائماً، وإنْ علت كلمة الباطل إلى حين.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ... {.

(/3339)

وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)

الوعد: هو الإخبار بما يسرُّ قبل أنْ يكون { لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ... } [الروم: 6] وفرْقٌ بين وعد الله ووعد الناس؛ لأنك قد تعد إنساناً بخير، وتحول الأسباب بينك وبين إنفاذ ما وعدتَ به، كأن يتغير رأيك أو تضعف إمكاناتك، أو يتغير السبب الذي كنت ستفعل من أجله.

إذن: أنت لا تملك عناصر الوفاء وأسبابه، أمّا وعد الحق سبحانه وتعالى فوعد محقق، حيث لا توجد قوة تُخرجه عما وعد، وهو سبحانه لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، فما دام الوعد وعدَ الله فثِقْ أنه محقق.

لذلك يُعلِّمنا الحق سبحانه:{ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ... }[الكهف: 23-24] والمعنى: اجعل لنفسك مَخرجَاً من الكذب إنْ حالت الأسباب بينك وبين ما وعدتَ به، بأن تجعل أمرك تحت مشيئة ربك، لا مشيئتك، لأنك لا تملك من عناصر إتمام الفعل شيئاً.

إذن: أدرِكْ نفسك، وقُلْ إنْ شاء الله، حتى إذا حالتْ الأسباب بينك وبين ما أردتَ قلت: شِئْت، ولكن الله تعالى لم يشَأ.

والله تعالى لا يُخِلف وعده؛ لأنه سبحانه يعلم الأشياء على وَفْق ما تكون، ولا توجد قوة تُحوِّله عن مراده، وليس له شريك يراجعه، أو يُخرِجه عن مراده.

وإنْ شئت فاقرأ:{ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَآ أَغْنَىا عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىا نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ }[المسد: 1-5].

ألم يكُنْ من الممكن وقتها أنْ يُسلِم أبو لهب كما أسلم حمزة وعمر وخالد وعكرمة وغيرهم؟ أليست له حرية الاختيار كهؤلاء؟ بل ألم يسمع هذه السورة؟ ومع هذا كله كفر وأصرَّ على كفره، ولم ينطق بكلمة الإيمان، ولو حتى للكيد لرسول الله فيقول في نادي قريش ولو نفاقاً: قال محمد كذا وأنا أشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. أليس هذا دليلاً على غبائه؟

إذن: ما دام أن القرآن أخبر فلا بُدَّ أن يتم الأمر على وَفْق ما أخبر به.

ونلحظ هنا أن كلمة الوعد تعني البشارة بالخير القادم في المستقبل والكلام هنا عن فريقين: فريق منتصر يفرح بالنصر، وفريق منهزم يحزن للهزيمة، فكيف يستقيم الوعد في حَقِّه؟ فالفرح للمؤمن غَمٍّ لغير المؤمن.

ولتوضيح هذه المسألة نذكر أن المستشرقين وقفوا عند قوله تعالى من سورة الرحمن:{ خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }[الرحمن: 14-16]

وقالوا: هذا الكلام معقول بالخلق من نعم الله، لكن ماذا عن قوله:{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }[الرحمن: 35-36] فأيُّ نعمة في النار وفي الشواظ؟

وفات هؤلاء أنه من النعمة أن ننبهك إلى الخطر قبل أنْ تقع فيه، ونحذرك من عاقبة الكفر لتنتهي عنه كالوالد الذي يقول لولده: إنْ أهملتَ دروسك ستفشل، وساعتها سأفعل بك كذا وكذا.

إذن: فذِكْر النار والعذاب نعمة لكل من خالف منهج الحق، فلعله حين يسمع الإنذار يعود ويرعوي.

وقوله تعالى: { وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [الروم:6] نفى عنهم العلم أي: ببواطن الأمور وحقيقتها.

ثم أخبر عنهم: { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ... }.

(/3340)

يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)

إذا رأيت فعلاً نُفِي مرة، وأُثبت مرة أخرى، فاعلم أن الجهة منفكة، فهم لا يعلمون بواطن الأمور، إنما يعلمون ظواهرها، وليتهم يعلمون ظواهر كل شيء، إنما ظواهر الدنيا فحسب، ولا يعلمون بواطنها، فما بالك بالآخرة؟

حين تتأمل أمور الدنيا والقوانين الوضعية التي وضعها البشر، ثم رجعوا عنها بعد حين، تجد أننا لا نعلم من الدنيا إلا الظاهر، فمثلاً قانون الإصلاح الزراعي الذي نعمل به منذ عام 1952، وكنا مُتحمِّسين له نُمجِّده ولا نسمح بالمساس به يناقشونه اليوم، ويطلبون إعادة النظر فيه، بل إلغاءه؛ لأنه لم يَعُدْ صالحاً للتطبيق في هذا العصر، روسيا التي تبنتْ النظام الشيوعي ودافعتْ عنه بكل قوة هي التي نقضتْ هذا النظام وأسقطته.

ما أسقطته أمريكا مثلاً، ولو أسقطته أمريكا لانتقلت إليها قوة الشيوعية وغطرستها؛ لذلك يقولون: ما اندحرت الشيوعية إنما انتحرت على أيدي أصحابها. ومن الممكن أن ينتحر هؤلاء كما انتحرتْ نُظمهم فأوْلَى بهم أنْ يستقيموا لله، وأن يُخِلصوا للناس.

إذن: لا نعرف من الدنيا إلا ظواهر الأشياء، ولا نعرف حقيقتها، كما نشقى الآن بسبب المبيدات الحشرية التي ظننا أنها ستُريحنا وتُوفر علينا الجهد والوقت في المقاومة اليدوية؟

كم يشقى العالم اليوم من استخدام السيارات مثلاً من تلوث في البيئة وقتْل للأرواح كل يوم، ولك أن تقارن بين وسائل المواصلات في الماضي ووسائل المواصلات اليوم، فإن كان للوسائل الحديثة نفع عاجل، فلها ضرر آجل، ويكفي أن عادم المخلوق لله يصلح الأرض، وعادم المخلوق للبشر يفسدها، لماذا؟ لأننا نعلم ظواهر الأشياء. ولو علم الذي اكتشف السولار مثلاً حقيقته لما استخدمه فيما نستخدمه نحن فيه الآن.

هذا عن عِلْمنا بأمور الدنيا، أمّا الآخرة فنحن في غفلة عنها؛ لذلك يقول سيدنا الحسن: أعجب للرجل يمسك الدينار بأنامله فيعرف وزنه، و (يرنه) فيعرف زيوفه من جيده، ولا يحسن الصلاة.

ومن ذلك قوله تعالى:{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـاكِنَّ اللَّهَ رَمَىا... }[الأنفال: 17] فنفى الرمي، وأثبته في آية واحدة؛ لأن الجهة منفكة، فالإثبات لشيء، والنفي لشيء آخر. وسبق أنْ مثَّلْنا لذلك بالتلميذ الذي تجبره على المذاكرة فيفتح الكتاب ويُقلِّب صفحاته ويهزّ رأسه، كأنه يقرأ، فإذا ما أخبرته فيما قرأ تجده لم يفهم شيئاً، فتقول له: ذاكرتَ وما ذاكرتَ؛ لأنه فعل فِعْل المذاكرة، ومع ذلك هو في الحقيقة لم يذاكر؛ لأنه لم يُحصِّل شَيئاً مما ذاكره.

كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى حين أخذ حفنة من الحصى ورمى بها ناحية جيش الكفار، لكن{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ... }[الأنفال: 17] هذه الحفنة؛ لأن قدرتك البشرية لا توصل هذه الرمية إلى كل الجيش، فهذه إذن قدرة الله.

ونلحظ في قوله تعالى:

{ وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ }[الروم: 6] أنه استثنى من عدم العلم فئة قليلة، فلماذا استثنى هذه الفئة مع أننا نُغيِّر الدنيوية والقوانين على الجميع؟ قالوا: لأنه حين وُضِعت هذه القوانين وشًُرعت هذه النظم كانت هناك فئة ترفضها ولا تقرها، لذلك لم يتهم الكل بعدم العلم.

والظاهر الذي يعلمونه من الحياة الدنيا فيه مُتَع وملاذ وشهوات، البعض يعطي لنفسه فيها الحرية المطلقة، وينسي عاقبة ذلك في الآخرة، لذلك فإن أهل الريف يقولون فيمن لا يحسب حساباً للعواقب: (الديب بلع منجل، فيقول الآخر: ساعة خراه تسمع عواه).

واقرأ قوله تعالى:{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ }[آل عمران: 14].

فذكر الناس متاع الحياة الدنيا ونسُوا الباقيات الصالحات في الآخرة، والعاقل هو الذي يستطيع أنْ يُوازن بينهما، وسبق أنْ قُلْنا عن الدنيا بالنسبة لك:هي مدة بلقائك فيها، هي عمرك أنت لا عمر الدنيا كلها، كما أن عمرك فيها محدود مظنون لا بُدَّ أن ينتهي بالموت.

أما الآخرة فدار باقية دائمة، دار نعيم لا ينتهي، ولا يفوتك بحال، فلماذا تشغلك الفانية عن الباقية؟ لماذا ترضى لنفسك بصفقة خاسرة؟

لذلك لما سُئِل الإمام علي: أريد أن أعرف أنا من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة؟ فقال: لم يدع الله الجواب لي، إنما الجواب عندك أنت، فإنْ دخل عليك اثنان: واحد جاء بهدية، والآخر جاء يسألك عطية، فإنْ كنت تهشُّ لصاحب الهدية فأنت من أهل الدنيا، وإنْ كنت تهشُّ لمن يطلب العطية فأنت من أهل الآخرة.

لماذا؟ لأن الإنسان يحب مَنْ يٌعمِّر ما يحب، فإنْ كنتَ تحب الآخرة فإنك تحب الدنيا فإنك تحب مَنْ يعمرها لك؛ لذلك كان أحد الصالحين إنْ جاءه سائل يطرق بابه يهشُّ في وجهه، ويبَشُّ ويقول: مرحباً بمَنْ جاء يحمل زادي إلى الآخرة بغير أجرة.

لكن، لماذا أعاد الضمير في } وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ { [الروم: 7] لماذا لم يقل: وهم عن الآخرة غافلون؟

لو قال الحق سبحانه وهم عن الآخرة غافلون لَفُهم أن الغفلة مسيطرة عليهم، وليست هناك أدلة تُوقِظهم، إنما } وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ { [الروم: 7] يعني: الغفلة واقعة منهم أنفسهم، وإلاَّ فالأدلة واضحة، لكن ما جدوى الأدلة مع قوم هم غافلون.

ثم يقول الحق سبحانه: } أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِمْ... {.

(/3341)

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)

المعنى: أن يكون ذلك منهم: لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا، ويغفلون عن الآخرة، ولم يتفكروا في أنفسهم، فيأتي لهم بالدليل مرة في أنفسهم، ومرة في السماوات والأرض.

الدليل في الأنفس يقول لك: فكِّر في نفسك. أي: اجعلها موضوع تفكيرك، وتأمل ما فيها من أسرار دالة على قدرة الخالق عز وجل، فإلى الآن ومع ما توصَّل إليه العلم ما زال في الإنسان أسرار لم تُكشف بعد.

تأمل في مقومات حياتك: الأكل والشرب والتنفس، وكيف أنك تصبر على الطعام حتى شهر، تتغذى من المخزون في جسمك، وتصبر على الماء من ثلاثة إلى عشرة أيام على مقدار ما في جسمك من مائية، لكنك لا تصبر على الهواء إلا بمقدار شهيق وزفير.

لذلك من حكمته تعالى حين أمَّن للبشر هذه المقوِّمات أنْ جعل مدة صبرك على الطعام أطول، لأن طعامك قد يحتكره غيرك، فتحتاج إلى طلبه والسَّعْي إليه، أما الماء فمدة الصبر عليه أقل، لذلك جعل الحق سبحانه احتكار الماء قليلاً.

أما الهواء الذي لا تصبر عليه إلا بمقدار شهيق وزفير، فمن حكمة الله تعالى ألاَّ يُملَّك لأحد أبداً، وإلا لو احتكر الناسُ الهواء لما استقامت الحياة، فلو منعك صاحب الهواء هواءه لمتَّ قبل أنْ يرضى عنك.

تأمل في نفسك حين تأكل الطعام، وفيك مدخلان متجاوران: القصبة الهوائية، وهي مجرى الهواء للرئتين، والبلعوم وهو مجرى الطعام للمعدة، تأمل ما يحدث لك إنْ دخلتْ حبة أرز واحدة في القصبة الهوائية، فبلا شعور تشرَق بها، وتظل تقاومها حتى تخرج، وتأمل حركة لسان المزمار حين يسد القصبة الهوائية أثناء البلع، هذه الحركة التلقائية التي لا دخلَ لك فيها، ولا قدرة لك عليها بذاتك.

تأمل وضع المعدة، وكيف أن الله جعل لها فتحة يُسمونها فتحة الفؤاد، هي التي تُغلق المعدة بإحكام بعد الطعام، حتى لا تؤذيك رائحته بأنْ تتسرب عصارة المعدة إلى الفم فتؤلمك، فمن أصابه خلل في إغلاق هذه الفتحة تجد رائحة فمه كريهة يسمونه (أبخر).

كذلك تأمل في عملية إخراج الطعام وكيف تكون طبيعياً مستريحاً؟ وفجأت تحتاج إلى الحمام وإلى قضاء الحاجة، ماذا حدث؟ والأمر كذلك في شربة الماء، ذلك لأن لجسمك طاقة تحمُّل في الأمعاء وفي المثانة، ففي لحظة يريد الحمل عن الطاقة، فتشعر بالحاجة إلى الإخراج.

وهذا مجال لا حصرَ له مهما تقدمتْ العلوم، ومهما بحثنا في أنفسنا، ويكفي أن نقرأ:{ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ }[الذاريات: 21] فدعانا ربنا إلى البحث في أنفسنا قبل البحث فيما حولنا من آيات السماء والأرض؛ لأن أنظارنا قد تقصر عن رؤية ما في السماوات والأرض من آيات، أما نفسي فهي أقرب دليل منك وأقوى دليل عليك.

} أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِمْ... { [الروم: 8] أي: فكِّروا في أنفسكم بعيداً عن ضجيج الناس وجدالهم ومِرائهم، فحين تجادل الناس تجد لجاجة وحرصاً على الظهور، ولو بالباطل، إنما حينما تكون مع نفسك تسألها وتتأمل فيها، فلا مُهيج ولا مُعاند، لا تخجل أنْ ينتصر عليك خَصْمك، ولا تطمع في مكانة أو منزلة؛ لذلك تصل بالنظر في نفسك إلى الحقيقة.

لذلك يخاطب القرآن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:{ قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ... }[سبأ: 46] يعني: يا مَنْ تفكِّرون في صدق هذا الرسول، وتتهمونه بالكذب والافتراء والسحر.. الخ أريد منكم شيئاً واحداً{ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىا وَفُرَادَىا... }[سبأ: 46] أي: مثنى مثنى، أو منفردين، كلٌّ على حدة{ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ }[سبأ: 46].

إذن: الطريق إلى الحقيقة لا يكون بالمجادلة الجماهيرية، إنما بتأمل الإنسان مع نفسه، أو مع مثله، فمع الجماعة تتحرك في النفس الرغبة في العْلُو والانتصار؛ لذلك حين تناقش العاقل يقول لك (حسيبك تراجع نفسك) يعني: تفكَّر وحدك بحيث لا تُحرج من أحد، فتكون أقرب للموضوعية وللوصول إلى الحق.

وبعد أنْ أمرنا ربنا بالتفكّر في أنفسنا يلفتنا إلى التأمل فيما حولنا من السماوات والأرض } مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى... { [الروم: 8].

وهناك آية أخرى تقدم التفكُّر في السماء والأرض على التفكّر في النفس، هي قوله تعالى:{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ... }[غافر: 57].

لماذا؟ لأن الإنسان قد يموت قبل أنْ يُولد، ويموت بعد عدة سنوات، أو حتى بعد مئات السنين، أما السماوات والأرض بما فيهما من أرض وسماء وشمس وقمر.. إلخ فهي كما هي منذ خلقها الله لم تتغير، وهي تؤدي مهمتها دون تخلُّف، ودون صيانة، ودون أعطال، فهي بحقٍّ أعظم من خَلْق الناس وأكبر.

إذن: الآية والأدلة في أنفسكم وفي السماوات والأرض، لكن أيهما الآية الأقوى؟ قالوا: ما دامت السماوات والأرض أكبر من خَلْق الناس فهي الأقوى، فإن لم تقنع بها فانظر في نفسك؛ لذلك يقول العلماء بالمفيد والمستفيد، المفيد هو الله - عز وجل - فحينما يضرب لي مثلاً يضرب لي بالأقوى، فإنْ لم أُطِقْه يأتي لي بالأقل، والمستفيد هو الذي ينتقل من الأقل للأكبر.

ومعنى } وَمَا بَيْنَهُمَآ... { [الروم: 8] أي: من الكواكب والأفلاك والنجوم التي نشاهدها في جَوِّ السماء، وكانوا في الماضي لما أرادوا أنْ يُقرِّبوا أمور الدين لعقول الناس يقولون: الكواكب السبعة هي السماوات السبع، ووقع فيها علماء كبار، لكن الحقيقة أن هذه الكواكب السبعة كلها دون السماء الدنيا، واقرأ قول الله تعالى:{ وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ... }[فصلت: 12].

فأين السماء من الكواكب التي نشاهدها؟! أتعلم كم ثانية ضوئية بينك وبين الشمس، أو بينك وبين القمر؟ بيننا وبين الشمس ثماني دقائق ضوئية، وبيننا وبين المرأة المسلسلة مائة سنة ضوئية، وبيننا وبين المجرة مليون سنة ضوئية.

ولك أن تضرب مليون سنة في 365يوماً، وتضرب الناتج في 24 ساعة، وتضرب الناتج في ستين دقيقة، ثم في ستين ثانية، ثم تضرب الناتج من ذلك في 300 ألف كيلو، ثم تأمل الرقم الذي وصلتَ إليه.

وما أسكتَ القائلين بأن الكواكب السبعة هي السماوات السبع إلا أن العلماء اكتشفوا بعدها كوكباً جديداً حول الشمس، وبعد سنوات اكتشفوا آخر. كذلك حين صعد رواد الفضاء إلى سطح القمر أسرع هؤلاء (الفاحشة) يقولون: لقد سبق القرآن، وأخبر بهذا في قوله تعالى:{ يامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ }[الرحمن: 33].

وقالوا: إن السلطان هو سلطان العلم الذي مكّننا من اعتلاء سطح القمر، وعجيب أن يقول هذا الكلام علماء كبار، فأين القمر من السماء؟ القمر ما هو إلا ضاحية من ضواحي الأرض كمصر الجديدة بالنسبة للقاهرة، ثم إنْ كان السلطان هنا هو سلطان العلم، فماذا تقولون في قوله تعالى بعدها:{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ }[الرحمن: 35]

لقد حدث هذا التخبط نتيجة الخلط بين علوم الدين والشريعة، وبين علوم الكونيات، وهذه آفة علماء الدين أنْ يتدخلوا فيما لا علمَ لهم به، فالكونيات يُؤخَذ منها الدليل على عظمة الصانع وقدرته سبحانه، إنما لا يُؤخذ منها حكم شرعي.

ورأينا من هؤلاء مَنْ ينكر كروية الأرض، وأنها تدور حول الشمس، ومنهم مَنْ ظن أن علماء الكونيات - مع أنهم كفرة - يعلمون الغيب لأنهم توصَّلوا بحسابات دقيقة لحركة الأرض إلى موعد الخسوف والكسوف، وجاء الواقع وَفْق ما أخبروا به بالضبط.

وهذه المسألة - كما سبق أنْ قُلْنا - ليست من الغيب المطلق، بل من الغيب الذي أعطانا الله المقدمات التي توصل إليه، وقد توصّل العلماء إليه بالبحث ودراسة معطيات الكون، ونفهم هذا في ضوء قوله تعالى:{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىا يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ.. }[فصلت: 53].

وهذه أيضاً من الآيات التي تُقدّم فيها أدلة السماوات والأرض على أدلة النفس. إذن: فالكونيات تُبنَى على علوم ودراسات، لا دخلَ للدين بها، الدين جاء ليقول لك: افعل كذا، ولا تفعل كذا، ثم ترك الكونيات إلى أنْ تتسع العقول لفهمها.

وقوله سبحانه: } إِلاَّ بِالْحَقِّ.. { [الروم: 8] لأن السماوات والأرض وما بينهما من الكواكب والأفلاك تسير على نظام ثابت لا يتخلف، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير أبداً، وتأمل حركة الكواكب والأفلاك تجد أنها تسير وَفْق نظام دقيق منضبط تماماً.

فالشمس لم تتخلف يوماً فتقول مثلاً: لن أطلع اليوم على هؤلاء الناس؛ لأنهم ظالمون، لأن لها قانوناً تسير به، وهي مخلوقة بحق ثابت لا يتغير، وما دامتْ هذه الكونيات خلقت بحق وبشيء ثابت فلك أن ترتب عليها حساباتك وتضبط بها وقتك، وأنت لا تضبط وقتك على ساعة إلا إذا كانت هي في ذاتها منضبطة.

لذلك يقول سبحانه:{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ }[الرحمن: 5] أي: مخلوقة بحساب؛ ولأنه سبحانه خلقها بحساب جعلها آلة للحساب، فقال:{ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىا عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ * لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّيلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }[يس: 39-40].

ويقول سبحانه:{ وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ }[يونس: 5] وهل تعلمون بالقمر عدد السنين والحساب، إلا إذا كان هو مخلوقاً بحساب؟

ومع ذلك، ومع أن الكون خلقه الله بالحق الثابت إياك أن تظن أن ثباته دائم باقٍ؛ لأن الله تعالى خلقه على هيئة الثبات لأجل } إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى... { [الروم: 8] فبعد أن ينقضي هذا الأجل الذي أجَّلَه الله تُكوّر الشمس وتنكدر النجوم، وتُبدَّل الأرض غير الأرض والسماوات، فالأمر ليس مجرد أنْ يتغير الشيء الثابت، إنما يزول وينتهي.

ثم يقول سبحانه } وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ { [الروم: 8] كنا نجادل الشيوعيين نقول لهم: لقد بالغتم في تعذيب مخالفيكم من الإقطاعيين والرأسماليين، وتعديتم في عقابكم، قالوا: لأنهم ظلموا وأفسدوا في المجتمع، فقلنا لهم: فما بال الذين ظلموا قبل هؤلاء وماتوا ولم ينالوا ما يستحقون من العقاب؟ أليس من العدل أن تقولوا بدار أخرى يُعاقبون فيها على ما اقترفوه؟

ألا يلفتكم هذا إلى ضرورة القيامة، ووجوب الإيمان بها؟ فمن أفلت من أيديكم في الدنيا عاقبه الله تعالى في الآخرة، ثم أنتم تروْنَ مبدأ الثواب والعقاب في كل شيء، فالذي أطلق لنفسه العَنان في الدنيا، وسار فيها على هواه، وعَاثَ في الأرض فساداً، ولم تنلْه يد العدالة فهو الفائز إنْ لم تكُنْ له دار أخرى يُحاسَب فيها.

إذن: فالإيمان بالآخرة وبلقاء الله ضرورة يقتضيها المنطق السليم، ومع ذلك يكفر بها كثير من الناس } وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ { [الروم: 8].

فالمؤمن يجب أن يكون على ثقة بهذا اللقاء؛ لأن قوانين الأرض إنما تَحْمي من ظاهر المنكر، وأما باطن المنكر فلا يعلمه إلا الله، فلا بُدَّ من فترة يُعاقب فيها أصحاب باطن المنكر.

(/3342)

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)

المعنى: أيكفرون بلقاء ربهم ولم يسيروا في الأرض، فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم - خُذْ فقط أمور الدنيا، فهي كافية لمن اعتبر بها - فهؤلاء لم يسيروا في الدنيا، ولم ينظروا فيها بعين الاعتبار بمَنْ سبقهم من الأمم المكذِّبة، ولم يتعظوا بما وقع في الدنيا فضلاً عما سيقع في الآخرة.

فإنْ كُنَّا صدَّقنا ما وقع للمكذِّبين في الدنيا وشاهدناه بأعيننا، فينبغي أن نُصدِّق ما أخبر به الله عن الآخرة؛ لأنك إنْ أردتَ أنْ تعلم ما تجهل فخُذْ له وسيلة مما تعلم. إذن: سيروا في الأرض، وانظروا بعين الاعتبار لمصير الذين كذَّبوا، وماذا فعل الله بهم؟

والسَّيْر: قَطْع المسافات من مكان إلى مكان { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأَرْضِ... } [الروم: 9] لكن أنسير في الأرض أم على الأرض؟ هذا من دقة الأداء القرآني، ومظهر من مظاهر إعجازه، فالظاهر أننا نسير على الأرض، لكن التحقيق أننا نسير في الأرض؛ لأن الذي خلقنا وخلق الأرض قال:{ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ }[سبأ: 18].

ذلك لأن الأرض ليست هي مجرد اليابسة التي تحمل الماء، والتي نعيش عليها، إنما الأرض تشمل كل ما يحيط بها من الغلاف الجوي؛ لأنها بدونه لا تصلح للعيش عليها، إذن: فغلاف الأرض من الأرض، فحين نسير لا نسير على الأرض إنما في الأرض.

والسير في الأرض نظر له الدين من ناحيتين: سير يُعَدُّ سياحة للاعتبار، وسيْر يُعَدُّ سياحة للاستثمار، فالسير للاعتبار أن تتأمل الآيات في الأرض التي تمر بها، فالجزيرة العربية مثلاً صحراء وجبال يندر فيها الزرع، فإنْ ذهبتَ إلى أسبانيا مثلاً تجدها بلاداً خضراء لا تكاد ترى سطح الأرض من كثرة النباتات بها.

وفي كل منها خيرات؛ لأن الخالق سبحانه وزَّع أسباب الفضل على الكون كله، وترى أن هذه الأرض الجرداء القاحلة والتي كانت يشقُّ على الناس العيش بها لما صبر عليها أهلها أعطاهم الله خيرها من باطن الأرض، فأصبحت تمد أعظم الدول وأرقاها بالوقود الذي لا يُسْتغنى عنه يوماً واحداً في هذه البلاد، وحينما قطعناه عنهم في عام 1973ضجُّوا وكاد البرد يقتلهم.

حين تسير في الأرض وتنظر بعين الاعتبار تجد أنها مثل (البطيخة)، لو أخذتَ منها قطاعاً طولياً فإنه يتساوى مع باقي القطاعات، كذلك الأرض وزَّع الله بها الخيرات على اختلاف ألوانها، فمجموع الخير في كل قطاع من الأرض يساوي مجموع الخيرات في القطاعات الأخرى.

الجبال التي هجرناها في الماضي وقُلْنا إنها جَدْب وقفر لا حياةَ فيها، هي الآن مخازن للثروات وللخيرات قد اتجهت إليها الأنظار لإعمارها والاستفادة منها، وانظر مثلاً إلى ما يحدث من نهضة عمرانية في سيناء.

إذن: فالخالق سبحانه وزَّع الخيرات على الأرض، كما وزَّع المواهب على الخَلْق ليظل الجميع مرتبطاً بعضه ببعض برباط الحاجة لا يستغني الناس بعضهم عن بعض، ولا البلاد بعضها عن بعض، وهنا لفتة إيمانية: أن الخلق كلهم عباد الله وصنعته، والبلاد كلها أرض الله وملكه، وليس لله ولد، وليس بينه وبين أحد من عباده قرابة، فالجميع عنده سواء، لذلك سبق أن قلنا: لا ينبغي لك أنْ تحقد على صاحب الخير أو تحسده؛ لأن خيره سيعود عليك حتماً.

ومعنى } الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ... { [الروم: 9] أي: الأمم التي كذَّبَتْ الرسل، وفي آية أخرى يوضح سبحانه عاقبة هؤلاء المكذبين:{ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }[العنكبوت: 40].

ويخاطب سبحانه كفار قريش:{ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وَبِالَّيلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }[الصافات: 137-138].

أي: في أسفاركم ورحلات تجارتكم تروْنَ مدائن صالح وغيرها من القرى التي أصابها العذاب مازالت شاخصة لكل ذي عينين.

ويقول سبحانه:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ }[الفجر: 6-8] وكانوا في رمال الأحقاف{ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ }[الفجر: 9-13].

لقد كان لكل هؤلاء حضارات ما زالت حتى الآن تبهر أرقى حضارات اليوم، فيأتون إليها ليتأملوا ما فيها من أسرار وعجائب، ومع ذلك لم تستطع هذه الحضارات أنْ تحمي نفسها من الدمار والزوال، وما استطاعت أنْ تمنع نفسها من عذاب الله حين حَلَّ بها، إذن: لكم في هؤلاء عِبْرة.

وكأن الحق سبحانه في قوله: } أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ... { [الروم: 9] يقول لكفار قريش: أنتم يا مشركي قريش أقلّ الأمم، لا قوةَ لكم، ولا مال ولا حضارة ولا عمارة، فمن اليسير علينا أن نأخذكم كما أخذنا مَنْ هم أقوى منكم، إنما سبق أنْ أخذتم العهد في قوله سبحانه:{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }[الأنفال: 33].

لذلك يقول بعدها: } كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأَرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا... { [الروم: 9] فالأمم المكذِّبة التي أخذها الله وجعلها لكم عبرة كانت أقوى منكم، وأخصب أرضاً، لذلك أثاروا الأرض. أي: حرثوها للزراعة وللإعمار، وأنتم بواد ذي ذرع، والحرث يُطلَق على الزرع كما في قوله سبحانه:{ وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ... }[البقرة: 205].

ذلك لأن الأرض لا تنبت النبات الجيد إلا إذا أثارها الفلاح، وقلَّبها ليتخلل الهواء تربتها، فتجود عليه وتؤدي مهمتها كما ينبغي، أما إنْ تركتها هامدة متماسكة التربة والذرات، فإنها تمسك النبات ولا تعطي فرصة للجذور البسيطة لأنْ تمتد في التربة، خاصة في بداية الإنبات.

وفي موضع آخر يقول - سبحانه وتعالى - عن النبات:{ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ }[الواقعة: 63-64].

وفي قصة البقرة مع بني إسرائيل لما تلكئوا في ذبحها وطلبوا أوصافها، قال لهم الحق سبحانه:{ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ... }[البقرة: 71].

يعني: بقرة مُرفهة غير سهلة الانقياد، فلا تُستخدم، لا في حَرْث الأرض وإثارتها، ولا في سَقْيها بعد أنْ تُحرَث؛ لذلك تجد أن الفلاح الواعي لا بُدَّ أن يثير الأرض ويُقلِّب تربتها قبل الزراعة، ويتركها فترة ليتخللها الهواء والشمس، ففي هذا إحياء للتربة وتجديد لنشاطها، كما يقولون أيضاً: قبل أن تزرع ما تحتاج إليه انزع ما لا تحتاج إليه.

إذن: فهؤلاء القوم كانت لهم زروع وثمار تمتعوا بها وجمعوا خيراتها.

ومعنى } عَمَرُوهَا... { [الروم: 9] أي: بما يسَّر الله لهم من الطاقات والإمكانات، وأعملوا فيها الموهبة التي جعلها الله فيهم، فاستخرجوا من الأرض خيراتها، كما قال سبحانه:{ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا... }[هود: 61].

وإعمار الأرض يكون بكل مظهر من مظاهر الرقي والحياة، إما بالزرع أو الغًرْس، وإما بالبناء، وإما بشقِّ الأنهار والمصارف وإقامة الطرق وغير ذلك مما ينفع الناس، ونُفرِّق هنا بين الزرع والغَرْس: فالزرع ما تزرعه ثم تحصده مرة واحدة كالقمح مثلاً، أما الغرس فما تغرسُه، ويظل فترة طويلة يُدر عليك، فمحصوله مُتجدِّد كحدائق الفاكهة، والزرع يكون ببذْر الحبِّ، أما الغرس فنبتة سبق إعدادها تُغرس.

ثم يقول سبحانه: } وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ... { [الروم: 9] فبعد أنْ أعطاهم مقوِّمات الحياة وإمكانات المادة وطاقاتها، وبعد أنْ جَنَوْا ثمارها لم يتركهم للمادة إنما أعطاهم إمكانات القيم والدين، فأرسل لهم الرسل } بِالْبَيِّنَاتِ... { [الروم: 9] أي: الآيات الواضحات الدالة على صِدْق الرسول في البلاغ عن ربه وهذه التي نسميها المعجزات.

وسبق أنْ ذكرنا أن كلمة الآيات تُطلَق على معانٍ ثلاثة: آيات كونية دالة على قدرة الصانع سبحانه كالشمس والقمر، وآيات تُؤيِّد الرسل وتُثبت صِدْقهم في البلاغ عن الله وهي المعجزات، وآيات القرآن التي تحمل الأحكام والمنهج، وكلها أمور واضحة بينة.

وقوله تعالى: } فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ { [الروم: 9] نعم، ما ظلمهم الله؛ لأنه سبحانه أمدهم بمقوِّمات الحياة وإمكانات المادة، ثم أمدهم بمقومات الروح والقيم، فإنْ حادوا بعد ذلك عن منهجه سبحانه فما ظلموا إلا أنفسهم.

ثم نقول: كيف يتأتَّى الظلم من الله تعالى؟ الظلم يقع نعم من الإنسان لأخيه الإنسان؛ لأنه يحقد عليه، ويريد أنْ يتمتع بما في يده، فالظالم يأخذ حقَّ المظلوم الذي لا قدرةَ له على حماية حقه. فكيف إذن نتصور الظلم من الله - عز وجل - وهو سبحانه مالك كل شيء، وغني عن كل شيء؟ إذن: ما ظلمهم الله، ولكن ظلموا أنفسهم حينما حادوا عن طريق الله ومنهجه.

(/3343)

ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)

الإساءة ضدها الإحسان، وسبق أن قلنا: إن الإحسان: أن تترك الصالح على صلاحه، أو أن تزيده صلاحاً، ومثَّلْنا لذلك ببئر الماء الذي يشرب منه الناس، فواحد يأتي إليه فيردمه أو يُلوث ماءه، وآخر يبني حوله سياجاً يحميه أو يجعل له آلة تُخرج الماء وتُريح الناس، فهذا أحسن وذاك أساء، فإذا لم تكُنْ محسناً فلا أقلَّ من أنْ تكفَّ إساءتك، وتدع الحال على ما هو عليه.

والحق - سبحانه وتعالى - خلق الكون على هيئة الصلاح، ولو تركناه كما خلقه ربه لَظلَّ على صلاحه، إِذاً لا يأتي الفساد إلا من تدخُّل الإنسان؛ لذلك يقول سبحانه{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـاكِن لاَّ يَشْعُرُونَ }[البقرة: 11-12].

وينبغي على الإنسان أنْ يأخذ من ظواهر الكون ما يفيده، أذكر أننا حينما سافرنا إلى مكة سنة 1950 كنا ننتظر السَّقاء الذي يأتي لنا بقربة الماء، ويأخذ أجرة حملها، وكنا نضعها في (البزان) وهو مثل (الزير) عندنا، فإذا أراد أحدنا أن يتوضأ يأخذ من الماء كوزاً واحداً ويقول: نويت نية الاغتراف، ولا يزيد في وضوئه عن هذا الكوز؛ لأننا نشتري الماء، أما الآن فالواحد منا لا تكفيه (صفيحة) لكي يتوضأ من حنفية الماء. وفي ترشيد استعمال الماء ترشيد أيضاً للصرف الصحي وللمياه الجوفية التي تضر بالمباني وبالتربة الزراعية.

لذلك يحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الإسراف في استعمال الماء حتى لو كنَّا على نهر جارٍ.

فمعنى الذين أساءوا: أي الذي جاء إلى الصالح فأفسده أو أنشأ إفساداً جديداً، وطبيعي أن تكون عاقبته من جنس فِعْله { عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ السُّوءَىا } [الروم: 10] والسُّوأى: مؤنث سيء مثل: حسن للمذكر، وحُسْنى للمؤنث. وأصغر وصُغْرى، فهي أفعل تفضيل من السُّوء.

ثم يقول سبحانه: { أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ } [الروم: 10] فالأمر لم يقف عند حَدٍّ التكذيب بالآيات، إنما تعدّى التكذيب إلى الاستهزاء، فما فلسفة أهل الاستهزاء حينما يستهزئون بالآخرين؟ كثيراً ما نلاحظ أن التلميذ الفاشل يستهزيء بالمجتهد، والمنحرف يستهزيء بالمستقيم، لماذا؟

لأن حظ الفاشل أنْ يزهد المجتهد في اجتهاده، وحظ المنحرف أن يصير المستقيم منحرفاً مثله، ومن هنا نسمع عبارات السخرية من الآخرين كما حكاها القرآن:{ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَـاؤُلاَءِ لَضَالُّونَ }[المطففين: 29-32].

لكن لا تتعجل، وانتظر عاقبة ذلك حينما يأخذ هؤلاء المؤمنون أماكنهم في الجنة، ويجلسون على سُرُرها وأرائكها:{ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }[المطففين: 34-36].

والخطاب هنا للمؤمنين الذين تحملوا السخرية والاستهزاء في الدنيا: أقدرنا أنْ نجازيهم على ما فعلوه بكم؟

إذن: فلسفة الاستهزاء أن الإنسان لم يقدر على نفسه ليحملها على الفضائل، فيغيظه كل صاحب فضيلة، ويؤلمه أنْ يرى مستقيماً ينعم بعزِّ الطاعة، وهو في حمئة المعصية؛ لذلك يسخر منه لعله ينصرف عما هو فيه من الطاعة والاستقامة.

ثم يقول الحق سبحانه: { اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ... }.

(/3344)

اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)

هل بدأ الله الخلق بالفعل، أم مازال يبدأ الخلق؟ الأسلوب هنا أسلوب ربٍّ يتكلم، فهو سبحانه بدأ الخَلْق أصوله أولاً، وما يزال خالقاً سبحانه، وما دام هو الذي خلق بَدْءاً، فهو الذي يعيد { اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ.... } [الروم: 11].

وفي أعراف البشر أن إعادة الشيء أهون من ابتدائه؛ لأن الابتداء يكون من عدم، أما الإعادة فمن موجود، لذلك يقول الحق سبحانه:{ وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ... }[الروم: 27] أي: بمقاييسكم وعلى قَدْر فَهْمكم، لكن في الحقيقة ليس هناك هَيِّن وأهون في حقه تعالى؛ لأنه سبحانه لا يفعل بمزاولة الأشياء وعلاجها، إنما بكُنْ فيكون، لكن يخاطبنا سبحانه على قَدْر عقولنا.

فالحق سبحانه بدأ الخلق وما يزال سبحانه يخلق، وانظر مثلاً إلى الزرع تحصده وتأخذ منه التقاوي للعام القادم، وهكذا في دورة مستمرة بين بَدْء وإعادة { اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ... } [الروم: 11].

وسبق أنْ ضربنا مثلاً بالوردة الغضَّة الطرية بما فيه من جمال في المنظر والرائحة، فإذا ما قُطِفتْ جفَّتْ، لأن المائية التي بها تبخرتْ، وكذلك رائحتها ولونها انتشر في الأثير، ثم يتفتت الباقي ويصير تراباً، فإذا ما زرعت وردة جديدة أخذت من المائية التي تبخرت ومن اللون ومن الرائحة التي في الجو.

وهكذا تبدأ دورة وتنتهي أخرى؛ لأن مُقوِّمات الحياة التي خلقها الله هي هي في الكون، لا تزيد ولا تنقص، فالماء في الكون كما هو منذ خلقه الله: هَبْ أنك شربت طوال حياتك عشرين طناً من الماء، هل تحمل معك هذا الماء الآن؟ لا إنما تَمَّ إخراجه على هيئة عرق وبول ومخاط وصماخ أذن.. إلخ، وهذا كله تبخَّر ليبدأ دورة جديدة.

ثم يقول سبحانه: { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [الروم: 11] نلحظ أن الكلام هنا عن الخَلْق { اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ... } [الروم: 11] لكن انتقل السياق من المفرد إلى الجمع { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [الروم: 11] ولم يقل يرجع أي: الخلْق، فلماذا؟

قالوا: لأن الناس جميعاً لا يختلفون في بَدْء الخلق ولا في إعادته، لكن يختلفون في الرجوع إلى الله، فهذا مؤمن، وهذا كافر، هذا طائع، وهذا عاصٍ، وهذا بين بين، ففي حال الرجوع إلى الله ستفترق هذه الوحدة إلى طريقين: طريق للسعداء، وطريق للأشقياء، لذلك لزم صيغة الإفراد في البَدْء وفي الإعادة، وانتقل إلى الجمع في الرجوع إلى الله لاختلافهم في الرجوع

ثم يقول الحق سبحانه: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ... }.

(/3345)

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)

معنى { يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ } [الروم: 12] أي: يسكتون سُكوتَ اليائس الذي لا يجد حجة، فينقطع لا يدري ما يقول ولا يجد مَنْ يدافع عنه، حتى قادتهم وكبراؤهم قد سبقوهم إلى العذاب، فلم يعُدْ لهم أمل في النجاة، كما قال تعالى:{ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ... }[هود: 98]، ومن ذلك سُمِّي (إبليس)؛ لأنه يئس من رحمة الله.

وفي موضع آخر يقول الحق سبحانه:{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىا إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ }[الأنعام: 44].

أي: لما نسوا منهج الله أراد سبحانه أن يعاقبهم في الدنيا، وحين يعاقبهم الله في الدنيا لا يأخذهم على حالهم إنما يُرخي لهم العَنان، ويُزيد لهم في الخيرات، ويُوسِّع عليهم مٌتَع الدنيا وزخارفها، حتى إذا أخذهم على هذه الحال كان أَخْذه أليماً، وكانت سقطتهم من أعلى.

كما أنك مثلاً لا تُوقع عدوك من على الحصيرة، إنما ترفعه إلى أعلى ليكون الانتقام أبلغَ، أمّا إنْ أخذهم على حال الضِّيق والفقر، فالمسألة إذن هيِّنة، وما أقرب الفقر من العذاب!

ولنا ملحظ في قوله تعالى{ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ.... }[الأنعام: 44] فمادة فتح إنْ أراد الحق سبحانه الفتح لصالح المفتوح عليه يقول{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً }[الفتح: 1] وإن أراد الفتح لغير صالحه يقول{ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ... }[الأنعام: 44] والفرق بيِّن بين المعنيين، لأن اللام هنا للملك{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً }[الفتح: 1] إنما على{ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ... }[الأنعام: 44] فتعني ضدهم وفي غير صالحهم، كما نقول في المحاسبة: له وعليه، له في المكسب وعليه في الخسارة.

(/3346)

وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13)

نعم، لم يجدوا من شركائهم مَنْ يشفع لهم؛ لأن الشركاء قد تبرأوا منهم، كما قال سبحانه:{ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ }[البقرة: 166].

وكذلك يقول التابعون:{ رَبَّنَآ أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ }[فصلت: 29].

وما أشبه هذين: التابع والمتبوع بتلميذين فاشلين تعوَّدا على اللعب وتضييع الوقت، وشغَل كل منهما صاحبه عن دروسه، وأغواه بالتسكّع في الطرقات، إلى أنْ داهمهما الامتحان وفاجأتهما الحقيقة المرّة، فراح كل منهما يلعن الآخر ويسبُّه، ويلقي عليه بالمسئولية.

إذن: ساعة الجد تنهار كل هذه الصلات الواهية، وتتقطع كل الحبال التي تربط أهل الباطل في الدنيا { وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كَافِرِينَ } [الروم: 13] ولِمَ لا وقد تكشفتْ الحقائق، وظهر زيفهم وبان ضلالهم؟

ثم يقول الحق سبحانه: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ... }.

(/3347)

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)

أي: الذين اجتمعوا في الدنيا على الشر وعلى الضلال يتفرقون يوم القيامة، ويصيرون أعداءً وخصوماً بعد أنْ كانوا أخلاء، فيمتاز المؤمنون في ناحية والكافرون في ناحية، حتى العصاة من المؤمنين الذين لهم رائحة من الطاعة لا يتركهم المؤمنون، إنما يشفعون لهم ويأخذونهم في صفوفهم.

والتنوين في { يَوْمَئِذٍ.. } [الروم: 14] بدل من جملة { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ... } [الروم: 14] أي: يوم تقوم الساعة يتفرقون.

(/3348)

فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)

ما دام الخلق سيمتازون يوم القيامة ويتفرقون، فلا بُدَّ أن نرى هذه القسمة: الذين آمنوا والذين كفروا، وها هي الآيات تُرينا هذا التفصيل: { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ... } [الروم: 15] فما جزاؤهم { فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ } [الروم: 15] الروضة: هي المكان المليء بالخضرة والأنهار والأشجار والنضارة، وكانت هذه عادة نادرة عند العرب؛ لأنهم أهل صحراء تقلُّ في بلادهم الحدائق والرياض.

لذلك، فالرياض والبساتين عندهم شيء عظيم ونعمة كبيرة، ومعنى { يُحْبَرُونَ } [الروم: 15] من الحبور، وهو الفرحة حينما يظهر عليك أثر النعمة، هذا عن المؤمنين، فماذا عن الكافرين؟

ثم يقول الحق سبحانه: { وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ... }.

(/3349)

وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)

المحضر بالفتح: الذي يحضره غيره، ولا تُقَال إلا في الشر، وفيها ما يدلُّ على الإدانة، وإلا لحضر هو بنفسه، ونحن نفزع لسماع هذه الكلمة؛ لأن المحضر لا يأتيك إلا لشر، كذلك حال الكفار والمكذِّبين يوم القيامة تجرُّهم الملائكة، وتجبرهم، وتسوقهم للحضور رَغْماً عنهم.

ثم يقول الحق سبحانه: { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ... }.

(/3350)

فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17)

هنا تتجلى عظمة الإيمان، وتتجلى محبة الله تعالى لخَلْقه، حيث يدعوهم إليه في كل أوقات اليوم والليلة، في الصباح وفي المساء، في العشية والظهيرة.

والحق سبحانه حين يطلب من عباده أن يؤمنوا به، إنما لحبه لهم، وحرصه عليهم ليعطيهم، ويفيض عليهم من آلائه، وإلا فهو سبحانه بصفات الكمال والجلال غنيٌّ عنهم، فإيمان المؤمنين لا يزيد في مُلكه سبحانه شيئاً، كذلك كُفْر الكافرين لا ينقص من مُلكه سبحانه شيئاً.

إذن: المسألة أنه سبحانه يريد أنْ يبرَّ صنعته، ويُكرم خَلْقه وعباده؛ لذلك يستدعيهم إلى حضرته، وقرَّبنا هذه المسألة بمثل - ولله تعالى المثل الأعلى -، قلنا: إذا أردتَ أنْ تقابل أحد العظماء، أو أصحاب المراكز العليا، فدون هذا اللقاء مشاقّ لا بُدَّ أن تتجشمها.

لا بُدَّ أن يُؤْذَن لك أولاً في اللقاء، ثم يُحدَّد لك الزمان والمكان، بل ومدة اللقاء وموضوعه، وربما الكلمات التي ستقولها، ثم هو الذي يُنهي اللقاء، لا أنت.

هذا إنْ أردتَ لقاء الخَلْق، فما بالك بلقاء الخالق عز وجل؟ يكفي أنه سبحانه يستدعيك بنفسه إلى حضرته، ويجعل ذلك فرضاً وحتماً عليك، ويطلبك قبل أنْ تطلبه، ويذكرك قبل أن تذكره، لا مرة واحدة، إنما خمس مرات في اليوم والليلة، فإذا لبَّيْتَ طلبه أفاض عليك من رحمته، ومن نعمه، ومن تجلياته، وما بالك بصنعة تُعرَض على صانعها خمس مرات كل يوم، أيصيبها عطب؟

ثم يترك لك ربك كل تفاصيل هذه المقابلة، فتختار أنت الزمان والمكان والموضوع، فإنْ أردتَ أنْ تطيل أمد المقابلة، فإن ربك لا يملّ حتى تمل؛ لذلك فإن أهل المعرفة الذين عرفوا لله تعالى قَدْره، وعرفوا عطاءه، وعرفوا عاقبة اللجوء إليه سبحانه يقولون:حَسْبُ نفسِي عِزّاً بأنِّي عَبْدٌ يَحْتَفِي بي بلاَ مَواعيدَ رَبّهُوَ في قُدْسِهِ الأعَزِّ ولكن أنا ألقي كيفما وأين أحبوالعبودية كلمة مكروهة عند البشر؛ لأن العبودية للبشر ذُلٌّ ومهانة، حيث يأخذ السيد خير عبده، أمّا العبودية لله فهي قمة العزِّ كله، وفيها يأخذ العبد غير سيده؛ لذلك امتنّ الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه العبودية في قوله سبحانه:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ... }[الإسراء: 1].

وكلمة { فَسُبْحَانَ اللَّهِ... } [الروم: 17] هي في ذاتها عبادة وتسبيح لله تعني: أُنزِّه الله عن أنْ يكون مثله شيء؛ لذلك يقول أهل المعرفة: كل ما يخطر ببالك فالله غير ذلك؛ لأنه سبحانه{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ... }[الشورى: 11].

فالله سبحانه مُنزَّه في ذاته، مُنزَّه في صفاته، مُنزَّه في أفعاله، فإنْ وجدنا صفة مشتركة بين الخَلْق والخالق سبحانه نفهمها في إطار{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ... }[الشورى: 11].

وقلنا: إنك لو استقرأت مادة سبح ومشتقاتها في كتاب الله تجد في أول الإسراء:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ... }

[الإسراء: 1] وفي أول سورة الحديد:{ سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... }[الحديد: 1] ثم{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ... }[الجمعة: 1].

فكأن الله تعالى مُسبَّح أزلاً قبل أنْ يخلق مَنْ يُسبِّحه، فالتسبيح ثابت لله أولاً، وبعد ذلك سبَّحَتْ له السماوات والأرض، ولم ينقطع تسبيحها، إنما ما زالت مُسبِّحة لله.

فإذا كان التسبيح ثابتاً لله تعالى قبل أنْ يخلق مَنْ يُسبِّحه، وحين خلق السماوات والأرض سبَّحتْ له السماوات والأرض وما زالت، فعليك أنت أيها الإنسان ألاَّ تشذَّ عن هذه القاعدة، وألاَّ تتخلف عن هذه المنظومة الكونية، وأن تكون أنت كذلك مُسبِّحاً؛ لذلك جاء في القرآن:{ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَىا }[الأعلى: 1].

فاستح أنت أيها الإنسان، فكل شيء في الوجود مُسبِّح{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ... }[الإسراء: 44].

لكن أراد بعض العلماء أنْ يُقرِّب تسبيح الجمادات التي لا يسمع لها صوتاً ولا حِسّاً، فقال: إن تسبيحها تسبيح دلالة على الله. ونقول: إنْ كان تسبيحَ دلالة كما تقول فقد فهمته، والله يقول{ وَلَـاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ... }[الإسراء: 44].

إذن: ففهْمُك له غير حقيقي، وما دام أن الله أخبر أنها تُسبِّح فهي تسبِّح على الحقيقة بلغة لا نعرفها نحن، ولِمَ لا والله قد أعطانا أمثلة لأشياء غير ناطقة سبَّحتْ؟ ألم يقُلْ عن الجبال أنها تُسبِّح مع داود عليه السلام:{ ياجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ... }[سبأ: 10] ألم يُثبت للنملة وللهدهد كلاماً ومنطقاً؟ وقال في عموم الكائنات:{ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ... }[النور: 41].

إذن: فالتسبيح لله تعالى من كل الكائنات، والحق سبحانه يعطينا المثل في ذواتنا: فأنت إذا لم تكُنْ تعرف الإنجليزية مثلاً، أتفهم مَنْ يتكلم بها؟ وهي لغة لها أصوات وحروف تُنطق، وتسمعها بنفس الطريقة التي تتكلم أنت بها.

لذلك تأتي كلمة (سبحان الله) في الأشياء التي يجب أنْ تُنزه الله فيها، واقرأ إنْ شئت قوله تعالى في الإسراء:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ... }[الإسراء: 1] كأنه سبحانه يقول لنا: نزِّهوا الله عن مشابهة البشر، وعن قوانين البشر في هذه المسألة، إياك أنْ تقول: كيف ذهب محمد من مكة إلى بيت المقدس، ثم يصعد إلى السماء، ويعود في ليلة واحدة.

فبقانون البشر يصعُب عليك فَهْم هذه المسألة، وهذا ما فعله كفار مكة حيث قالوا: كيف ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً، وتدَّعي أنك أتيتها في ليلة؟ فقاسوا المسألة والمسافات على قدرتهم هم، فاستبعدوا ذلك وكذَّبوه.

ولو تأملوا الآية{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ... }[الإسراء: 1] وهم أهل اللغة لَعرفوا أن الإسراء لم يكُنْ بقوة محمد، فلم يقُلْ أسريتُ، ولكن قال: " أُسرِي بي " ، فلا دخلَ له في هذه المسألة وقانونه فيها مُلْغى، إنما أسرى بقانون مَنْ أسرى به.

إذن: عليك أن تُنزه الله عن قوانينك في الزمان وفي المسافة، وإنْ أردتَ أن تُقرب هذه المسألة للعقل، فالمسافة تحتاج إلى زمن يتناسب مع الوسيلة هذه المسألة للعقل، فالمسافة تحتاج إلى زمن يتناسب مع الوسيلة التي ستقطع بها المسافة، فالذي يسير غير الذي يركب دابةً، غير الذي يركب سيارة أو طائرة أو صاروخاً وهكذا.

فإذا كان في قوانين البشر: إذا زادت القوة قَلَّ الزمن، فكيف لو نسَبْتَ القوة إلى الله عز وجل؟ عندها نقول: لا زمن فإنْ قُلْتَ: إن ألغينا الزمن مع قوة الله وقدرته تعالى، فلماذا ذكر الزمن هنا وقُدِّر بليلة؟

قالوا: لأن الرحلة لم تقتصر على الذهاب والعودة، إنما تعرَّض فيها النبي صلى الله عليه وسلم لَمَراء كثيرة، وقابل هناك بعض الأنبياء، وتحدَّث معهم، فهذه الأحداث لرسول الله هي التي استغرقتْ الزمن، أمّا الرحلة فلم تستغرق وقتاً.

كذلك جاءت كلمة (سبحان) في قوله تعالى:{ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَق الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ }[يس: 36] لماذا؟ لأن مسألة الخَلْق من المسائل التي يقف عندها العقل، وينبغي أنْ تُنزِّه الله عن أنْ يشاركه فيها أحد.

ولما نزلت هذه الآية كان الناس يعرفون الزوجية في النبات لأنهم كانوا يُلقِّحون النخل، ويعرفونها في الإنسان؛ لأنهم يتزوجون وينجبون، وكذلك يعرفونها في الحيوان، هذه حدود العقل في مسألة الزوجية.

لكن الآية لم تقتصر على ذلك، إنما قال سبحانه{ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ }[يس: 36] لأن المستقبل سيكتشف لهم عن أشياء أخرى تقوم على نظرية الزوجية، وقد عرفنا نحن هذه النظرية في الكهرباء مثلاً حيث (السالب) و (الموجب)، وفي الذرات حيث (الإلكترونات)، و (البروتونات).. إلخ.

إذن: ساعةَ تسمع كلمة التسبيح فاعلم أنك ستستقبل حدثاً فريداً، ليس كأحداث البشر، ولا يخضع لقوانينهم.

ثم يقول سبحانه: } وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ... {.

(/3351)

وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)

نحلظ أن قوله تعالى { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... } [الروم: 18] فصلَتْ بين الأزمنة المذكورة، فجعلت{ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ }[الروم: 17] في ناحية، و { وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ } [الروم: 18] في ناحية، مع أنها جميعاً أوقات وأزمنة في اليوم والليلة، لماذا؟

قالوا: لأنه سبحانه يريد أنْ يُشعرنا أن له الحمد، ويجب أنْ تحمده على أنه مُنزَّه عن التمثيل؛ لأنها في مصلحتك أنت، وأنت الجاني لثمار ها التنزيه، فإنْ أرادك بخير فلا مثيلَ له سبحانه يمنعه عنك، وله وحده الكبرياء الذي يحميك أن يتكبر أحد عليك، وله وحده تخضع وتسجد، لا تسجد لغيره، فسجودك لوجه ربك يكفيك كل الأوجه، كما قال الشاعر:فَالسُّجُودُ الذي تَجْتويهِ فيه مِنْ أُلُوف السُّجُودِ نَجَاةُإذن: من مصلحتك أن يكون الله تعالى هو الواحد الذي لا مثيلَ له، والقوى الذي لا يوجد أقوى منه، والمتكبِّر بحقٍّ؛ لأن كبرياءه يحمي الضعيف أنْ يتكبّر عليه القوي، يجب أنْ تحمد الله الذي تعبَّدنا بالسجود له وحده، وبالخضوع له وحده؛ لأنه أنجاك بالسجود له أنْ تسجد لكل قوي عنك، وهذا من عظمته تعالى ورحمته بخَلْقه؛ لذلك تستوجب الحمد.

لذلك نقول في العامية (اللي ملوش كبير يشتري له كبير) لماذا؟ لأنه لا يعيش عزيزاً مُكرّماً إلا إذا كان له كبير يحميه، ويدافع عنه، كذلك أنت لا تكون عزيزاً إلا في عبوديتك لله.

والخَلْق جميعاً بالنسبة لله تعالى سواء، فليس له سبحانه من عباده ولد ولا قريب، فلا مؤثرات تؤثر عليه، فيحابي أحداً على أحد، فنحن جميعاً شركة في الله؛ لذلك يقول سبحانه{ مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً }[الجن: 3] أي: لا شيء يؤثر عليه سبحانه.

وقال بعد التسبيح { وَلَهُ الْحَمْدُ... } [الروم: 18] لأن التسبيح ينبغي أنْ يُتبَع بالحمد فتقول: سبحان الله والحمد لله، أي: الحمد لله على أنني سبَّحت مسبَّحاً.

وحين نتأمل هذه الأوقات التي أمرنا الله فيها بالتسبيح، وهي المساء والصباح والعشي، وهي من العصر إلى المغرب، ثم الظهيرة نجد أنها أوقات عامة سارية في كَوْن الله لا تنقطع أبداً، فأيّ صباح وأيّ مساء؟ صباحي أنا؟ أم صباح الآخرين؟ مسائي أم مساء غيري في أقصى أطراف المعمورة؟

إن المتأمل في دورة الوقت يجد أن كل لحظة فيه لا تخلو من صباح ومساء، وعشية وظهيرة، وهذا يعني أن الله تعالى مُسبِّح معبود في كل لحظة من لحظات الزمن.

وفي ضوء هذا نفهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مُسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل " فالكون لا يخلو في لحظة واحدة من ليل أو نهار، وهذا يعني أن يد الله سبحانه مبسوطة دائماً لا تُقبَض:{ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ... }[المائدة: 64].

ثم يقول الحق سبحانه: { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ... }.

(/3352)

يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)

أولاً: ما مناسبة الحديث عن البعث، وإخراج الحيِّ من الميت، وإخراج الميت من الحيِّ بعد الحديث عن تسبيح الله وتحميده؟ قالوا: لأنه تكلَّم عن المساء والصباح، وفيهما شبه بالحياة والموت، ففي المساء يحلُّ الظلام، ويسكُن الخَلْق وينامون، فهو وقت للهدوء والاستقرار، والنوم الذي هو صورة من صور الموت؛ لذلك نسميه الموت الأصغر، وفي الصباح وقت الحركة والعمل والسعي على المعاش، ففيه إذن حياة، كما يقول سبحانه:{ وَجَعَلْنَا الَّيلَ لِبَاساً * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً }[النبأ: 10-11].

ويُُمثَّل الموت والبعث بالنوم والاستيقاظ منه، كما جاء في بعض المواعظ: " لتموتُن كما تنامون، ولتُبعثُنَّ كما تستيقظون ".

وما دُمْنا قد شاهدنا الحاليْنِ، وعايّنا النوم واليقظة، فلنأخذ منهما دليلاً على البعث بعد الموت، وإنْ أخبرنا القرآن بذلك، فعلينا أنْ نُصدِّق، وأنْ نأخذ من المشاهد دليلاً على الغَيْب، وهذا ما جاءتْ به الآية:

{ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ... } [الروم: 19].

وقوله تعالى هنا (الحي والميت) أي: في نظرنا نحن وعلى حَدِّ عِلْمنا وفَهمنا للأمور، وإلا فكُلُّ شيء في الوجود له حياة تناسبه، ولا يوجد موت حقيقي إلا في الآخرة التي قال الله فيها:{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ... }[القصص: 88].

فضدُّ الحياة الهلاك بدليل قوله تعالى:{ لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىا مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ... }[الأنفال: 42]

وما دام كلُّ شيء هالكاً إلا وجهه تعالى، فكل شيء بالتالي حَيٌّ، لكنه حي بحياة تناسبه. وأذكر أنهم كانوا يُعلِّموننا كيفية عمل المغناطيس وانتقال المغناطيسية من قطعة مُمغنطة إلى قطعة أخرى بالدَّلْك في اتجاه واحد، وفعلاً شاهدنا أن قطعة الحديد تكتسب المغناطيسية.

وتستطيع أنْ تجذب إليها قطعة أخرى، أليس هذا مظهراً من مظاهر الحياة؟ أليست هذه حركة في الجماد الذي نراه نحن جماداً لا حياةَ فيه، وهو يؤثر ويتأثر بغيره، وفيه ذرات تتحرك بنظام ثابت ولها قانون.

إذن: نقول لكل شيء موجود حياته الخاصة به، وإنْ كُنَّا لا ندركها؛ لأننا نفهم أن الحياة في الأحياء فحسب، إنما هي في كل شيء وكَوْنك لا تفقه حياة هذه الأشياء، فهذه مسألة أخرى.

لذلك سيدنا سليمان - عليه السلام - لما سمع كلام النملة، وكيف أنها تفهم وتقف ديدباناً لقبيلتها، وتفهم حركة الجيش وعاقبة الوقوف في طريقه، فتحذر جماعتها ادخلوا مساكنكم، وكيف كانت واعية، وعادلة في قولها.{ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ }[النمل: 18] فهي تعلم أن الجيش لو حطَّم النمل، فهذا عن غير مقصد منهم، وعندها أحسَّ سليمان بنعمة الله عليه بأنْ يعلم ما لا يعلمه غيره من الناس، فقال: { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىا وَالِدَيَّ... } [النمل: 19].

فمعنى { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ.

... { [الروم: 19] أي: في عُرْفنا نحن، وعلى قَدْر فَهْمنا للحياة وللموت، والبعض يقول: يعني يُخرج البيضة من الدجاجة، ويُخرج الدجاجة من البيضة، وهذا الكلام لا يستقيم مع منطق العقل، وهل كل بيضة بالضرورة تُخرج دجاجة؟ لا بل لا بُدَّ أنْ تكون بيضة مُخصَّبة. إذن: لا تقُلْ البيضة والدجاجة، ولكن قُلْ يُخرج الحي من الميت من كل شيء موجود.

ثم يقول سبحانه: } وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ... { [الروم: 19] وفي موضع آخر يقول تعالى:{ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ... }[الأنعام: 95] فأتى باسم الفاعل (مُخْرِج) بدلاً من الفعل المضارع.

لذلك وقف عندها المشككون في أسلوب القرآن، يقولون: إنْ كانت إحداهما بليغة، فالأخرى غير بليغة، وهذا منهم نتيجة طبيعية لعدم فَهْمهم للغة القرآن، وليستْ لديهم الملَكة العربية التي تستقبل كلام الله.

وهنا نقول: إن الذي يتكلم ربٌّ يعطي لكل لفظة وزنها، ويضع كل كلمة في موضعها الذي لا تُؤدِّيه كلمة أخرى.

فقوله تعالى } يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ... { [الروم: 19] هذه في مصلحة مَنْ؟ في مصلحتنا نحن؛ لأن الإنسان بطَبْعه يحب الحياة، وربما استعلى بها، واغترَّ بهذا الاستعلاء، كما قال ربنا:{ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىا * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىا }[العلق: 6-7].

لذلك يُذكِّره ربه تعالى بالمقابل: فأنا كما أُخرج الحيَّ من الميت أُخرِج الميت من الحيِّ فانتبه، وإياك أنْ تَتعالى أو تتكبَّر، وافهم أن الحياة موهوبة لك من ربك يمكن أنْ يسلبها منك في أيِّ لحظة.

وعبَّر عن هذا المعنى مرة بالفعل المضارع (يُخرِج) الدالّ على الاستمرار والتجدُّد، ومرة باسم الفاعل (مُخرِج) الدال على ثبوت الصفة وملازمتها للموصوف، لا مجرد حدث عارض.

لذلك تأمل قول الله تعالى:{ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً... }[الملك: 1-2] وفي نظرنا أن الحياة تسبق الموت، لكن الحق سبحانه يريد أن يقتل في الإنسان صفة الاغترار بالحياة، فجعله يستقبل الحياة بما يناقضها، فقال{ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ... }[الملك: 2].

فقدَّم الموت على الحياة، فقبل أنْ تفكر في الحياة تذكّر الموت حتى لا تغترّ بها ولا تَطْغى.

ويتجلى هذا المعنى أيضاً في سورة الواقعة:{ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ }[الواقعة: 58-60].

يعني: خذوا بالكم، وافهموا أنني واهب الحياة، وأستطيع أنْ أسلبها فلا تغترَّ بها ولا (تتفرعن)، وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يَدُكَّ في الإنسان صفة الكبرياء والتعالي، فيُحدث هذه المقابلة دائماً بين ذِكْر الحياة في آيات القرآن الكريم.

ثم أَلاَ ترى أن الخالق سبحانه لم يجعل للموت سبباً من أسباب العمر والسنين، فواحد يموت قبل أنْ يُولَد، وواحد يموت بعد يوم أو بعد شهر، وآخر يموت بعد عدة أعوام، وآخر بعد مائة عام.

إذن: مسألة لا ضابط لها إلا أقدار الله وأجله الذي أجلَّه سبحانه، وفي هذا إشارة للإنسان: احذر فقد تُسلْبَ منك الحياة التي تنشأ منها غرورك في أيِّ لحظة، ودون أنْ تدري ودن سابق إنذار أو مقدمات، فاستقِمْ إذن على منهج ربك، ولا تجتريء على المعصية؛ لأنك قد تموت قبل أنْ تتدارك نفسَك بالتوبة.

لذلك يقولون: إن الحق سبحانه حين أبهم وقت الموت بيَّنه بالإبهام غايةَ البيان، كيف؟ قالوا: لأنه سبحانه لو حدَّد لك موعد الموت لكنتَ تستعد له قبل أوانه، إنما حين أبهمه جعلك تستعدّ له كل لحظة من لحظات حياتك.

ثم يقول سبحانه: } وَيُحْي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا... { [الروم: 19] وفي موضع آخر:{ وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ }[الحج: 5].

فالأرض كانت ميتة هامدة جامدة جرداء، لا أثرَ فيها لحياة، فلما نزل عليها الماء وسقاها المطر تحركت وأنبتتْ من كل زوج بهيج، فهي نموذج حيٌّ مُشَاهد للخَلْق وللحياة.

وفي آية أخرى:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً... }[الحج: 63] فهل أخضرتْ الأرضُ ساعةَ نزل عليها المطر؟ لا، إنما بعد فترة، كأنه سبحانه يقول لك: لاحظ الحدث ساعة يوجد، واستحضر صورته، فبعد نزول الماء ترى الأرض تخضرّ تدريجياً، وإنْ لم تبذر فيها شيئاً، ففيها بذور شتَّى حملتْها الرياح، ثم استقرتْ في التربة ولو لسنوات طوال تظل صالحة للإنبات تنتظر الماء لتؤدي مهمتها.

والذي عاش في الصحراء يشاهد هذه الظاهرة، وقد رأيناها في عرفة بعد أنْ نزل عليها المطر، وعُدْنا بعد عدة أيام، فإذا الأرض تكتسي باللون الأخضر. لذلك إياك أن تظن أن كل زرع زرعه الإنسان، وإلاَّ فمنْ أين جاءت أول بذرة زرعها الإنسان. إذن: هناك زراعات لا دخلَ للإنسان بها.

ولنقرأ قصة مريم عليها السلام:{ يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىا نِسَآءِ الْعَالَمِينَ }[آل عمران: 42] فالاصطفاء الأول لم يقُلْ على مَنْ. فالمعنى: اصطفاكِ على الخَلْق جميعاً، بأن طَهَّركِ وجعلك صالحة تقية قوَّامة... إلخ.

أما الاصطفاء الآخر فليس على الخَلْق جميعاً، إنما على النساء؛ لأنها تفردتْ عن نساء العالمين بأنْ تلِدَ بغير ذكورة.

والشاهد الذي نريده هنا أن يوسف النجار لما لاحظ على مريم علامات الحمل وهو يعلم مَنْ هي مريم، وأنها لم تفارق المحراب طوال عمرها، فلم يرِدْ على ذِهْنه المعنى الثاني، ويريد أن يستفهم عَمَّا يراه، فسألها بأدب: يا مريم، أتوجد شجرة بدون بذرة؟ فقالت وقد لقَّنها الحق سبحانه: نعم، الشجرة التي أنبتت أول بذرة.

إذن: الحق سبحانه يمتنُّ علينا بالشيء، ثم يُذكِّرنا بقدرته تعالى على سَلْبه، وعلى نقيضه حتى لا نغترَّ به، ليس في مسألة الموت والحياة فحسب، إنما في الزرع وفي الماء وفي النار، واقرأ قوله تعالى:

{ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَىا أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَىا فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ * أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَآءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ }[الواقعة: 58-72].

ونلحظ في الأداء القرآني في هذه الآيات الدقة في استخدام لام التوكيد في{ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً... }[الواقعة: 65] في الحديث عن الزرع؛ لأن للإنسان دوراً فيه، حيث يحرث ويغرس ويسقي، وربما ظَنَّ لنفسه قدرة عليه.

لكن لما تحدَّث عن الماء ذكر في نقضه{ لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً... }[الواقعة: 70] بدون توكيد، لماذا؟ لأن الماء لا دخلَ لأحد فيه، ولا يدعيه أحد، فلا أنت بخرتَ الماء، ولا أنت أنزلتَ المطر، لذلك قال:{ جَعَلْنَاهُ... }[الواقعة: 70] بدون توكيد.

أما عند ذكْر النار كنعمة من نِعَم الله لم يذكر ما ينقضها، فقال:{ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ }[الواقعة: 72] ولم يقُلْ مثلاً: لو نشاء لأطفأناها، تُرى لماذا؟ قالوا: لتظل النارُ ماثلة أمامنا على حال اشتعالها لا تخمد أبداً، وكأن الحق - سبحانه وتعالى - يُلوِّح بها لكل عَاصٍ علَّه يعود إلى الجادّة.

ثم يقول سبحانه: } وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ { [الروم: 19] كذلك: إشارة إلى ما سبق ذِكْره من إحياء الأرض بعد موتها، كمثْل ذلك تُخرجون وتُبعثون، فمَنْ أنكر البعث فلينظر عملية إحياء الأرض الجامدة بالنبات بعد نزول المطر عليها.

(/3353)

وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)

الكلام هنا عن بَدْء الخلق، قال تعالى { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ... } [الروم: 20] بصيغة الجمع، والمراد آدم ثم حواء، ثم بثَّ الله منهما رجالاً كثيراً ونساء، فالعالم اليوم الذي يُعَدُّ بالمليارات حين تعود به إلى الماضي لا بُدَّ أنْ تعود إلى اثنين هما آدم وحواء، فلما التقيا نشأ منهما النسل، لكن هل نشأ النسل من أبعاض ميتة خرجتْ من آدم، أم من أبعاض حيّة هي الحيوانات المنوية؟

لو أن الحيوان المنويَّ كان ميتاً لما حدث الإنجاب. إذن: جاء أولاد آدم من ميكروب أبيهم آدم، وانتشروا في الأرض وأنجبوا، وكل منهم يحمل ذرة من أبيه الأول آدم عليه السلام. وبالتالي فكُلٌّ مِنّا فيه ذرة حية من عهد آدم، وحتى الآن لم يطرأ عليها فناء أبداً، وهذا هو عَالَم الذَّرِّ الذي شهد خَلْق الله لآدم، إنها أبعاضنا التي شهدتْ هذا العهد الأول بين الخَلْق والخالق سبحانه:{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىا أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىا شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ }[الأعراف: 172].

إذن: في كل مِنّا الآن وحتى قيام الساعة ذرةٌ حيَّة من أبيه آدم، هذه الذرة الحية هي التي شهدتْ هذا العهد، وهي التي تمثل الفطرة الإيمانية في كل نفس بشرية، لكن هذه الفطرة قد تُطمس أو تُغلَّف بالغفلة والمعاصي... إلخ.

والحق - سبحانه وتعالى - أخبرنا أنه يخلق الأشياء ويُوجِدها بكُنْ{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }[يس: 82] إلا الإنسان، فقد بلغ من تكريمه أنْ سوَّاه ربه بيده، وجعله خليفة له في الأرض، وتجلَّى عليه بصفات من صِفاته، فأعطاه من قدرته قدرةً، ومن عِلْمه عِلْماً، ومن حكمته حكمة، ومن غِنَاه غِنىً.

وربنا سبحانه حينما يخلقنا هذا الخَلْق يريد مِنَّا أنْ نستعمل هذه الصفات التي وهبها لنا، كما يستعملها هو سبحانه، فالله تعالى بقدرته خلق لنا ما ينفعنا، فعليك أنت بما وهبك الله من القدرة أنْ تعمل ما ينفع، والله بحكمته رتَّبَ الأشياء، فعليك بما لديْك من حكمة أنْ تُرتَّب الأِشياء.. وهكذا.

ونشير إلى أن القدرة تختلف، فقدرة تفعل لك، وقدرة عُلْيا تجعلك تفعل بنفسك، هَبْ أنك قابلتَ رجلاً ضعيفاً لا يَقْوَى على حَمْل متاعه مثلاً، فتحمله أنت له، فأنت إذن عدَّيْتَ إليه أثرَ قوتك، إنما ظلَّ هو ضعيفاً.

أما الحق - تبارك وتعالى - فلا يُعدِّي أثر قوته إلى عبده فحسب، إنما يُعدِّي له القدرة ذاتها، فيُقوِّي الضعيف؛ فيحمل متاعه بنفسه.

إذن: أعظم تكريم للإنسان أنْ يقول الخالق سبحانه: إنني خلقتُه بيدي في قوله سبحانه لإبليس:{ قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ... }

[ص: 75].

ثم لك أيها الإنسان بعد هذا التكريم أنْ تكون كريماً على نفسك كما كرَّمك الله، ولك أنْ تنزل بها إلى الحضيض، فنفسك حيث تجعلها أنت.

يقول تعالى:{ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ... }[التين: 4-5] فانظر لنفسك منزلة من المنزلتين.

وكلمة } مِّن تُرَابٍ... { [الروم: 20] أي: الأصل الذي خُلِق منه آدم، والتراب مع الماء يصير طيناً، فإنْ تعطَّن وتغيَّرَتْ رائحته فهو حمأ مسنون، فإنْ جَفَّ فهو صلصال كالفخار، إذن: هذه هي العناصر التي وردت ومراحل خَلْقِ الإنسان، وكلها مُسمَّيات للتراب، وحالات طرأتْ عليه.

فإنْ جاء مَنْ يقول في مسألة الخَلْق بغير هذا فلا نُصدّقه؛ لأن الذي خلق الإنسان أخبرنا كيف خلقه، أما هؤلاء فلم يشهدوا من خَلْق الإنسان شيئاً، وهم في نظر الدين مُضللون، يجب الحذر من أفكارهم؛ لأن الله تعالى يقول في شأنهم:

{ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً }[الكهف: 51].

والله لو لم يَخُضْ العلماء في مسألة الخلق خلق الإنسان وخلق الشمس والقمر والأرض... الخ. لو لم نسمع بنظرية داروين أكانت تصدُق هذه الآية؟ وإلا لقالوا: أين المضللون الذين تكلَّم القرآن عنهم؟ فهم إذن قالوا وطلعوا علينا بنظرياتهم، يريدون أنْ يُكذِّبوا دين الله، وأنْ يُشكِّكوا فيه، وإذا بهم يقومون جميعاً دليلاً على صِدْقه من حيث لا يشعرون.

وعلى شاكلة هؤلاء الذين نسمعهم الآن ينكرون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ويُشككون في صحتها، هذه في الحقيقة ظاهرة طبيعية جاءت لتثبت صدق رسول الله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يغفل هذه المسألة، إنما أخبر عنها ونبهنا إليها، وأعطانا المناعة اللازمة - الثلاثي الذي نسمع عنه من رجال الصحة.

يقول صلى الله عليه وسلم: " يوشك رجل من أمتي يتكيء على أريكته يُحدَّث بالحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، أَلاَ وإنَّ ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله ".

لماذا؟ لأن الله تعالى أعطاه تفويضاً في أنْ يُشرِّع لأمته، فقال تعالى:{ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ... }[الحشر: 7] فللرسول إيتاء، وللرسول أمر ونهي يجب أنْ يُطاع بطاعتنا لله.

وتعالَ لمن ينكر السنة ويقول: علينا بالقرآن - عندما يصلي المغرب مثلاً واسأله: كم ركعة صليتَ المغرب؟ سيقول: ثلاث ركعات، فمن أين علم أن المغرب ثلاث ركعات؟ أمن القرآن الذي يتعصَّب له، أم من السنة التي يُنكرها. إذن: كيف يتعبد على قول رسول الله ثم ينكره؟

إذن: فالحق - سبحانه وتعالى - بيَّن مراحل خَلْق الإنسان من تراب، صار طيناً، ثم صار حمأ مسنوناً، ثم صلصالاً كالفخار، ثم نفخ فيه الله من روحه، ونحن لم نشاهد هذه المسألة، إنما أخبرنا بها، ومن رحمته تعالى بخَلْقه، ولكي لا تحار عقولهم حينما تبحث هذه العملية يعطينا في الكون المشَاهد لنا شواهد تُوضِّح لنا الغيب الذي لم نشاهده.

ففي أعرافنا أن هَدْم الشيء أو نَقْص البناء يأتي على عكس البناء، فما بُني أولاً يُهْدَم آخراً، وما بُني آخراً يُهدَم أولاً، وأنت لم تشاهد عملية الخَلْق، لكن شاهدتَ عملية الموت، والموت نَقْض للحياة.

ولك أنْ تتأملَ الإنسان حينما يموت، فأول نَقْض لبنيته أنْ تخرج منه الروح، وكانت آخر شيء في بنائه، ثم يتصلّب الجسد ويتجمد، كما كان في مرحلة الصلصالية، ثم يتعفَّن وتتغير رائحته، كما كان في مرحلة الحمأ المسنون، ثم تمتص الأرض ما فيه من مائية ليصير إلى التراب كما بدأه خالقه من تراب، إذن: صدق الله تعالى في المشهد حين بيَّن لنا الموت، فصدَّقنا ما قاله في الحياة.

وكما أن التراب والطين هما أصل الإنسان فهما أيضاً مصدر الخِصْب والنماء، ومخازن للقوت وهما مُقوِّم من مُقوِّمات حياتنا: لذلك لما تكلم القرآن عن التراب قال سبحانه:{ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا... }[فصلت: 9-10] يعني: في الجبال لأنها أقرب مذكور أو في الأرض عموماً؛ لأن الرواسي في الأرض{ وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا... }[فصلت: 10].

فالقوت يأتينا من طينة الأرض، ومن التراب الذي يتفتت من الجبال مُكوِّناً الطمي أو الغرْيَن الذي يحمله إلينا ماء المطر، فالأرض هي أمنا الحقيقية، منها خُلِقْنا، ومنها مُقوِّمات حياتنا.

وعجيب أن نرى من العلماء غير المؤمنين مَنْ يثبت صدْق القرآن في مسألة خَلْق الإنسان من طين حين حلَّلوا عناصر الأرض فوجدوها ستة عشر عنصراً هي نفسها التي وجدوها في جسم الإنسان، وكأن الحق سبحانه يُجنِّد مَنْ يثبت صِدْق آياته ولو من الكفار.

وصدق الله العظيم حين قال:{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىا يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ... }[فصلت: 53]. وفي القرآن آيات تدلّ على معادلات لو بحثها (الكمبيوتر) الآن لا بُدَّ أن نؤمن بأن هذا الكلام من عند الله وأنه صِدْق.

تأمل ظاهرة اللغة، وكيف نتكلم ونتفاهم، فأنت إذا لم تتعلم الإنجليزية مثلاً لا تفهمها؛ وكذلك هو لا يفهم العربية. لماذا؟ لأ ن اللغة وليدة المحاكاة، فما تسمعه الأذن يحكيه اللسان، وهي ظاهرة اجتماعية، فلو عاش الإنسان وحده لما احتاج للغة؛ لأنه سيفعل ما يطرأ على باله وفقط.

أمّا حين يعيش في جماعة فلا بُدَّ له أن يتفاهم معهم، يأخذ منهم ويأخذون منه، يسمع منهم ويسمعون منه، حتى الأخرس لا بُدَّ له من لغة يتفاهم بها مع مَنْ حوله، ويستخدم فعلاً لغة الإشارة، وقد أقدره الله على فهمها.

والله سبحانه يُبقي للإنسان المتكلم دلالات الإشارة في النفس الناطقة، فمثلاً لو اضطررت للكلام وفي فمك طعام، فإنك تشير لولدك أو لخادمك مثلاً ويفهم عنك ويفعل ما تريد.

إذن: فينا نحن الأسوياء بقايا خَرس نستعمله، حينما لا يسعفنا النطق إذن: التفاهم أمر ضروري، واللغة وليدة المحاكاة؛ لذلك نقول للولد الصغير: لا تخرج إلى الشارع، لماذا؟ حتى لا تسمع أذنه كلاماً قبيحاً فيحكيه هو.

إذن: كيف تعلمتُ اللغة؟ تعلمتها من أبي ومن المحيط بي، وتعلمها أبي من أبيه، ومن المحيطين به، وهكذا. ولك أن تسلسل هذه المسألة كما سلسلنا التكاثر في الإنسان، وسوف نعود بالتالي إلى أبينا آدم عليه السلام، وعندها نقول: ومَنْ علَّم آدم اللغة؟ يردُّ علينا القرآن:{ وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا... }[البقرة: 31] هذا كلام منطقي استقرائي يدلُّ دلالة قاطعة على صِدْق آيات القرآن.

وقوله سبحانه: } ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ { [الروم: 20] ثم: أي بعد أنْ خلقنا الله من تراب تكاثر الخَلْق وتزايدوا بسرعة؛ لأن السياق استعمل هنا (إذا) الفجائية الدالة على الفجأة، والتي يُمثِّلون لها بقولهم: خرجتُ فإذا أسدٌ بالباب، يعني: فاجأني، فالمعنى أنكم تتزايدون وتنتشرون في الأرض بسرعة، ثم يقول الحق سبحانه: } وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ... {.

(/3354)

وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)

قلنا: إن الآية هي الشيء العجيب الذي يقف عنده العقل مندهشاً دهشةً تُورِث إعجاباً، وإعجاباً يُورث يقيناً بحكمة الخالق. من هذه الآيات العجيبة الباهرة { أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً... } [الروم: 21] يعني: من جنسكم ونوعكم.

فلم يشأ سبحانه أنْ يحدث التكاثر مثلاً بين الإنسان وبقرة، لا إنما إنسان مع إنسان، يختلف معه فقط في النوع، هذا ذكر وهذه أنثى، والاختلاف في النوع اختلاف تكامل، لا اختلاف تعاند وتصادم، فالمرأة للرقة والليونة والحنان، والرجل للقوة والخشونة، فهي تفرح بقوته ورجولته، وهو يفرح بنعومتها وأنوثتها، فيحدث التكامل الذي أراده الله وقصده للتكاثر في بني الإنسان.

وعجيب أنْ يرى البعض أن الذكورة نقيض الأنوثة، ويثيرون بينهما الخلاف المفتعل الذي لا معنى له، فالذكورة والأنوثة ضرورتان متكاملتان كتكامل الليل والنهار، وهما آيتان يستقبلهما الناس جميعاً، هل نُجري مقارنة بين الليل والنهار، وهما آيتان يستقبلهما الناس جميعاً، هل نُجري مقارنة بين الليل والنهار.. أيهما أفضل؟ لذلك تأمل دقة الأداء القرآني حينما جمع بين الليل والنهار، وبين الذكر والأنثى، وتدبّر هذا المعنى الدقيق:{ وَالْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىا * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىا * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَىا * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىا }[الليل: 1-4] أي: مختلف، فلكُلٍّ منكما مهمته، كما أن الليل للراحة، والسكون والنهار للسعي والعمل، وبتكامل سَعْيكما ينشأ التكامل الأعلى.

فلا داعي إذن لأنْ أطلب المساواة بالمرأة، ولا أنْ تطلب المرأة المساواة بالرجل، لقد صُدعت رءوسنا من هؤلاء المنادين بهذه المساواة المزعومة، والتي لا معنى لها بعد قوله تعالى{ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىا }[الليل: 4] أي: مختلف، فلكُلٍّ منكما مهمته، كما أن الليل للراحة، والسكون والنهار للسعي والعمل، وبتكامل سَعْيكما ينشأ التكامل الأعلى.

فلا داعي إذن لأنْ أطلب المساواة بالمرأة، ولا أنْ تطلب المرأة المساواة بالرجل، لقد صُدعت رءوسنا من هؤلاء المنادين بهذه المساواة المزعومة، والتي لا معنى لها بعد قوله تعالى:{ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىا }[الليل: 4].

وعجيب أن نسمع من يقول - من الرجال - ينبغي للمرأة أن تحتل مكان الرجل، وأنْ تؤدي ما يؤديه، ونقول: لا نستطيع أن تُحمِّل المرأة مهمة الرجل إلا إذا حمَّلْتَ الرجل مهمة المرأة، فيحمل كما تحمل، ويلد كما تلد، ويُرضِع كما تُرضِع، فدعونا من شعارات (البلطجية) الذين يهرفون بما لا يعرفون.

ومثل هذا قوله تعالى:{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ... }[التوبة: 128] أي: من جنسكم وبشريتكم، فهو نفس لها كل طاقات البشر، ليكون لكم أسوة، ولو جاء الرسول مَلَكاً لما تحققتْ فيه الأسوة، ولَقُلْتم هذا ملَك، ونحن لا نقدر على ما يقدر هو عليه. أو{ مِّنْ أَنفُسِكُمْ... }[التوبة: 128] يعني: من العرب ومن قريش.

والبعض يرى أن{ مِّنْ أَنفُسِكُمْ... }[التوبة: 128] يعني: خَلْق حواء من ضلع آدم، فهي من أنفسنا يعني: قطعة منا، لكن الكلام هنا

{ مِّنْ أَنفُسِكُمْ... }[التوبة: 128] مخاطب به الذكر والأنثى معاً، كما أن الأزواج تُطلق عليهما أيضاً، على الرجل وعلى المرأة، والبعض يفهم أن الزوج يعني اثنين، لكن الزوج مفرد معه مثله؛ لذلك يقول تعالى:{ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ... }[الرعد: 3].

وفي الماضي كنا نعتقد أن نوع الجنين إنما يتحدد من ماء الرجل وماء المرأة، لكن القرآن يقول غير ذلك:{ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىا }[القيامة: 37] فماء المرأة لا دخلَ له في نوع الجنين، ذكراً كان أم أنثى، الذكورة والأنوثة يحددها ماء الرجل.

وهذا ما أثبته العلم الحديث، وعلى هذا نقول } خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً... { [الروم: 21] يعني: من ذكور الأزواج، خلق منك ميكروباً هو (الإكس أو الإكس واي) كما اصطلح عليه العلم الحديث، وهو يعني الذكورة والأنوثة.

وسبق أنْ ذكرنا في هذه المسألة قصة أبي حمزة الرجل العربي الذي تزوج على امرأته؛ لأنها لا تنجب البنين، وهجرها لهذا السبب فقالت بما لديها من سليقة عربية، وقَوْلُها دليل على علم العرب قديماً بهذه الحقيقة التي أثبتها العلم مؤخراً، قالت:مَا لأبي حَمْزةَ لا يأْتينَا غَضْبان أَلاَّ نَلدَ البَنينَاتَالله مَا ذَلكَ في أَيْدينَا ونحن كالأرْضِ لِزَارِعينانُعطي لَهُمْ مثْل الذي أُعْطينَا والحق سبحانه بهذا يريد أن يقول: إنني أريد خليفة متكاثراً ليعمر هذه الأرض الواسعة، فإذا رأيتَ مكاناً قد ضاق بأهله فاعلم أن هناك مكاناً آخر خالياً، فالمسألة سوء توزيع لخَلْق الله على أرض الله.

لذلك يقولون: إن سبب الأزمات أن يوجد رجال بلا أرض، وأرض بلا رجال، وضربنا مثلاً لذلك بأرض السودان الخصبة التي لا تجد مَنْ يزرعها، ولو زُرِعَتْ لكفَت العالم العربي كله، في حين نعيش نحن في الوادي والدلتا حتى ضاقتْ بنا، فإنْ فكرت في الهجرة إلى هذه الأماكن الخالية واجهتْك مشاكل الحدود التي قيدوا الناس بها، وما أنزل الله بها من سلطان.

ذلك لما أُتيح لنا الحديث في الأمم المتحدة قلت لهم: آية واحدة في كتاب الله لو عملتم بها لَحَلَّتْ لكم المشاكل الاقتصادية في العالم كله، يقول تعالى:{ وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ }[الرحمن: 10] فالأرض كل الأرض للأنام، كل الأنام على الإطلاق.

واقرأ قوله تعالى في هذه المسألة:{ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا... }[النساء: 97] إذن: لا تعارض منهج الله وقدره في أحكامه، ثم تشكو الفساد والضيق والأزمات، إنك لو استقرأتَ ظواهر الكون لما وجدتَ فساداً أبداً إلا فيما تتناوله يد الإنسان على غير القانون والمنهج الذي وضعه خالق هذا الكون سبحانه، أما ما لا تتناوله يد الإنسان فتراه منضبطاً لا يختل ولا يتخلف.

إذن: المشاكل والأزمات إنما تنشأ حينما نسير في كون الله على غير هدى الله وبغير منهجه؛ لذلك تسمع مَنْ يقول: العيشة ضَنْك، فلا يقفز إلى ذهنك عند سماع هذه الكلمة إلا مشكلة الفقر، لكن الضنك أوسع من ذلك بكثير، فقد يوجد الغِنَى والترف ورَغَد العيش، وترى الناس مع ذلك في ضنك شديد.

فانظر مثلاً إلى السويد، وهي من أغنى دول العالم، ومع ذلك يكثر بها الجنون والشذوذ والعقد النفسية، ويكثر بها الانتحار نتيجة الضيق الذي يعانونه، مع أنهم أغنى وأعلى في مستوى دخل الفرد.

فالمسألة - إذن - ليست حالة اقتصادية، إنما مسألة منهج لله تعالى غير مُطلَّق وغير معمول به، وصدق الله:{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىا }[طه: 124].

لذلك لو عِشْنا بمنهج الله لوجدنا لذة العيش ولو مع الفقر.

وقوله تعالى: } لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا... { [الروم: 21] هذه هي العلة الأصيلة في الزواج، أي: يسكن الزوجان أحدهما للآخر، والسكن لا يكون إلا عن حركة، كذلك فالرجل طوال يومه في حركة العمل والسعي على المعاش يكدح ويتعب، فيريد آخر النهار أن يسكن إلى مَنْ يريحه ويواسيه، فلا يجد غير زوجته عندها السَّكَن والحنان والعطف والرقة، وفي هذا السكَن يرتاح ويستعيد نشاطه للعمل في غد.

لكن تصور إنْ عاد الرجل مُتْعباً فلم يجد هذا السكن، بل وجد زوجته ومحلّ سكنه وراحته تزيده تعباً، وتكدِّر عليه صَفْوه. إذن: ينبغي للمرأة أنْ تعلم معنى السَّكَن هنا، وأن تؤدي مهمتها لتستقيم أمور الحياة.

ثم إن الأمر لا يقتصر على السَّكَن إنما } وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً... { [الروم: 21] المودة هي الحب المتبادل في (مشوار) الحياة وشراكتها، فهو يكدح ويُوفر لوازم العيش، وهي تكدح لتدبر أمور البيت وتربية الأولاد؛ لأن الله يقول{ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىا }[الليل: 4] هذا في إطار من الحب والحنان المتبادل.

أما الرحمة فتأتي في مؤخرة هذه الصفات: سكن ومودة ورحمة، ذلك لأن البشر عامة أبناء أغيار، وكثيراً ما تتغير أحوالهم، فالقوي قد يصير إلى الضعف، والغني قد يصير إلى فقر، والمرأة الجميلة تُغيِّرها الأيام أو يهدّها المرض... إلخ.

لذلك يلفت القرآن أنظارنا إلى أن هذه المرحلة التي ربما فقدتم فيها السكن، وفقدتُم المودة، فإن الرحمة تسعكما، فليرحم الزوج زوجته إنْ قَصُرت إمكاناتها للقيام بواجبها، ولترحم الزوجة زوجها إنْ أقعده المرض أو أصابه الفقر.. إلخ.

وكثير من كبار السن من الذين يتقون الله ويراعون هذه التعاليم يعيشون حياتهم الزوجية على هذا المبدأ مبدأ الرحمة، لذلك حينما يًلمِّحون للمرأة التي أقعد المرض زوجها تقول: (أنا آكله لحم وأرميه عظم؟)

هذه هي المرأة ذات الدين التي تعيدنا إلى حديث رسول الله في اختيار الزوجة: " تُنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها - وهذه كلها أغيار - ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك " فأنت وهي أبناء أغيار، لا يثبت أحد منكما على حاله، فيجب أنْ تردا إلى شيء ثابت ومنهج محايد لا هوى له، يميل به إلى أحدكما، منهج أنتما فيه سواء، ولن تجدوا ذلك إلا في دين الله.

لذلك يحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا جاءكم مَنْ ترضون دينه وخُلقه فزوِّجوه، ألا تفعلوا تكُنْ فتنة في الأرض وفساد كبير ".

وإياك حين تكبر زوجتك أن تقول إنها لم تعد تملأ نظري، أو كذا وكذا، لأن الزوجة ما جعلها الله إلا سكناً لك وأنثى ووعاءً، فإذا هاجتْ غرائزك بطبيعتها تجد مصرفاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته - أي: تعجبه وتحرّك في نفسه نوازع - فليأْتِ أهله، فإنْ البُضْع واحد ".

وكلما طبَّق الزوجان المقاييس الدينية، وتحلَّيا بآداب الدين وجد كل منهما في الآخر ما يعجبه، فإنْ ذهب الجمال الظاهري مع الزمن فسيبقى جمال الروح ووقارها، سيبقى في المرأة جمال الطبع والسلوك، وكلما تذكرتَ إخلاصها لك وتفانيها في خدمتك وحِرْصها على معاشك ورعايتها لحرمة بيتك كلّما تمسكْت بها، وازددتَ حباً لها.

وكذلك الحال بالنسبة للزوجة، فلكل مرحلة من العمر جاذبيتها وجمالها الذي يُعوِّضنا ما فات.

ولما كان من طبيعة المرأة أنْ يظهر عليها علامات الكِبَر أكثر من الرجل؛ لذلك كان على الرجل أنْ يراعي هذه المسألة، فلما سأل أحدهم الحسن: لقد تقدم رجل يخطب ابنتي وصِفَته كيت وكيت، قال: لا تنكِحها إلا رجلاً مؤمناً، إنْ أحبها أكرمها، وإنْ كرهها لم يظلمها.

ثم يقول سبحانه: } إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ { [الروم: 21] يتفكرون في هذه المسائل وفي هذه المراحل التي تمرُّ بالحياة الزوجية، وكيف أن الله تعالى جعل لنا الأزواج من أنفسنا، وليستْ من جنس آخر، وكيف بنى هذه العلاقة على السَّكَن والحب والمودة، ثم في مرحلة الكِبَر على الرحمة التي يجب أنْ يتعايش بها الزوجان طيلة حياتهما معاً.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ... {.

(/3355)

وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)

في خلق السماوات والأرض آيات أظهرها لنا كما قال في موضع آخر إنها تقوم على غير عمد:{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا... }[لقمان: 10].

فالسماء التي تروْنها على امتداد الأفق تقوم بغير أعمدة، ولكم أنْ تسيروا في الأرض، وأنْ تبحثوا عن هذه العُمد فلن تروْا شيئاً. أو{ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا... }[لقمان: 10] يعني: هي موجودة لكن لا ترونها.

والمنطق يقتضي أن الشيء العالي لا بُدَّ له إما من عُمُد تحمله من أسفل، أو قوة تمسكه من أعلى؛ لذلك ينبغي أنْ نجمع بين الآيات لتكتمل لدينا هذه الصورة، فالحق سبحانه يقول في موضع آخر:{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ... }[فاطر: 41].

إذن: ليست للسماء أعمدة، إنما يمسكها خالقها - عز وجل - من أعلى، فلا تقع على الأرض إلا بإذنه، ولا تتعجب من هذه المسألة، فقد أعطانا الله تعالى مثالاً مُشاهداً في قوله سبحانه:{ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىا الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ... }[النحل: 79].

فإنْ قُلْت: يمسكها في جو السماء حركة الجناحين ورفرفتها التي تحدث مقاومة للهواء، فترتفع به، وتمسك نفسها في الجو، نقول: وتُمسك أيضاً في جو السماء بدون حركة الجناحين، واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى:{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ... }[الملك: 19].

فترى الطير في السماء مادّاً جناحيه ثابتاً بدون حركة، ومع ذلك لا يقع على الأرض ولا يُمسكه في جَوِّ السماء إذن إلا قدرة الله.

إذن: خُذْ مما تشاهد دليلاً على صدْق ما لا تشاهد؛ لذلك يقول سبحانه:{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ... }[غافر: 57] مع أنها خُلِقت لخدمة الإنسان.

فمع أنك أيها الإنسان مظهر من مظاهر قدرة الله، وفيك انطوى العالم الأكبر، إلا أن عمرك محدود لا يُعَدُّ شيئاً إذا قِيسَ بعمر الأرض والسماء والشمس والقمر.. الخ.

ثم يعود السياق هنا إلى آية من آيات الله في الإنسان: { وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ... } [الروم: 22] اللسان يُطلَق على اللغة كما قال تعالى{ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ }[الشعراء: 195] وقال:{ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ }[النحل: 103].

ويًُطلَق أيضاً على هذه الجارحة المعروفة، وإنما أُطِلق اللسان على اللغة؛ لأن أغلبها يعتمد على اللسان وعلى النطق، مع أن اللسان يُمثِّل جزءاً بسيطاً في عملية النطق، حيث يشترك معه في النطق الفم والأسنان والشفتان والأحبال الصوتية.. إلخ، لكن اللسان هو العمدة في هذه العملية. إذن: فاختلاف الألسنة يعني اختلاف اللغات.

وسبق أنْ قُلْنا: إن اللغة ظاهرة اجتماعية يكتسبها الإنسان من البيئة المحيطة به، وحين نسلسلها لا بُدَّ أنْ نصلَ بها إلى أبينا آدم عليه السلام، وقلنا: إن الله تعالى هو الذي علَّمه اللغة حين علَّمه الأسماء كلها، ثم يتخذ آدم وذريته من بعده هذه الأسماء ليتفاهموا بها، وليضيفوا إليها أسماء جديدة.

لذلك نرى أولادنا مثلاً حينما نريد أنْ نُعلِّمهم ونُرقِّيهم نُعلِّمهم أولاً أسماء الأشياء قبل أنْ يتعلموا الأفعال؛ لأن الاسم أظهر، أَلاَ ترى أن الفِعْل والحدث يدل عليه باسم، فكلمة (فِعْل) هي ذاتها اسم.

لكن، كيف ينشأ اختلاف اللغات؟ لو تأملنا مثلاً اللغة العربية نجدها لغة واحدةً، لكن بيئاتها متعددة: هذا مصري، وهذا سوداني، وهذا سوري، مغربي، عراقي.. الخ نشترك جميعاً في لغة واحدة، لكن لكل بيئة لهجة خاصة قد لا تُفهَم في البيئة الأخرى، أما إذا تحدَّثنا جميعاً باللغة العربية لغة القرآن تفاهم الجميع بها.

أما اختلاف اللغات فينشأ عن انعزال البيئات بعضها عن بعض، هذا الانعزال يؤدي إلى وجود لغة جديدة، فمثلاً الإنجليزية والفرنسية والألمانية و.. إلخ ترجع جميعها إلى أصل واحد هو اللغة اللاتينية، فلما انعزلتْ البيئات أرادتْ كل منها أن يكون لها استقلالية ذاتية بلغة خاصة بها مستقلة بألفاظها وقواعدها.

أو } وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ... { [الروم: 22] يعني: اختلاف ما ينشأ عن اللسان وغيره من آلات الكلام من أصوات مختلفة، كما نرى الآن في آخر صيحات علم الأصوات أنْ يجدوا للصوت بصمة تختلف من شخص لآخر كبصمة الأصابع، بل بصمة الصوت أوضح دلالة من بصمة اليد.

ورأينا لذلك خزائن تُضْبط على بصمة صوت صاحبها، فساعة يُصدر لها صوتاً تفتح له.

ومن العجيب والمدهش في مجال الصوت أن المصوِّتات كثيرة منها: الجماد كحفيف الشجر وخرير الماء، ومنها: الحيوان، نقول: نقيق الضفادع وصهيل الخيل، ونهيق الحمار، وثُغَاء الشاة، ورُغَاء الإبل.. الخ لكن بالله أسألك: لو سمعت صوت حمار ينهق، أتستطيع أن تقول هذا حمار فلان؟ لا، لأن كل الأصوات من كُلِّ الأجناس خلا الإنسان صوتها واحد لا يميزه شيء.

أما في الإنسان، فلكُلٍّ منّا صوته المميز في نبرته وحدّته واستعلائه أو استفاله، أو في رقته أو في تضخيمه.. الخ. فلماذا إذن تميَّز صوت الإنسان بهذه الميزة عن باقي الأصوات؟

قالوا: لأن الجماد والحيوان ليس لهما مسئوليات ينبغي أنْ تُضبط وأنْ تُحدَّد كما للإنسان، وإلا كيف نُميز المجرم حين يرتكب جريمته ونحن لا نعرف اسمه، ولا نعرف شيئاً من أوصافه؟ وحتى لو عرفنا أوصافه فإنها لا تدلُّنا عليه دلالة قاطعة تُحدِّد المسئولية ويترتب عليها الجزاء.

وقال سبحانه بعدها } وَأَلْوَانِكُمْ... { [الروم: 22] فاختلاف الألسنة والألوان ليحدث هذا التميُّز بين الناس، ولأن الإنسان هو المسئول خلق الله فيه اختلافَ الألسنة والألوان؛ لنستدل عليه بشكله: بطوله أو قِصَره أو ملابسة... إلخ.

وفي ذلك ما يضبط سلوك الإنسان ويُقوِّمه حين يعلم أنه لن يفلت بفِعْلته، ولا بُدَّ أنْ يدل عليه شيء من هذه المميزات.

لذلك نرى رجال البحث الجنائي ينظمون خطة للبحث عن المجرم قد تطول، لماذا؟ لأنهم يريدون أنْ يُضيِّقوا دائرة البحث فيُخرجون منها مَنْ لا تنطبق عليه مواصفاتهم، وما يزالون يُضيِّقون الدائرة حتى يصلوا للجاني.

والحق - تبارك وتعالى - يقول:{ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىا وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُواْ.... }[الحجرات: 13].

فالتميُّز والتعارف أمر ضروري لاستقامة حركة الحياة، ألاَ ترى الرجل يضع لكل ولد من أولاده اسماً يُميِّزه، فإن عشق اسم محمد مثلاً، وأحب أن يسمى كل أولاده محمداً لا بد أن يميزه، فهذا محمد الكبير، وهذا محمد الصغير، وهذا الأوسط.. إلخ.

إذن: لا بُدَّ أن يتميز الخَلْق لنستطيع تحديد المسئوليات.

ثم يقول سبحانه: } لِّلْعَالَمِينَ... { [الروم: 22] أي: الذين يبحثون في الأشياء، ولا يقفون عند ظواهرها، إنما يتغلغلون في بطونها، ويَسْبرون أغوارها للوصول إلى حقيقتها.

لذلك يلوم علينا ربنا عز وجل:{ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }[يوسف: 105] فلا يليق بأصحاب العقول أن يغفلوا عن هذه الآيات، إنما يتأملونها ليستنبطوا منها ما ينفعهم في مستقبل حياتهم، كما نرى في المخترعات والاكتشافات الحديثة التي خدمتْ البشرية، كالذي اخترع عصر البخار، والذي اخترع العجلة، والذي اكتشف الكهرباء والجاذبية والبنسلين.. الخ، إذن: نمر على آيات الله في الكون بيقظة، وكل العلوم التجريبية نتيجة لهذه اليقظة.

والعَالمون: جمع عالم، وكانت تطلق في الماضي على مَنْ يعرف الحلال والحرام، لكن هي أوسع من ذلك، فالعالم: كل مَنْ يعلم قضية كونية أو شرعية، ويُسمَّى هذا " عالم بالكونيات " وهذا عالم بالشرع، وإنْ شئتَ فاقرأ:{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ... }[فاطر: 27-28].

فذكر سبحانه النبات، ثم الجماد، ثم الناس، ثم الحيوان.

ثم يقول سبحانه:{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ... }[فاطر: 28] على إطلاقها فلم يُحدِّد أي علماء: علماء النبات، أو الحيوان، أو الجمادات، أو علماء الشرع، إذن: العَالِم كل مَنْ يعلم حقيقة في الكون وجودية أو شرعية من عند الله.

لكن، لماذا أطلقوا العالم على العالم بالشرع خاصة؟ قالوا: لأنه أول العلوم المفيدة التي عرفوها؛ لذلك رأينا من آداب العلم في الإسلام ألاَّ يُدخِل علماء الشرع أنفسهم في الكونيات، وألاَّ يُدخل علماء الكونيات أنفسهم في علوم الشرع.

والذي أحدث الاضطراب بين هذه التخصصات أن يقول مثلاً علماء الكونيات بأن الأرض تدور حول الشمس، فيقوم من علماء الدين مَنْ يقول: هذا مخالف للدين - هكذا عن غير دراسة، سبحان الله، لماذا تُقحِم نفسك فيما لا تعلم؟ وماذا يضيرك كعالم بالشرع أن تكون الأرض كرة تدور أو لا تدور؟ ما الحرام الذي زاد بدوران الأرض وما الحلال الذي انتقص؟ كذلك الحال لما صعد الإنسان إلى القمر، اعترض على ذلك بعض رجال الدين.

كذلك نسمع مَنْ لا عِلْم له بالشرع يعترض على بعض مسائل الشرع يقول: هذه لا يقبلها العقل. إذن: آفة العلم أن يقحم العالم نفسه فيما لا يعلم، ولو التزم كلٌّ بما يعلم لارتاح الجميع، وتركت كل ساحة لأهلها.

وعجيب أن يستشهد رجال الدين على عدم كروية الأرض بقوله تعالى:{ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا... }[الحجر: 19] ولو تأملوا معنى{ مَدَدْنَاهَا... }[الحجر: 19] لما اعترضوا؛ لأن معنى مددناها يعني: كلما سِرْتُ في الأرض وجدتها ممتدة لا تنتهي حتى تعود إلى النقطة التي بدأت منها، وهذا يعني أنها كرة لا نهاية لها، ولو كانت مُسطحة أو مُثلثة مثلاً لكان لها نهاية.

إذن: نقول للعلماء عموماً: لا تُدخلوا أنوفكم فيما لا علْم لكم به، ودَعُوا المجال لأصحابه، عملاً بقوله تعالى:{ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ... }[البقرة: 60].

ثم يقول الحق سبحانه: } وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيلِ

ج28.تفسير الشعراوي

وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)

كذلك من الآيات العجيبة الدالة على قدرة الله { مَنَامُكُم.. } [الروم: 23] فحتى الآن لم يكشف علماء وظائف الأعضاء والتشريح عن سِرِّ النوم، ولم يعرفوا - رغم ما قاموا به من تجارب - ما هو النوم. لكن هو ظاهرة موجودة وغالبة لا يقاومها أحد مهما أُوتِي من القوة، ومهما حاول السهر دون أنْ ينام، لا بُدَّ أن يغلبه النوم فينام، ولو على الحصى والقتاد، ينام وهو واقف وهو يحمل شيئاً لا بُدَّ أنْ ينام على أية حالة.

وفلسفة النوم، لا أن نعرف كيف ننام، إنما أن نعرف لماذا ننام؟ قالوا: لأن الإنسان مُكوَّن من طاقات وأجهزة لكل منها مهمة، فالعين للرؤية، والأذن للسمع.. الخ، فساعة تُجهد أجهزة الجسم تصل بك إلى مرحلة ليستْ قادرة عندها على العمل، فتحتاج أنت - بدون شعورك وبأمر غريزي - إلى أن يرتاح كأنها تقول لك كفى لم تَعُد صالحاً للعمل ولا للحركة فنم.

ومن عجيب أمر النوم أنه لا يأتي بالاستدعاء؛ لأنك قد تستدعي النوم بشتى الطرق فلا يطاوعك ولا تنام، فإنْ جاءك هو غلبك على أيِّ حال كنتَ، ورغم الضوضاء والأصوات المزعجة تنام. لذلك يقول الرجل العربي: النوم طيف إنْ طلبتَه أعْنَتك، وإنْ طلبك أراحك.

ولأهل المعرفة نظرة ومعنى كوني جميل في النوم، يقولون في قوله تعالى:{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ... }[الإسراء: 44] فكل ما في الوجود يُسبِّح حتى أبعاض الكافر وأعضاؤه مُسبحة، إنما إرادته هي الكافرة، وتظل هذه الأبعاض خاضعة لإرادة صاحبها إلى أنْ تنفكّ عن هذه الإرادة يوم القيامة، فتشهد عليه بما كان منه، وبما أجبرها عليه من معصية الله.

وسبق أنْ مثَّلْنَا لذلك بقائد الكتيبة حين يطيعه جنوده ولو في الخطأ؛ لأن طاعته واجبة إلى أنْ يعودوا إلى القائد الأعلى فيتظلمون عنده، ويخبرونه بما كان من قائدهم.

وذكرنا أن أحد قواد الحرب العالمية أراد أنْ يستخدم خدعة يتفوق بها على عدوه، رغم أنها تخالف قانون الحرب عندهم، فلما أفلحتْ خْطّته وانتصر على عدوه كرَّموه على اجتهاده، لكن لم يَفُتهم أنْ يعاقبوه على مخالفته للقوانين العسكرية، وإنْ كان عقاباً صُورياً لتظل للقانون مهابته.

كذلك أبعاض الكافر تخضع له في الدنيا، وتشهد عليه يوم القيامة:{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }[النور: 24].

مع أن هذه الجوارح هي التي نطقتْ بكلمة الكفر، وهي التي سرقتْ.. الخ؛ لأن الله أخضعها لإرادة صاحبها، أما يوم القيامة فلا إرادةَ له على جوارحه:{ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ... }[فصلت: 21] لذلك يُطمئننا الحق سبحانه بقوله:{ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }[غافر: 16].

فإذا ما نام الكافر ارتاحتْ منه أبعاضه وجوارحه، ارتاحتْ من مرادات الشر عنده؛ لذلك يُحدِّثنا إخواننا الذين يحجُّون بيت الله يقولون: هناك النوم فيه بركة، ويكفيني أقلّ وقت لارتاح، لماذا؟ لأن فكرك في الحج مشغول بطاعة الله، ووقتك كله للعبادة، فجوارحك في راحة واطمئنان لم ترهقها المعصية؛ لذلك يكفيها أقل وقت من النوم لترتاح.

وفي ضوء هذا الفهم نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: " تنام عيني ولا ينام قلبي " لأنه صلى الله عليه وسلم حياته كلها للطاعة، فجوارحه مستريحة، فيكفيه من النوم مجرد الإغفاءة.

وفي العامية يقول أهل الريف: نوم الظالم عبادة، لماذا؟ لأنه مدة نومه لا يأمر جوارحه بشرٍّ، ولا يُرغمها على معصية فتستريح منه أبعاضه، ويستريح الناس والدنيا من شره، وأيّ عبادة أعظم من هذه؟

ونلحظ في هذه الآية } وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ... { [الروم: 23] فجعل الليل والنهار محلاً للنوم، ولابتغاء الرزق، وفي آية أخرى:{ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ }[القصص: 73] فجمعهما معاً، ثم ذكر تفصيل ذلك على الترتيب{ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ }[القصص: 73] أي: في الليل{ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ }[القصص: 73] أي: في النهار.

وهذا أسلوب يُعرف في اللغة باللفِّ والنشر، وهو أنْ تذكر عدة أشياء محكوماً عليها، ثم تذكر بعدها الحكمَ عليها جملة، وتتركه لذكاء السامع لِيُرجِع كل حكم إلى المحكوم عليه المناسب.

ومن ذلك قول الشاعر:قَلْبي وجَفْنِي واللسَان وخَالِقي رَاضٍ وبَاكٍ شَاكِر وغَفُورفجمع المحكوم عليه في ناحية، ثم الحكم في ناحية، فجَمْع المحكوم عليه يسمى لَفّاً، وجَمْع الحكم يُسمى نَشْراً.

وهاتان الآيتان من الآيات التي وقف أمامها العلماء، ولا نستطيع أنْ نخرج منهما بحكم إلا بالجمع بين الآيات، لا أن نفهم كل آية على حدة، فنلحظ هنا في الآية التي معنا } وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ.... { [الروم: 23] أن الله تعالى جعل كلاً من الليل والنهار محلاً للنوم، ومحلاً للسعي.

وفي الآية الأخرى:{ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ }[القصص: 73] ثم قال{ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ }[القصص: 73] ولم يقل (فيه) ويجب هنا أنْ نتنبه، فهذه آية كونية أن يكون الليل للنوم والسكون والراحة، والنهار للعمل وللحركة، فلا مانع أن نعمل بالليل أيضاً، فبعض الأعمال لا تكون إلا بليل، كالحراس ورجال الأمن والعسس والخبازين في المخابز وغيرهم، وسكن هؤلاء يكون بالنهار، وبهذا الفهم تتكامل الآيات في الموضوع الواحد.

إذن: فقوله تعالى: } وَابْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ... { [الروم: 23] يعني: طلب الرزق والسَّعْي إليه يكون في النهار ويكون في الليل، لكن جمهرة الناس يبتغونه بالنهار ويسكنون بالليل، والقلة على عكس ذلك.

فإنْ قلتَ: هذا عندنا حيث يتساوى الليل والنهار، فما بالك بالبلاد التي يستمر ليلها مثلاً ثلاثة أشهر، ونهارها كذلك، نريد أن نفسر الآية على هذا الأساس، هل يعملون ثلاثة أشهر وينامون ثلاثة أشهر؟ أم يجعلون من أشهر الليل ونهاراً، ومن أشهر النهار أيضاً ليلاً ونهاراً؟ لا مانع من ذلك؛ لأن الإنسان لا يخلو من ليل للراحة، ونهار للعمل أو العكس، فكل من الليل والنهار ظرف للعمل أو للراحة.

لذلك، فالحق - تبارك وتعالى - يمتنُّ علينا بتعاقُب الليل والنهار، فيقول سبحانه:{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْلَّيْلَ سَرْمَداً إِلَىا يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ }[القصص: 71] وذيَّل الآية بأفلا تسمعون{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَىا يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ }[القصص: 72].

قالوا: لأن النهار محلُّ الرؤية والبصر، أما الليل فلا بصرَ فيه، فيناسبه السمع، والأذن هي الوسيلة التي تؤدي مهمتها في الليل عندما لا تتوفر الرؤية.

وفي موضع آخر:{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ الَّيلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً }[الفرقان: 62] فالليل يخلُف النهار، والنهار يخلُف الليل، هذا في الزمن العادي الذي نعيشه، أما في بدْء الخَلْق فأيهما كان أولاً، ثم خلفه الآخر؟

فإنْ قلت: إن الليل جاء أولاً، فالنهار بعده خِلْفة له، لكن الليل في هذه الحالة لا يكون خِلفة لشيء، والنص السابق يوضح أن كلاً منهما خِلْفة للآخر، إذن: فما حَلُّ هذا اللغز؟

مفتاح هذه المسألة يكمن في كروية الأرض، ولو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر في بداية البعثة بهذه الحقيقة لما صدَّقوه، كيف ونحن نرى مَنْ ينكر هذه الحقيقة حتى الآن.

والحق - سبحانه وتعالى - لا يترك قضية كونية كهذه دون أنْ يمسَّها ولو بلُطْف وخِفة، حتى إذا ارتقت العقول تنبهتْ إليها، فلو أن الأرض مسطوحة وخلقَ الله تعالى الشمس في مواجهة الأرض لاستطعنا أنْ نقول: إن النهار جاء أولاً، ثم عندما تغيب الشمس يأتي الليل، أما إنْ كانت البداية خلْق الأرض غير مواجهة للشمس، فالليل في هذه الحالة أولاً، ثم يعقبه النهار، هذا على اعتبار أن الأرض مسطوحة.

وما دام أن الخالق - عز وجل - أخبر أن الليل والنهار كل منهما خِلْفة للآخر، فلا بُدَّ أنه سبحانه خلق الأرض على هيئة بحيث يوجد الليل ويوجد النهار معاً، فإذا ما دارت دورة الكون خلف كل منهما الآخر، ولا يتأتّى ذلك إلا إذا كانت الأرض مُكوَّرة، فما واجه الشمس منها صار نهاراً، وما لم يواجه الشمس صار ليلاً.

لذلك يقول سبحانه في آية أخرى:{ لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّيلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }[يس: 40].

فالحق سبحانه ينفي هنا أنْ يسبقَ الليلُ النهارَ، فلماذا؟

قالوا: يعتقدون أن الليلَ سابقُ النهار، أَلاَ تراهم يلتمسون أول رمضان بليله لا بنهاره؟ وما داموا يعتقدون أن الليل سابق النهار، فالمقابل عندهم أن النهار لا يسبق الليل، هذه قضية أقرَّها الحق سبحانه؛ لذلك لم يعدل فيها شيئاً إنما نفى الأولى{ وَلاَ الَّيلُ سَابِقُ النَّهَارِ... }[يس: 40].

إذن: نفى ما كانوا يعتقدونه{ وَلاَ الَّيلُ سَابِقُ النَّهَارِ... }[يس: 40] وصدَّق على ما كانوا يعتقدونه من أن النهار لا يسبق الليل. فنشأ عن هذه المسألة: لا الليل سابق النهار، ولا النهار سابق الليل، وهذا لا يتأتّى إلا إذا وُجدوا في وقت واحد، فما واجه الشمسَ كان نهاراً، وما لم يواجه الشمس كان ليلاً.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً... {.

(/3357)

وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)

نلحظ في تذييل الآيات مرة يقول سبحانه:{ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }[الروم: 21] ومرة{ لِّلْعَالَمِينَ }[الروم: 22] ومرة{ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ }[الروم: 23] أو { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الروم: 24] فتختلف الأدوات الباحثة في الآيات.

والبعض يظن أن العقل آلة يُعملها في كل شيء، فالعقل هو الذي يُصدِّق أو لا يُصدِّق، والحقيقة أنك تستعمل العقل في مسألة الدين مرة واحدة تُغنيك عن استعماله بعد ذلك، فأنت تستعمل العقل في أنْ تؤمن أو لا تؤمن، فإنْ هداك العقل إلى أن الكون له إله قادر حكيم خالق لا إله إلا هو ووثقتَ بهذه القضية، فإنها لا تطرأ على تفكيرك مرة أخرى، ولا يبحثها العقل بعد ذلك، ثم إنك في القضايا الفرعية تسير فيها على وَفْق قضية الإيمان الأولى فلا تحتاج فيها للعقل.

لذلك العقلاء يقولون: العقل كالمطية توصلك إلى حضرة السلطان، لكن لا تدخل معك عليه، وهكذا العقل أوصلك إلى الإيمان ثم انتهى دوره، فإذا ما سمعتَ قال الله فأنت اثق من صِدْق القول دون أنْ تُعمل فيه العقل.

وحين يقول سبحانه: يعقلون يتفكرون يعلمون، حين يدعوك للتدبُّر والعِظَة إنما ينبه فيك أدوات المعارضة لتتأكد، والعقل هنا مهمته النظر في البدائل وفي المقدمات والنتائج.

كما لو ذهبتَ مثلاً لتاجر القماش فيعرض عليك بضاعته: فهذا صوف أصلي، وهذا فطن خالص، ولا يكتفي بذلك إنما يُريك جودة بضاعته، فيأخذ (فتلة) من الصوف، و (فتلة) من القطن، ويشعل النار في كل منهما لترى بنفسك، فالصوف لا ترعى فيه النار على خلاف القطن.

إذن: هو الذي يُنبِّه فيك وسائل النقد، ولا يفعل ذلك إلا وهو واثق من جودة بضاعته، أما الآخر الذي لا يثق في جودة بضاعته فإنه يلجأ إلا ألاعيب وحيل يغري بها المشتري ليغُرّه.

كذلك الخالق - عز وجل - يُنبِّهنا إلى البحث والتأمل في آياته فيقول: تفكَّروا تدبَّروا، تعقَّلوا، كونوا علماء واعين لما يدور حولكم، وهذا دليل على أننا لو بحثنا هذه الآيات لتوصَّلْنا إلى مطلوبه سبحانه، وهو الإيمان.

والبرق: ظاهرة من ظواهر فصل الشتاء، حيث نسمع صوتاً مُدوِّياً نسميه الرعد، بعد أن نرى ضوءاً شديداً يلمع في الجو نسميه (برق)، وهو عامل من عوامل كهربة الجو التي توصَّل إليها العلم الحديث، لكن قبل ذلك كان الناس عندما يروْن البرق لا يفهمون منه إلا أحد أمرين: إما أنْ يأتي بصاعقة تحرقهم، أو ينزل عليهم المطر، فيخافون من الصاعقة ويرجون المطر.

{ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً... } [الروم: 24] ليظل العبد دائماً مع ربه بين الخوف والرجاء.

لكن أكُلّ الناس يرجون المطر؟ هَبْ أنك مسافر أو مقيم في بادية ليس لك كِنٌّ تكِنُّ فيه، ولا مأوى يأويك من المطر، فهذا لا يرجو المطر ولا ينتظره، لذلك من رحمته تعالى أن يغلب انفعال الطمع في الماء الذي به تحيا الأرض بالنبات.

} وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا... { [الروم: 24] وكلمة السماء لها مدلولان: مدلولٌ غالب، وهي السماوات السبع، ومدلول لُغوي، وهي كل ما علاَّك فأظلَّك، وهذا هو المعنى المراد هنا } وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً... { [الروم: 24] لأن المطر إنما ينزل من السحاب، فالسماء هنا تعني: كل ما علاك فأظلَّك.

ولو تأملتَ الماء الذي ينزل من السماء لوجدتَّه من سحاب متراكم{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ... }[النور: 43].

وسبق أنْ تحدَّثنا عن كيفية تكوُّن السُّحُب، وأنها نتيجة لبخر الماء، لذلك من حكمته تعالى أنْ جعل ثلاثة أرباع الأرض ماءً والربع يابسة، ذلك لتتسع رقعة بَخْر الماء، فكأن الثلاثة الأرباع جعلت لخدمة الرُّبْع، وليكفي ماء المطر سكان اليابسة.

وبيَّنا أهمية اتساع مسطح الماء في عملية البخر، بأنك حين تترك مثلاً كوباً من الماء على المنضدة لمدة طويلة يظل كما هو، ولو نَقُص منه الماء لكان قليلاً، أمّا لو سكبتَ ماء الكوب على أرض الغرفة مثلاً فإنه يجفّ في عدة دقائق لماذا؟ لأن مسطح الماء اتسع فكَثُر الماء المتبخِّر.

ومثَّلْنا لتكوُّن السُّحُب بعملية التقطير التي نُجريها في الصيدليات لنحصل منها على الماء النقي المعقم، وهذه تقوم على نظرية استقبال بخار الماء من الماء المغلي، ثم تمريره على سطح بارد فيتكثف البخار مُكوِّناً الماء الصافي، إذن: فأنت حينما تستقبل ماء المطر إنما تستقبل ماءً مقطراً في غاية الصفاء والنقاء، دون أن تشعر أنت بهذه العملية، ودون أن نُكلِّفك فيها شيئاً.

وتأمل هذه الهندسة الكونية العجيبة التي ينشأ عنها المطر، فحرارة الشمس على سطح الأرض تُبخِّر الماء بالحرارة، وفي طبقات الجو العليا تنخفض الحرارة فيحدث تكثُّف للماء ويتكوَّن السحاب، ومن العجيب أننا كلما ارتفعنا 30 متراً عن الأرض تقل الحرارة درجة، مع أننا نقترب من الشمس؛ ذلك لأن الشمس لا تُسخِّن الجو، إنما تُسخِّن سطح الأرض، وهو بدوره يعطي الحرارة للجو؛ لذلك كلما بَعُدنا عن الأرض قلَّتْ درجة الحرارة.

ومن حكمة الله أنْ جعل ماء الأرض الذي يتبخر منه الماء العَذْب جعله مالحاً؛ لأن ملوحته تحفظه أنْ يأسن، أو يعطن، أو تتغير رائحته، تحفظه أن تنمو به الطفيليات الضارة، وليظلّ على صلاحه؛ لأنه مخزن للماء العذب الذي يروي بعذوبته الأرض.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ... {.

(/3358)

وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)

السماء هنا بمعنى السماوات السبع التي تقوم بلا عَمَد، وقلنا: إن الشيء الذي يعلوك إما أنْ يُحمل على أعمدة، وإما أنْ يُشدَّ إلى أعلى، مثل الكبارى المعلقة مثلاً، وكذلك السماء سقف مرفوع لا نرى له أعمدة. إذن: لا تبقى إلا الوسيلة الأخرى، وهي أن الله تعالى{ وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ... }[الحج: 65] فهي قائمة بأمره.

{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَآءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ... } [الروم: 25] لا يهتز لها نظام أبداً، ولا تجد فيها فروجاً، لأنها محْكَمة البناء، وانظر إليها حين صفاء السماء وخُلوِّها من السحب تجدها ملساء ذات لون واحد على اتساعها، أيستطيع أحد من رجال الدهانات أن يطلي لنا مثل هذه المساحة بلون واحد لا يختلف؟

وإذا أخذنا السماء على أنها كُلُّ ما علاك فأظلَّك، فانظر إلى الشمس والقمر والنجوم والكواكب، وكيف أنها تقوم بأمر الله خالقها على نظام دقيق لا اختلالَ فيه، فلم نَر مثلاً كوكباً اصطدم بآخر، ولا شيئاً منها خرج عن مساره.

وصدق الله تعالى{ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }[الأنبياء: 33] فلكل منها سرعة، ولكل منها مداره الخاص ونظام بحسبان؛ ذلك لأنها تقوم بأمر الله وقدرته تعالى فهي منضبطة تؤدي مهمتها دون خلل، ودون تخلّف.

فمعنى { تَقُومَ... } [الروم: 25] يعني: تظل قائمة على حالها دون فساد، وهو فعل مضارع دالٌّ على استمرار. وحين تتأمل: قبل أن يخترع الإنسان المجاهر والميكروسكوبات لم نكن نرى من المجموعة الشمسية غير الشمس، فلما اخترعوا المجهر رأينا الكواكب الأخرى التي تدور حولها.

والعجيب أنها لا تدور في دوائر متساوية، إنما في شكل إهليلي، يتسع من ناحية، ويضيق من ناحية، وهذه الكواكب لها دورة حول الشمس، ودورة أخرى حول نفسها. فالأرض مثلاً لها مدار حول الشمس ينشأ عنه الفصول الأربعة، ولها دورة حول نفسها ينشأ عنها الليل والنهار، وكل هذه الحركة المركبة تتم بنظام دقيق محكم منضبط غاية الانضباط.

وهذه الكواكب تتفاوت في قُرْبها أو بُعْدها عن الشمس، فأقربها من الشمس عطارد، ثم الزهرة، ثم الأرض، ثم المشتري، ثم المريخ، ثم زحل، ثم أورانوس، ثم نبتون، ثم أبعدها عن الشمس بلوتو. ولكل منها مداره الخاص حول الشمس وتسمى (عام)، ودورة حول نفسه تسمى (يوم).

وعجيب أن يوم الزهرة، وهو ثاني كوكب من الشمس يُقدَّر بـ 44 يوماً من أيام الأرض، في حين أن العام بالنسبة لها يُقدَّر بـ 25 يوماً من أيام الأرض، فالعام أقل من اليوم، كيف؟ قالوا: لأن هذه دورة مستقلة، وهذه دورة مستقلة، فهي سريعة في دورانها حول الشمس، وبطيئة في دورانها حول نفسها.

ولو علمتَ أن في الفضاء وفي كون الله الواسع مليون مجموعة مثل مجموعتنا الشمسية في (سكة التبَّانة)، وهذا كله في المجرة التي نعرفها - لو علمت ذلك لتبيَّن لك عظَم هذا الكون الذي لا نعرف عنه إلا القليل؛ لذلك حين تقرأ:

{ وَالسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ }[الذاريات: 47] فاعلم أنها مسألة لا نهاية لها ولا حدودَ في علمنا وفي عقولنا، لكن لها نهاية عند الله.

ولا أدلَّ على انضباط حركة هذه الكونيات من انضباط موعد الكسوف أو الخسوف الذي يحسبه العلماء فيأتي منضبطاً تماماً، وهم يبنون حساباتهم على حركة الكواكب ودورانها؛ لذلك نقول لمن يكابر حتى الآن ويقول بعدم دوران الأرض: عليك أن تعترف إذن أن هؤلاء الذين يتنبأون بالكسوف والخسوف يعلمون الغيب. فالأقرب - إذن - أن نقول: إنها لله الذي خلقها على هذه الهيئة من الانضباط والدقة، فاجعلها لله بدل أنْ تجعلها للعلماء.

ثم يقول سبحانه: } ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ... { [الروم: 25] معنى } دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ... { [الروم: 25] المراد النفخة الثانية، فالأولى التي يقول الله عنها:{ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ }[يس: 29] والثانية يقول فيها:{ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ }[يس: 53].

فالأولى للموت الكلي، والثانية للبعث الكلي، ولو نظرت إلى هاتين النفختين وما جعل الله فيهما من أسرار تلتقي بما في الحياة الدنيا من أسرار لوجدتَ عجباً.

فكل لحظة من لحظات الزمن يحدث فيها ميلاد، ويحدث فيها موت، فنحن مختلفون في مواليدنا وفي آجالنا، أما في الآخرة فالأمر على الاتفاق، فالذين اختلفوا في المواليد سيتفقون في البعث{ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ }[يس: 53].

والذين اختلفوا في الموت سيتفقون في الخمود:{ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ }[يس: 29] فالميلاد يقابله البعث، والموت يقابله الخمود. إذن: اختلاف هذه يعالج اتفاق هذه، واتفاق هذه يعالج اختلاف هذه؛ لذلك يقول:{ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ... }[التغابن: 9].

والنفخة الثانية يؤديها إسرافيل بأمر الله؛ لأن الحق - سبحانه وتعالى - يزاول أشياء بذاته، ولا نعلم منها إلا أنه سبحانه وتعالى خلق الإنسان وسَّواه بيده، كما قال سبحانه:{ ياإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ... }[ص: 75] أما غير ذلك فهو سبحانه يزاول الأشياء بواسطة خَلْقه في كل مسائل الكونيات.

تأمل مثلاً:{ اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا... }[الزمر: 42] فالمتوفِّي هنا الله عز وجل، وفي موضع آخر:{ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ... }[السجدة: 11] فنقلها إلى ملَك الموت، وفي موضع آخر:{ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا... }[الأنعام: 61] فنقلها إلى رسل الموت من الملائكة، وهم جنود لملَك الموت.

وبيان ذلك أنه سبحانه نسب الموت لنفسه أولاً؛ لأنه صاحب الأمر الأعلى فيه، فيأمر به ملَك الموت، وملَك الموت بدوره يأمر جنوده، إذن: فمردُّها إلى الله.

ثم يقول سبحانه: } إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ { [الروم: 25] أي: حين يسمع الموتى هذه الصيحة يهبُّون جميعاً أحياء، فإذا هنا الفجائية الدالة على الفجأة، وهذا هو الفارق بين ميلاد الدنيا وميلاد الآخرة، ميلاد الدنيا لم يكُنْ فجأة، بل على مهل، فالمرأة قبل أنْ تلد نشاهد حملها عدة أشهر، وتعاني هي آلام الحمل عدة أشهر، فلا فجأة إذن.

(/3359)

وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)

نعرف أن (مَنْ) للعاقل، ولنا أن نسأل: لماذا خصَّ العاقل مع أن لك ما في الكون خاضع لله طائع مُسبِّح يدخل في دائرة القنوت لله؟ قالوا: لأن التمرد لا يأتي إلا من ناحية العقل؛ لذلك بدأ الله به، أما الجماد الذي لا عقلَ له، فأمره يسير حيث لا يتأبَّى منه شيء على الله، لا الجماد ولا الحيوان ولا النبات.

تأمل مثلاً الحمار تُحمِّله القاذورات فيحمل، فإذا رقَّيْته وجعلته مطية للركوب لا يعترض، لا عصى في الأولى، ولا عصى في الأخرى؛ لأنه مُذلَّل لك بتذليل الله، ما ذلَّلته لك بعقلك ولا بقوتك{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ }[يس: 71-72].

وضربنا لذلك مثلاً بالجمل لما ذلَّله الله لك استطاع الغلام الصغير أنْ يقوده ويُنيخه ويركبه ويحمله، أما الثعبان الصغير فيُخيفك رغم صِغَره؛ لأن الله لم يُذلِّله لك.

ونقف هنا عند قوله تعالى { مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... } [الروم: 26] فمن في السماوات نعم هم قانتون لله أي: خاضعون له سبحانه، مطيعون لإرادته لأنهم ملائكة مُكرَّمون{ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }[التحريم: 6].

{ يُسَبِّحُونَ الَّيلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ }[الأنبياء: 20].

فما بال أهل الأرض، وفيهم ملاحدة وكفار ليسوا قانتين، فكيف إذن نفهم { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } [الروم: 26].

قالوا: لأنهم لما تمرَّدوا على الله وكفروا به، أو تمرَّدوا على حكمه فعصَوْه لم يتمردوا بذواتهم، إنما بما خلق الله فيهم من اختيار، ولو أرادهم سبحانه مقهورين ما شذَّ واحد منهم عن مراد ربه، والله عز وجل لا يريد أنْ يحكم الإنسان بقهر القدرة، إنما يريد لعبده أنْ يأتيه طواعية مختاراً، فإمكانه أن يكفر ومع ذلك آمن، وبإمكانه أن يعصي ومع ذلك أطاع.

فلو أرادهم الله مؤمنين ما وجدوا إلى الكفر سبيلاً، ولعصمهم كما عصم الأنبياء، ربك يريدك مؤمناً عن محبة وإخلاص لا عن قهر وغلبة؛ لذلك قال إبليس في جداله:{ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }[ص: 82-83].

فلا قدرة له على عباد الله المخلصين، الذين اختارهم الله لنفسه، ولا سلطانَ له عليهم، فإبليس إذن ليس في معركة مع ربه، إنما في معركة مع الإنسان. وفي موضع آخر قال تعالى:{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ... }[الحجر: 42].

ولما عشق هؤلاء المتمرِّدون على الله التمرد، وأحبوه زادهم الله منه وأعانهم عليه؛ لأنه سبحانه لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، فختم على قلوبهم فلا يدخلها إيمان، ولا يخرج منها كفر، وهو سبحانه الغني عن خَلْقه؛ لذلك لما خلق الجنة خلقها لتتسع للناس جميعاً إنْ آمنوا، ولما خلق النار خلقها لتتسع للناس جميعاً إنْ كفروا، وترك لنا سبحانه الاختيار:

{ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ }[الكهف: 29].

وكأن الحق سبحانه يقول لنا: أنتم أحرار، فأنا مستعد للجزاء على أيِّ حال تسعكم جنتي، إنْ آمنتم جميعاً، ولا تضيق بكم النار إنْ كفرتم جميعاً.

ونقول لمن تمرَّد على الله: ينبغي أن تكون منطقياً مع نفسك، وأن تظل متمرداً على الله في كل شيء ما دمت قد ألفتَ التمرد، فإنْ جاءك المرض تتأبى عليه، وإنْ جاءك الموت ترفضه، فإذا لم تستطع فأنت مقهور لله خاضع له } كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ { [الروم: 26] خاضعون، إما عن اختيار، وإما عن قهر في كل أمر لا اختيار لك فيه، إذن: فأنت قانت رغماً عنك، وقنوتك مع تمرُّدك أبلغ في الشهادة لله.

إذن: فالمؤمن خاضع لله في منطقة الاختيار، وهي الإيمان والتكاليف، وخاضع لله فيما لا اختيار له فيه كالقضاء والأمور الاضطرارية، فهو يستقبلها عن رضا، أما الكافر فهو خاضع لله لا يستطيع الفكاك عن قضائه ولا عن قدره رغماً عنه في الأمور التي لا اختيارَ له فيها، لكنه يستقبلها بالسُّخْط وعدم الرضا، فهو كافر بالله كاره لقضائه.

فنقول لمن تمرد على الله فكفر به، أو تمرَّد على أحكامه فعصاها: ما لكم لا تتمردون على الله فيما يقضيه عليكم من أمور اضطرارية؟ هذا دليل على أنكم اتخذتم الاختيار في غير محلِّه؛ لأن الذي يختار ينبغي أنْ يأخذ الاختيار في كل شيء، لكن أنْ تختار في شيء ولا تختار في شيء آخر، فهذا لا يجوز.

(/3360)

وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)

كثيراً ما يُحدِّثنا القرآن الكريم عن هذه المسألة ويُذكِّرنا بالبدء والإعادة، لماذا؟ يهتم القرآن بهذه المسألة ويؤكد عليها لأنها كانت الأساس في دعوته؛ لأنهم إنْ كانوا يؤمنون بأنهم يرجعون إلى الله لخافوا من عقابه؛ لذلك يؤكد لهم في مواضع كثيرة حتمية الإعادة وأنها حَقٌّ.

قوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ... } [الروم: 27] استُهلَّت الآية بقوله تعالى (وَهُوَ) وفي آية أخرى{ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ... }[الروم: 11] فكأن (هُوَ) مدلولها (الله) وهو كما نعلم ضمير غيبة، والحق سبحانه غَيْب عن الأنظار، ومن عظمته سبحانه أنه غيب، فلو كان مُدْركاً مُحسَّاً ما استحق أنْ يكون إلهاً، وكيف نطمع في إدراكه سبحانه ونحن لا نستطيع أن ندرك بعض مخلوقاته؟

فالمعاني التي خلقها الله لتسوس حركة الحياة: كلمة الحق، العدل، الحق الذي يقف القضاء كله ليؤيده ويُعلنه، والعدل الذي يحكم موازين الحياة؛ ليوازن بين الشهوات وبين الحقائق، هذه المعاني لا تُدرَك بالحواس، فهل رأيتم العدل؟ هل سمعتم العدل؟ هل شممتم العدل؟... الخ.

إذن: فالمعاني العالية لا يمكن أنْ تُدرك لأنها أرفع من الإدراك؛ لأن بها يكون الإدراك، أيكون المخلوق للحق أسمى من أنْ يُدرك، ويكون الحق سبحانه موضعاً للإدراك.

فإذا سمعت (هُوَ) فاعلم أنها لا تنصرف إلا إلى الإله الواحد الذي من عظمته أنه لا يُدرَك{ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ... }[الأنعام: 103].

لذلك نقرأ في سورة الإخلاص{ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }[الإخلاص: 1] فترى أن (الله) لفظ الجلالة، وهو عَلَم على واجب الوجود يأتي بعد (هُوَ) فكأن (هُوَ) أدلُّ على وجود الحق سبحانه من لفظ الجلالة (الله)، فكأنه لا يصح حين يُطلَق ضمير الغيبة (هُوَ) على شيء إلا الله؛ لأنه لا شيء في الكون إلا الله.

وقوله تعالى هنا { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ... } [الروم: 27] بالفعل المضارع الدالّ على الاستمرارية، مع أنه سبحانه بدأ الخَلْق بالفعل{ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ }[الأعراف: 29] فإنْ ذكرت الأولى فقد بدأ الخَلْق، وإن ذكرت الاستمرارية في الإيجاد فهو يبدأ دائماً، وفي كل وقت ترى في خَلْق الله شيئاً جديداً، فالخَلْق لم يأتِ مرة واحدة، ثم توقف، بل بدأ ثم استمر.

ونلحظ أن القرآن يذكر هذه المسألة مرة بالماضي (بَدَأ) ومرة بالمضارع (يَبْدأ)؛ لأن الخالق سبحانه بدأ الخلق فعلاً بخَلْق آدم عليه السلام الإنسان الأول:{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ }[السجدة: 7] ولا يزال سبحانه بقيوميته خالقاً، يبدأ كل يوم وكل لحظة خَلْقاً جديداً نشاهده في الإنسان، وفي الحيوان، وفي النبات.. الخ.

وبالخَلْق المتجدِّد للإنسان، حيث يُولَد كل لحظة مولود جديد نردُّ على الذين يقولون بتناسخ الأرواح - يعني: أن الروح تخرج من جسد فتحلُّ في جسد آخر - وهذا يعني أن تكون المواليد على قدر الوَفيَات، ويعني أن يظل العالم على تعداد واحد دون زيادة، ونحن نرى الآن مدى الكثافة السكانية التي يشكو العالم منها الآن، وهذه تكفي لهدم هذه النظرية.

والحق سبحانه يُحذِّرنا أن نأخذ قصة بَدْء الخلق من غير الخالق سبحانه، فمن الناس مضلون سيضلونكم في هذه المسألة، فلا تُصغْون إليهم؛ لأن الله يقول:{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً }[الكهف: 51].

وقد رأينا من هؤلاء المضلين مَنْ يقول بأن الإنسان أصله قرد متطور إلى إنسان، والردُّ على هذه الضلالات يسير، فإذا كان القرد تطور إلى إنسان، فلماذا لم تتطور باقي القرود؟ ولماذا لم يتطور الإنسان منذ أنْ خُلِق آدم وحتى الآن إلى شيء آخر؟ وكيف نصدق هذه الضلالات، وربنا سبحانه يقول:{ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }[الذاريات: 49].

ويقول سبحانه:{ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَق الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ }[يس: 36] فإياك أنْ تقول: إن شيئاً تطور عن شيء، فكل جنس قائم بذاته منذ خلقه الله.

إذن: احذروا مثل هذه الأقوال، ولا تأخذوا قصة بَدْء الخَلْق إلا من الله وحده.

كلمة } يُعِيدُهُ... { [الروم: 27] أي: إلى الخَلْق فهي بمعنى يخلقه، فالمعنى: يبدأ الخلق ثم يميته ثم يُعيده، البعض يظن أن يعيده يعني يبعثه في الآخرة، لكن الله تعالى يقول:{ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }[الروم: 11] فيعيده غير تُرجعون، ترجعون أي: في القيامة.

وقوله } وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ... { [الروم: 27] أي: على حَسْب فهمكم أنتم للأشياء، وإلا فالله تعالى لا يقال في حقه هذا سهل وهذا أسهل، ولا هيِّن وأهون؛ لأنه سبحانه لا يزاول الأشياء كما نزاولها نحن، ولا يعالج الأفعال، إنما يفعل سبحانه بكُنْ فيكون.

ومن ذلك قوله تعالى لزكريا عليه السلام لما تعجب أن يكون له ولد، وقد بلغ من الكِبَر عتياً وامرأته عاقر:{ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ... }[مريم: 9] ذلك لأن طلاقَة القدرة لا تقف عند أسبابكم. وكذلك قال لمريم:{ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ... }[مريم: 21].

فالأمر عجيب في نظر مريم، أن تأتي بولد بدون زوج؛ لكنه ليس عجيباً في قدرة الله، فإنْ كانت العادة أنْ يأتي الولد بالأسباب فالله سبحانه هو خالق الأسباب، يفعل ما يشاء بدونها.

وسبق أن تحدثنا عن طلاقة قدرة الله في قصة إبراهيم عليه السلام حينما أراد القوم أنْ يحرقوه، فلو كانت المسألة مسألة نجاة إبراهيم من النار ما مكّنهم الله من الإمساك به، أو: حتى إنْ أمسكوه وألقَوْه في النار كان بالإمكان أنْ يُنزِل الله على النار مطراً فتنطفيء.

لكن الحق سبحانه يريد أن يسدَّ على الكافرين منافذ الحِجَاج، ويبطل كفرهم، فهاهم قد ظفروا به وألقَوْه في قَعْر النار، وهي على حال الاشتعال والإحراق، لكنهم غفلوا عن شيء هام، هو أن الله تعالى ربُّ هذه النار وخالقها وخالق قوة الإحراق فيها، وهو وحده القادر على أنْ يسلبها هذه الخاصية، فيلقى فيها نبيه إبراهيم دون أن يحترق.

وهنا تكِمن العظمة وتظهر الحجة{ قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَىا إِبْرَاهِيمَ }[الأنبياء: 69].

ونلحظ فصاحة الأداء في } وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ... { [الروم: 27] فهو أسلوب قَصْر، حيث قدّم المتعلق الذي حقُّه أن يكون مؤخراً، كما في{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ... }[الفاتحة: 5] فقدّم المفعول، ومن حق المفعول أن يُؤخّر عن الفعل والفاعل، وقدَّمه هنا، لنقصر العبادة على الله وحده دون سواه، وحتى لا نعطف على الله تعالى شيئاً، فلو قلت نعبدك لجاز أن تقول: ونعبد غيرك، كذلك هنا } وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ... { [الروم: 27] أفادت تخصيص الخلق لله وحده دون أن نعطف عليه أحداً.

وقوله تعالى } وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ... { [الروم: 27] الحقيقة ليس في الأمور بالنسبة لله تعالى هَيِّن وأهون، إنما في عُرْفنا نحن، وليُقرِّب لنا الحق سبحانه فَهْم المسائل، وإلا فالحق سبحانه لا يعالج الأمور ولا يزاولها كما نعالجها نحن، وإنما يفعل سبحانه بكُنْ فيكون.

لذلك لما نتأمل قَوْل مريم عليها السلام لما بشَّرتها الملائكة بالمسيح قالت:{ رَبِّ أَنَّىا يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ... }[آل عمران: 47] فكيف فهمتْ مريم هذه المسألة، ومَنْ أخبرها بأن الولد سيكون دون أن يمسَّها بشر؟

لقد فهمت مريم هذا من قول الملائكة{ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ... }[آل عمران: 45]. فلو كان له أبٌ لذكرته الملائكة، وما داموا قد نسبوه إلى أمه فلا أب له.

ثم يقول سبحانه: } وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَىا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... { [الروم: 27] له المثل الأعلى يعني: أن الله تعالى لا مثيل له، فإنْ شابهه سبحانه شيء من خَلْقه في صفة من الصفات فخُذْها في إطار التقريب للمعنى، وفي إطار{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ... }[الشورى: 11] فلك وجود لله تعالى وجود، لكن وجودك ليس كوجود الله، أنت حَيٌّ والله حَيٌّ، لكن حياتك ليست كحياته عز وجل.. وهكذا.

وقوله } الْمَثَلُ الأَعْلَىا... { [الروم: 27] نقول: عالٍ وأعلى، فهي أفعل تفضيل بمعنى: الذي لا يُشابه ولا يُضاهي؛ لذلك يقول سبحانه{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ... }[الشورى: 1] فينفي أن يوجد شبيه لمثل الله لا شبيه لله؛ لأن الكاف هنا بمعنى: مثل. فكأنك قلت: ليس مِثْل مِثْله شيء.

وطريقة العرب في الأداء في مسألة المشابهة يقولون: زيد مثل الأسد في الشجاعة، فأنت تريد أن تعطيني صورة لشجاعة زيد، فذكرت أوضح شيء لهذه الصفة وهو الأسد، فهو مُشبَّه به.

إذن: فالأسد أقوى من زيد في هذه الصفة، وإلا لما جعلتَ المشبّه به توضيحاً لما لا تعلم.

فحين تقول:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ.... }[الشورى: 1] تعني: إنْ وُجد مِثْل لله لا يوجد مثل لهذا المثْل، فنفيتَ المثل من باب أَوْلَى؛ لأن الأضعف وهو المثل المشبه أضعف من المشبه به، فإذا كان المثل أضعف من الممثَّل ولا يوجد مثل للأضعف، فكيف يوجد مثل للأقوى؟

وانظر إلى جمال الحق سبحانه حين يُجلِّي للخَلْق مثَلاً في دنياهم، ويجعل من ذاته - سبحانه وتعالى - المماثلة، يقول تعالى ليُقرِّب لأفهامنا كيفية نوره:{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىا نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ... }[النور: 35].

فالله - سبحانه وتعالى - يضرب المثَل لنوره بالمشكاة، السطحيون يظنون أن المشكاة هي المصباح، لكن الله يقول{ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ... }[النور: 35] والمشكاة تجويف في الحائط، مثل الطاقة غير نافذة، فإنْ كانت نافذة نسميها شباكاً، وكانوا في الماضي يضعون المصباح في هذه الفجوة ليضيء الحجرة، والفجوة هذه أو المشكاة تجمع الضوء وتُقوِّيه؛ لذلك يكون الضوء فيها أقوى من ضوء الحجرة، أو: أن المصباح يستوعب المشكاة أكثر من استيعابه للحجرة كلها.

وبتأمل هذا المعنى نرى أن الحق سبحانه لا يضرب لنا مثَلاً لنوره إنما لتنويره، فتنوير الله تعالى مِثْل المشكاة التي فيها المصباح، والمصباح يدلُّ على الرقي في وسائل الإضاءة، فدونه مثلاً الشعلة، وهو فتيل يُوقَد في الهواء ويكون له دخان أسود، أما المصباح فله زجاجة تحجز عنه الهواء إلا بقدر ما يكفي لاحتراق الفتيل، فيأتي الضوء منه صافياً.

ثم هو فضلاً عن ذلك في زجاجة ليست عادية، إنما{ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ... }[النور: 35] أي: مثل الدرة التي تضيء بذاتها، هذا المصباح يُوقَد من شجرة زيتونة معتدلة المزاج{ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ... }[النور: 35] فتصوُّر هذا المصباح في مكان ضيق لا في الحجرة كلها، إنما في المشكاة كيف يكون ضوؤه؟

كذلك تنوير الله - سبحانه وتعالى - للسماوات والأرض على سعتهما، فنوره تعالى يستوعبهما، لا يترك منهما مكاناً مظلماً كالطاقة بالنسبة لهذا المصباح الذي وصفنا.

ولهذا المثل قصة شهيرة في الأدب العربي، فقد فطن إليها أبو تمام في مدحه أحد الخلفاء، وحين أراد أنْ يجمع له مَلَكات العرب ومواهبهم من الجود والشجاعة والحِلْم والذكاء، قال مادحاً:إقْدَامُ عَمْروٍ في سَمَاحَةِ حَاتمٍ وفي حِلْم أحْنفَ في ذَكاءِ إيَاسِوقد اشتهر عمرو بن معدي كرب بالشجاعة والإقدام، واشتهر حاتم الطائي بالكرم، وأحنف بن قيس بالحلم حتى قيل " أحلم العرب " فلا يُغضِبه شيء أبداً، ولا يُخرجه عن حِلْمه، حتى أن جماعة قصدوا أنْ يخرجوه عن حِلْمه، فتكون سابقة لهم فتبعوه في الطريق، وأخذوا يهزءُون به وهو يضحك، حتى قارب من الحي، فنظر إلى هؤلاء الفتية وقال: أيها الفتية، لقد قربنا من الحيِّ، فإنْ كان في جوفكم استهزاء بي فافرغوا منه؛ لأنهم لو ظفروا بكم لقتلوكم.

أما إياس بن معاوية فكان مَضْرب المثَل في الذكاء، وهكذا جمع أبو تمام لممدوحه خلاصة ما تعرفه العرب من مواهب. وهنا قام له واحد من خصومه وقال: أتُشبِّه الخليفة بأجلاف العرب، فمَنْ يكون هؤلاء إذا ما قُورِنوا بأمير المؤمنين؟

وهذا الاعتراض مأخوذ من قول الشاعر:وشَبَّهه المدَّاحُ في البَأْسِ والنَّدَى بمَنْ لوْ رآهُ كانَ أصْغر خَادمِفَفِي جيشه خَمسُونَ ألفاً كَعنترٍ وأَمْضَى وفي خُدَّامهِ ألفُ حاتمِفلما قيل لأبي تمام: كيف تشبه الخليفة بأجلاف العرب أحجم هنيهة ثم رفع رأسه، وقال:لاَ تُنكِروا ضَرْبي لَهُ مَنْ دُونَهُ مثَلاً شَرُوداً في النَّدَى والبَاسفالله قد ضَربَ الأقلَّ لِنُورِه مَثَلاً من المشْكَاةِ والنِّبراسِومع دقَّة الاستشهاد وطرافته إلا أن خصومه اتهموه بأن ذلك ليس ارتجالاً لوقته، إنما هو مُعدٌّ لهذا الموقف سلفاً، وبعض الدارسين للأدب يقول بذلك وقاله لنا مدرس الأدب، لكن يُروَى أنهم لما أخذوا الورقة التي مع أبي تمام لم يجدوا فيها هذه الأبيات، ثم على فرض أن الرجل أعدَّها قبل هذا الموقف فإنها تُحسَب له لا عليه، وتضيف إليه ذكاءً آخر؛ لأنه استدرك على ما يمكن أنْ يُقال فاستعد له.

وكما أن الحق سبحانه وتعالى له المثَل الأعلى في الأرض، فلا مثيلَ له، كذلك له المثل الأعلى في السماء فلا مثيلَ له، مع أن ما في السماء غيب، وهم الملائكة من صفاتهم كذا وكذا، فلله المثَل الأعلى في السماوات.

ثم يقول سبحانه: } وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ { [الروم: 27] أي: أنه سبحانه وتعالى بذاته عزيز لا يُغلب، ومع عزته سبحانه حكيم لا يظلم.

ثم يقول الحق سبحانه: } ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ... {.

(/3361)

ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)

ضَرْب المثل أسلوب من أساليب القرآن للبيان والتوضيح وتقريب المسائل إلى الأفهام، ففي موضع آخر يقول سبحانه:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا.. }[البقرة: 26].

وقال سبحانه:{ ياأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ... }[الحج: 73] فهذا كثير من كتاب الله، والمثَل يُضرب ليُجلِّي حقيقة. والضَّرْب هنا لا يعني إحداث أثر ضار بالمضروب، إنما إحداث أثر نافع إيجابي كما في قوله تعالى:{ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ... }[المزمل: 20].

وقولنا في مسألة سكِّ العملة: ضُرِبَ في كذا، فكأن الضرب يُحدث في المضروب أثراً باقياً، ففي الأرض بإثارة دفائنها واستخراج كنوزها، وفي العملة بتَرْكِ أثر بارز لا تمحوه الأيدي في حركة التداول، وكأن ضَرْب المثَلَ يوضح الشيء الغامض توضيحاً بيِّناً كما تُسَكّ العملة، ويجعل الفكرة في الذهن قائمة واضحة المعالم. وللضرب عناصر ثلاثة: الضارب، والمضروب، والمضروب به.

ويُروى في مجال الأمثال أن رجلاً خرج للصيد معه آلاته: الكنانة وهي جُعْبة السهام، والسهام، والقوس، فلما رأى ظبياً أخذ يُعدّ كنانته وقَوْسه للرمي لكن لم يمهله الظبي وفَرَّ هارباً، فقال له آخر وقد رأى ما كان منه: قبل الرِّماء تُملأ الكنائن، فصارت مثلاً وإن قيل في مناسبة بعينها إلا أنه يُضرَب في كل مناسبة مشابهة، ويقال في أيِّ موضع كما هو وبنفس ألفاظه دون أن نُغيِّر فيه شيئاً.

فمثلاً، حين ترى التلميذ المهمل يذاكر قبيل الامتحان، وحين ترى مَنْ يُقدِم على أمر دون أنْ يُعدّ له عُدَّته لك أنْ تقول: قبل الرِّماء تُملأ الكنائن. إذن: هذه العبارة صار لها مدلولها الواضح، وترسَّخَتْ في الذِّهْن حتى صارتْ مثَلاً يُضرب.

وتقول لمن تسلَّط عليك وادَّعى أنه أقْوى منك: إنْ كنتَ ريحاً فقد لاقيتَ إعصاراً.

والحق سبحانه يضرب لنا المثل للتوضيح ولتقريب المعاني للأفهام؛ لذلك يقول سبحانه:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا... }[البقرة: 26] يقف هنا بعض المتمحكين الذين يحبون أنْ يستدركوا على كلام الله، يقولون: ما دام الله تعالى لا يستحي أنْ يضرب مثلاً بالبعوضة فما فوقها من باب أَوْلى، فلماذا يقول{ فَمَا فَوْقَهَا... }[البقرة: 26].

وهذا يدل على عدم فهمهم للمعنى المراد لله عز وجل، فالمعنى: فما فوقها أي: في الغرابة وفي القلة والصِّغر، لا ما فوقها في الكِبَر.

ومن الأمثلة التي ضربها الله لنا ليوضح لنا قضية التوحيد قوله تعالى:{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }[الزمر: 29]

فالذي يتخذ مع الله إلهاً آخر كالذي يخدم سيدين وليتهما متفقان، إنما متشاكسان مختلفا، فإنْ أرضى أحدهما أسخط الآخر، فهو متعب بينهما، فهل يستوي هذا العبد وعبد آخر يخدم سيداً واحداً؟ كذلك في عبادة الله وحده لا شريك له.

فبالمثال اتضحت القضية، ورسختْ في الأذها؛ لذلك يقول سبحانه: أنا لا أستحي أنْ أضرب الأمثال؛ لأنني أريد أن أوضح لعبادي الحقائق، وأُبيِّن لهم المعاني.

} ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ... { [الروم: 28].

في هذه الآية وبهذا المثَل يؤكد الحق - سبحانه وتعالى - في قمة تربية العقيدة الإيمانية، يؤكد على واحدية الله وعلى أحديته، فالواحدية شيء والأحدية شيء آخر: الواحدية أنه سبحانه واحد لا فرد آخر معه، لكن هذا الفرد الواحد قد يكون في ذاته مُركّباً من أجزاء، فوصف نفسه سبحانه بأنه أحدٌ أي: ليس مُركَّباً من أجزاء. أكَّد الله هذه الحقيقة في قرآنه بالحجج وبالبراهين، وضرب لها المثل. وهنا يضرب لنا مثلاً من أنفسنا ليؤكد على هذه الوحدانية.

وقوله تعالى: } مِّنْ أَنفُسِكُمْ... { [الروم: 28] يعني: ليس بعيداً عنكم، وأقرب شيء للإنسان نفسه، إذن: فأوضح مثَل لما غاب عنك أنْ يكون من نفسك، ومن ذلك قوله تعالى:{ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ... }[التوبة: 128] أي: من جنسكم تعرفون نشأته، وتعرفون خُلُقه وسيرته.

لكن، ما المثَل المراد؟

المثل: } هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ... { [الروم: 28].

يقول سبحانه: أريد أنْ أضرب لكم مثلاً على أن الإله الواحد يجب عقلاً ألاَّ تشركوا به أشياء أخرى، والمثل أنِّي أرزقكم، ومن رزقي لكم مَوَال وعبيد، فهل جئتم للرزق الذي رزقكم الله وللعبيد وقلتم لهم: أنتم شركاء لنا في أموالنا تتصرفون فيها كما نتصرف نحن، ثم جعلتم لهم مطلق الحرية والتصرف، ليكونوا أحراراً أمثالكم تخافونهم في أنْ تتصرفوا دونهم في شيء كخيفتكم أنفسكم؟ هل فعلتم ذلك؟ بل هل تقبلونه على أنفسكم؟ إذن: لماذا تقبلونه في حق الله تعالى وترضَوْن أنْ يشاركه عبيده في مكله؟

إنكم لم تقبلوا ذلك مع مواليكم وهم بشر أمثالكم ملكتموهم بشرع الله فائتمروا بأمركم. هذا معنى } مِّنْ أَنفُسِكُمْ... { [الروم: 28] أي: من البشر، فهم مثلكم في الآدمية، وملكيتكم لهم ليست مُطْلقة، فأنتم تملكون رقابهم، وتملكون حركة حياتهم، لكن لا تملكون مثلاً قتلهم، ولا تملكون منعهم من فضاء الحاجة، لا تملكون قلوبهم وإرادتهم، ثم هو مُلْك قد يفوتك، كأن تبيعه أو تعتقه أو حتى بالموت. ومع ذلك ما اتخذتموهم شركاء، فعَيْب أنْ تجعلوا لله ما تستنكفون منه لأنفسكم.

ونلحظ هنا أن الله تعالى لم يناقشهم في مسألة الشركاء بأسلوب الخبر منه سبحانه، إنما اختار أسلوب الاستفهام وهو أبلغ في تقرير الحقيقة: } هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ... { [الروم: 28].

وأنت لا تعدل عن الخبر إلى الاستفهام عنه إلا وأنت تعلم وتثق بأن الإجابة ستكون في صالحك، فمثلاً حين ينكر شخصٌ جميلَك فتقول مُخبراً: فعلتُ معك كذا وكذا، والخبر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب، وقد ينكر فيقول: لا لم تفعل معي شيئاً.

أما حين تقول مستفهماً: ألم أفعل فعل كذا وكذا؟ فإنك تُلجئه إلى واقع لا يملك إنكاره، ولا يستطيع أنْ يفرّ منه، ولا يملك إلا أنْ يعترف لك بجميلك ولا أقلَّ من أنْ يسكت، والسكوت يعني أن الواقع كما قلت.

لذلك يستفهم الحق سبحانه وهو أعلم بخَلْقه } هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ... { [الروم: 28] لا بدّ أنْ يقولوا: لا ليس لنا شركاء في أموالنا، إذن: لماذا جعلتم لله شركاء؟

وقوله تعالى: } فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ... { [الروم: 28] سبق أنْ تحدثنا في مسألة الرزق وقلنا: إن الله تعالى هو الرازق، ومع ذلك احترم ملكية خَلْقه، واحترم سعيهم: لأنه سبحانه واهب هذا الملك، ولا يعود سبحانه في هبته لخَلْقه؛ لذلك لما أراد أنْ يُحنن قلوب خَلْقه على خَلْقه قال:{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً... }[البقرة: 245] فاعتبر صدقتك على أخيك الفقير قرضاً يردّه إليك مُضَاعفاً.

والرزق لا يقتصر على المال - كما يظن البعض - إنما رزقك كلّ ما انتفعتَ به فهو رزق ينبغي عليك أن تفيض منه على مَنْ يحتاجه، وأن تُعدِّيه إلى مَنْ يفتقده، فالقويُّ رزقه القوة يُعدِّيها للضعيف، والعالم رزقه العلم يُعدِّيه للجاهل، والحليم رزقه حلْم يُعدِّيه للغضوب وهكذا، وإلا فالمال أهون ألوان الرزق؛ لأن الفقير الذي لا يملك مالاً ولم يتصدق أحد عليه قصارى ما يحدث له أن يجوع ويُباح له في هذه الحالة أنْ يسأل الناس، وما رأينا أحداً مات جوعاً.

لكن ينبغي على الفقير إنْ ألجأتْه الحاجة للسؤال أنْ يسأل بتلطُّف ولين، فإنْ كان جائعاً لا يسأل الناس مالاً إنما لقمة عيش وقطعة جبن أو ما تيسَّر من الطعام ليسُدّ جَوْعته، وسائل الطعام لا يكذبه أحد لأنه لا سأل إلا عن جوع، حتى لو سألك وهو شبعان فأعطيتَه ما استطاع أنْ يأكل، أما سائل المال فقد نظن فيه الطمع وقصد الادخار. إذن: أفضح سؤال سؤال القوت.

لذلك في قصة الخضر وموسى عليهما السلام:{ فَانطَلَقَا حَتَّىا إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا.. }[الكهف: 77] فلما منعوهم حتى لقمة العيش استحقُّوا أنْ يوصفوا بألأَم الناسِ، وقد أباح الشرع للجائع أن يسأل الطعام من اللئيم فإن منعه فللجائع أن يأخذه ولو بالقوة، وإذا رفع أمره إلى القاضي أيَّده القاضي، لذلك يقولون فيه: طالب قُوتٍ ما تعدَّى.

والحق سبحانه تكفَّل لك برزقك، إنما جعل للرزق أسباباً وكل ما عليك أنْ تأخذ بهذه الأسباب ثم لا تشغل بالك هماً في موضوعه، وإيالك أن تظن أن السَّعْي هو مصدر الرزق، فالسعي سبب، والرزق من الله، وما عليك إلا أنْ تتحرى الأسباب، فإنْ أبطأ رزقك فأرحْ نفسك؛ لأنك لا تعرف عنوانه، أمّا هو فيعرف عنوانك وسوف يَأتيك يطرق عليك الباب.

والذي يُتعب الناس أنْ يظل الواحد منهم مهموماً لأمر الرزق مُفكِّراً فيه، ولو علم أن الذي خلقه واستدعاه للوجود قد تكفَّل برزقه لاستراح، فإنْ أخطأت أسباب الرزق في ناحية اطمئن فسوف يأتيك من ناحية أخرى.

ونذكر هنا قصة عروة بن أذينة وكان صديقاً لهشام بن عبد الملك بالمدينة قبل أنْ يتولى هشامٌ الخلافة، فلما أصبح هشام أميراً للمؤمنين انتقل إلى دمشق بالشام، أما عروة فقد أصابته فاقة، فلما ضاق به الحال تذكّر صداقته القديمة لهشام، وما كان بينهما من وُدٍّ، فقصده في دمشق علَّه يُفرِّج ضائقته.

جاء عروة إلى دمشق واستأذن على الخليفة فأذن له، فدخل وعرض على صاحبه حاجته وكله أمل في أنْ ينصفه ويجبر خاطره، لكن هشاماً لم يكن مُوفّقاً في الردِّ على صديقه حيث قال: أتيتَ من المدينة تسألني حاجتك وأنت القائل:لَقد عَلمْتِ ومَا الإِسْرافُ مِنْ خُلُقي أنَّ الذي هُو رِزْقي سوفَ يَأْتِينيفقال عروة بعد أن كسر صديقه بخاطره: جزاك الله عني خيراً يا أمير المؤمنين، لقد نبَّهتَ مني غافلاً، وذكَّرتَ مني ناسياً، ثم استدار وخرج.

وعندها أدار هشام الأمر في نفسه وتذكّر ما كان لعروة من وُدٍّ وصداقة، وشعر بأنه أساء إليه فأنَّبه ضميره، فاستدعى صاحب الخزانة، وأمر لعروة بعطية كبيرة، وأرسل بها مَنْ يلحق به.

لكن كلما وصل الرسول إلى (محطة) وجد عروة قد فارقها حتى وصل إلى المدينة، ودقَّ على عروة بابه، وكان الرسول لَبِقاً، فلما فتح عروة الباب قال: ما بكم؟ قال: رسل هشام، وتلك صِلَة هشام لك لم يَرْضَ أنْ تحملها أنت خوفاً عليك من قُطاع الطريق، أو تحمل مؤونة حَمْلها، فأرسلنا بها إليك.

فقال عروة: جزى الله أمير المؤمنين خيراً، قولوا له لقد ذكرت البيت الأول، ولو ذكرت الثاني لأرحتَ واسترحتَ، لقد قلت:لَقد عَلمْتِ ومَا الإِسْرافُ مِنْ خُلُقي أنَّ الذي هُو رِزْقي سوفَ يَأْتِينيأَسْعى إِليْهِ فَيْعْييني تطلبّه ولَوْ قَعَدْتُ أتَاني لا يُعنِّينَيثم يقول سبحانه بعد هذا المثل: } كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ { [الروم: 28] أي: نُبيِّنها إلا إليها، ومعنى } يَعْقِلُونَ { [الروم: 28] من العقل، وسُمِّي عقلاً؛ لأنه يعقل صاحبه ويقيده عما لا يليق.

والبعض يظن أن العقل إنما جُعل لترتع به في خواطرك، إنما هو جاء ليقيد هذه الخواطر، ويضبط السلوك، يقول لك: اعقل خواطرك وادرسها لا تنطلق فيها على هواك تفعل ما تحب، بل تفعل ما يصح وتقول ما ينبغي. إذن: ما قصَّرنا في البيان ولا في التوضيح.

ويتجلَّى دور العقل المجرد وموافقته حتى للوحي في سيرة الفاروق عمر رضي الله عنه، وفي وجود رسول الله، وهو ينزل عليه الوحي يأتي عمر ويشير على رسول الله بأمور، فينزل الوحي موافقاً لرأي عمر، وكأن الحق - تبارك وتعالى - يلفت أنظارنا إلى أن العقل الفطري إذا فكَّر في أمر بعيداً عن الهوى لا بُدَّ أنْ يصل إلى الصواب وأنْ يوافق حقائق الدين، أمّا إنْ تدخَّل الهوى فسد الفكر.

وقوله تعالى } كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ { [الروم: 28] العقل وسيلة من وسائل الإدراك في الإنسان؛ لأن الله تعالى قال:{ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }[النحل: 78].

لكن، كيف تُربَّى الأمور العقلية في الناس؟ تُربَّى عن طريق الحواس والإدراك، فالعين ترى، والأذن تسمع، واللسان يتذوق، واليد تلمس، والأنف يشمُّ، إلى آخر الحواس التي توصلنا إليها كحاسة البين، وحاسة العضل وغيرها.

لذلك احتاط العلماء في تسمية الحواس فقالوا " الحواس الخمس الظاهرة " ليدعوا المجال مفتوحاً لحواس أخرى، فهذه الوسائل تدرك المعلومات وتنقلها إلى العقل ليراجعها وينتهي فيها إلى قضايا يجعلها دستوراً لحياته، فأنت تأكل مثلاً العسل فتدرك حلاوته، وتأكل الجبن فتدرك ملوحته، فتتكون لديك قضية عقلية أن هذا حلو، وهذا مالح.. إلخ.

وحين تستقر هذه القضايا في القلب تصير عقيدة لا تخرج للتفكير مرة أخرى، ولا تمر على العقل بعد ذلك، فقد انعقد عليها الفؤاد، وترسختْ في الذهن.

ودَوْر العقل أن يعقل هذه القضايا، وأنْ يختار بين البدائل، والأمر الذي لا بديلَ له لا عملَ للعقل فيه، فلو أنك مثلاً ستذهب إلى مكان ليس له إلا طريق واحد فلا مجال للتكفير فيه، لكن إنْ كان لهذا المكان أكثر من طريق فللعقل أنْ يفاضل بينها ويختار الأنسب منها فيسلكه.

وما دام العقل هو الذي يختار فهو الميزان الذي تَزِن به الأشياء، وتحكم به القضايا؛ لذلك لا بُدَّ له أنْ يكون سليماً لتأتي نتائجه كذلك سليمة وموضوعية، ومعلوم أن الميزان يختلف باختلاف الموزون وأهميته.

والحق سبحانه يعطينا مثالاً لدقة الميزان في الشمس والقمر، فيقول{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ }[الرحمن: 5] أي: بحساب دقيق، ولولا الدقة فيهما ما أخذناهما ميزاناً للوقت، فبالشمس نعرف الليل والنهار، وبالقمر نعرف الشهور.

فحين يقول سبحانه } كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ { [الروم: 28] يعني: أننا عملنا ما علينا من التفصيل والبيان، وتوضيح الحجج والبراهين، ولكن أنتم الذين لا تعقلون.

ولما كان العقل هو آلة الاختيار بين البدائل وآلة التمييز أعفى الحق سبحانه مَنْ لا عقل له من التكاليف، أعفى الطفل الصغير الذي لم يبلغ؛ لأن عقله لم ينضج بعد، ولأن حواسّه لم تكتمل.

وتتجلى حكمة الشارع في قول النبي صلى الله عليه وسلم " مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر " فجعل من ضمن تكليف الآباء أنْ يُكلِّفوا هم الأبناء في هذه السنِّ، لتكون لهم دُرْبة على طاعة الأمر والنهي في وقت ليس عليهم تكليف مباشر من الله تعالى.

فإذا كبر الصغير يستقبل تكليفي كما استقبل تكليفك أولاً، وربُّك ما افتات عليك في هذه المسألة، فأعطاك حق التكليف بالصلاة، وأعطاك حق أنْ تعاقبه إنْ قصَّر، فأنت الذي تُكلِّف، وأنت الذي تعاقب.

وأعفى المجنون لأن آلة الاختيار عنده غير سليمة وغير صالحة، وقلنا: إن علامة النضج في الإنسان أن يصير قادراً على إنجاب مثله، ومثَّلْنا لذلك بالثمرة التي لا تحلو إلا بعد نضجها، بحيث إذا أكلت زرعتَ بذرتها، فأنبتت ثمرة جديدة، وهكذا يحدث بقاء النوع وتستمر الدورة.

فربك لا يريد أن تأكل أكلة واحدة، ثم تُحرم أو يُحرم مَنْ يأتي بعدك، إنما يريد أنْ تأكل ويأكل كل مَنْ يأتي بعدك، فلا تأخذ الثمرةُ حلاوتها إلا بعد نُضْج بذرتها، وصلاحيتها للإنبات.

وقوله تعالى: } لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ { [الروم: 28] يدل على أن الذين يتخذون مع الله شركاء غير عاقلين، وإلا فما معنى عبادة الأصنام أو الأشجار أو الشمس أو القمر؟ وقد قالوا بألسنتهم:{ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى... }[الزمر: 3].

فما هي العبادة؟ العبادة طاعة العابد لأمر المعبود ونَهْيه، إذن: بماذا أمرَتْكُم هذه الآلهة؟ وعَمَّ نهتْكُم؟ ما المنهج الذي وضعتْه لكم؟ ماذا أعدتْ لمن أطاعها من النعيم؟ وماذا أعدتْ لمن عصاها من العذاب؟ لا شيء إلا أنها آلهة بدون تكاليف، وما أيسرَ أنْ يعبد الإنسانُ إلهاً لا تكاليف له، لا يُقيدك فيما تحب من شهوات، ولا يُحمِّلك مشقة العبادة، وهنا يتضح عدم العقل.

وأيضاً عدم العقل في ماذا؟ الله خلقك في كون فيه أجناس، والأجناس تحكمها سلسلة الارتقاء، فجنس أعلى من جنس، والجنس الأعلى في خدمة الجنس الأقل.

ولو استقرأتَ أجناس الوجود تجد أن معك أيها الإنسان جنساً آخر يشاركك الحسَّ والحركة، لكن ليس له عقل واختيار بين البدائل؛ لأنه محكوم بالغريزة منضبط بها، وهذا هو الحيوان الذي لا ينفكُّ عن الغريزة أبداً.

وسبق أنْ ضربنا مثلاً لذلك بالغريزة الجنسية عند الإنسان وعند الحيوان، وأن الله تعالى إنما جعلها لتكاثر وحِفْظ النوع، فالحيوان المحكوم بالغريزة يؤدي هذه المهمة للتكاثر ويقف بها عند حدِّها، فإذا لقَّح الذكر الأنثى يستحيل أنْ تمكِّنه من نفسها بعد ذلك، وهو أيضاً يشمُّ رائحة الأنثى، فإنْ كانت حاملاً ينصرف عنها.

أما الإنسان فغير ذلك؛ لأن له شهوة تتحكم فيه، فالمرأة تتحمل مشقة الحمل وألم الولادة، ثم تربية المولود إلى أنْ يكبر، ولولا أن الله تعالى ربط حِفْظ النوع في الإنسان بشهوة هي أعنف شهوات النفس ما أقدمتْ المرأة على الحمل مرة أخرى.

وما قُلْناه في غريزة الجنس نقوله في الطعام والشراب، الحيوان محكوم فيها بالغريزة المطلقة التي لا دَخْلَ للهوى فيها، فإذا شبع لا يأكل مهما حاولتَ معه، بل ونرى الحمار الذي نقول عنه إنه حمار لا يأكل عوداً واحداً بعد شِبَعه، ويمر على النعناع الأخضر مثلاً أو على الملوخية فلا يأكلها، ويذهب إلى الحشائش اليابسة، فهو يعرف طعامه بالغريزة التي جعلها الله فيه.

أما الإنسان فيأكل حتى التُّخْمة، ثم لا ينسى بعد ذلك الحلو والبارد والمهضم.. الخ ذلك؛ لأنه أسير لشهوة بطنه، حتى إن من الناس مَنْ يغضب؛ لأنه شبع فهو يريد ألاَّ يفارق المائدة.

وقد حدثنا رجال حديقة الحيوان بعد زلزال 1992 أنهم شاهدوا هياجاً في الحيوانات المحبوسة في الأقفاص قبل حدوث الزلزال، كان أولها الوطواط، ثم الزرافة، ثم التمساح، ثم القرود، ثم الحمير، وكأنهم يريدون تحطيم الأقفاص والخروج منها، بعدها حدث الزلزال.

وكذلك ما شاهده أهل أغادير بالدار البيضاء قبل الزلزال الذي وقع بها، حيث شاهدوا الحمير تفك قيودها، وتفرّ هاربة إلى الخلاء، وبعدها وقع الزلزال. إذن: لدى هذه الحيوانات استشعار بالزلزال قبل أن يقع.

وقد أعطانا الحق - سبحانه وتعالى - مثالاً لهذه الغريزة في قصة الغراب الذي علَّم الإنسان كيف يُواري الميت، فقال تعالى في قصة وَلَدَيْ آدم:{ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ... }[المائدة: 31].

نعود إلى حديثنا عن أجناس الكون لبيان عدم عَقْل هؤلاء الذين جعلوا لله شركاء، فأجناس الوجود: الإنسان، ثم الحيوان، ثم النبات، ففيه حياة ونمو، ثم الجماد أقل الموجودات درجة، وهو خادم للنبات وللحيوان وللإنسان، فكل جنس من هذه يخدم الجنس الأعلى منه.

فماذا فعل الكفار حينما عبدوا الأصنام؟ جعلوا الجماد الذي هو أدنى المخلوقات أرقاها وأعظمها، جعلوه إلهاً يُعْبد، وهل هناك أقلّ عقلاً من هؤلاء؟

لذلك يقول الحق سبحانه: } بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ... {.

(/3362)

بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)

اتبعوا اهواءهم: لأنهم اختاروا عبادة مَنْ لا منهجَ له ولا تكليف، عبدا إلهاً لا أمر له ولا نهي، لا يرتب على التقصير عقوبة، ولا على العمل ثواباً، وهذا كله من وحي الهوى الذي اتبعوه.

إياك أن تُقدِّم الهوى على العقل؛ لأنك حين تُقدِّم الهوى يصير العقل عقلاً تبريرياً، يحاول أنْ يعطيك ما تريد بصرف النظر عن عاقبته، لكن بالعقل أولاً حدِّد الهوى، ثم اجعل حركة حياتك تبعاً له.

والبعض يظن أن الهوى شيء مذموم على إطلاقه، لكن الهوى الواحد غير مذموم، أما المذموم فهي الأهواء المتعددة المتضاربة؛ لأن الهوى الواحد في القلب يُجنِّد القالب كله لخدمة هذا الهوى، فحين يكون هواى أنْ أذهب إلى مكان كذا، فإن القالب يسعى ويخطط لهذه الغاية، فيحدد الطريق، ويُعد الزاد، ويأخذ بأسباب الوصول.

وهذا الهوى هو المعنىّ في الحديث الشريف: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع أن يكون للإنسان هوى تميل إليه نفسه وتحبه؛ لأن ذلك الهوى يُعينه على الجهاد والكفاح في حركة الحياة.

أما حين تتعدد الأهواء فَلَك محبوب، ولي محبوب آخر، فإنها لا شكَّ تتعارض وتتعاند، والله تعالى يريد من المجتمع الإيماني أن تتساند كل أهوائه، وأن تتعاضد لا تتعارض، وأن تتضافر لا تتضارب؛ لأن تضارب الأهواء يُبدِّد حركة الحياة ويضيع ثمرتها.

أمّا إنْ كان هواي هو هواك، وهو هوى ليس بشرياً، إنما هوى رسمه لنا الخالق - عز وجل - فسوف نتفق فيه، وتثمر حركة حياتنا من خلاله{ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }[الملك: 14].

وسبق أنْ قُلْنا: إن صاحب الصَّنْعة في الدنيا يجعل معها كتالوجاً يُبيِّن طريقة صيانتها، والحق - سبحانه وتعالى - هو الذي خلقك، وهو الذي يُحدِّد لك هواك، وأول فشل في الكون أن الناس المخلوقين لله يريدون أنْ يضعوا للبشر قانون صيانتهم من عند أنفسهم.

ونقول: هذا لا يصح؛ لأن الذي يُقنِّن ويضع للناس ما يصونهم ينبغي أن تتوفر فيه شروط: أولها: أن يكون على علم محيط لا يستدرك عليه، وأنت أيها الإنسان عِلْمك محدود كثيراً ما تستدرك أنت عليه بعد حين، ويتبين لك عدم مناسبته وعدم صلاحيته.

بل وتبين أنت بنفسك فساد رأيك فترجع عنه إلى غيره، كما يجب على مَنْ يشرِّع للناس الهوى الوحد أن يكونوا جميعاً بالنسبة له سواء، وألا ينتفع هو بما يشرِّع، وإلا لو كانت له منفعة فإنه سوف يميل إلى ما ينفعه، فلا يكون موضوعياً كما رأينا في الشيوعية وفي الرأسمالية وغيرها من المذاهب البشرية.

والحق - سبحانه وتعالى - هو وحده الذي لا يُستْدرك عليه؛ لأن علمه محيط بكل شيء لا تخْفى عليه خافية، والخَلْق جميعاً الذين يشرع لهم أمامه سواء، وكلهم عباده، لا يحابي منهم أحداً، ولا يميز أحداً على أحد، وليس له سبحانه من خَلْقه صاحبة ولا ولد.

لذلك يطمئننا سبحانه بقوله:{ وَأَنَّهُ تَعَالَىا جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً }[الجن: 3].

وكأن الله تعالى يقول: اطمئنوا، فربّكم ليس له صاحبة تُؤثِّر عليه، ولا ولد يُحابيه، فالصاحبة والولد نقطة الضعف، وسبب الميْل في مسألة التشريع.

وكذلك هو سبحانه لا ينتفع بما يُشرِّعه لنا، لأنه سبحانه خلقنا بقدرته، وهو الغني عنَّا لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصي، إذن: فهو سبحانه وحده المستكمل لشروط التشريع، والمستحق لها سبحانه، وبيان الهوى الواحد الذي يجتمع عليه كل الخَلْق.

وسبق أن ذكرنا في مسألة التشريع أنه لا ينبغي أن تنظر إلى ما أُخِذ منك، بل قارن بين ما أخذتَ وما أعطيتَ، فالذي منعك أنْ تعتدي على الآخرين وأنت فرد واحد منع الخَلْق جميعاً أنْ يعتدوا عليك، فالتشريع إذن في صالحك أنت.

إذن: لو عقلنا لأخذنا هوانا الواحد من إله واحد هو الله - عز وجل - لكن الخيبة أنهم ما استمعوا هذا الكلام وما عقلوه.

} بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ... { [الروم: 29] ظلموا لأنهم عزلوا الهوى الواحد، ونَحَّوه جانباً، وأخذوا أهواءً شتى تعارضتْ وتضاربت، فلم يصلوا منها إلى نتيجة.

وما ظلموا بالشرك إلا أنفسهم، والله تعالى يقول:{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }[لقمان: 13] ظلموا أنفسهم حينما أعطوها شهوة عاجلة ولذة فانية، وغفلوا عن عاقبة ذلك، فهم إما كارهون لأنفسهم، أو يحبونها حباً أحمق، وهذه آفة الهوى حينما يسبق العقل ويتحكم فيه.

وقوله تعالى: } بِغَيْرِ عِلْمٍ... { [الروم: 29] أولاً: ما هو العلم؟ في الكون قضايا نجزم بها، فإنْ كان ما نجزم به مطابقاً للواقع ونستطيع أن ندلل عليه - كما نُعلِّم مثلاً الولد الصغير: الله أحد، فإن استطاع أن يدلل عليها فهي عِلْم، وإنْ لم يستطع فهي تقليد.

وكمن يقول مثلاً: الأرض كروية وهي فعلاً كذلك، أما مَنْ يكابر حتى الآن ويقول ليست كروية، والواقع أنها كروية، فهذا جهل.

إذن: نقول ليس الجهل ألاَّ تعلم، إنما الجهل أنْ تععلم قضية على خلاف الواقع؛ لذلك نُفرِّق بين الجاهل والأمي: الأمي خالي الذِّهْن ليست لديه قضية من أساسه، فإنْ أخبرته بقضية أخذها منك دون عناد، ودون مكابرة أمّا الجاهل فعنده قضية خاطئة معاندة، فيحتاج منك أولاً لأنْ تُخرِج القضية الفاسدة لتُلِقي إليه بالقضية الصحيحة.

فإنْ كانت القضية لا تصل إلى مرتبة أنْ نجزم بها، فتنظر: إنْ تساوي الإثبات فيها مع النفي فهي الشك، إذن: فالشكُّ قضية غير مجزوم بها يستوي فيها الإثبات والنفي، فإنْ غلَّبْتَ جانب الإثبات ورجَّحته فهو ظن، أما إنْ غلَّبت جانب النفي فهو وهم.

فعندنا - إذن - من أنواع القضايا: علم، وجهل وتقليد، وظن، ووَهْم.

فالحق سبحانه يريد الهوى الذي تخدمه حركة حياتنا هوى عن علم وعن قضية مجزوم بها، مطابقة للواقع، وعليها دليل، لكن ما دام هؤلاء قد اتبعوا أهواءهم المتفرقة، وأخذوها بدون أصولها من العلم، فسوف أكمل لهم ما أرادوا وأعينهم على ما أحبُّوا } فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ... { [الروم: 29] فقد ألغواْ عقولهم وعطَّلوها وعشقوا الكفر بعد ما سُقْنا لهم الأدلة والبراهين.

إذن: لم يَبْقَ إلا أنْ أعينكم على ما تعتقدون، وأنْ أساعدكم عليه، فأختم على قلوبكم، فلا يدخلها إيمان ولا يفارقها كفر، لأنني رب أعين عبدي على ما يريد. وهكذا يُضل الله هؤلاء، بمعنى: يعينهم على ما هم عليه من الضلال بعد أنْ عَشِقَوه، كما قال سبحانه:{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَىا قُلُوبِهمْ وَعَلَىا سَمْعِهِمْ وَعَلَىا أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ }[البقرة: 7].

لذلك نحذر الذين يصابون بمصيبة، ثم لا يَسْلُون، ولا ينسون، ويلازمون الحزن، نحذرهم ونقول لهم: لا تدعوا باب الحزن مفتوحاً، وأغلقوه بمسامير الرضا، وإلا تتابعتْ عليكم الأحزان؛ لأن الله تعالى رب يُعين عبده على ما يحب، حتى الساخط على قدره تعالى.

فالمعنى } فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ... { [الروم: 29] يعني: مَنْ ينقذه؟ ومَنْ يضع له قانون صيانته إنْ تخلَّى عنه ربه وتركه يفعل ما بدا له؟ لا أحد. وأنت إذا نصحتَ صاحبك وكررتَ له النصْح فلم يُطعْك تتخلى عنه، بل إن أحد الحكماء يقول: انصح صاحبك من الصبح إلى الظهر، ومن الظهر إلى العصر، فإنْ لم يطاوعك ضلّله - أو أكمل له بقية النهار غِشّاً.

وسبق أن تحدثنا عن الطريقة الصحيحة في بحث القضايا لتصل إلى الحكم الصائب فيها، فلا تدخل إلى العلم بهوى سابق، بل أخرج كل ما في قلبك يؤيد هذه القضية أو يعارضها، ثم ابحث القضية بموضوعية، فما تقتنع به الموازين العقلية وتُرجِّحه أدخله إلى قلبك.

والذي يُتعب الناس الآن أن نناقش قضية الإسلام مثلاً وفي القلب مَيْل للشيوعية مثلاً، فننتهي إلى نتيجة غير سليمة.

ثم يقول سبحانه: } وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ { [الروم: 29] يعني: يا ليت لهم مَنْ ينقذهم إنْ أضلَّهم الله فختم على قلوبهم، فلا يدخلها إيمان، ولا يخرج منها كفر، فليس لهم من الله نصير ينصرهم، ولا مجير يجيرهم من الله، وهو سبحانه يجير ولا يُجَار عليه.

ثم يقول الحق سبحانه: } فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ... {.

(/3363)

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)

الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، ما دام الأمر كذلك، وما داموا قد اتبعوا أهواءهم وضلوا، وأصروا على ضلالهم، فدَعْك منهم ولا تتأثر بإعراضهم.

كما قال له ربه:{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ }[الشعراء: 3] وقال له:{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىا آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـاذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً }[الكهف: 6].

فما عليك يا محمد إلا البلاغ، واتركهم لي، وإياك أن يؤثر فيك عنادهم، أو يحزنك أن يأتمروا بك، أو يكيدوا لك، فقد سبق القول مني أنهم لن ينتصروا عليك، بل ستنتصر عليهم.

وهذه قضية قرآنية أقولها، وتُسجَّل عليّ:{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }[الصافات: 171-173].

{ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ... }[الحج: 40].

{ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ... }[محمد: 7].

هذه قضية قرآنية مُسلَّم بها ومفروغ منها، وهي على ألسنتنا وفي قلوبنا، فإنْ جاء واقعنا مخالفاً لهذه القضية، فقد سبق أنْ أكدها واقع الأمم السابقة، وسيحدث معك مثل ذلك؛ لذلك يُطمئن الحق نبيه صلى الله عليه وسلم:{ فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ }[غافر: 77].

فهنا { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً... } [الروم: 30] أي: دعْكَ من هؤلاء الضالين، وتفرَّغ لمهمتك في الدعوة إلى الله، وإياك أنْ يشغلوك عن دعوتك.

ومعنى إقامة الوجه للدين يعني: اجعل وجهْتك لربك وحده، ولا تلتفت عنه يميناً ولا شمالاً، وذكر الوجه خاصة وهو يعني الذات كلها؛ لأن الوجه سِمة الإقبال.

ومنه قوله سبحانه:{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ... }[القصص: 88] يعني: ذاته تعالى.

ومعنى { حَنِيفاً... } [الروم: 30] هذه الكلمة من الكلمات التي أثارت تذبذباً عند الذين يحاولون أنْ يستدركوا على كلام الله؛ لأن معنى الحنيف: مائل الساقين فترى في رِجلْه انحناء للداخل، يقال: في قدمه حنف أي ميل، فالمعنى: فأقم وجهك للدين مائلاً، نعم هكذا المعنى، لكن مائلاً عن أيِّ شيء؟

لا بُدَّ أن تفهم المعنى هنا، حتى لا تتهم أسلوب القرآن، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء ليصلح مجتمعاً فاسداً منحرفاً يدين بالشرك والوثنية، فالمعنى: مائلاً عن هذا الفساد، ومائلاً عن هذا الشرك، وهذه الوثنية التي جئت لهدمها والقضاء عليها، ومعنى: مال عن الباطل. يعني: ذهب إلى الحق.

و (أَقِمْ) هنا بمعنى: أقيموا، لأن خطاب الرسول خطاب لأمته، بدليل أنه سبحانه سيقول في الآية بعدها:{ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ... }[الروم: 31] ولو كان الأمر له وحده لَقالَ منيباً إليه، ومثال ذلك أيضاً قوله تعالى:{ ياأيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ... }[الطلاق: 1].

فالخطاب للأمة كلها في شخص رسول الله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هو المبلِّغ، والمبلِّغ هو الذي يتلقى الأمر، ويقتنع به أولاً ليستطيع أنْ يُبلِّغه؛ لذلك قال الحق سبحانه وتعالى:{ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ... }

[الأحزاب: 21].

وقال } حَنِيفاً... { [الروم: 30] لأن الرسل لا تأتي إلا على فساد شمل الناس جميعاً؛ لأن الحق سبحانه كما خلق في الجسم مناعة مادية خلق فيه مناعة قيمية، فالإنسان تُحدِّثه نفسه بشهوة وتغلبه عليها، فيقع فيها، لكن ساعة ينتهي منها يندم عليها ويُؤنِّبه ضميره، فيبكي على ما كان منه، وربما يكره من أعانه على المعصية.

وهذه هي النفس اللوامة، وهي علامة وجود الخير في الإنسان، وهذه هي المناعة الذاتية التي تصدر من الذات.

وفَرْق بين مَنْ تنزل عليه المعصية وتعترض طريقه، ومَنْ يُرتِّب لها ويسعى إليها، وهذا بيِّن في قوله تعالى:{ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ... }[النساء: 17].

فَرْق بين مَنْ يذهب إلى باريس لطلب العلم، فتعترض طريقه إحدى الفتيات، ومَنْ يذهب إلى باريس لأنه سمع عما فيها من إغراء، فهذا وقع في المعصية رغماً عنه، ودون ترتيب لها، وهذا قصدها وسعى إليها، الأول غالباً ما يُؤنِّب نفسه وتتحرك بداخله النفس اللوامة والمناعة الذاتية، أما الآخر فقد ألِفَتْ نفسه المعصية واستشرتْ فيها، فلا بُدَّ أن تكون له مناعة، ليست من ذاته، بل من المجتمع المحيط به، على المجتمع أن يمنعه، وأن يضرب على يديه.

والمناعة في المجتمع لا تعني أن يكون مجتمعاً مثالياً لا يعرف المعصية، بل تحدث منه المعاصي، لكنها مُفرّقة على أهواء الناس، فهذا يميل إلى السرقة، وهذا يميل إلى النظر إلى المحرمات، وهذا يحب كذا.. إلخ.

إذن: ففي الناس مواطن القوة، ومواطن ضعف، وعلى القوي في شيء أن يمنع الضعيف فيه، وأنْ يزجره ويُقومِّه؛ لذلك يقول تعالى:{ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ }[العصر: 1-3].

فإذا عَمَّ الفساد وطَمَّ كما قال تعالى عن اليهود:{ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ... }[المائدة: 79] وفقد المجتمع أيضاً مناعته. فلا بُدَّ أنْ تتدخل السماء برسول جديد ومعجزة جديدة، لينقذ هؤلاء.

ثم يقول تعالى: } فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا... { [الروم: 30] فنحن نرى البشر يتخذون الطعوم والأمصال للتحصين من الأمراض، كذلك الحق سبحانه - وله المثل الأعلى - جعل هذا المصل التطعيمي في كل نفس بشرية، حتى في التكوين المادي.

ألا ترى قوله تعالى في تكوين الإنسان:{ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ... }[الحج: 5].

فالمخلَّقة هي التي تكوّن الأعضاء، وغير المُخلَّقة هي الرصيد المختزن في الجسم، وبه يعوَّض أيّ خلل في الأعضاء المخلَّقة، فهي التي تمده بما يصلحه، كذلك في القيم جاء دين الله فطرت الله التي فطر الناس عليها، فإذا تدخلتْ الأهواء وحدثتْ الغفلة جاءتْ المناعة، إما من ذات النفس، وإما من المجتمع، وإما برسول ومنهج جديد.

وقد كرَّم الله أمة محمد بأن يكون رسولُها خاتَم الرسل، فهذه بُشْرى لنا بأن الخير باقٍ فينا، ولا يزال في يوم القيامة، ولن يفسد مجتمع المسلمين أبداً بحيث يفقد كله هذه المناعة، فإذا فسدتْ فيه طائفة وجدت أخرى تُقوِّمها، وهذا واضح في قول النبي صلى الله عليه وسلم.

" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ".

وقال صلى الله عليه وسلم: " الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة ".

وإلا لو عَمَّ الفساد هذه الأمة لاقتضى الأمر شيئاً آخر.

وحين نقرأ الآية نجد أن كلمة } فِطْرَتَ... { [الروم: 30] منصوبة، ولم يتقدم عليها ما ينصبها، فلماذا نُصِِبَتْ؟ الأسلوب هنا يريد أن يلفتك لسبب النصب، وللفعل المحذوف هنا، لتبحث عنه بنفسك، فكأنه قال: فأقم وجهك للدين حنيفاً والزم فطرت الله التي فطر الناس عليها.

لذلك يسمي علماء النحو هذا الأسلوب أسلوب الإغراء، وهو أن أغريك بأمر محبوب وأحثَّك على فِعْله، كذلك الحق سبحانه يغري رسوله صلى الله عليه وسلم بأنْ يُقيم وجهه نحو الدين الخالص، وأنْ يلزم فطرت الله، وألا يلتفت إلى هؤلاء المفسدين، أو المعوِّقين له.

والفطرة: يعني الخلقة كما قال سبحانه:{ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ... }[يوسف: 101] يعني: خالقهما، والفطرة المرادة هنا قوله تعالى:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }[الذاريات: 56].

فالزم هذه الفطرة، واعلم أنك مخلوق للعبادة.

أو: أن فطرت الله تعني: الطبيعة التي أودعها الله في تكوينك منذ خلق اللهُ آدم، وخلق منه ذريته، وأشهدهم على أنفسهم{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىا... }[الأعراف: 172].

وسبق أنْ بيَّنا كيف أن في كل منا ذرة حية من أبينا آدم باقية في كل واحد منا، فالإنسان لا ينشأ إلا من الميكروب الذكري الحي الذي يُخصِّب البويضة، وحين تسلسل هذه العملية لا بُدَّ أن تصل بها إلى آدم عليه السلام.

وهذه الذرة الباقية في كل منا هي التي شهدتْ العهد الأول الذي أخذه الله علينا، وإلا فالكفار في الجاهلية الذين جاء رسول الله لهدايتهم، كيف اعترفوا لله تعالى بالخلق:{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ... }[الزمر: 38].

من أين عرفوا هذه الحقيقة؟ نُقِلت إليهم من هذا العهد الأول، فمنذ هذا العهد لم يجرؤ أحد من خَلْق الله أنْ يدَّعي هذا الخَلْق لنفسه، فظلت هذه القضية سليمة في الأذهان مع ما حدث من فساد في معتقدات البشر.

وتظل هذه القضية قائمة بالبقية الباقية من هذا العهد الأول، حتى عند الكفار والملاحدة، فحين تكتنفهم الأحداث وتضيق بهم أسبابهم، تراهم يقولون وبلا شعور: يا رب، لا يدْعون صنماً ولا شجراً، ولا يذهبون إلى آلهتهم التي اصطنعوها، فهم يعلمون أنها كذب في كذب، ونصب في نصب.

والآن لا يخدعون أنفسهم ولا يكذبون عليها، الآن وفي وقت الشدة وحلول الكرب ليس إلا الله يلجئون إليه، ليس إلا الحق والفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.

وما دام الله قد فطرنا على هذه الفطرة، فلا تبديل لما أراده سبحانه: } ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ... { [الروم: 30] أي: الدين الحق } وَلَـاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ { [الروم: 30] أي: لا يعلمون العلم على حقيقته والتي بيَّناها أنها الجزم بقضية مطابقة للواقع، ويمكن إقامة الدليل عليها.

ثم يقول الحق سبحانه: } مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ... {.

(/3364)

مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)

أناب: يعني رجع وقطع صلته بغير الحق { إِلَيْهِ... } [الروم: 31] إلى الله، فلا علاقة له بالخَلْق في مسألة العقائد، فجعل كل علاقته بالله.

ومنه يسمون الناب؛ لأنه يقطع الأشياء، ويقولون: ناب إلى الرشد،,وثاب إلى رشده، كلها بمعنى: رجع، وما دام هناك رجوع فهناك أصل يُرجع إليه، وهو أصل الفطرة.

وقوله تعالى { وَاتَّقُوهُ... } [الروم: 31] لأنه لا يجوز أنْ تنيب إلى الله، وأن ترجع إليه، وأن تجعله في بالك ثم تنصرف عن منهجه الذي شرَّعه لينظم حركة حياتك، فالإنابة وحدها والإيمان بالله لا يكفيان؛ بل لا بُدَّ من تطبيق المنهج بتقوى الله، لذلك كثيراً ما يجمع القرآن بين الإيمان والعمل الصالح:{ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ... }[الشعراء: 227].

لأن فائدة الإيمان وثمرته بعد أن تؤمن بالإله الحق، وأن منهجه هو الصدق، وفيه نفعك وسلامتك في حركة حياتك، وأنه الذي يُوصلِّك إلى سعادة الدارين، ولا معنى لهذا كله إلا بالعمل والتطبيق.

{ وَاتَّقُوهُ... } [الروم: 31] أي: اتقوا غضبه، واجعلوا بينكم وبين غضب الله وقاية، وهذه الوقاية تتحقق باتباع المنهج في افعل ولا تفعل. وسبق أن تكلمنا في معنى التقوى وكلنا: إنها تحمل معنيين يظن البعض أنهما متضاربان حين نقول: اتقوا الله. واتقوا النار. لكن المعنى واحد في النهاية؛ لأن معنى اتق الله: اجعل بينك وبين عذاب الله وغضبه وقاية، وهذا نفسه معنى: اتق النار. يعني: ابتعد عن اسبابها حتى لا تمسَّك.

وقوله تعالى: { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ... } [الروم: 31] أقيموا الصلاة أدُّوها على الوجه الأكمل، وأدُّوها على ما أُحبُّ منكم في أدائها، فساعة أناديك: الله أكبر يجب أن تقبل عليَّ، وأنت حين تُلبِّي النداء لا تأتي لتعينني على شيء، ولا أنتفع بك في شيء، إنما تنتفع أنت بهذا اللقاء، وتستمد مني العون والقوة، وتأخذ شحنة إيمان ويقين من ربك.

وقلنا: ما تصورك لآلة تُعرَض على صانعها كل يوم خمس مرات أيبقى بها عَطَب؟ لذلك يُعلِّمنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنه إذا حزبنا أمر أن نهرع إلى الصلاة، وكذلك كان يفعل صلى الله عليه وسلم إذا عزَّ عليه شيء، أو ضاقت به الأسباب، وإلا فما معنى الإيمان بالله إنْ لم تلجأ إليه.

وما دام ربك غيباً، فهو سبحانه يُصلحك بالغيب أيضاً، ومن حيث لا تدري؛ لذلك أمرنا ربنا بإقامة الصلاة، وجعلها عماد الدين والركْن الذي لا يسقط عنك بحال، فالزكاة والحج مثلاً يسقطان عن الفقير وعن غير القادر، والصوم يسقط عن المريض أو المسافر، في حين مرضه أو سفره، ثم يقضيه بعد انقضاء سبب الإفطار.

أما الصلاة فهي الركْن الدائم، ليس مرة واحدة في العمر، ولا مرة واحدة في العام، إنما خمس مرات في اليوم والليلة، فبها يكون إعلان الولاء لله تعالى إعلاناً دائماً، وهذا إنْ دلَّ فإنما يدل على عظمة الإنسان ومكانته عند ربه وخالقه.

وسبق أن قلنا: إنك إنْ أردتَ مقابلة أحد المسئولين أو أصحاب المنزلة كم تعاني ليُؤذَن لك، ولا بُدَّ أن يُحدِّد لك الموعد والمكان، بل وموضوع المقابلة وما ستقوله فيها، ثم لصاحب المقابلة أنْ يُنهيها متى يشاء.

إذن: لا تملك من عناصر هذا اللقاء شيئاً؟ أما في لقائك بربك - عز وجل - فالأمر على خلاف ذلك، فربُّك هو الذي يطلبك ويناديك لتُقبل عليه، لا مرة واحدة بل خمس مرات كل يوم، ويسمح لك أنْ تناجيه بما تحب، وتطلب منه ما تريد.

ولك أن تنهي أنت المقابلة بقولك: السلام عليكم، فإنْ أحببتَ أن تطيل اللقاء، أو أنْ تعتكف في بيت ربك فإنه سبحانه لا يملُّ حتى تملُّوا، فهذه - إذن - ليست عبودية، بل عزٌّ وسيادة.

وما أجملَ ما قاله الشاعر في هذا المعنى:حَسْبُ نَفْسِي عِزّاً بأنِّي عَبْدٌ يحتَفِي بي بلاَ مَواعِيدَ رَبُّهُوَ في قُدْسِهِ الأعَزِّ ولكِنْ أنَا أَلْقى متَى وأيْنَ أُحِبّولأن للصلاة هذه المنزلة بين أركان الإسلام لم تُفرض بالوحي كباقي الأركان، إنما فُرضَتْ مباشرة من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، حين استدعاه ربه للقائه في السماء في رحلة المعراج.

وسبق أنْ مثَّلنا لذلك - ولله تعالى المثل الأعلى - برئيس العمل الذي يُلقي أوامره بالتليفون، أو بتأشيره على ورقة، فإنْ تعرَّض لأمر هام استدعى الموظف المختص إلى مكتبه، وأعطاه الأمر مباشرة لأهميته، كذلك كانت الصلاة، وكذلك فُرِضَتْ على سيدنا رسول الله بالتكليف المباشر.

ثم يقول سبحانه: } وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ { [الروم: 31] وهنا وقفة: فكيف بعد الإنابة إلى الله والتقوى، وبعد الأمر بإقامة الصلاة يقول } وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ { [الروم: 31]؟ وأين الشرك ممَّنْ يُؤدِّي التعاليم على هذا الوجه؟ قالوا: الشرك المنهيّ عنه هنا ليس الإشراك مع الله إلهاً آخر، إنما أشركوا مع الله نية أخرى، فالإشراك هنا بمعنى الرياء، والنظر إلى الناس لا إلى الله.

لذلك يقولون: العمل من أجل الناس رياء، وترْك العمل من أجل الناس شرك، فالذي يصلي أو يبني لله مسجداً للشهرة، وليحمده الناس فهو مُراءٍ، وهو خائب خاسر؛ لأن الناس انتفعوا بعمله ولم يُحصِّل هو من عمله شيئاً.

أما مَنْ يترك العمل خوفاً من الوقوع في الرياء، فيمتنع عن الزكاة مثلاً، خَوْفَ أن يُتَّهم بالرياء، فهو والعياذ بالله مشرك، لأن الناس ينتفعون بالعمل حتى وإنْ كان رياءً، لكن إنِ امتنعتَ عن العمل فلا ينتفع الناس منك بشيء.

فالمعنى: } وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ { [الروم: 31] أي: الشرك الخفي وهو الرياء؛ لذلك رأينا سيدنا رسول الله وهو الأسوة للأمة الإيمانية يدعو ربه ويقول

" اللهم إنِّي أستغفرك من كل عمل أردتُ به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك ".

فالعمل الإيماني ما كان لله خالصاً، وعلى قَدْر الإخلاص يكون الجزاء، فمن الناس مَنْ يفعل الصلاح فيوافق شيئاً في نفسه، كأن يساعده على استقامة الحياة أو على التوفير في النفقات أو غير ذلك؛ فيستمر عليه، لا لله إنما لمصلحته هو.

وفي هؤلاء يقول تعالى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىا حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَىا وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالأَخِرَةَ ذالِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }[الحج: 11].

وكالتاجر الذي يلتزم الصدق في تجارته، لا حباً في الصدق ذاته، إنما طمعاً في الشهرة والصِّيت وكَسْب المزيد من الزبائن، ومثل هؤلاء ينالون من الدنيا على قَدْر سعيهم لها، ولا يحرمهم اللهُ ثمرةَ مجهوداتهم، كما قال سبحانه:{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ }[الشورى: 20].

فما أشبه الناس في نياتهم من الأعمال بركْب يقصدون وجهة واحدة، لكن لكل منهم غاية يسعى إليها، فهذا يسعى للطعام أو أكلة شهية، وهذا يسعى لامرأة جميلة، وهذا يسعى لدرْس علم ينتفع به، وآخر يسعى لرؤية مَنْ يحب، وقد عبَّر الشاعر عن هذا المعنى بقوله:قَصَدْتُ بالركْبِ مَنْ أَهْوى وقُلْتُ لَهُم هَيّا كُلوا وخُذُوا ما حَظكم فِيهِلكِنْ دَعُوني أُلاَقِي مَنْ أؤملُهُ عَيْني تَرَاهُ وَوُجَْدَاني يُنَاجِيهِكذلك الحق - تبارك وتعالى - يريد من عبده أنْ يقصده لذَاته، لا خوفاً من ناره، ولا طمعاً في جنته، وفَرْق بين أن تنعم بنعمة الله، وأن تنعم بالنظر إلى الله، فأنت في الجنة تأكل، لا عن جوع ولا عن حاجة، إنما لمجرد التنعُّم.

لذلك يقول سبحانه عن الشهداء:{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }[آل عمران: 169] فتكفيهم هذه العندية، وأنْ ينظروا إلى الله سبحانه وتعالى.

لذلك تقول رابعة العدوية: اللهم إنْ كنتَ تعلم أنِّي أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني منها، وإنْ كنتَ تعلم أني أعبدك خوفاً من نارك فأدخِلني فيها، لكني أعبدك لأنك أحقُّ أنْ تُعبدَ.

ولا شكَّ أن القليل من الناس يخلصون النية لله، وأن الغالبية يعملون العمل كما اتفق على أية نية، لا تعنيهم هذه المسألة، ولا يهتمون بها، كما قال سبحانه:{ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ }[يوسف: 106].

(/3365)

مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)

فرَّقوا دينهم كالركْب الذين اختلفتْ وجهاتهم ونياتهم { وَكَانُواْ شِيَعاً... } [الروم: 32] جمع شيعة، وهم الجماعة المتعاونة على أمر من الأمور، خيراً كان أو شراً، خيراً مثل قوله تعالى:{ وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ }[الصافات: 83].

أو شراً مثل:{ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً... }[القصص: 4].

وفي آية أخرى:{ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىا أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ... }[الأنعام: 65].

وقوله تعالى: { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [الروم: 32] لما لهم من سلطة زمنية، ولما لهم من مكانة يخافون أنْ تهتز كالسلطة الزمنية التي منعتْ يهود المدينة من الإيمان برسول الله، مع أنهم كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويعرفون زمانه، وكانوا يقيمون بالمدينة ينتظرون ظهوره، وكل ذلك عندهم في التوراة، حتى إنهم كانوا يصطدمون بعبدة الأصنام، فيقولون لهم. لقد أطلَّ زمن نبي يظهر آخر الزمان سنتبعه، ونقتلكم به قتْل عاد وإرم.

{ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ... }[البقرة: 89].

لماذا؟ حفاظاً على سلطتهم الزمنية، وقد كانوا أهل علم وغِنيً ومكانة، فلما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم ألغى هذه السلطة، فلا كلام بعد كلامه صلى الله عليه وسلم، أما مَنْ ثبت منهم على دينه الحق، وعمل بما في التوراة فقد آمن بمحمد كعبد الله بن سلام وغيره من أحبار اليهود.

فالسلطة الزمنية هي التي حالتْ بين الناس وبين الحق الذي يؤمنون به، وهذه السلطة الزمنية هي التي نراها الآن في هذه الفِرَق والأحزاب التي يدَّعي كل منها أنها على الحق وما سواها على الباطل.

يقول تعالى:{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ... }[المؤمنون: 71].

فكل منهم يناطح الآخرين ليعلي مذهبه، ويظهر هو على الساحة.

بعد ذلك يُبيِّن لنا الحق سبحانه أن الذين يكفرون بالله، أو يتمردون على منهج الله يظلون هكذا أسْرى هذه السلطة الزمنية، فإذا أصابتهم هزة أو بلاء لا تقوى أسبابهم على دفعه لم يجدوا ملجأ إلا الله، فقال سبحانه: { وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ... }.

(/3366)

وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33)

الضر: هو الشيء الذي نتضرر منه، ولا تستطيبه النفس، فإنْ أصابهم الضر وأسبابهم لا تفي بالخلاص منه { دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ... } [الروم: 33] أي: رجعوا إليه سبحانه، والآن علموا أن لهم رباً يلجئون إليه، وهذا يُذكِّرنا بما قاله العرب عندما فتر الوحي عن رسول الله، فسرَّهم ذلك، وقالوا: إن رب محمد قلاه. سبحان الله الآن عرفتم أن لمحمد رباً.

وقلنا: إن ساعة الضيق والمحنة لا يَكْذب الإنسان نفسه ولا يخدعها، وسبق أنْ ذكرنا قصة حلاق الصحة الذي كان يحلّ محلّ الطبيب الآن، فلما أنشئت كليات للطب وخرَّجت أطباء، وذهب أحدهم إلى قرية الحلاق، فأخذ الحلاق يهاجمه ويدَّعي أنه حديث لا خبرةَ له، فلما مرض ابنه وأحسَّ بالخطر أخذه خُفْية في ظلام الليل، وذهب به إلى الطبيب، لماذا؟ لأنه لن يغشَّ نفسه في هذه اللحظة.

{ ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } [الروم: 33] أي: يعودون إلى ما كانوا عليه من الشرك بالله.

وحين نتأمل هذه المسألة نجد أن القرآن عرضها مرة بصيغة الإفراد، فقال:{ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً.... }[الزمر: 8].

وقال:{ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرٍّ مَّسَّهُ... }[يونس: 12].

لكن الكلام عن الإنسان المفرد لا يكفي لإثبات الظاهرة؛ لأن الإنسان الواحد يمكن أن يستذل أمام ربه، ويعود إليه بعد أنْ تجرَّأ على معصيته، يكون ذلك بينه وبين نفسه، فلا يفضح نفسه أمام الناس، فأراد سبحانه أنْ يثبت هذه المسألة عند الناس جميعاً؛ ليفضح بعضهم بعضاً، فذكر هنا { وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ... } [الروم: 33].

وفي آية أخرى:{ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ }[العنكبوت: 65].

فجاء بصيغة الجمع ليفضح الكافرين بعضهم أمام بعض، وقد يكون في هؤلاء الداعين مَنْ كان يُؤلّبهم على الله، ويصرفهم عن الإيمان به، وها هو الآن يدعو ويتضرع، وحين يُفتضح أمرهم يكون ذلك أَدْعى لاستقامتهم وأدعى ألاَّ يتكبر أحد على أحد.

لذلك قلنا في ميزات الصلاة أنها تُسوِّي بين الناس، فيجلس الرجل العادي بجوار مَنْ لم يكُن يُؤْمَل أنْ يجلس بجواره، ويجده خاضعاً معه مطاوعاً للإمام.. الخ ففي الصلاة، الجميع سواء، والجميع منتفع بهذه المساواة، آخذ منها عبرة، فلا يتكبر بعدها أحد على أحد.

ونقف هنا عند { مَسَّ... } [الروم: 33] وهو اللمس الخفيف، فالمعنى مسَّهم اليسير من الضر، ومع ذلك ضاقتْ أسبابهم عن دفعه، وضَجُّوا يطلبون الغَوْث.

وكلمة { أَذَاقَهُمْ... } [الروم: 33] الذوق حاسة من حواس الإنسان يُحِسُّ بها الطعام عند مروره على منطقة معينة في اللسان، فإذا ما تجاوز الطعامُ هذه المنطقةَ لا يشعر الإنسان بطعمه.

إذن: فَلذَّة الطعام مقصورة على هذه المنطقة في الفم، والتذوق أقوى انفعالات النفس في استقبال المذاق؛ لذلك يقولون في الأمثال (اللي يفوت من اللسان بقي نتان).

وتأمل، كيف استعمل الحق سبحانه الإذاقةَ في مجال العذاب حبن ضرب لنا هذا المثل:{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }[النحل: 112].

فذكر الإذاقة مع أن اللباسَ يستوعب الجسم كله، وكذلك الجوع والخوف، فكل منهما إحساس يستولي على الإنسان كله، ومع ذلك قال{ فَأَذَاقَهَا... }[النحل: 112] لأن الإذاقة أقوى أنواع الإدراك.

وكلمة } مِّنْهُ... { [الروم: 33] أي: من الله تعالى، يعني بلا أسباب، أو } أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ... { [الروم: 33] أي: بدَّل الضر برحمة، وخلَّصهم من الضُّرِّ برحمة، كما أن الإذاقة وإنْ دلَّتْ على الانفعال الشديد للمستقبل، فإنها أيضاً تدلُّ على التناول الخفيف بلُطْف، كما تقول: ذُقْتُ الطعام. أو تقول: والله ما ذُقْتُ لفلان طعاماً يعني: ما أكلتُ عنده من باب أَو أَوْلى.

لذلك الحق سبحانه وتعالى عبر عن الرحمة هنا بالإذاقة؛ لأن رحمة الدنيا لا تستوعب كل رحمة الله، فالقليل منها في الدنيا، وجُلُّها في الآخرة.

ونلحظ في قوله تعالى: } إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ { [الروم: 33]، أما في الآية الأخرى:{ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ }[العنكبوت: 65].

فلماذا قال في الأولى } إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ... { [الروم: 33] وفي الأخرى:{ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ }[العنكبوت: 65] فلم يستثْنِ منهم أحداً؟

قالوا: لأن الآية الأولى تتكلم عن الذين دَعَوا الله في البَرِّ، والناس في البر عادة ما يكونون مختلفين، فيهم الصالح والطالح، والمطيع والعاصي، فهم مختلفون في رَدِّ الفعل، فالمؤمنون لما عَينوا النجاة ورحمة الله قالوا: الحمد الله الذي نجانا، أما المشركون فعادوا إلى كُفْرهم وعنادهم.

أما الآية الأخرى فتتكلم عن الذين دَعَوا الله في البحر، وعادة ما نرى الذين يركبون البحر على شاكلة واحدة، وهم لا يركبونه كوسيلة للسفر، إنما للترف، كما نرى البعض يتخذ لنفسه يختاً مثلاً أو عوَّامة يجمع فيها أتباعه ومَنْ هم على شاكلته، ولا بُدَّ أنهم يجتمعون على شيء يحبونه، فهم على مذهب واحد، وطريقة واحدة، وسلوك واحد.

إذن: ما دام هؤلاء كانوا في البحر فلا بُدَّ أنهم كانوا مجرمين عتاة، وكانوا سواسية في الشرك وفي التخلِّي عن الله، بمجرد أنْ أمِنوا الخطر، لذلك استخدم الأسلوب هنا } إِذَا... { [الروم: 33] الفجائية واستخدمه في آية أخرى{ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ }[العنكبوت: 65] فبعد أنْ أنجاهم الله أسرعوا العودة إلى ما كانوا عليه من الشرك.

ففي هذه الآية الحق سبحانه يُبيِّن لنا حقيقة الإنسان، ومدى حرصه على جَلْب الخير لنفسه، فإنْ كان الخير الذي أعدَّه الله له يُبطره ويُطغيه كما قال سبحانه:

{ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىا * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىا }[العلق: 6-7].

فإنه لا مناصَ له من أنْ يرجع إلى ربه حين ينفض الله عنه كُلَّ أسباب الخير، ويهدده في نفسه وفي ذاته التي لم تنتفع بآيات الله في الكون، فتظل في حضانة الله، فيأتي له بالضرُّ الذي ينفض عنه كلّ أسباب البطَر والأشرَ والاستعلاء.

ولكنه لا يسلم نفسه للضر الذي يهلكه، بل عندها يتنبه أن له رباً يلجأ إليه، ولا يجد مفزعاً في الكون إلا هو؛ لأنه يعلم جيداً أن الذين أخذوه من الله فآمن بهم وكفر بالله لن ينفعوه بشيء؛ لأنه عبد من دون الله آلهة لا تضر ولا تنفع.

لذلك يقول تعالى:{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ... }[الإسراء: 67] فهؤلاء الذين تدعونهم لا يعرفون طريقكم، وإنْ عرفوا لا يملكون أنْ يصلوا إليكم، أما أنا فربكم الأعلم بكم، والقادر على إغاثتكم، وإنزال الرحمة بكم.

إذن: هؤلاء المشركون أشركوا بالله في وقت الرخاء، أما في وقت الضيق والكرب فلن يخدع أحدهم نفسه، ولن يغشَّها لن يقول: يا هُبَل. لأنه يعلم أن هُبَلَ لا يسمعه ولا يجيبه، فلا ينفعه الآن، ولا ينجيه إلا الإله الحق، فقد ألجأتْه الضرورة أن يعترف به ويدعوه.

ثم يقول الحق سبحانه: } لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ... {.

(/3367)

لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)

يتبادر إلى الذهن أن اللام في { لِيَكْفُرُواْ... } [الروم: 34] لام التعليل، أو لام السببية التي يكون ما بعدها سبباً لما قبلها، كما تقول: ذاكر لتنجح، وكذلك في الشرط والجواب: إنْ تذاكر تنجح فِعِلَّة المذاكرة النجاح.

فهل يستقيم المعنى هنا على هذا الفهم؟ وهل نجاهم الله وأذاقهم الرحمة ليكفروا به؟

نقول: ليس الشرط سبباً في مجيء الجواب كما يفهم السطحيون في اللغة، بل الجواب هو السبب في الشرط، لكنهم لم يُفرِّقوا بين سبب دافع وسبب واقع، فالتلميذ يذاكر لأن النجاح ورد بباله، وتراءتْ له آثاره الطيبة أولاً فدفعتْه للمذاكرة.

إذن: فالجواب سبب في الشرط أي: سبب دافع إليه، فإذا أردتَ أن يكون واقعاً فقدِّم الشرط ليجيء الجواب.

وكما تقول: ركبتُ السيارة لأذهب إلى الأسكندرية، فركوب السيارة ليس سبب ذهابك للاسكندرية، لأنك أردْتَ أولاً الذهاب فركبتَ السيارة، فلما ركبتها وصلتَ بالفعل. إذن: نقول: الشرط سبب للجواب دافعاً يدفع إليه، والجواب سبب للشرط واقعاً.

فهنا نجّاهم الله من الكرب، وأذاقهم رحمته لا ليكفروا به، إنما ليُبيِّن لهم أنه لا مفزعَ لهم إلا إليه، فيتمسكون به سبحانه، فيؤمن منهم الكافر، ويزداد مؤمنهم إيماناً، لكن جاء ردُّ الفعل منهم على خلاف ذلك، لقد كفروا بالله؛ لذلك يسمون هذه اللام لام العاقبة أي: أن كفرهم عاقبة النجاة والرحمة.

ومثال ذلك - ولله المثل الأعلى - لو ضممتَ طفلاً مسكيناً إلى حضانتك وربَّيته أحسن تربية، فلما شبَّ وكَبِر تنكّر لك، واعتدى عليك، فقلت للناس: ربَّيته ليعتدي عليَّ، والمعنى: ربَّيته ليحترمني ويحبني، لكن جاءت النتيجة والعاقبة خلاف ذلك، وهذا يدل على فساد التقدير عند الفاعل الذي ربَّي، وعلى لُؤْم وفساد طبع الذي رُبِّي.

فالأسلوب هنا { لِيَكْفُرُواْ... } [الروم: 34] يحمل معنى التقريع؛ لأن ما بعد لام العاقبة ليس هو العلة الحقيقية لما قبلها، إنما العلة الحقيقية لما قبلها هو المقابل لما بعد اللام: أذاقهم الرحمة، ونجاهم ليؤمنوا، أو ليزدادوا إيماناً، فما كان منهم إلا أنْ كفروا.

ولهذه المسألة نظائر كثيرة في القرآن، كقوله تعالى في قصة موسى:{ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً... }[القصص: 8].

ومعلوم أنهم التقطوه ليكون لهم قُرَّة عين، ولو كانوا يعلمون هذه العاقبة لأغرقوه أو قتلوه كما قتلوا غيره من أطفال بني إسرائيل، وكما يقولون في الأمثال (بيربي خنَّاقه).

فهذا دليل على غفلة الملتقِط، وعلى غبائه أيضاً، فكيف وهو يُقتِّل الأولاد في هذا الوقت بالذات لا يشكّ في ولد جاء في تابوت مُلْقىً في البحر؟ أليس في هذا دلالة على أن أهله يريدون نجاته من القتل؟ لكن كما قال سبحانه:{ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ... }[الأنفال: 24].

فأنت تُقتِّل في الأطفال لرؤيا أخبرك بها العرافون، فسيأتي مَنْ تخاف منه إلى بابك، وستأخذه وتُربِّيه في حضنك، وسيكون زوال مُلْكك على يديه، فلا تظن أنك تمكر على الله.

والقصة تدل على خيبة فرعون وخيبة العرافين، فإذا كنتَ قد صدَّقْتَ العرافين فيما أخبروك به فما جدوى قَتْل الأطفال، وأنت لن تدرك مَنْ سيكون زوال مُلْكك على يديه ولن تتمكن منه؟ فلماذا تحتاط إذن؟

لذلك يجب أن يكون تفكير البشر في إطار أن فوق البشر رباً، والرب يكلف العدو بعدو له ليقضي عليه، وهو سبحانه خير الماكرين، والمكْر الحق أن يكون خُفْية بحيث لا يسشعر به الممكور به.

وقد وصل بنا الحال في القرن العشرين أن نقول: الصراحة مكْر القرن العشرين. يعني: مَنْ أراد أنْ يمكر فليقُل الحق وليكُنْ صريحاً؛ لأننا أصبحنا في زمن قلَّتْ فيه الصراحة وقول الحق، لدرجة أنك حين تُحدِّث الناس بالحق يشكُّون فيك، ويستبعدون أن يكون قولك هو الحق، كالذي قال لجماعة يطلبونه ليقتلوه: أنا سأذهب إلى المكان الفلاني في الوقت الفلاني فقالوا: إنه يُضلِّلنا ويمكر بنا رغم أنه صادق فيما أخبرهم به.

وبعد أنْ تربَّى موسى - عليه السلام - في بيت فرعون، ثم كلَّفه ربه بالرسالة، وذهب إلى فرعون يدعوه إلى الله قال له:{ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ }[الشعراء: 18].

نعم ربَّيتني وليداً، لكن الذي ربّاني وربّاك هو الذي بعثني إليك، فأنا أبرّ المربي الأعلى قبل أنْ أبرَّ بك، وفي هذا إشارة إلى أن عناية الله هي الأصل في تربية مَنْ تحب، فإياك أنْ تقول: ربَّيْتُ ولدي حتى صار كذا وكذا، بل عليك بالأَخْذ بأسباب التربية، وتترك المربِّي الأعلى هو الذي يُربِّي على الحقيقة.

وهذا المعنى فطن إليه الشاعر، فقال:إذَا لَمْ تُصَادِفْ في بَنِيكَ عنَايةً فَقَدْ كذَبَ الرَّاجي وخَابَ المؤملُفَمُوسَى الذي ربَّاه جِبْريلُ كَافرٌ ومُوسى الذي ربَّاهُ فِرْعَونُ مُرسَلثم يقول سبحانه: } فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ { [الروم: 34] لأنه كفر ليتمتع بكفره في الدنيا؛ لأن للإيمان مطلوبات صعبة تشقُّ على النفس، فيأمرك بالشيء الثقيل على نفسك، وينهاك عن الشيء المحبب إليها، أما الأصنام التي عبدوها من دون الله وغيرها من الآلهة فلا مطلوبَ لها ولا منهج.

لكنه متاع الحياة الدنيا ومتاع الدنيا قليل؛ لأن الدنيا بالنسبة لك مدة بقائك فيها فلا تقُلْ إنها ممتدة من آدم إلى قيام الساعة، فهذا العمر الطويل لا يعنيك في شيء، الذي يعنيك عمرك أنت.

ومهما كان عمر الإنسان في الدنيا فهو قصير وتمتُّعه بها قليل، ثم إن هذا العمر القصير مظنون غير مُتيقن، فربما داهمك الموت في أيِّ لحظة، ومَنْ مات قامت قيامته.

لذلك أبهم الحق - سبحانه وتعالى - الموت، ونثر أزمانه في الخَلْق: فهذا يموت قبل أن يولد، وهذا يموت طفلاً، وهذا يموت شاباً.

. الخ وإبهام الموت سبباً وموعداً ومكاناً هو عَيْن البيان؛ لأنه أصبح شاخصاً أمام كل مِنَّا ينتظره في أيِّ لحظة، فيستعد له.

ونلحظ هنا أن الأسلوب القرآني عطف فعل الأمر } فَتَمَتَّعُواْ.. { [الروم: 34] على الفعل المضارع } لِيَكْفُرُواْ... { [الروم: 34]، وفي موضع آخر قال سبحانه:{ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ... }[العنكبوت: 66] فجعل التمتُّع ليس خاضعاً لفعل الأمر، إنما للعلة: ليكفروا وليتمتعوا.

لذلك اختلفوا حول هذه اللام. أهي للأمر أم للتعليل، } فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ { [الروم: 34] جاءت بعد } فَتَمَتَّعُواْ... { [الروم: 34] وهذه جاءتْ معطوفة على{ لِيَكْفُرُواْ... }[العنكبوت: 66] فكأنه قال: اكفروا وتمتعوا، لكن ستعلمون عاقبة ذلك.

والذي جعلهم يقولون عن اللام هنا لام التعليل أنها مكسورة، أما لام الأمر فساكنة، فلما رأوا اللام مكسورة قالوا لام التعليل، أما الذي فهم المعنى منهم فقال: ما دام السياق عطف فعل الأمر فتمتعوا على المضارع المتصل باللام، فاللام للأمر أيضاً، لأنه عطف عليها فعل الأمر، وهو هنا للتهديد.

لكن، لماذا كُسِرَتْ والقاعدة أنها ساكنة؟ قال أحد النحاة: لام الأمر ساكنة، ويجوز أنْ تُكْسَر، واستشهد بهذه الآية{ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ... }[العنكبوت: 66].

ونقول لمن يقول: إنها لام التعليل: إذا سمعت لام التعليل فاعلم أنها تعني لام العاقبة؛ لأن الكفر والتمتّع لم يكُنْ سبباً في إذاقة الرحمة.

ويا مَنْ تقول لام الأمر سيقولون لك: لماذا كُسِرت؟ وفي القرآن شواهد كثيرة تدل على أنها قد تُكسر، واقرأ قوله تعالى:{ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىا كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ * لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ... }[الحج: 28] فاللام هنا مكسورة لأنها لام التعليل.

ثم قال بعدها:{ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ }[الحج: 29] فاللام سُكِّنَتْ لأنها لام الأمر.

وفي آيةٍ أخرى جُمِعت اللامان:{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ... }[الطلاق: 7] فجاءتْ لام الأمر مكسورة؛ لأنها في أول الجملة، ولا يُبتدأ في اللغة بساكن، فحُرِّكت بالكسر للتخلص من السكون، ثم يقول سبحانه:{ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ اللَّهُ... }[الطلاق: 7] فجاءت لام الأمر ساكنة؛ لأنها واقعة في وسط الكلام.

لذلك يجب أن يتنبه إلى هذه المسألة كُتَّاب المصحف، وأن يعلموا أن كلام الله غالب، فقد فات أصحاب رسم المصحف أنه مبنيٌّ من أوله إلى آخره على الوصل، حتى في آخر آيات سورة الناس وأول الفاتحة نقول } الَّذِى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بسم الله الرَّحْمانِ الرَّحِيـم... {.

فآخِرُ القرآن موصول بأوله، حتى لا ينتهي أبداً. وعليه فلا ترسم{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ... }[الطلاق: 7] بالكسر، إنما بالسكون، لأنها موصولة بما قبلها.

وكلمة } فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ { [الروم: 34] تدلُّ على التراخي واستيعاب كل المستقبل، سواء أكان قريباً أم بعيداً، فهي احتياط لمن سيموت بعد الخطاب مباشرة، أو سيموت بعده بوقت طويل.

ثم يقول الحق سبحانه: } أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً... {.

(/3368)

أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)

كلمة (أم) لا تأتي بداية؛ لأنها أداة تفيد التخيير بين أمريْن، كما تقول: أجاء زيد أم عمرو؟ فلا بُدَّ أن تأتي بين متقابلين، والتقدير: أهُمُ اتبعوا أهواءهم، أم عندهم كتاب أُنزِل إليهم فهو حجة لهم على الشرك؟ وحيث إنهم لم ينزل عليهم كتاب يكون حُجَّة لهم فلم يَبْقَ إلا الاختيار الآخر أنهم اتبعوا أهواءهم.

والفعل { أَنزَلْنَا... } [الروم: 35] الإنزال يقتضي عُلُوَّ المنزَّل منه، وأن المنزَّلَ عليه أَدْنى، فالإنزال من عُلُو الربوبية إلى ذُلِّ العبودية. ونحن لم نَرَ الإنزال، إنما الذي تلقَّى القرآن أول مرة وباشر الوحي هو الذي رآه وأخبرنا به.

والأصل في الإنزال أن يكون من الله تعالى، وحين ينزل الله علينا إنما ليعطينا سبحانه شيئاً من هذا العُلْو، سواء أكان العُلُو معنوياً؛ لأن الله سبحانه ليس له مكان، أم عُلْواً حِسَّياً كما في{ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ... }[الحديد: 25].

والسلطان: من التسلُّط، وهي تدلُّ على القوة، سواء أكانت قوة الحجة والبرهان، فمَنْ أقعنك بالحجة والبرهان فهو قويٌّ عليك، أو قوة قهر وإجبار كمَنْ يُرغِمك على فعل شيء وأنت كاره، أما سلطان الحجة فتفعل وأنت راضٍ ومقتنع.

وإذا استقرأنا كلمة سلطان نجد أن الله تعالى عرضها لنا في موقف إبليس في الآخرة، حين يتبرأ من الذين اتبعوه:{ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ... }[إبراهيم: 22].

أي: لم يكُنْ لي عليكم سلطان حجة وإقناع أستحوذ به على قلوبكم، ولم يكُنْ لي عليكم سلطان قهر، فأقهر به قوالبكم، والحقيقة أنكم كنتم (على تشويرة) مجرد أنْ دعوتكُم جئتم مُسرعين، وأطعتُم مختارين.

وهذا المعنى يُفسِّر لنا شيئاً في القرآن خاض الناس فيه طويلاً - عن خُبْث نية أو عن صدق نية - هذا في قوله تعالى مرة لإبليس{ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ... }[ص: 75] ومرة أخرى:{ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ... }[الأعراف: 12].

فالأولى تدل على سُلْطان القهر، كأنك كنتَ تريد أنْ تسجد فجاء مَنْ منعك قهراً عن السجود، والأخرى تدل على سلطان الحجة والإقناع، فلم تسجد وأنت راضٍ ومقتنع بعدم السجود.

وقوله تعالى: { فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ } [الروم: 35] أي: ينطق بما كانوا به يشركون، يقول: اعملوا كذا وكذا، فجاء هذا على وَفْق هواهم.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً... }.

(/3369)

وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)

جميل أنْ يفرح الناس، وأنْ يستبشروا برحمة الله، لكن ما لهم إذا أصابتهم سيئة بما قدَّمتْ أيديهم يقنطون؟ فمُجري الرحمة هو مُجري السيئة، لكنهم فرحوا في الأولى لأنها نافعة في نظرهم، وقنطوا في الأخرى؛ لأنها غير نافعة في نظرهم، وكان عليهم أنْ يعلموا أن هذه وتلك من الله، وأن له سبحانه حكمةً في الرحمة وحكمةً في المصيبة أيضاً.

إذن: أنتم نظرتم إلى شيء وغفلتم عن شيء، نظرتُم إلى ما وُجِد من الرحمة وما وُجِد من المصيبة، ولم تنظروا إلى مَنْ أوجد الرحمةَ، ومَنْ أوجد المصيبة، ولو ربطتم وجود الرحمة أو المصيبة بمَنْ فعلها لَعلمتُم أنه حكيم في هذه وفي تلك، فآفة الناس أنْ يفصلوا بين الأقدار ومُقدِّرها. إذن: ينبغي ألاَّ تنظروا إلى ذات الواقع، إنما إلى مَنْ أوقع هذا الواقع.

فلو دخل عليك ولدك يبكي؛ لأن شخصاً ضربه، فأول شيء تبادر به: مَنْ فعل بك هذا؟ فإنْ قال لك: فلان تقول: نعم إنه يكرهنا ويريد إيذاءنا.. الخ فإنْ قال لك: عمى ضربني فإنك تقول: لا بُدَّ أنك فعلتَ شيئاً أغضبه، أو أخطأتَ في شيء فعاقبك عليه.

إذن: لم تنظر إلى الواقع في ذاته، إنما ربطت بينه وبين مَنْ أوقعه، فإنْ كان من العدو فلا بُدَّ أنه يريد شراً، وإنْ كان من الحبيب فلا بُدَّ أنه يريد بك خيراً.

وهكذا ينبغي أن نربط بين الموجود ومَنْ أوجده، فإنْ كان الذي أوجد الواقع رَبٌّ فيجب أنْ نتأمل الحكمة، ولن نتحدث عن الرحمة، لأن النفع ظاهر فيها للجميع، لكن تعال نسأل عن المصيبة التي تُحزِن الناس، فيقنطوا وييأسوا بسببها.

ونقول: لو نظرتَ إلى مَنْ أنزلها بك لارتاح بالك، واطمأنتْ نفسك، فالمصيبة تعني الشيء الذي يصيبك، خيراً كان أم شراً، أَلاَ ترى قوله تعالى:{ مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ... }[النساء: 79].

فالمصيبة لا تُذَمُّ في ذاتها، إنما بالنتيجة منها، وكلمة أصاب في الحسنة وفي السيئة تدلُّ على أن سهمها أُطلِق عليك، وعمرها مقدار وصولها إليك، فهي لا بُدَّ صائبتك، لن تتخلَّف عنك أبداً، ولن تُخطئك؛ لأن الذي أطلقها إله ورب حكيم، فإنْ كانت حسنة فسوف تأتيك فلا تُتعِب نفسك، ولا تُزاحِم الناس عليها، وإنْ كانت مصيبة فإياك أنْ تقول: أحتاط لها لأدفعها عن نفسي؛ لأنه لا مهربَ لك منها.

ثم لماذا تقنط وتيأس إنْ أصابتْك مصيبة؟ لماذا لا تنتظر وتتأمل، لعل لها حكمة، ولعل من ورائها خيراً لا تعلمه الآن، وربما كانت ضائقة سوف يكون لها فرج قريب.

ألم تقرأ:{ وَعَسَىا أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىا أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ... }

[البقرة: 216].

أتذكرون حادث عمارة الموت وقد طردوا منها البواب وأسرته، وجعلوا منها قضية في المحكمة، وبعد أن انهارتْ العمارة، وتبيَّن للبواب وأسرته أن ما ظنوه شراً ومصيبة كان هو عَيْن الخير.

إذن: لا تقنط من ضُرٍّ أصابك، واعلم أن الذي أجراه عليك ربك، وأن له حكمة فانتظر حتى تنكشف لك، ولا يقنط إلا مَنْ ليس له ربٌّ يلجأ إليه.

ثم تعالَ نناقشك في المصيبة التي قَنَط من أجلها: ألكَ دَخْلٌ فيها؟ أم ليس لك دَخْل؟ إنْ كان لك دَخْل فيها كالتلميذ الذي أهمل دروسه فرسب في الامتحان، فعليك أن تستقبل هذه المصيبة بالرَّضا، فالرسوب يُعدِّل لك خطأك، ويلفتك إلى ما كان منك من إهمال حتى تتدارك الأمر وتجتهد.

فإنْ كانت المصيبة لا دَخْلَ لك فيها، كالذي ذاكر واجتهد، ومع ذلك لم يُوفّق لمرض ألمَّ به ليلة الامتحان، أو لعارض عرض له، نقول: إياك أنْ تفصل المصيبة عن مُجريها وفاعلها، بل تأمَّل ما يعقُبها من الخير، ولا تفصل المصيبة عن مُجريها عليك ولا تقنط.

وابحث عن حكمة ربك من إنزال هذه المصيبة بك، كالأم التي تقول لابنها: يا بُني أنت دائماً متفوق والناس تحسدك على تفوقك، فلعل رسوبك يصرف عنك حسدهم، ويُنجيك من أعينهم، فيكفوا عنك.

وحينما يأتي أبوه يقول له: يا بني هَوِّن عليك، فلعلَّك إنْ نجحت هذا العام لم تحصل على المجموع الذي تريده، وهذه فرصة لتتقوى وتحصل على مجموع أعلى. إذن: لن تُعدم من وراء المصيبة نفعاً، لأن ربك قيوم، لا يريد لك إلا الخير.

لذلك حين تستقريء الأحداث تجد أناساً فُضحوا وأُخِذوا بما لم يفعلوا، وذهبوا ضحية شاهد زور، أو قاضٍ حكم عن هوى.. الخ لكن لأن ربك قيوم لا يغفل يُعوِّض هذا المظلوم ويقول له: لقد أصبح لك نقطة عندي في حسابك، فأنت اتُّهمْتَ ظلماً، فلك عندي إذا ارتكبتَ جريمة أَنْ أنجيك منها فلا تُعاقَب بها، وأنت يا من عَمَّيْتَ على العدالة، وشهدتَ زوراً، أو: أخذت ما ليس لك، أو أفلتَّ من العقاب فسوف أُوقِعك في جريمة لم تفعلها.

إذن: القنوط عند المصيبة لا محلَّ له، ولو ربطتَ المصيبة بمجريها لعلمتَ أنه حكيم، ولا بُدَّ أنْ تكون له حكمة قد تغيب عنك الآن، لكن إذا أدرتَ المسألة في نفسك، فسوف تصل إلى هذه الحكمة.

وحين ننظر إلى أسلوب الآية نجد فيه مفارقات عديدة، ففي الكلام عن الرحمة قال } وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا... { [الروم: 36] فاستخدم أداة الشرط (إذا).

أما في المصيبة فقال } وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ { [الروم: 36] فاستخدم أداة الشرط (إنْ)، فلماذا عدلَ عن رتابة الأسلوب من إذا إلى إن؟

قالوا: حين تقارن بين النعَم وبين المصائب التي تنزل بالإنسان في دنياه تجد أن النعم كثيرة والمصائب قليلة، فنعم الله متوالية عليك في كل وقت لا تُعدُّ ولا تحصى، أمّا المصائب فربما تُعَدُّ على الأصابع.

لذلك استخدم مع النعمَ (إذا) الدالة على التحقيق، ومع المصيبة استخدم (إنْ) الدالة على الشك، ومن ذلك قوله تعالى:{ إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ }[النصر: 1] فاستعمل إذا لأنها تدلُّ على التحقيق وتُرجِّح حدوث النصر، وقال سبحانه:{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ... }[التوبة: 6].

كما نلحظ في أسلوب الآية أنها لم تذكر السبب في إذاقة الرحمة، إنما ذكرت سبب المصيبة } بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ... { [الروم: 36] ليدلَّ على عدله تعالى في إنزال المصيبة، وتفضُّله في إذاقة الرحمة؛ لأن الرحمة من الله والنعَم فضل من الله.

لكن في المصيبة قال } بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ... { [الروم: 36] فذكر العِلّة حتى لا يظن أحد أن الله تعالى يُجري المصيبة على عبده ظلماً، بل بما قدَّمَتْ يداه، فالمسألة محكومة بالعدل الإلهي.

وبين الفضل والعدل بوْن شاسع، فلو جاءك خَصْمان لتحكم بينهما تقول: أحكم بينكما بالعدل، أم بأفضل من العدل؟ يقول: وهل هناك أفضل من العدل؟ إذن: نريد العدل، لكن تنبَّه لأن العدل يعطيك حقك، والفضل يُتِركك حقك.

فكأن الحق سبحانه يقول لنا: إياكم أنْ تظنوا أنكم ناجون بأعمالكم، لا إنما بالتفضل عليكم:{ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ }[يونس: 58].

يعني: مهما جمعتُم من الطاعات فلن تكفيكم، ولا نجاةَ لكم إلا برحمة من الله وفضل.

فالحق - تبارك وتعالى - يريد منا أن نعرف أن رحمة الله وسعتْ كل شيء، وأنه مع ما أنعم به عليكم من نِعَم لا تُعَدُّ ولا تُحصي لا يُعاقبكم إلا بشيء اقترفتموه يستحق العقاب؛ ذلك لأنه رَبٌّ رحيم حكيم.

وما دام الأمر كذلك فانظر إلى آثار رحمة ربك في الكون، وتأمل هذه النعَم، وقفْ عند دِقَّة الأسلوب في قوله سبحانه:{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا... }[إبراهيم: 34].

فالعَدُّ يقتضي الكثرة و{ نِعْمَتَ... }[إبراهيم: ] مفرد، فكيف نعدُّ يا رب؟ قالوا: نعم هي نعمة واحدة، لكن في طياتها نِعَم فلو فتشتها لوجدتَ عناصر الخيرية فيها لا تُعَد ولا تُحصىَ.

لذلك لما تعرضتْ الآيات لِعَدِّ نِعَم الله استخدمتْ (إنْ) الدالة على الشكِّ؛ لأنها لا تقع تحت الحصر ولا العَدِّ، لكن على فرض إنْ حاولت عدَّها فلن تُحصيها، والآن ومع تقدُّم العلوم وتخصُّص كليات بكاملها لدراسة علم الإحصاء، وخرجوا علينا بإحصاءات لأمور ولأشياء كثيرة في حياتنا، لكن لم يتعرض أحد لأنْ يُحصي نعمة الله، لماذا؟

لأن الإقبال على الإحصاء لا يكون إلا مع مظنَّة أنْ تُعدَّ وتستوعب ما تحصيه، فإنْ كان خارج نطاق استيعابك فلن تتعرض لإحصائه كما لم يتعرَّضْ أحد مثلاً لِعَدِّ الرمال في الصحراء؛ لذلك يُشكككم الله في أنْ تعدُّوها{ وَإِن تَعُدُّواْ... }[إبراهيم: 34] فهو أمر مُستبعد، ولن يكون.

(/3370)

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)

يبسط: يُوسِّع، ويقدِر: يعني يُضيِّق.

يعني: ألم يروا هذه المسألة، فواحد يُوسِّع الله عليه الرزق، وآخر يُضيِّق عليه، وربما صاحب السعة لم يتعب فيها، إنما جاءته من ميراث أو خلافة، وصاحب الضيق يكدّ ويتعب، ومع ذلك فعيشته كفاف، لذلك استقبل الفلاسفة هذه المسألة بما في ضمائرهم من إيمان أو إلحاد، فهذا ابن الراوندي الملحد يقول:كَمْ عَالمٍ أعْيَتْ مَذَاهِبه وجَاهلٍ جَاهلٍ تَلْقَاهُ مرْزُوقاهَذَا الذِي تركَ الأوهامَ حَائرةً وَصيَّر العَالِم النَّحْرير زِنْدِيقافردَّ عليه آخر ممن امتلأت قلوبهم بالإيمان:كَمْ عَالمٍ قَدْ باتَ في عُسْرٍ وجَاهلٍ جاهلٍ قَدْ باتَ في يُسْرتحيَّر الناسُ في هَذا فقُلْتُ لهم هَذا الذي أوجبَ الإيمان بالقدرِفالعالم لا يسير بحركة ميكانيكية ثابتة، إنما بقيومية الخالق سبحانه عليه، فانظر إلى البسط لمن بسط الله له، والقبض لمن قبض الله عنه، ولا تعزل الفعل عن فاعله سبحانه، وتأمل أن الله تعالى واحد، وأن عباده عنده سواء، ومع ذلك يُوسِّع على أحدهم ويُضيِّق على الآخر.

إذن: لا بُدَّ أن في هذه حكمة، وفي تلك حكمة أخرى، ولو تتبعتَ عواقب السعة هنا والتضييق هناك لتراءتْ لك الحكمة.

ألا ترى صاحب سعة ورزق ونعم كثيرة، ومع ذلك لم يستطع تربية أولاده؛ لأن مظاهر الترف جرفتهم إلى الانحراف، ففشلوا في حياتهم العملية، وفي المقابل نرى الفقير الذي يعيش على الكفاف يتفوق أولاده، ويأخذون أعلى المراتب؟ إذن: { يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ.... } [الروم: 37] وفق حكمة يعلمها سبحانه وتعالى.

وسبق أن ذكرنا أن في ألمانيا مدرستين فلسفيتين في الإلحاد، إحداهما لواحد اسمه (جيبل)، والأخرى لـ (بختر) أحدهما: ينكر أن يكون للعالم إله، يقول: لو كان للعالم إله حكيم ما خلق الأعمى والأعرج والأعور.. الخ فالحكمة في الخَلْق تقتضي المساواة، فأخذ من الشذوذ في الخَلْق دليلاً على إلحاده.

أما الآخر فقال: ليس للكون إله، إنما يسير سَيْراً ميكانيكياً رتيباً، ولو كان فيه إله لكان يخلق الخَلْق على صور مختلفة، وتكون له إرادة مطلقة عن الميكانيكا، فأخذ ثبات النظام دليلاً على إلحاده ليناقض مذهب سابقه.

إذن: المسألة عندهم رغبة في الإلحاد بأيِّ شكل، وعلى أية صورة، واستخدام منهج مُعْوج يخدم القضية التي يسعون إلى إثباتها.

ونقول في الرد على الأول الذي اتخذ من الشذوذ في الكون دليلاً على عدم وجود إله حكيم: الشذوذ الذي ذكرتَ شذوذ في الأفراد الذين يُعوض بعضهم عن بعض، فواحد أعمى، وآخر أعور يقابلهم ملايين المبصرين، فوجود هذه النسبة الضئيلة لا تفسد القاعدة العامة في الخَلْق، ولا تؤثر على حركة البشر في الكون فالصحيح يعوض غير الصحيح.

أما النظام الثابت الذي يريده الثاني فعليه أن ينظر إلى الملأ الأعلى، وفي الكون الأعلى من شمس وقمر ونجوم.

. الخ فسيرى فيه نظاماً ثابتاً لا يتغير، لأن الشذوذ في هذه المخلوقات يفسد الكون كله؛ لذلك خلقه الله على هيئة الثبات وعدم الشذوذ.

إذن: في النظام العام للكون نجد الثبات، وفي الأفراد الذين يغني الواحد منهم عن الآخر نجد الشذوذ والاختلاف، فالثبات يثبت حكمة القدرة، والشذوذ يثبت طلاقة القدرة.

فيا مَنْ تريد ثبات النظام دليلاً على الإيمان، فالثبات موجود، ويا مَنْ تريد شذوذ النظام دليلاً على الإيمان، فالشذوذ موجود، فما عليككما إلا أن تتفقا وأن ينفتح كل منكما على الآخر لتصلا إلى الصواب.

ومسألة الرزق لها فلسفة في الإسلام، فالحق سبحانه أخبرنا بأنه الرزَّاق، فمرة يرزق بالأسباب، ومرة يرزق بلا أسباب، لكن إياك أنْ تغتر بالأسباب، فقد تقدم الأسباب وتسعى ثم لا يأتيك منها رزق، ويخيب سَعْيك كالفلاح الذي يأخذ بالأسباب حتى يقارب الزرع على الاستواء فتأتيه جائحة فتهلكه، فاحذر أن تغتر بالأسباب، وانظر إلى المسبِّب سبحانه.

وقلنا: ينبغي أنْ تتحرى إلى الرزق أسبابه ولا تشغلنّ بعدها بالك بأمره، فقد تكفل به خالقك الذي استدعاك للوجود، وقد عبَّر الشاعر عن هذا المعنى بقوله:تَحَرَّ إلى الرزْقِ أَسْبابَهُ ولاَ تشغلنْ بعدَهَا بَالَكافَإنَّك تجهلُ عنوانه ورِزْقُكَ يعرِفُ عُنْوانَكاثم يقول سبحانه: } إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ { [الروم: 37] قال (لِقَوْمٍ يُؤمِنُونَ) لأن مسألة الرزق هذه تحتاج إلى إيمان بحكمة الرازق سبحانه في الإعطاء وفي المنع.

ونلحظ على أسلوب الآية قوله تعالى في البسط: } لِمَن يَشَآءُ.. { [الروم: 37] وفي التضييق } وَيَقْدِرُ... { [الروم: 37] ولم يقُلْ لمن يشاء؛ لأن البسط في نظرنا شيء محبوب نفرح له ونتمناه فقال } لِمَن يَشَآءُ... { [الروم: 37] لنطمئن نحن إلى أننا سندخل في هؤلاء الذين سيُبْسط لهم في الرزق، أما في التقتير فلم يقُلْ (لمنْ) ليظل مبهماً يستبعده كلٌّ مِنّا عن نفسه

ثم يقول رب العزة سبحانه: } فَآتِ ذَا الْقُرْبَىا حَقَّهُ... {.

(/3371)

فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)

حينما نتأمل النسق القرآني هنا نجد أن الله تعالى ذكر أولاً البسْطَ في الرزق، ثم التقتير فيه، ثم أكَّد بعده مباشرة على حَقِّ ذي القُرْبى والمسكين وابن السبيل، وكأنه يلفت أنظارنا أن هذه الحقوق لا تقتصر على مَنْ بسط له الرزق، إنما هي على الجميع حتى مَنْ كان في خصاصه، وضُيِّق عليه رزقه، فلا ينسي هؤلاء.

لذلك يذيل الحق سبحانه الآية بقوله: { ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [الروم: 38] والجميع: مَنْ بُسِط له، ومَنْ قُتِر عليه يريدون وجه الله.

وبمقارنة هذه الآية بآية الزكاة:{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }[التوبة: 60].

فلم تذكر ذا القربى الذي ذكر هنا، وكأن الآية تشير لنا إلى أمر ينبغي أن نلتفت إليه، وهو أن القريب عيب أن نعطيه من مال الزكاة، وهذه آفة وقع فيها كثير من الأغنياء وحتى المتدينين منهم، فكثيراً ما يسألون: لي ابن عم، أو لي قريب أأعطيه شيئاً من زكاة مالي؟

وكنتُ أقول للسائل: والله، لو علم ابن عمك أنك تعطيه من مال الزكاة ما قبله منك؛ لأن للقريب حقاً، سواء أكنتَ غنياً تملك نصاب الزكاة، أو لم تصل إلى حد النِّصَاب.

إذن: لا تربط هؤلاء الثلاثة - القريب والمسكين وابن السبيل - بمسألة الزكاة، فلهم حَقٌّ حتى على الفقير الذي لا يملك نصاباً، وعلى مَنْ ضُيِّقْ عليه رزقه.

ومع هذا الحق الذي قرره الشرع للقريب نجد كثيرين يأكلون حقوق الأقارب، ويحتالون لحرمانهم منها، فمثلاً بعض الناس لا ينجب ذكوراً، فيكتب أملاكه للبنات ليحرم عمهم أو أبناء عمومتهم من الميراث، مع أن البنت لها نصف التركة، وإنْ كُنَّ أكثر من واحدة فلهُنَّ الثلثان، ويُوزَّع الثلث على العم أو ابن العم؛ ذلك لأن البنات في هذه الحالة ليس لهن ذَكَر عصبة، فيجعلها الشرع في العم أو ابن العم.

والشارع الحكيم يوازن بين الأطراف، فيأخذ منك ويعطيك، فلماذا في حالة موت الوالد عن هؤلاء البنات، وليس لهُنَّ ميراث يَعُدْن على العم أو ابن العم بالنفقة ويقاضونه في المحاكم، فلماذا نحرمهم حقوقهم ونطالب نحن بحقوقنا، فهذا نوع من التغفيل.

لماذا لا نعطي العم أو ابن العم وهو الذي سيحمي البنات ويسهر على راحتهن، ويقف بجوارهن حال شدتهن؟

إيَّاك - إذن - أنْ تُدخِل الأقارب في الزكاة، أو تربط مساعدتهم بالقدرة؛ لأن لهم عليك حقاً حال رخائك وحال شدتك.

ويكفي أن الحق سبحانه خصَّهم بقوله { ذَا الْقُرْبَىا... } [الروم: 38] ولم يقُلْ: ذا المسكنة، أو ذا السبيل، وكلمة (ذو) بمعنى صاحب، تدل على المصاحبة الدائمة والملازمة، فلا نقول: فلان ذو علم لمن علم قضية أو قضيتين، إنما لمن اتصف بالعلم الوسع وتمكَّن منه، كذلك لا نقول فلان ذو خلق إلا إذا كان الخُلُق صفة ملازمة له لا تنفك عنه.

ومن ذلك نقول: ذو القربى يعني ملاصقاً لك لا ينفك عنك، فيجب أنْ تراعي حقَّه عليك، فتجعل له نصيباً، حتى إنْ لم تكُنْ تملك نصاباً، وكذلك للمسكين وابن السبيل؛ لأن الله ذكرهم معاً في غير بند الزكاة، فدلَّ ذلك على أن لهم حقاً غير الزكاة الواجبة.

ونلحظ أن القرآن رتَّبهم حسب الأهمية والحاجة، فأولهم القريب لقرابته الثابتة منك، ثم المسكين وهو متوطن معروف لك، ثم ابن السبيل العابر الذي تراه يوماً ولا تراه بعد ذلك، فهو حسب موضعه من الحال.

والمسكين قد يتغير حاله، ويتيسر له الرزق فيُوسِّع الله عليه، وابن السبيل يعود إلى بلده، فالوصف الثابت لذي القربى؛ لذلك وصفه الله تعالى بما يدل على الثبات.

ثم قال } حَقَّهُ... { [الروم: 38] فالحق ملازم له وهو أَوْلَى به، لذلك لم يَقُل مثلاً: وآت ذا القربى حقه، والمسكين، وابن السبيل حقوقهم.

وقد مثَّلوا لذلك بقولهم: قال الأمير: يدخل عليَّ فلان، وفلان، وفلان، فالإذن بالدخول للأول يتبعه في ذلك االباقون.

إذن: لهؤلاء الثلاثة خصوصية، فقد أمرك الله أنْ تعطيهم من لحمك، وألاّ تربطهم بالزكاة ولا ببسط الرزق، أما باقي السبعة المستحقون للزكاة فلم يُلزمك نحوهم بشيء غير الزكاة المفروضة.

ولما حدث نقاش بين العلماء حول المراد بالمسكين والفقير، أيهما أحوج من الآخر؟ قالوا: المسكين مَنْ له مال، ولكن لا يكفيه، واستشهد أبو حنيفة على هذا المعنى بقوله تعالى:{ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ... }[الكهف: 79] فأثبت لهم ملكية وسماهم مساكين. أما الفقير فهو الذي لا شيء له، وعلى هذا فالفقير أحوج من المسكين، فيدخل في هذه الآية من باب أَوْلَى.

وقوله تعالى: } ذَلِكَ... { [الروم: 38] أي: الإيفاء لهؤلاء } خَيْرٌ... { [الروم: 38] كلمة خير تُطلَق في اللغة، ويُراد بها أحد معنيين: مرة نقول خير ويقابلها شر كما في قوله تعالى:{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }[الزلزلة: 7-8]، ومرة نقول: خير ونقصد الأخْير كالأحسن أي: أفعل تفضيل، كما جاء في قول الشاعر:زَيْدٌ خِيَارُ النَّاسِ وابْنُ الأَخْير لكن الشائع أن تُستعمل خير في أفعل التفضيل كقول النبي صلى الله عليه وسلم: " المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كُلٍّ خير " فخَيْر الأولى بمعنى أخير. لكن لمن؟

} لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ { [الروم: 38] أي: في الوفاء بحقِّ ذي القربى والمسكين وابن السبيل، يريد بذلك وجه الله، لا يريد رياءً ولا سمعة؛ لأن الذي يفعل خيراً يأخذ أجره مِمَّن فعل من أجله، فمَنْ عمل لله مخلصاً فأجره على الله، ومَنْ عمل للناس رياءً وسمعةَ فليأخذ أجره منهم.

وهؤلاء الذين وصفهم الله تعالى بقوله:{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىا إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ }[النور: 39] أي: فوجيء بوجود إله لم يكُنْ في باله ولم يعمل من أجله.

فمعنى } يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ... { [الروم: 38] أي: يقصدون بعملهم وجه الله، سواء رآه الناس، أو أخفى عمله، حتى لا تعلم شماله ما صنعتْ يمينه؛ لأن الأمر قائم على النية، فقد تعطي أمام الناس ونيتك أنْ يتأسَّوْا بك، أو لتكُفَّ عنك ألسنتهم وقدحهم في حقك.

وحين تعطي علانية بنية خالصة لله فإنها صدقة مخصِّبة للعطاء، مخصِّبة للأجر؛ لأنك ستكون أُسْوة لغيرك فيعطي، ويكون لك من الأجر مثله؛ لأن مَنْ سَنَّ حسنة فله أجرها وأجر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة.

والقرآن عرض علينا هذه القضية في قوله تعالى:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَىا كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ... }[البقرة: 264].

ثم يعطينا مثلاً توضيحياً:{ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىا شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }[البقرة: 264].

فمثَل المرائي كهذا الحجر الناعم الأملس حين يصيبه المطر، وعليه طبقة من التراب يزيحها المطر، ويبقى هو صَلْداً ناعماً لا يحتفظ بشيء، ولا ينبت عليه شيء.

وهذا المثَل يُجسِّد لنا خيبة سَعْي المرائي، وأنه مغفل، سعى واجتهد فانتفع الناس بسَعْيه، وتعدّى خيره إلى غيره، وخرج هو خالي الوفاض من الخير ومن الثواب.

ثم يذكر الحق سبحانه المقابل:{ وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }[البقرة: 265].

فالصدقة ابتغاء وجه الله كالأرض الخِصْبة حين ينزل عليها المطر، فيأتي نباتها مضاعفاً مباركاً فيه، فإنْ لم يكُمْ مطر كفاها الطَّل لتنبت وتُؤتي ثمارها، ولو قال: كمثل جنة لكانت كافية لكنها{ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ... }[البقرة: 265] يعني: على مكان مرتفع ليدلَّ على خصوبتها، فكلما كانت الأرض مرتفعة زادتْ خصوبتها، وخلَتْ من المياه الجوفية التي تؤثر على النبات.

وهذه الجنة تُرْوى بالمطر يأتيها من أعلى، فيغسل الأوراق والغصون، فتزيد نضارتها وجودتها، والأوراق هي رئة النبات.

والله تعالى يترك لآثار الذات في الناس تذكرةً وعبرة، فواحد يفعل الخير بآخر ليشتريه به، أو ليُخضع عنقه بهذا الجميل، فتكون النتيجة الطبيعية أنْ ينكر الآخر جميله، بل ويكرهه ويحقد عليه، وهذا جزاء وفاقٌ لمن عمل العمل لغير وجه الله.

وهو معنى قولهم: اتَّقِ شر مَنْ أحسنتَ إليه، لماذا؟ لأنه حين يراك يتذكر ما لك من يَد عليه، وما لك من فضل، فيخزي ويشعر بالذلة؛ لأن وجودك يدكُّ كبرياءه؛ لذلك يكره وجودك، ويكره أنْ يراك.

فالحق سبحانه يقول: احذروا أنْ تُبطلوا المعروف بالرياء، أو بالأغراض الدنية؛ لأن معروفك هذا سيُنَكر، وسينقلب ما قدمتَ، من خير شراً عليك. إذن: عليكم بالنظر في أعمالكم إلى وجه الله لا إلى غيره، فإنْ حدث وأنكر جميلك فجزاؤك محفوظ عند الله، وكأن ربك - عز وجل - يغار عليك، ويريد أنْ يحفظ لك الجميل ويدخره عنده.

وهذا المعنى عبَّر عنه الشاعر بقوله:أقُولُ لأصْحاب المرٌوءَاتِ قَوْلةً تُريحهُمُ إنْ أحسَنُوا وتفضَّلُوايَسيرُ ذوو الحَاجَاتِ خَلْفَكَ خُضَّعاً فَإِنْ أدْركُوها خلَّفُوكَ وهَرْوَلُوافَلا تَدعِ المعْروفَ مهما تنكَّروا فَإِنَّ ثوابَ الله أربى وأجْزَلُوسبق أنْ ذكرتُ قصة الرجل الذي قابلنا في الطريق ونحن في الجزائر، فأشار لنا لنوصله في طريقنا، فتوقف صاحب السيارة وفتح له الباب، لكنه قبل أنْ يركب قال (على كام)؟ يعني: ثمن توصيله. فقال صاحب السيارة: لله. فقال الرجل (غَلِّتها يا شيخ).

لذلك يقول بعض العارفين: إن الذين يريدون بأعمالهم وجه الله هم الذين يُغْلون أعمالهم، أي: يرفعون قيمتها، ويضاعفون ثوابها.

وقوله تعالى: } فَآتِ ذَا الْقُرْبَىا حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ... { [الروم: 38] بعد قوله:{ وَيَقْدِرُ... }[الروم: 37] يدل في ظاهره على أنه يأخذ منك مع أنك مُقِلٌّ، وهذا يدخل في إطار قوله تعالى:{ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىا أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ... }[الحشر: 9].

وقلنا: إن الشارع حكيم، فإذا ألزمك وأخذ منك فإنما ذلك ليعطيك إنْ احتجت، وكأنه يقول لك: اطمئن فقد أمَّنْتُ لك حياتك، إن أصابك الفقر، أو كنت في يوم من الأيام مسكناً أو ابن سبيل، فكما فعلتَ سيُفعل بك.

وهذه المسألة واضحة في كفالة اليتيم، فلو أن المجتمع الإيماني عوَّضه عن أبيه عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة " لاطمأنَّ كلُّ أب على أولاده إنْ مات وتركهم؛ لأنهم في مجتمع يُعوضهم عن أبيهم بآباء كثيرين.

والإنسان إنْ كان آمناً مُنعَّماً، فإنما يُنغِّص هذه النعمة أنها عُرْضة لأنْ تزول، فيريد الله أنْ يُؤمِّن لعبده الحياة الكريمة في امتداده من بعده، وهذا هو التأمين الحق الذي أرسله الله قضية تأمينية في الكون، ليست في شركات التأمين، إنما في يده سبحانه حيث قال:{ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً }[النساء: 9] فإذا اتقوا الله وقالوا القول السديد، فإن يتيمهم يصادف أناساً يكفلونه، ويخافون عليه، ويتولَّوْن أمره.

وسبق أنْ تعرَّضْنا في سورة الكهف لقصة الجدار الذي تبرع الخضر - عليه السلام - ببنائه مع أنه في قرية أهلها لئام منعوهم حتى الطعام. وقلنا: إن سؤال الطعام هو أصدق سؤال، ولا يُرَدُّ سائله، ومع ذلك بناه الخضر، وقال في بيان أمر الجدار:{ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً... }[الكهف: 82].

فصلاح الأبويْن ينفع الغلامين، فيُسخِّر الله لهما مَنْ يبني لهما الجدار، ويحافظ لهما على كنزهما حتى يكبرا، ويستطيعا حمايته من هؤلاء اللئام الذين إذا علموا بأمره نهبوه من هذْين الصغيريْن.

ثم يحدثنا الحق سبحانه عن الفارق بين الهدية والصدقة، فيقول: } وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ... {.

(/3372)

وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)

الحق - سبحانه وتعالى - يعرف أن خَلْقه يفعلون الخير، ويطلبون الأجر عليه، لكن هذا الطلب إذا خلا من الرياء، لكن الحق سبحانه يريد أن يرتفع بالصدقة أو بالزكاة إلى مستوى عَالٍ، فيأخذ صاحبها الثمن من يد الله سبحانه مضاعفاً، وطلب الزيادات يكون في النية.

فالمؤمن مثلاً يعلم أنه إذا حُيِّيَ بتحية فعليه أنْ يردَّها بخير منها، فقد يأتي فقير ويقدم لأحد الأغنياء هدية على قدر استطاعته، وفي نيته أنْ يردَّها الغني بما يناسب غِنَاه، إذن: فهو حين أعطى يطمع في الزيادة، وإن كانت غير مشروطة، ويجوز أنْ يردَّ الغنيُّ على الهدية بأفضل منها، ويجوز ألاَّ يردَّها أصلاً.

فقوله تعالى: { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً... } [الروم: 39] أي: الزيادة بأيِّ ألوانها عما تعطي، وهذه الزيادة غير مشروطة في عقد، والزيادة تكون في المال، أو بأيِّ وسيلة أخرى فيها نفع؛ لأنهم قالوا في تعريف الربا: كل قرض جَرَّ نفعاً فهو ربا.

حتى أن الإمام أبا حنيفة كان يجلس في ظل لجاره، فلما طلب منه جاره مالاً وأقرضه رآه الجار لا يجلس في ظل الجدار كما كان يجلس، فسأله عن ذلك فقال: كنت أجلس في ظل جدارك وأعلم أنه تفضّل منك، أما الآن فأخاف أنْ أجلس فيه حتى لا تظن أن هذه الجلسة للمال الذي أخذتَه مني.

فالمعنى: وما آتيتم من ربا تبغون به الزيادة سواء أكانتْ نفعاً، أو مالاً، أو غير مال، سواء أكانت مشروطة أو غير مشروطة. قالوا: فما حكم الهدايا إنْ رُدَّتْ بأحسن منها؟ وما ذنبي أنا المعطي في ذلك؟ قالوا: لا شيء فيها بشرط ألاَّ تكون في نيتك الزيادة، وألا تكون هديتك مشروطة، إنما تكون تحبباً وتودداً ومعروفاً بين الناس، إنما لا تأخذ عليها ثواباً من الله.

وقوله { لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ... } [الروم: 39] في هنا للظرفية، فالمال ظرف، وما تضعه فيه ينقص منه، ويزيد ما عندك { فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ... } [الروم: 39] يربو عندك أنت بالزيادة التي تأخذها ممَّنْ حيَّيْته، أمّا عند الله فلا يربو.

هكذا قال ابن عباس، وإن كان بعض العلماء قال: هي مطلق في الربا الأصل، وهذه مسألة كان يجب أنْ يُشرّع لها، لكن رأى ابن عباس أن آية الربا معروفة، وهذه للربا في زيادات التحية والمجاملات بين الناس.

ثم يقول سبحانه: { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَـائِكَ... } [الروم: 39] أي: الذين يؤتون الزكاة ويريدون بها وجه الله { هُمُ الْمُضْعِفُونَ } [الروم: 39] ليست من الإضعاف، إنما من الأضعاف، فالزكاة أضعاف الفتح كما في قوله تعالى:{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ... }[الحديد: 11] أما الربا فإضعاف بالكسر.

وهذه المسألة وقف عندها بعض المستشرقين الذين يحبون أنْ يستدركوا على كلام الله، قالوا: في القرآن آيات تصادم الحديث النبوي، فالقرآن يقول:{ مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ... }[الحديد: 11]. إذن: القرض الحسن يضاعف به الله الثواب، وعندكم أن الحسنة بعشر أمثالها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مكتوب على باب الجنة: الحسنة بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر " فلو أن القرض الحسن يضاعف الحسنة بعشر أمثالها، فهو بعشرين لا بثمانية عشر.

فقلنا له: لو تصدقْتَ بدولار مثلاً فقد عملتَ حسنة تُضَاعف لك إلى عشر، لكن أردُّ إليك دولارك الذي تصدَّقْتَ به؟ لا، إذن حقيقة الأمر أنك أخذتَ تسعة تضاعف إلى ثمانية عشر.

قالوا: فلماذا زاد ثواب القرض؟ نقول: لأن المتصدِّق حين يتصدق ينقطع أمله فيما قدَّم، لكن المقرض لا يزال مُعلَّق البال في القرض ينتظر ردّه، فكلما صبر عليه أخذ أجراً، ثم إن المقترض لا يقترض إلا عن حاجة، أما المتصدَّق عليه فقد يقبل الصدقة وهو غير محتاج إليها، وربما كان ممَّنْ يكنزون المال.

إذن: فالحق سبحانه يريد أنْ يُنمي القرض لماذا؟ قالوا: لأن الله يريد أن تسير حركة الحياة، وأنْ تتكامل، وأنت تعتز بمالك وتخاف عليه وتريد له النماء، وسوف تجد هذا كله في القرض، فاجعله قرضاً، فهو الباب الذي فتحه الله لك للزيادة وللثواب.

ثم إن الله تعالى احترم ملكيتك لمالك، وحرص على حمايته لك، فقال:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىا أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ... }[البقرة: 282].

فالله يحفظ عليك مالك لتهدأ بالاً من ناحيته، ومع ذلك يترك مجالاً لأريحية المعطي ومروءته{ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ... }[البقرة: 283].

وبهذه الفلسفة الإيمانية يدور المال وتسير به حركة الحياة، بحيث يضمن لصاحب المال ماله، لأنه مُحِبٌّ له حريص عليه، ويضمن لمن لا مالَ له أنْ يتحرك من مال الغير، فإذا كانت هناك أمانة أداء، فكل صاحب أمانة عليه أنْ يؤدِّيها لمستحقها.

فإن اختلت هذه الموازين، وماطل الفقيرُ الغنيَّ، وضنَّ عليه أنْ يردَّ إليه حقه، فقد فسد حال المجتمع وانهارت فيه هذه القيم، وساعتها لا نلوم القادر على العطاء إنْ أمسك ماله عن المحتاجين للقرض ولِمَ لا؟ والناس يأكلون الحقوق، وبذلك تتوقف حركة الحياة ويتراجع المجتمع عن مسايرة حركة التقدم.

فإذا كان الربا غير المشروط، وهو الربا في الهدايا والمجاملات والتحية بين الناس جعله الله للمودَّات وللمروءات بين الناس، لا يثيب عليه ولا يعاقب، وقال عنه } فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ... { [الروم: 39].

أما الربا المشروط فقد وقف معه وقفة حازمة، وشرع له عقاباً وجعل هذا العقاب من جنس ما يضادّ غرض الذي رَابَى، فأنت ترابي لتزيد من مالك، فيقابلك الله بالنقصان{ يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا... }

[البقرة: 276] لماذا؟

قالوا: لأن المعطي غنيٌّ واجد، لديه فائض من المال يعطي منه، أما الآخذ فمحتاج، فكيف نطلب من المحتاج أنْ يزيد في مال الواجد غير المحتاج؟ وكيف تكون نظرة المحتاج إليك حين يعلم أن عندك مالاً يزيد عن حاجتك، ومع ذلك ترفض أن تُقرضه القرض الحسن، بل تشترط عليه الزيادة، فتأخذ الزيادة منه وهو محتاج؟

ثم افرض أنني أخذت هذا القرض لأثمره وأنميه فخسر، أليس كافياً أنْ أخسر أنا عملي، وأنْ يضيع مجهودي؟ أمن العدل أن أخسر عملي، ثم أكون ضامناً للزيادة أيضاً؟ هذه ليست من العدالة؛ لأن شرط العقد أن يحمي مصلحة الطرفين، أما عقد الربا فلا يحمي إلا مصلحة الدائن.

ونحن نرى حتى التشريعات الوضعية في الاقتصاد إذا أعطى البنك مالاً لشخص لعمل مشروع مثلاً ثم خسر وأرادوا تسوية حالته، أول شيء في إجراءاتهم أنْ يُسقطوا عنه الفوائد.

وهذا يوافق شرع الله في قوله تعالى:{ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ }[البقرة: 279] (لاتُظلمون) بمعنى: أن نردَّ إليكم رءوس أموالكم؛ (ولا تظلمون) أي: لا نظلمك من ناحية أخرى، فنقول لك:

إنْ أردتَ أنْ تتوب فرُدّ ما أخذتَه بالربا بأثر رجعي؛ لأن ما أخذتَه قد صُرِف وتصعب إعادته، وبذلك نراعي مصلحة الدائن حين نعيد إليه رأس المال، ومصلحة المدين، فلا نكلفه ردَّ مَا لا يقدر على ردِّه.

وحين نتأمل هذه المسألة: آلدول أقوى أم الأفراد؟ الدول، أرأيتم دولة اقترضت مالاً من دولة أخرى، ثم استطاعت أن تُسدِّد فوائد هذا الدين فضلاً عن أصل الدَّيْن؟ كذلك الأفراد الأقوياء الذين يأخذون القروض، ثم لا يسددون مجرد الفوائد، ولا يستطيعون جدولتها ولا تسوية حالتهم، فيقعون في خصومات ومشاكل.

شيء آخر، هَبْ أن رجلاً لديه مثلاً ألف جنيه ورجل لا عند له، صاحب الألف يستطيع أن يديرها، وأن يعيش منها، أما الآخر الذي لا يملك شيئاً فيقترض ليعيش مثل صاحبه، فإنْ قلت له: الألف قرضاً بمائة جنيه، فمن أين يوفر هذه المائة؟

إنْ أخذها من عائد المال يخسر، وإنْ أخذها من السلعة بأنْ يُقلل من الجودة أو من العناصر الفعالة في السلعة، أو في التغليف، جاءت السلعة أقلَّ من مثيلاتها وبارت. إذن: لا بد أن يتحملها المستهلك، وهذا إضرار به، وهو ليس طرفاً في العقد، إذن: العقد باطل.

وحين نقول: إن الإسلام صالح لكل زمان ومكان يجب أن نفهم هذه القضية جيداً، وإياك أن تقول: إن الإسلام لا يصلح في زمان كذا، أو في مكان كذا.

والآن نسمع البعض ينصرف عن منهج الإسلام ويقول لك{ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا... }[البقرة: 286] أي: ليس في وُسْعه الآن تنفيذ شرع الله. لكن نقول له: مَن الذي يحدد الوُسْع؟ أنت أم المشرِّع سبحانه؟

ما دام الله تعالى قد كلَّف، فاعلم أن التكليف في وُسْعك، فخذ الوُسْع من التكليف، لا أن تُقدِّر أنت الوسع وتنسى ما كلَّفك الله به.

لذلك ترى أن الله تعالى إذا ضاق الوُسْع يُخفِّف عنك دون أنْ تطلب أنت التخفيف، كما في صلاة وصوم المريض والمسافر.. الخ وكما في التيمم إنْ تعذَّر استعمال الماء.

فلا معنى لأن نقول: إن تعاليم الدين لا تناسب العصر، إذن: اجعل العصر هو المشرِّع، وانصرف عن تشريع السماء إلى ما يحتمله العصر.

لذلك قلنا: إن الحق سبحانه حينما يلقي تكاليفه يقول:{ قُلْ تَعَالَوْاْ... }[الأنعام: 151] فمعنى تعالوا: ارتفعوا عن مستوى أهواء البشر، واعلوا إلى تكاليف الله، فإنْ هبطت بالتكاليف إلى مستواك، وقُلْت ظروف العصر تحتم عليَّ كذا وكذا فقد أخضعتَ منطق السماء لمنطق الأرض، وما جاء منطق السماء إلا ليعلو بك.

فإنْ نظرنا إلى مواقف العلماء من مسألة الربا، فمنهم مَنْ يُحلِّل، ومنهم مَنْ يُحرِّم وهم الكثرة، وهَبْ أنهم متساوون مَنْ يحرم ومَنْ يحلل، فما حكم الله فيما تساوتْ فيه الاجتهادات؟

النبي صلى الله عليه وسلم أوضح لنا هذه القضية في قوله: " الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرْضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه،’ألا وإن لكل ملك حِمىً، ألا وإن حمى الله محارمه ".

فهل قال رسول الله: فمَنْ فعل الشبهات أم: فمَنْ ترك الشبهات؟ إذن: مَنْ وقع في الشبهات لم يستبريء، لا لدينه ولا لِعرْضه، وهل يرضى أحد أنْ يُوصَف هذا الوصف؟ وعجيب أن نسمع مَنْ يقول: وما علاقة العِرْض بهذه المسألة؟ نقول: والله حتى غير المؤمن بدين يستنكف أن يقال عنه أنه مُرابٍ، عِرْضه لا يقبلها فضلاً عن دينه.

لذلك؛ فالمكارون الذين يريدون أن يُغلوها، ويريدون أن يعيشوا على دماء الناس لا يدرون أن النفعية هي القانون الذي يحكم الله به خَلْقه، فيجعل لهم الحسنة بعشر أمثالها، لذلك يقول اليهود: كيف تُحرِّمون الربا والله يعاملكم به؟

نعم، الحق - سبحانه وتعالى - يعاملنا بالربا، ويعطينا بالزيادة؛ لأن هذه الزيادة لا تُنقِص مما عنده سبحانه، أمّا الزيادة من الناس ومن المحتاجين فإنها ترهقهم وتزيدهم فقراً وحاجة.

ثم دَعْكَ من هذا كله، وتأمل في المحيط الذي تعيش فيه، ففي كل بلد أناس يحبون الربا ويتعاملون به، أرأيتم مرابياً مات بخير؟ أمات مرابٍ وثروته كاملة؟ لا، لأن الله تعالى لم يكن ليقول{ يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَا... }[البقرة: 276] ثم يترك مرابياً ينمو ماله، ويسلم له إلى أنْ يموت، فإن اغتنى لحين، فإنما غِنَاه كيد فيه، ومبالغة في إيذائه، كما جاء في الأثر " إذا غضب الله على إنسان رزقه من الحرام، فإن اشتد غضبه عليه بارك له فيه ".

واقرأ قول الله تعالى:{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىا إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ }[الأنعام: 44].

لذلك نسمع " فلان ماهر في التجارة " ، " فلان يضع يده في التراب يصير ذهباً "... الخ.

وسبق أن أوضحنا الفرق بين " فتحنا لهم " و " فتحنا عليهم ": " لهم " أي لصالحم بالخير، أما " عليهم " فيعني كيداً لهم وتحدياً وإهلاكاً، فالله تعالى يعطي الكافر ويُوسِّع عليه زهرة الدنيا، حتى إذا أخذه كان أخْذه أليماً، كما قلنا: إنك إنْ أردت أنَ تُوقِع عدوك لا توقعه من على الحصير، إنما من مكان عالٍ حتى يكون السقوط مؤلماً.

وقوله تعالى:{ حَتَّىا إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ... }[الأنعام: 44] والفرح بالنعمة ليس ممنوعاً، لكن هناك فرح يُحب، وفرح يُكره، وإلاَّ فالحق سبحانه نسب الفرح للمؤمنين في قوله تعالى في سورة الروم:{ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ... }[الروم: 4-5] وقال سبحانه:{ فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللَّهُ... }[آل عمران: 170] وقال:{ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ... }[يونس: 58] فأثبت لهم الفرح المقبول، وهو الفرح الذي يعقبه قولنا: ما شاء الله لا قوة إلا بالله ثم تشكر الله الذي أنعم عليك، أما الفرح المكروه فهوالفرح الذي يُورِثك بَطَراً وأَشَراً وكبراً.

ثم يقول الحق سبحانه: } اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ... {.

(/3373)

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)

سبق أنْ قلنا: إن قضية الخَلْق مُسلَّم بها؛ لأنها قضية لم يدَّعها أحد لنفسه مع كثرة المتبجحين بالكفر والإلحاد؛ لذلك لما ادَّعاها النمروذ الذي حاجَّ إبراهيم في ربه فقال: أنا أحيي وأميت، فعلم إبراهيم عليه السلام أنه يريد اللجاج والسفسطة التي لا طائل منها، وإلا فكيف يكون الأمر بقتل واحد إماتة، والأمر بترك الآخر والعفو عنه إحياء؟

ثم ما بال الذين خُلِقوا قبلك وميلادهم قبل ميلادك؟ إذن: أنت لم تخلق ولم تُحي أحداً، وسبق أنْ بيّنا الفرق بين القتل والموت مع أنهما يشتركان في إنهاء الحياة وإزهاق الروح، لكن الموت يكون بإزهاق الروح أولاً، يتبعه نَقْض البنية وتحطم الجسم.

أما القتل فينقض البنية أولاً نَقْضاً يترتب عليه إزهاق الروح فالروح لا تقيم إلا في بنية سليمة، ومثَّلنا لذلك بلمبة الكهرباء حين تحرق فينطفيء نورها، فهل يعني ذلك أن التيار انقطع عنها؟ لا بل هو موجود لكنه يحتاج لبنية سليمة بدليل أننا إذا استبدلنا اللمبة تضيء.

والحق - سبحانه وتعالى - يبين لنا هذا الفرق في قوله سبحانه:{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىا أَعْقَابِكُمْ... }[آل عمران: 144] إذن: فالنمروذ لا يحيي، بل يُبقِي على الحياة، ولا يُميت بل يقتل ويُزهِق الروح.

وكان بمقدور إبراهيم عليه السلام أنْ يردَّ عليه هذه الحجة، وأنْ يكشف تزييفه، لكنه أراد أن يأخذه إلى ميدان آخر لا يستطيع التلفيق فيه ولا التمحُّك، فقال له:{ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ... }[البقرة: 258].

كذلك مسألة الرزق فهي مُسلَّمة لله لم يدَّعِها أحد: { خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ... } [الروم: 40].

بدليل أن الله تعالى جعل بعض المناطق جدباء، يجوع فيها القادر والعاجز، ويجوع فيها ذو المال وغير ذو المال، ولو كان هناك رازق غير الله فَلْيْحُي هذه المناطق الجدباء.

وقوله تعالى: { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ.. } [الروم: 40] ولم يقل: يقتلكم { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَالِكُمْ مِّن شَيْءٍ... } [الروم: 40] أي: اسألهم هذا السؤال، ودَعْهم يجيبون هم عليه: أتستطيع الأصنام التي تشركونها مع الله أنْ تفعل شيئاً من الخَلْق أو الرزق أو الإحياء أو الإماتة؟

أفي قدرتها شيء من ذلك وأنتم الذين تصنعونها وتنحتون حجارتها بأيديكم، وتُصوِّرونها كما تشاؤون، فإذا هبَّتْ عاصفة أطاحت بها وربما كسرت ذراع أحد الأصنام فتجتمعون لإقامتها وإصلاحها؟ فأين عقولكم؟ وما هذه الخيبة التي أصابتكم؟

لذلك يقول سبحانه عنهم:{ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ }[النحل: 20] ويقول سبحانه:{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ... }[الحج: 73] بل وأكثر من ذلك

{ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ }[الحج: 73].

بالله، أيستطيع أحد أنْ يستردَّ ما أخذتْه منه الذبابة؟

ونلحظ في الآية تكرار (منْ) وهي للتبعيض: } هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَالِكُمْ مِّن شَيْءٍ... { [الروم: 40] والمعنى: لا يستطيع أحد من شركائكم أن يفعل شيئاً ولو هيِّناً من الخلق، أو الرزق، أو الإحياء، أو الإماتة.

لذلك يجب أنْ تُعلِّقوا على هذه القضايا من الله بقول واحد } سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىا عَمَّا يُشْرِكُونَ { [الروم: 40] لا تعليق إلا هذا.

لذلك لما تكلم سيدنا إبراهيم عن الأصنام قال:{ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ... }[الشعراء: 77] أي: أنتم وما تعبدون من دون الله؛ لأنهم كانوا يشركون آلهتهم مع الله، فالله سبحانه داخل في هذه الشركة؛ لذلك استثناه ربه{ إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ }[الشعراء: 77-78].

وتلحظ هنا في قوله{ الَّذِي خَلَقَنِي... }[الشعراء: 78] أنه لم يؤكدها بشيء، ولم يذكر قبل الخَلْق الضمير (هو)؛ لأن مسألة الخَلْق كما قُلْنا لم يدَّعها أحد، أمّا في الهداية وهي مجال ادعاء، فقال (فهو) أي: الحق سبحانه يقصر الهداية على الله{ فَهُوَ يَهْدِينِ }[الشعراء: 78].

وفي هذا إشارة إلى أن القانون الذي يُنظم حياتي والمنهج الذي يهديني قانون ربي لا آخذه من أحد سواه، وكثيراً ما نرى مَنْ يدَّعي الهداية ويقول: إنني وضعتُ قانوناً يُسعِد حياة الناس، ويفعل كذا وكذا، سمعنا هذه النغمة مرة من الرأسمالية، ومرة من الاشتراكية، ومن الشيوعية..الخ.

إذن: هذا مجال ادعاء واسع، فقيَّده إبراهيم - عليه السلام - وقصره على الله، حيث لا منهجَ إلا منهجُ الله، ولا قانونَ يحكمنا إلا قانون ربنا، كما نقول في العامية (مفيش إلا هو).

كذلك في مسألة الإطعام قال:{ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي... }[الشعراء: 79] فاستخدم القصر هنا بذكر الاسم الموصول (الذي) ثم الضمير المفرد الغائب(هو)؛ ليؤكد أن الذي يطعمه إنما هو الله؛ لأن الإنسان قد يظن أن أباه هو الذي يطعمه، أو أن أمه هي التي تُطعمه؛ لأنها تُعِد له طعامه، فهما السببان الظاهران في هذه المسألة، فاحتاج الأمر إلى أكثر من مؤكد.

ثم يقول عليه السلام:{ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ }[الشعراء: 81] هكذا دون توكيد؛ لأن الموت والحياة مسألتان مُسلَّمتان لله مفروغ منهما، وكذلك:{ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ }[الشعراء: 82] وهذه أيضاً لا تكون إلا لله تعالى.

إذن: ما كان للغير فيه شبهة عمل يؤكدها ويخصُّها لله تعالى، أما الأخرى التي لا دخْلَ لغير الله فيها فيسوقها مُطْلقة دون اختصاص.

فالتعليق في هذا الأمر العجيب لا يكون إلا بقولنا: } سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىا عَمَّا يُشْرِكُونَ { [الروم: 40] أي: تنزيهاً له عن الشركة، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا أن الله تعالى قال: لا إله إلا أنا، ولم يَقُمْ لهذه القضية منازع، ولم يدَّعها أحد لنفسه.

إذن: فهي مُسلَّمٌ بها، وإلا فإنْ كان هناك إله آخر فأين هو؟ ولماذا لم يدافع عن حقه في الألوهية؟ إن كان لا يدري فهو غافل، وإنْ كان يدري ولم يعارض فهو جبان، وفي كلتا الحالتين لا يصلح أن يكون إلهاً.

لذلك ربنا حكمها بقضية واحدة، فقال:{ قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىا ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً }[الإسراء: 42].

ثم يقول الحق سبحانه: } ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ... {.

(/3374)

ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)

ظهر: بان ووضح. والظهور: أن يُبين شيء موجود بالفعل لكنَّا لا نراه، وما دام الحق سبحانه قال: { ظَهَرَ الْفَسَادُ... } [الروم: 41] فلا بُدَّ أن الفساد كان موجوداً، لكن أصحاب الفساد عمُّوه وجَنُّوه إلى أن فقس وفرخ في المجتمع.

والفساد لا يظهر إنما يظهر أثره، أتذكرون الزلزال الذي حدث والذي كشف الفساد والغش والتدليس بين المقاول والمهندس، وكانت المباني قائمة والفساد مستتراً إما لغفلتنا عنه، أو لتواطئنا معه، أو لعدم اهتمامنا بالأشياء إلى أن طمَّتْ المسائل، ففضح الله الأرض بالزلزال، ليكشف ما عندنا من فساد.

فإذا ازداد الغش، وانتشر وفَاقَ الاحتمال لا بُدَّ أن يُظهره الله للناس، فلم يَعُدْ أحد قادراً على أن يقف في وجه الفساد، أو يمنعه؛ لذلك يتدخَّل الحق سبحانه، ويفضح أهل الفساد ويذيقهم آثار ما عملت أيديهم.

وتأتي ظهر بمعنى " الغلبة " كما في قوله تعالى:{ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَىا عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ }[الصف: 14] أي غالبين. وفي سورة التحريم:{ وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ.. }[التحريم: 4].

وبمعنى " العلو " في قوله تعالى:{ فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً }[الكهف: 97].

فالمعنى { ظَهَرَ الْفَسَادُ... } [الروم: 41] أي: غلب الصلاح وعلا عليه، والكون خلقه الله تعالى على هيئة الصلاح، وأعدّه لاستقبال الإنسان إعداداً رائعاً، وللتأكد من صدْق هذه المسألة انظر في الكون وأجناسه وأفلاكه وأجوائه، فلن ترى فساداً إلا فيما تتناوله يد الإنسان.

أما ما لا تتناوله يد الإنسان، فلا ترى فيه خللاً؛ لأن الله خلقه منسجمَ الأجناس منسجمَ التكوين:{ لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّيلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ }[يس: 40].

فهل خلقنا الحق سبحانه وخلق اختيارنا لنفسد في الكون؟

لا، إنما هو ابتلاء الاختيار حين ينزل عليك المنهج ويجعله قانوناً لحركتك بافعل ولا تفعل، وما لم أقُل فيه (افعل) أو (لا تفعل) فأنت حر فيه، فلا يحدث من الفعل أو من عدمه ضرر في الكون، أمّا أنا فقد قلت افعل في الذي يحصل منه ضرر بعدم فعله، وقلت لا تفعل في الذي يحصل ضرر من فعله.

فالفساد يأتي حين تُدخِل يدك في شيء وأنت تطرح قانون الله في افعل ولا تفعل، أما الصلاح فموجود وفيه مناعة يكافح بها الفساد، فإنْ علا تيار الفساد وظهر على الصلاح وغلبه بان للناس.

وعندها يُنبِّهنا الحق سبحانه بالأحداث تطرقنا وتقول لنا: انظروا إلى مَنْ خالف منهج الله ماذا حدث له؛ لذلك في أعقاب الأحداث نزداد عشقاً لله، وحباً لطاعته، وترى الناس (تمشي على العجين متلخبطه)، لكن سرعان ما يعودون إلى ما كانوا عليه من الإهمال والغفلة، على حَدِّ قول الشاعر:تُروِّعنا الجناَئِزُ مُقْبِلاتٍ ونلهُو حِين تَذهَبُ مُدبراتِكَروْعَةِ ثُلَّةٍ لمغَارِ ذِئْبٍ فَلما غابَ عادتْ راتعاتِ

فالحق يقول: } ظَهَرَ الْفَسَادُ... { [الروم: 41] أي: غلب على قانون الصلاح الذي أقام الله عليه نظام هذا الكون، الذي لو نالتْه يد الإنسان لَفسد هو الآخر، كما قال سبحانه:{ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ.... }[المؤمنون: 71].

فظواهر الكون أشياء وقضايا لكل العامة، ومن الحكمة إلاّ تنالها يد الإنسان؛ لأن الله تعالى يريد للكون البقاء، ولم يأْتِ أوان انتهائه، لذلك الحق سبحانه يجعل فينا مناعة تجعلنا نقبل الفساد إلى حين، إلى أن يصل إلى درجة التشبُّع، فتتفجر الأوضاع.

فقوله: } ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ... { [الروم: 41] نتيجة لدعوته صلى الله عليه وسلم؛ لأن كلمة (ظهر) تدل على أن شيئاً وقع، فكأنه يقول لنا: إنْ كررتم الفساد والغفلة تكرَّر ظهور الفساد، فهو يعطينا مُلخصاً لما حدث بالفعل من عداوتهم لرسول الله، ومقاطعته وعزله وإغراء السفهاء منهم للتحرش به، ثم عداوة أصحابه وإجبارهم على الهجرة إلى الحبشة حتى لا يستقر لهم قرار بمكة.

لذلك دعا عليهم رسول الله: " اللهم اشْدُد وطأتك على مُضَر، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف " فأصابهم الجَدْب والقحط، حتى رُوِي أنهم كانوا يذهبون للبحر لصيد السمك، فيبتعد عنهم ولا يستقيم لهم فيعودون كما أتوا.

وهذا معنى } ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ... { [الروم: 41].

ثم يوضح الحق سبحانه سبب هذا الفساد: } بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ... { [الروم: 41] فتلحظ هنا أن الحق سبانه لما يذكرالرحمة لا يذكر عِلَّتها، لكن يذكر عِلَّة الفساد؛ لأن الرحمة من الله سبحانه أولاً وأخيراً تفضُّل، أما الأخذ والعذاب فبَعدله تعالى؛ لذلك يُبِّين لك أنك فعلت كذا، وتستحق كذا، فالعلَّة واضحة.

هناك قضية أخرى أحب أن أوضحها لكم، وهي أن الحق سبحانه يعامل خَلْقه معاملته في الجزاء، فالله يقول:{ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا... }[الأنعام: 160].

إذن: فالحسنة الواحدة تستر عشر سيئات، وكذلك في جسم الإنسان، فيقول بعض علماء وظائف الأعضاء والتشريح: إن الكلية بها مليون خلية يعمل منها العُشْر بالتبادل، فمجموعة تعمل، والباقي يرتاح وهكذا. فانظر كم ترتاح الخلية حتى يأتي عليها الدور في العمل.

فكأن ربنا - سبحانه وتعالى - خلق لها العشر يقوم مقام المليون؛ لذلك قالوا لو أن في أحد الدواوين عشرة موظفين، منهم واحد واحد محسن، يستر إساءة الباقين، وكثيراً ما تلاحظ هذه الظاهرة في دواوين الحكومة، فترى غالبية الموظفين منشغلين: هذا يقرأ الجرائد، وهذا يشرب الشاي، وآخر لم يأْتِ أصلاً.

وخلف كومة من الملفات تجد موظفاً نحيلاً غارقاً في العمل، يقصده الجميع، ويتحمل هو تقصير الآخرين، ويؤدي عنهم، وبه تسير دفَّة الأمور، لكن إنْ فقدنا هذا أيضاً، فلا بُدَّ أن تأتي } ظَهَرَ الْفَسَادُ... { [الروم: 41] إذن: إن رأيت الفساد فاعلم أنه نتيجة إهمال وغفلة فاقت كل الحدود.

وما دام الحق سبحانه قال: } بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ... { [الروم: 41] فلا بُدّ أن الفساد جاء من ناحيتهم، وبالله هل اشتكينا أزمة في الهواء مثلاً؟ لكن نشتكي تلوث الهواء بما كسبتْ أيدي الناس، أمّا حين نذهب إلى الخلاء حيث لا يوجد الإنسان، نجد الهواء نقياً كما خلقه الله.

الحق سبحانه تكفَّل لنا بالغذاء فقال:{ وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا... }[فصلت: 10] لكنا نشتكي أزمة طعام، لماذا؟ لأن الطعام يحتاج إلى عمل، ونحن تكاسلنا، وأسأنا التصرُّف في الكون، إما بالكسل والخمول عن استخراج خيرات الأرض وأقواتها، وإما بالأنانية حيث يضنُّ الواجد على غير الواجد.

وقد قرأنا مثلاً أن أمريكا تسكب اللبن في البحر، وتعدم الكثير من المحصولات، وفي العالم أُناس يموتون جوعاً، إذن: هذه أنانية، أما التكاسل فقد حدث منا في الماضي.

وانظر الآن إلى صحرائنا التي كانت جرداء قاحلة، كيف اخضرت الآن، وصارت مصدراً للخيرات لما اهتممنا بها ويسَّرنا ملكيتها للناس، فإنْ ضنَّتْ الأرض في منقطة ما فقد جعل الله لنا سعة في غيرها، فالخالق سبحانه لم يجعل الأرض لجنس ولا لوطن، إنما جعلها مشاعاً لخَلْق الله جميعاً.

واقرأ قوله تعالى:{ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا... }[النساء: 97].

ولذلك قلت في هيئة الأمم: إن في القرآن آية واحدة، لو أخذ العالم بها لضمنت له الرخاء والاستقرار والأمان، إنها قوله تعالى:{ وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ }[الرحمن: 10] فالأرض كل الأرض للأنام كل الأنام، لكن الواقع خلاف ذلك، فقد وضعوا للأرض حدوداً، وأقاموا عليها الحواجز والأسوار، فإنْ أردتَ التنقّل من قطر إلى آخر تجشَّمت في سبيل ذلك كثيراً من المشاق في إجراءات وتأشيرات.. إلخ.

وكانت نتيجة ذلك أن يوجد في الكون رجال ازدحموا بلا أرض، وفي موضع آخر أرض بلا رجال، ولو حدث التكامل بين هذه وتلك لاستقامت الأمور.

إذن: الذين وضعوا الحدود والحواجز في أرض الله أخذوها لأنفسهم، فلم تَعُدْ أرض الله الواسعة التي تستقبل خَلْق الله من أي مكان آخر، إنما جعلوها أرضهم، وأخضعوها لقوانينهم هم، وتعجب حين تتأمل حدود الدول على الخريطة، فهي متداخلة، فترى جزءاً من هذه الدولة يدخل في نطاق دولة أخرى، على شكل مثلث مثلاً، أو تمتد أرض دولة في دولة أخرى على شكل لسان أو مناطق متعرجة، فماذ دُمْتم قد وضعتم بينكم حدوداً، فلماذا لا تجعلونها مستقيمة؟

وكأن واضعي هذه الحدود أرادوها بُؤراً للخلاف بين الدول، ولا يخلو هذا التقسيم من الهوى والعصبيات القبلية والجنسية والقومية والدينية، لكن لو أخذنا بقول ربنا:{ وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ }[الرحمن: 10] لما عانينا كل هذه المعاناة.

وقوله تعالى: } كَسَبَتْ... { [الروم: 41] عندنا: كسب واكتسب، الغالب أن تكون كسب للحسنة، واكتسب للسيئة؛ لأن الحسنة تأتي من المؤمن طبيعة بدون تكلُّف أو افتعال، فدلَّ عليها بالفعل المجرد (كسب).

أما السيئة، فعلى خلاف الطبيعة، فتحتاج منك إلى تكلُّف وافتعال، فدلَّ عليها بالفعل المزيد الدال على الافتعال (اكتسب).

أَلاَ ترى أنك في بيتك تنظر إلى زوجتك وبناتك كما تشاء، أما الأجنبية فإنك تختلس النظرات إليها وتحتال لذلك؟ فكل حركاتك مفتعلة، لماذا؟ لأنك تفعل شيئاً محرماً وممنوعاً، أما الخير فتصنعه تلقائياً وطبيعياً بلا تكلُّف.

كما أن الحسنة لا تحتاج منك إلى مجهود، أمّا السيئة فتحتاج إلى أنْ تٌجنَّد لها كل قواك، وأن تحتاط، كالذي يسرق مثلاً، فيحتاج إلى مجهود، وإلى محاربة لجوارحه؛ لأنها على الحقيقة تأبى ما يفعل.

ومع ذلك نلحظ قوله تعالى:{ بَلَىا مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ... }[البقرة: 81].

فجعل السيئة كَسْباً لا اكتساباً. قالوا: لأن السيئة هنا صارت عادة عنده، وسهلت عليه حتى صارت أمراً طبيعياً يفعله ولا يبالي كالذي يفعل الحسنة، وهذا النوع والعياذ بالله أحب السيئة وعشقها، حتى أصبح يتباهى بها ولا يسترها ويتبجح بفعلها.

وهذا نسميه (فاقد)، فقد أصبح الشر والفساد حرفة له، فلا يتأثر به، ولا يخجل منه كالذي يقبل الرِّشْوة، ويفرح لاستقبالها، فإن سألته قال لك: وماذا فيها؟ أنا لا أسرق الناس.

وقوله تعالى: } لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ... { [الروم: 41] الإذاقة هنا عقوبة، لكنها عقوبة الإصلاح كما تعاقب ولدك وتضر به حرصاً عليه، وسبق أن قلنا: إنه لا ينبغي أن نفصل الحدث عن فاعله، فقد يعتدي ولد على ولدك، فيجرحه فتذهب به للطبيب، فيجرحه جرحاً أبلغ، لكن هذا جرح المعتدي، وهذا جرح المداوي.

وحين يُذيق الله الإنسانَ بعض ما قدَّمت يداه يوقظه من غفلته، ويُنبِّه فيه الفطرة الإيمانية، فيحتاط للأمر ولا يهمل ولا يقصر، وتظل عنده هذه اليقظة الإيمانية بمقدار وَعْيه الإيماني، فواحد يظلّ يقظاً شهراً، ثم يعود إلى ما كان عليه، وآخر يظل سنة، وآخر يظل عمره كله لا تنتابه غفلة.

وقد أذاق اللهُ أهلَ مكة عاقبة كفرهم حتى جاعوا ولم يجدوا ما يأكلونه إلا دَمَ الإبل المخلوط بوبرها، وهو العِلْهِز.

وقوله: } لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ { [الروم: 41] لأن الكلام هنا في الدنيا، وهي ليستْ دار جزاء، فالحق يُذيقهم بعض أعمالهم ليلتفتوا إليه سبحانه، ويتوبوا ويعودوا إلى حظيرة الإيمان؛ لأنهم عبيدة، وهو سبحانه أرحم بهم من الوالدة بولدها.

والحق سبحانه ساعة يقول } ظَهَرَ الْفَسَادُ... { [الروم: 41] أي: على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُبيِّن لنا أن الرسل إنما جاءوا لإنقاذ البشرية من هذا الفساد، لكن ما دام الأمر عُلِّل فالأمر يدور مع العلة وجوداً وعدماً، فكلما ظهر الفساد حلَّتْ العقوبة، فخذوها في الكون آية من آيات الله إلى قيام الساعة.

فظهر الفساد قديماً{ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }

[العنكبوت: 40]

لكن هذا الأخْذ كان قبل سيدنا رسول الله في الأمم السابقة، وكان هلاك استئصال؛ لأن الرسل السابقين لم يُكلَّفوا بالمحاربة لأجل نَشْر دعوتهم، فما عليهم إلا نشر الدين وتبليغه، مع التأييد بالمعجزات، فإنْ تأبَّى عليهم أقوامهم تولَّى الحق سبحانه عقابهم، أما أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقد أكرمهم الله بألاَّ يعاقبها بعذاب الاستئصال.{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }[الأنفال: 33].

ثم سيظهر الفساد حديثاً وسيحدث العقاب. إذن: ليست الأمة الإسلامية بِدَعاً في هذه المسألة.

ثم يقول الحق سبحانه: } قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ.... {.

(/3375)

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)

السير: الانتقال من حيز مكاني إلى حيز آخر، وسبق أنْ قلنا: إن النظرة السطحية في ظاهر الأمر أن السير يكون على الأرض لا فيها؛ لأننا نسكن على الأرض لا فيها، لكن الحق سبحانه يُبصرنا بقوله: { قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ... } [الروم: 42] أن الأرض ليست هي اليابسة والماء على سطح الكرة الأرضية، أما الأرض فتشمل غلافها الجوي لذلك يدور معها وهو إكسير الحياة فيها؛ فلا حياة لها إلا به.

إذن: فهواء الأرض من الأرض، وهو أهم الأقوات للأحياء عليها، فحين يقول تعالى:{ وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا... }[فصلت: 10] فالهواء داخل فيها، لذلك قال { قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ... } [الروم: 42].

وقلنا: لو أنك استقرأتَ أجناس الوجود لوجدت أنك الجنس الأعلى في الكون، وكل الأجناس تحتك تخدمك، فأنت تنتفع بالحيوان وبالنبات وبالجماد، فأدنى الأجناس في الكون وهو الجماد له مهمة يؤديها.

فأنت أيها الإنسان الذي كرَّمك الله على كل أجناس الوجود إذا لم تبحث لك عن مهمة تؤديها في الحياة، ودور تقوم به، فأنت أقل منزلةً من أدنى الأجناس وهو الجماد، إذا لم تبحث بعقلك عن شيء ترتبط به يناسب سيادتك على مَنْ دونك، فأنت أتفه من الحجر؛ لأن الحجر له مهمة يؤديها، وأنت لا مهمةَ لك.

لكن هذا الجنس الأدنى إنْ أراد سبحانه أعطاه عزة فوق السيد المخدوم وهو الإنسان، ففي فَرْض الحج يُسَنُّ لك أن تُقبِّل هذا الحجر، وتسعى جاهداً لكي تُقبِّله، وتأمل الإنسان - وهو سيد هذا الوجود - وهو يحاول أنْ يُقبِّل الحجر، ويغضب إنْ لم يتمكن من ذلك.

وتأمل الردَّ من دولة الأحجار على مَنْ عبدها من دون الله:عَبَدُونَا ونَحْنُ أعبَدُ لله منَ القائمين بالأسْحارِتَخِذُوا صَمْتنَا عَليْنَا دَليلاً فَغدوْنَا لَهُم وقُودَ النارِقَدْ تجنَّوا جَهْلاً كما قَدْ تجنَّوْه علَى ابْن مريم والحَوارِيَللمغَالِي جَزَاؤه والمغَالَي فيهِ تُنجِيهِ رَحْمةُ الغفَّارِثم يقول سبحانه: { فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ... } [الروم: 42] فالسير في الأرض يكون إما للسياحة والتأمل في آيات الله في كونه، لذلك يستخدم فيها الفاء { فَانْظُرُواْ... } [الروم: 42] أو يسير في الأرض لطلب الرزق.

وفي آية أخرى:{ قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُواْ... }[الأنعام: 11] والمعنى: سيروا في الأرض للاستثمار، وطلب القوت، وقضاء المصالح، لكن لا يفوتكم النظر والتأمل في آيات الله وفي مخلوقاته لتأخذوا منها العبرة والعظة.

ومعنى: { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ... } [الروم: 42] أي الذين ظهر الفساد بينهم، فأذاقهم الله الألم بما كسبتْ أيديهم، فهذه ليست عندك وحدك، إنما حدثتْ في الأمم السابقة، كما قال سبحانه:{ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ }[الصافات: 137].

فهناك مدائن صالح والأحقاف وعاد وثمود والفراعنة.. إلخ انظر ما حلَّ بهم بعد الحضارة والنضارة، بعد ما توصلوا إليه من علم التحنيط الذي لم يعرف العلم أسراره حتى الآن، ويضعون مع جثث الموتى حبوب القمح أو الشعير، فتظل على حالها، بحيث إذا زُرِعت بعد آلاف السنين تنبت.

إنها قدرة علمية فائقة، ومع ذلك ما استطاعت هذه الحضارة أن تحمي نفسها من الاندثار، وإذا كان القرآن قد قال عن الحضارة الفرعونية{ وَفِرْعَوْنَ ذِى الأَوْتَادِ }[الفجر: 10] فقد قال عن إرم{ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ }[الفجر: 8].

فأيُّ حضارة هذه؟ وأين هي الآن؟ طمرتها رمال الأحقاف، ودفنتها تحت أطباق الثرى، ولا تعجب من ذلك، ففي هذه المنطقة إنْ هبَّتْ عاصفة واحدة، فإنها تغطي قافلة كاملة بجمالها ورجالها تحت الأرض، فما بالك بالعواصف منذ قرون طوال؛ لذلك نجد كل الآثار يتم التنقيب عنها حَفْراً.

إذن: فالحضارات مع عظمها لم تستطع أنْ تحمي نفسها من الزوال، وهذا دليل على وجود قوة أعلى منها تزيلها وتقضي عليها.

وقوله تعالى: } كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ { [الروم: 42] أي: أن القليل منهم لم يكُنْ مشركاً، قالوا: هذه القِلّة هم الصبيان والمجانين، ومن ليس له إرادة حرة، وإن أخذت هذه القلة مع الكثرة المشركة، فإن الله إنما أراد بهم خيراً؛ لأن مثواهم إلى الجنة بغير حساب.

لذلك لما تكلمنا عن موسى والعبد الصالح في سورة الكهف: لما قتل الخضر الغلام تعجَّب موسى، ففي المرة الأولى خرق السفينة واعتدى على ملْك، أما في هذه المرة فقد أزهق روحاً؛ لذلك قال في الأولى{ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً }[الكهف: 71] أي: عجيباً، أما في الثانية فقال:{ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً }[الكهف: 74].

ثم بيَّن الخضر الحكمة من قتل الغلام فقال: إن له أبوين صالحين، وفي علم الله تعالى أنه سيفسد عليهما دينهما؛ لأن الفتنة تأتي الإنسان غالباً من الزوجة أو من الولد، كما قال سبحانه:{ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ... }[التغابن: 14] لماذا؟ لأنهما يحملانك على ما لا تطيق، ويضطرانك ربما للسرقة أو للرشوة لتوفر لهما ما يلزمهما، ولأن الفساد يأتي من ناحيتهما قال سبحانه:{ مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً }[الجن: 3] يعني: طمئنوا عبادي، فلا أحد يؤثر على إرادتي.

إذن: فالخضر صنع الجميل بالوالدين، حيث أنقذهما من هذا الابن، وصنع أيضاً جميلاً بالغلام حيث قتله قبل سِنِّ التكليف، وجعل مصيره إلى الجنة، وربما لو تركه لكان كافراً بالله عاقاً لوالديه، وهذا كله إنما جرى بأمر الله وحكمه: } وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي... { [الكهف: 82].

وكأن الحق - تبارك وتعالى - يقول لنبيه في هذه المسألة بداية من{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ... }[الروم: 41] ثم إنزال العقاب بهم جزاء ما عملتْ أيديهم وأجبتُك في دعوتك عليهم.

كل ذلك إنما يعني أنني أقوِّي مركزك، ولن أتخلى عنك، وما دام الأمر كذلك فإياك أن يُؤثِّر فيك مكرهم أو تركن إلى أحد منهم ممَّنْ قالوا لك: تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، لكن يقول الحق سبحانه: } فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ الْقِيِّمِ... {.

(/3376)

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)

قوله تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ الْقِيِّمِ... } [الروم: 43] يعني اطمئن يا محمد، وتفرغ لعبادة الله لأنني وعدتُك بالنصر، وأجبتُك حين قُلْت: " اللهم اشْدُدْ وطأتك على مُضَر، واجعلها عليهم سنين كسنيِّ يوسف ". { فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ }[غافر: 77] يعني: مَنْ لم تَنَلْهُ عقوبة الدنيا نالته عقوبة الآخرة.

وقال: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ... } [الروم: 43] لأن الوجه محلُّ التكريم، وسيد الكائن الإنساني، وموضع العزة فيه، بدليل أن السجود والضراعة لله تعالى تكون بوضع هذا الوجه على الأرض؛ لذلك حين ترسل شخصاً برسالة أو تُكلِّفه أمراً يقضيه برِجْله، أو بيده، أو بلسانه، أو بأيِّ جارحة من جوارحه تقول له: أرجو أنْ تُبيِّض وجهي؛ لأن الوجه هو السيد.

ومن ذلك قوله تعالى:{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ... }[القصص: 88] لأنك لا تعرف سمة الناس إلا بوجوههم، ومَنْ أراد أنْ يتنكر أو يُخفي شخصيته يستر مجرد عينيه، فما بالك إنْ ستر كل وجهه، وأنت لا تعرف الشخص من قفاه، ولا من كتفه، ولا من رجله، إنما تعرفه بوجهه، ويقولون: فلان وجيه القوم، أو له وجاهته في القوم، كلها من ناحية الوجه.

وما دام قد خصَّ الوجه، وهو أشرف شيء فيك، فكُلُّ الجوارح مقصودة من باب أَوْلَى فهي تابعة للوجه، فالمعنى: أقِم يدك فيما أمرك الله أن تفعل ورجلك فيما أمرك الله أنْ تسعى، وقلبك فيما أمرك الله أن تشغل به، وعينك فيما أمرك الله أن تنظر فيه.. الخ.

يعني: انتهز فرصة حياتك { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ... } [الروم: 43] هو يوم القيامة { لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ... } [الروم: 43] المعنى: أن الله حين يأتي به لا يستطيع أحد أنْ يسترده من الله، أو يأخذه من يده، أو يمنعه أنْ يأتي به، أو أنه سبحانه إذا قضي الأمر لا يعود ولا يرجع فيه.

فكلمة { مِنَ اللَّهِ... } [الروم: 43] تعطينا المعنيين، كما في قوله تعالى:{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ.. }[الرعد: 11] فكيف تحفظه المعقِّبات من أمر الله؟ قالوا: كونهم مُعقِّبات للحفظ أمر صادر من الله أصلاً، وبناءً على أمره تعالى بالحفظ.

وقوله: { يَوْمَئِذٍ... } [الروم: 43] يعني: في اليوم الذي لا مردَّ له من الله { يَصَّدَّعُونَ } [الروم: 43] أي: هؤلاء الذين تكاتفوا على حربك وعلى عداوتك وإيذائك، وتعصَّبوا ضدك { يَصَّدَّعُونَ } [الروم: 43] أي: ينشقُّون بعضهم على بعض، ويتفرقون، وقد وردت هذه المسألة في آيات كثيرة.

والتفريق إما إيمان وكفر أي: أشقياء وسعداء، وإما أن يكون التفريق في القوم الذين عاندوا واتبعوا أتباعهم على الشرك، فيتبرأ كل منهم من الآخر، كما قال سبحانه:{ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ... }[البقرة: 166].

ثم قال الحق ليبين لنا ذلك التفريق في الآخرة بعلّته، وعِلَّته ما حدث في الدنيا، فالله تعالى لا يظلم أحداً، فقال بعد ذلك: { مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ... }.

(/3377)

مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)

ما دامت القيامة أمراً لا مردَّ له من الله، فلننتبه للعواقب، ولنحسب لها حساباً، فمَنْ كفر فعليه كفره، عليه لا له، وهذه قضية تقتضي أن نقول في مقابلها: ومَنْ آمن فله إيمانه.

بعد أن بيَّن الدلائل الواضحة على واحديته في الكون، وأحديته في ذاته سبحانه، وبيَّن الأدلة الكونية بكُلِّ صورها برهاناً وحجةً، وضرب أمثالاً وتفصيلاً بعد ذلك قال: سأقول لكم أنكم أصبحتم مختارين أي: خلقتُ فيكم الاختيار في التكليف حتى لا أقهر أحداً على الإيمان بي.

وخَلْق الاختيار في التكليف بعد القهر في غير التكليف يدلُّ على أن الله تعالى لا يريد من عباده قوالب تأتمر بأمر القهر، ولكنه يريد أنْ يجذب الناس بمحبوبيتهم للواحد الأحد.

وإلا فكان من الممكن أن يخلقهم جميعاً مهتدين، وأنْ يخلقهم على هيئة لا تتمكّن من الكفر، وتسير إلى الطاعة مرغمة، كما قال سبحانه حكاية عن السماء والأرض:{ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ }[فصلت: 11] وذلك يُفسِّر لنا أمانة خَلْق الاختيار في الناس.

والحق - سبحانه وتعالى - حينما تكلم عن هذه المسألة بوضوح قال:{ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا... }[الأحزاب: 72] والإباء هنا ليس إباء تكبُّر على مراد الله، إنما وضعوا أنفسهم في الموضع الطبيعي، فقالوا: لا لحمل الأمانة؛ لأننا لا نأمن أنفسنا ولا نضمنها عند الأداء.

والإنسان كذلك ابن أغيار، فقد يحمل الأمانة، ويضمن أداءها في وقت التحمل، لكنه لا يضمن نفسه عند الأداء، وسبق أن مثَّلْنا لذلك بمَنْ يقبل الأمانة، ويرحب بها عند التحمل، ثم تطرأ عليه من أحداث الحياة ما يضطره لأنْ يمدَّ يده إلى هذه الأمانة وإنْ كان في نيته الأداء، لكن يأتي وقته فلا يستطيع، وآخر يُقدِّر هذه المسئولية ويرفض تحمل الأمانة، وهذا هو العاقل الذي يُقدِّر الظروف وتغيّر الأحوال.

ومعلوم أن الأمانة لا تُوثَّق، فإنْ كتبتَ وشهد عليها فإنها لم تَعُدْ أمانة، فالأمانة إذن مردُّها لاختيار المؤتمن إنْ شاء أقرَّ بها، وإنْ شاء أنكرها.

فالحق سبحانه قال حكاية عن السماوات والأرض والجبال{ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا.. }[الأحزاب: 72] لأنهم يُقدِّرون مسئوليتها، أما الإنسان فقد تعرَّض لحملها وقال: عندي عقل أفكر به، وأختار بين البدائل، وسوف أؤدي، فضمن وقت التحمل، لكنهن لا يضمن وقت الأداء، فظلم نفسه وجهل حقائق الأمور.

{ وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }[الأحزاب: 72] ظلوماً لنفسه، جهولاً بما يمكن أنْ يطرأ عليه من الأغيار.

وما دام الإنسان ابن أغيار، فإنه لا يثبت على حال؛ لذلك قلنا: إذا صعد الإنسان الجبل إلى قمته وهو ابن أغيار فليس أمامه إلا أنْ ينزل، والعقلاء يخافون أنْ تتم لهم النعمة؛ لأنه ليس بعد التمام إلا النقصان، كما قال الشاعر:

إِذَا تَمَّ شيء بَدا نَقْصُه ترقَّبْ زَوَالاً إذَا قِيلَ تَمّفإذا قلت: لماذا خلق الله الاختيار في الإنسان ولم يخلقه في الأجناس التي تخدمه من جماد ونبات وحيوان؟ نقول: كُنْ دقيقاً، وافهم أنها أيضاً خُيّرت بقوله تعالى:{ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ... }[الأحزاب: 72].

إذن: هذه الأجناس أيضاً خُيِّرت، لكنها اختارت اختياراً واحداً يكفيها كل الاختيارات، فقالت: نريد يا رب أنْ نكون مقهورين لكل ما تريد.

ولما كنا مختارين أعطانا الله تعالى هذه القضية: } مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ... { [الروم: 44] وكلمة (عَلَيْه) تفيد الدَّيْن والوِزْر، و (له) تفيد النفع، فإذا جئنا بالمقابل بقول: ومَنْ آمن فله إيمانه، كما في:{ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ }[الانفطار: 13-14].

لكن القرآن لم يَأْت بهذا المقابل، إنما عَدَل إلى مسألة أخرى: } وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ { [الروم: 44] فلماذا؟ قالوا: لأن فائدة الإيمان أن تعتقد بوجود إله قادر واحد هو الله فتؤمن به، فإذا ما أمرك تطيع، فعِلَّة الإيمان التكليف؛ لذلك حين تبحث أيَّ تكليف إياك أنْ تنظر إلى عِلَّته فتقول: كلفني بكذا لكذا، فعِلَّة التكليف وحكمته عنده تعالى.

فإذا قلنا مثلاً: حكمة الصيام أنْ يشعر الغنيُّ ويذوق ألم الجزع فيعطف على الفقير، فهل يعني هذا أن الفقير المعدَم لا يصوم؟ إذن: ليست هذه حكمة الصيام، والأصوب أنْ تقول: أصوم؛ لأن الله أراد مني أن أصوم، وحكمة الصيام عنده هو.

ومثَّلنا لذلك ولله تعالى المثل الأعلى: أنت حين تشكو مرضاً أو ألماً تسأل عن الطبيب الماهر والمتخصص حتى تنتهي إليه، وعندها تنتهي مهمة عقلك، فتضع نفسك بين يديه يفحصك ويُشخِّص مرضك، ويكتب لك الدواء، فلا تعارضه في شيء، ولا تسأله لماذا كتب هذا الدواء.

فإذا سألك زائر مثلاً: لماذا تأخذ هذا الدواء؟ لا تقول: لأن من خصائصه كذا، ومن تفاعلاته كذا، إنما تقول: لأن الطبيب وصفه لي، مع أن الطبيب بشر قد يخطيء، وقد يكتب لك دواءً، أو يعطيك حقنة ترديك، ومع ذلك تُسلِّم له بما يراه مناسباً لك، فإذا كنت لا تناقش الطبيب وهو خطأ، فكيف تناقش الله فيما فرضه عليك وتطلب علَّة لكل شيء؟

ولا يناقش في عِلَل الأشياء إلا المساوي، فلا يناقش الطبيبَ إلى طبيبٌ مثله، كذلك يجب أنْ نُسلِّم لله تعالى بعلل الأشياء وحكمتها إلى أنْ يوجد مُسَاوٍ له سبحانه يمكن أنْ يناقشه.

والحق سبحانه يُبيِّن لنا عِلَّة الإيمان - لا الإيمان في ذاته - إنما ما يترتب عليه من طاعة أوامر هذا الإله، وعلى طاعة هذه الأوامر الأوامر يترتب صلاح الكون، بدليل أن الله يطلب من المؤمنين أنْ ينشروا الدعوة، وأن يُبلِّغوها، وأن يحاربوا مَنْ يعارضها ويمنعهم من نشرها.

فما شُهر السيف في الإسلام إلا لحماية بلاغ الدعوة، فإنْ تركوك وشأنك فدَعْهم، بدليل أن البلاد التي فتحها الإسلام ظل بها أصحاب ديانات أخرى على دياناتهم، وهذا دليل على أن الإسلام لم يُرغِم أحداً على اعتناقه.

لكن ما دام الإسلام قد فتح البلاد فلا بُدَّ أنْ تكون له الغَلَبة، وأنْ يسير الجميع معه في ظِلِّ منهج الله، فيكون للكافرِ ولغير ذي الدين ما لصاحب الدين.

فكأن الحق سبحانه يريد لقوانينه أنْ تحكم آمنت به أو لم تؤمن؛ لأن صلاح الكون لا يكون إلا بهذه القوانين.

إذن: فأنت حُرٌّ، تؤمن أو لا تؤمن، لكن مطلوب ممَّنْ آمن أنْ يحمي الدعوة في البلاغ، ثم يترك الناس أحراراً، مَنْ آمن فبها ونعمت، ومَنْ أبى نقول له: لك ما لنا، وعليك ما علينا.

إذن: فأصل الإيمان لصلاح الخلافة، ولا يهتم الله سبحانه بأنك تؤمن أو لا تؤمن، ما دام منهج الخلافة قائماً، وهذا المنهج يعود نفعه على المؤمن وعلى الكافر، فإذا كان الإيمان يُربِّي الإنسان على ألاّ يفعل إلا خيراً وصلاحاً، فالكافر لا بُدَّ وأن يستفيد من هذا الصلاح. وهل قال الشرع للمؤمن: لا تسرق من المؤمن؟ لا إنما أيضاً لا تسرق من الكافر.. الخ، فالكل أمام منهج الله سواء.

وفي القرآن آية ينبغي أنْ نتنبه لها، ونعرف غير المؤمنين بها، ليعلموا أن الإيمان إنما يحمي مصلحة الناس جميعاً، إنها قوله تعالى:{ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ... }[النساء: 105-106] يعني: إنْ خطر لك أن تكون لصالح الخائن، استغفر الله من هذا{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً }[النساء: 107] ولو كان مؤمناً به.

ولهذه الآية قصة مشهورة هي قصة اليهودي زيد بن السمين، وقد جاءت طعمة بن أبيريق - وكان مؤمناً - وقال: يا زيد خُذْ هذه الدرع أمانة عندك فقبله زيد، وإذا بالدرع مسروق قد سرقه ابن أبيريق من قتادة بن النعمان ووضعه في جوال من الدقيق، فكان على الدرع آثار الدقيق، فلما بحث ابن النعمان عن دِرْعه دَلّه أثر الدقيق على بيت ابن السمين اليهودي فاتهمه بسرقته.

ثم جاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحكم في أمره، فقصَّ عليه ما كان من أمر ابن أبيريق، وأنه وضعه عنده على سبيل الأمانة.

وعندها عَزَّ على المسلمين أن يسرق واحد منهم، وأن يأخذها اليهود ذِلّة في حَقِّهم، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يدير الأمر في رأسه، فإنْ حكم على المسلم أخذها اليهود حجة، وإنْ حكم للمسلم كانت عيباً وسُبَّة في الدين، فأسعفه ربه بهذه الآية:{ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }[النساء: 105] فقال: بين الناس لا بين المؤمنين فحسب.

ومعنى{ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }[النساء: 105] البعض يقولون: لا تخاصم الخائن حتى لا يضطهدك، إنما المراد: لا تكُنْ خصيماً لصالحه.{ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ... }[النساء: 106] إنْ طرأتْ عليك مسألة الإسلام وصورته بين غير المسلمين؛ لأن الله في مبدأ الإصلاح لا يحب كل خوَّان أثيم.

ولو أن غير المسلمين تنبهوا إلى هذه القضية، وعلموا أن الله تعالى عدل الحكم للمؤمنين، وأعلنه لرسول الله، وقرر أن الحق هو الحق، والكل أمامه سواء المؤمن وغير المؤمن لعلموا أن الإسلام هو الدين الحق ولأقبلوا عليه، لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من عادى ذمياً فأنا خصيمه يوم القيامة ".

لأنك إنْ عاديتَه واضطهدته أو هددتْه في حياته، أو في عِرْضه، أو في ماله لصارتْ حجة له في ألاَّ يؤمن، وله أنْ يقول: إذا كان هذا هو حال المؤمنين، فما الميزة في الإسلام حتى أعتنقه؟ بل من مصلحتي أنْ أبتعد عنه، لكن إنْ عاملتَه بالحق وبالخير والحسنى لعطفته إلى الإسلام، وجعلته يُؤنِّب نفسه ألاَّ يكون مسلماً.

لذلك سبق أنْ قُلْنا: إن سيدنا إبراهيم - على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام - جاءه رجل فاشتمَّ منه أنه غير مسلم، فلما سأله قال: أنا مجوسي فردَّ الباب في وجهه، فانصرف الرجل، وإذا بإبراهيم - عليه السلام - يتلقى الوحي من الله: يا إبراهيم لم تقبل أنْ تُضيِّفه لأنه على غير دينك، وأنا قبلته طوال عمره في مُلْكي وهو كافر بي.

فأسرع إبراهيم خلف الرجل حتى لحق به واسترضاه، فقال الرجل: وماذا جرى لقد طردتني ونهرتني منذ قليل؟ فقال: إن ربي عاتبني في أمرك، فقال الرجل: إنَّ رباً يعاتب أنبياءه بشأن إعدائه لحقيق أن يُعبد. لا إله إلا الله، إبراهيم رسول الله.

إذن: نفهم من هذا أن العمل الصالح هو مطلوب الإيمان، وإذا آمنتَ بإله لتأخذ الحكم منه وأنت مطمئن أنه إله حق، فلا يهم بعد ذلك أنْ تؤمن أو لا تؤمن المهم قاعدة الصلاح في الكون وفي حركة الحياة؛ لذلك لم يقل ومَنْ آمن فله إيمانه، كأن المراد بالإيمان العمل } وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ { [الروم: 44] لأنه لا يعمل صالحاً إلا إذا كان مؤمناً.

ونلحظ هنا أن الآية تتحدث عن صيغة المفرد: } مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً... { [الروم: 44] ثم يتحول إلى صيغة الجمع } فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ { [الروم: 44] ولم يقُلْ: فهو يمهد لنفسه، فلماذا؟

قالوا: لأن الذي يعمل الصالح لا يعمله لذاته، إنما له ولذريته من بعده، كما جاء في قوله سبحانه:{ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ... }[الطور: 21] إذن: ساعةَ تكلم عن الإيمان جاء بالمفرد، وساعةَ تكلم عن الجزاء جاء بصيغة الجمع.

كما أن العمل الصالح يأتي من ذات الإنسان، ويستقبله هو من غيره، وكلمة (مَنْ) هنا تصلح للمفرد وللمثنى وللجمع بنوعية، وتحل محلَّ جميع الأسماء الموصولة تقول: من جاءك فأكرمه، ومَنْ جاءتك فأكرمها، ومَنْ جاءاك فأكرمهما، ومَنْ جاءوك فأكرمهم.

. الخ. كذلك في هذه الآية استعمل مَنْ للدلالة على المفرد، وعلى الجمع.

وتأمَّل قوله تعالى:{ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَىا أَنفُسِكُمْ... }[النور: 61] وهل يُسلِّم الإنسان على نفسه؟ قالوا: نعم لأن المؤمنين شيء واحد، إذا سلَّمْتَ على أحدهم فكأنك سلَّمت على الجميع، وأيضاً إذا قُلْت لصاحبك السلام عليكم يردُّ عليك: وعليكم السلام، فكأنك سلَّمْتَ على نفسك.

ومعنى } يَمْهَدُونَ { [الروم: 44] مأخوذة من المهْد، وهو فراش الطفل، والطفل لا يُمَهده ولا يُسوّيه ويُهيِّئه، ولا بُدَّ له من صدر حنون يُسوِّي له مهده، ويفرشه ويُعده، فكأن الذي يعمل الصالح في الدنيا يُمهِّد لنفسه فراشاً في الآخرة، كما يحكي أبو منصور بن حازم عن أبي عبد الله بن الحسين يقول: العمل الصالح يسبق صاحبه إلى الجنة ليمهد له فراشه، كما يمهد الخادم لأحدكم فراشه.

لذلك سبق أن قلنا: إن الذين يؤثرون على أنفسهم يؤثرون من الفانية ليُدِّخر لهم في الباقية، و " سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أُهديت له الشاة، وعاد ليسأل أم المؤمنين عائشة عنها فقال لها: " ماذا صنعت بالشاة؟ " فقالت: ذهبتْ كلُّها إلا كتفها، يعني: تصدَّقَتْ بها إلا كتفها، فقال سيدنا رسول الله: " بل، بقيت كلها إلا كتفها ".

وفي حديث آخر: " يا بْن آدم، تقول: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما لبسْتَ فأبليتَ، أو أكلتَ فأفنيتَ، أو تصدَّقْتَ فأبقيت ".

والإمام علي رضي الله عنه يسأله أحدهم: أنا من أهل الدنيا، أم من أهل الآخرة؟ فقال الإمام: الجواب عندك أنت، فقال: كيف؟ قال: هَبْ أنه دخل عليك شخص بهدية، وآخر يطلب منك صدقة فلأيِّهما تبشُّ؟ إنْ كنت تبش لصاحب الهدية فأنت من أهل الدنيا وأن كنت تبشّ لطالب الصدقة فأنت من أهل الآخرة.

ذلك لأن الإنسان يحب ما يعمر له محبوبه، فإنْ كان من أهل الدنيا يحب ما يعمرها له، وإنْ كان من أهل الآخرة يحب مَنْ يعمر له آخرته.

ثم يعلل الحق سبحانه لماذا يمهدون لأنفسهم: } لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ... {.

(/3378)

لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)

وذكر هنا الإيمان فقال { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ... } [الروم: 45] ثم { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ... } [الروم: 45] حتى لا يظن أحد أن العمل الصالح ربما يُغني عن الإيمان. وهذه مسألة شغلتْ كثيراً من الفلاسفة، يقولون: كيف أن الرجل الكافر الذي يعمل الصالحات لا يُجازى عليها؟

نقول له: أُجر ويُجازى على عمله الصالح لكن في الدنيا؛ لأنه لم يعمل لله، بل عمل للشهرة وللصيت، وقد أخذ منها تكريماً وشهوة وتخليداً لِذكْراه وأقيمت لهم التماثيل.. إلخ، أما جزاء الآخرة فلمَنْ عمل العمل لوجه الله خالصاً.

والقرآن يُنبِّهنا إلى هذه المسألة يقول: إياكم أنْ تُغَشُّوا بمن يعمل الأعمال للدنيا:{ وَقَدِمْنَآ إِلَىا مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً }[الفرقان: 23].

وجاء في الحديث: " فعلتَ ليُقال وقد قيل " نعم بنيت مسجداً، لكن كتبت عليه: بناه فلان، وشرَّف الافتتاح فلان.. الخ فماذا تنتظر بعد ذلك، إن ربك يريد العمل الخالص لوجهه تعالى، كما جاء في الحديث " ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما فعلت يمينه ".

فقوله تعالى: { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ... } [الروم: 45] يدل على أن العمل الصالح إنْ كان صالحاً بحقٍّ يفيد صاحبه في الدنيا، لكن لا يفيده في الآخرة إلا أن يكون صادراً عن إيمان بالله، ثم يربط الإيمان بالعمل الصالح حيث لا يغني أحدهما عن الآخر.

وقوله تعالى: { مِن فَضْلِهِ... } [الروم: 45] أي: تفضُّلاً من الله، حتى لا ينخدع أحد بعمله، ويظن أنه نجا به، وهذه المسألة موضع نقاش بين العلماء يقولون: مرة يقول القرآن { مِن فَضْلِهِ... } [الروم: 45] ومرة يقول:{ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }[النحل: 32] أي: أنها حق لكم بما قدَّمتم من عمل، فهل الجنة حق للمؤمنين أم فضل من الله؟

ونقول: العمل الذي يطلبه الله تكليفاً من المؤمنين به يعود على مَنْ؟ يعود على الإنسان، ولا يستفيد الله منه بشيء؛ لأن له تعالى صفات الكمال المطلق قبل أن يخلق الخَلْق.

لذلك قال في الحديث القدسي: " يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في مُلكي قدر جناح بعوضة، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من مُلْكي قدر جناح بعوضة، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم اجتمعوا في صعيد واحد، فسألني كُلٌّ مسألته فأعطيتها له ما نقص ذلك مما عندي إلا كمغرز إبرة إذا غمسه أحدكم في بحر، ذلك أنِّي جَوَاد ماجد واجد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردتُه أن أقول له: كُنْ فيكون ".

ويقول سبحانه:{ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ... }

[النحل: 96].

إذن: فالأعمال التكليفية لخير الإنسان نفسه، وإنْ كانت في الظاهر تقييداً لحريته، فهو مثلاً يريد أنْ يسرق ليزيد ماله، فنأخذ على يديه، ونمنعه ونقول له: تنبَّه أننا منعناك من السرقة وأنت واحد، ومنعنا الناس جميعاً أنْ يسرقوا منك، فأنت إذن المستفيد من منهج الله، فلا تنظر إلى ما أخذه منك التكليف، ولكن انظر إلى ما أعطاك هذا التكليف من الغير.

وما دام التكليف كله في مصلحتك ولخيرك أنت، فإنْ أثابك الله عليه بعد ذلك فهو فضل من الله عليك، كما تقول لولدك مثلاً؛ إنْ تفوقت سأعطيك كذا وكذا مع أنه المستفيد من التفوق، فتكون الجائزة بعد ذلك فضلاً.

كذلك الحق تبارك وتعالى يحب عبده أنْ يتقن عمله، وأن يجتهد فيه؛ لذلك يعطيه مكافأة عليه مع أننا المستفيدون منه.

ويقول سبحانه:{ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ... }[النور: 25] فجعله حقاً عليه سبحانه، كما قال:{ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ }[الروم: 47].

ولو بحثنا كلمة " حق " فلسفياً لوجدنا أن كل حق لك يقابله واجب على غيرك، فلا يكون حقاً لك إلا إذا كان واجباً على غيرك، فحقُّك هنا واجب إذن على الله تعالى، لكن الواجب يقتضي مُوجباً فمَنْ أوجب على الله؟ لا أحد؛ لأنه سبحانه أوجبه على نفسه.

إذن: فالحق الذي جعله لك تفضُّلاً منه سبحانه، والحق في أنه جعل لك حقاً، كالذي ليس له حق في الميراث، فيتفضل عليه واحد في التركة ويجعل له وصية يكتبها له، فتصير حقاً واجباً، له أن يطالب الورثة به شرعاً؛ لأن المورِّث تفضَّل وجعله حقاً له.

ثم يقول سبحانه: } إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ { [الروم: 45] نلحظ في الآية أنها تتحدث عن جزاء المؤمنين، فما مناسبة ذِكْر الكافرين هنا؟ قالوا: لأن الله تعالى يريد أنْ يلفت نظر عبده الكافر إلى الإيمان ومزاياه، كأنه يقول له: تعال إلى الإيمان لتنال هذا الجزاء.

ومثال ذلك - ولله المثَل الأعلى - رجل عنده ثلاثة أولاد وَعَدهم بهدية لكل مَنْ ينجح في دراسته، فجاء آخر العام ونجح اثنان، وأخذ كل منهما هديته، وتألم الوالد للثالث الذي أخفق وتمنى لو كان مثل أخويْه.

وكذلك الحق سبحانه لا يحب الكافرين؛ لأنه يحب أن يكون الخَلْق جميعاً مؤمنين لينالوا جزاء الإيمان؛ لأن الجميع عباده، وهو سبحانه أرحم بهم من الوالدة بولدها، وهم خِلْقته وصَنْعته، وهل رأيتم صانعاً حطم صنعته وكسرها، إذن: فالله تعالى حريص على عباده حتى الكافر منهم.

وجاء في الحديث القدسي: " قالت السماء: يا رب ائذن لي أن أسقط كِسَفاً على ابن آدم، فقد طَعِم خيرك، ومنع شكرك، وقالت الأرض: يا رب ائذن لي أنْ أخسف بابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت الجبال: يا رب ائذن لي أن أخرَّ على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت البحار: يا رب ائذن لي أن أُغرق ابن آدم، فقط طَعِم خيرك ومنع شكرك. فماذا قال الرب الخالق للجميع؟ قال: " دعوني ومن خلقتُ، لو خلقتموهم لرحمتموهم، إنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم ".

لذلك يفرح الله تعالى بتوبة عبده حين يعود إليه بعد إعراض، ويضرب لنا سيدنا رسول الله مثلاً لتوضيح هذه المسألة فيقول: " لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من أحدكم وقع على بعيره، وقد أضله في فلاة ".

فالله لا يحب الكافرين لأنهم لم يكونوا أهلاً لتناول هذا الفضل، وما ذاك إلا لأنه سبحانه مُحِبٌّ لهم حريص على أن ينالهم خيره وعطاؤه.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ... {.

(/3379)

وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)

هذه نِعَم خمس من نِعَم الله على عباده.

فإرسال الرياح وحدها نعمة، وتبشيرها بالمطر نعمة، وإجراء الفُلْك نعمة، والابتغاء من فضل الله نعمة، ثم الشُّكْر على هذا كله نعمة أخرى.

والآيات: جمع آية، وهي كما قلنا: الشيء العجيب الذي يجب أنْ يلفت الأنظار، وألاَّ يغفل الإنسان عنه طرفة عَيْن، ومن ذلك قولنا: فلان آية في الفصاحة، أو آية في الجمال.. إلخ.

وتُطلق الآيات ويراد بها معَان ثلاثة: آيات كونية تلفت إلى المكوِّن سبحانه، وتثبت قدرة الخالق.{ وَمِنْ آيَاتِهِ الَّيلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ... }[فصلت: 37].

وآيات بمعنى المعجزات التي تصاحب الرسل؛ لتثبت صِدْقهم في البلاغ عن الله، ثم الآيات التي تحمل الشرع والأحكام، وهي آيات القرآن الكريم التي تحمل إلينا منهج الله.

وآيات بمعنى المعجزات التي تصاحب الرسل؛ لتثبت صِدْقهم في البلاغ عن الله، ثم الآيات التي تحمل الشرع والأحكام، وهي آيات القرآن الكريم التي تحمل إلينا منهج الله.

وهنا يتكلم الحق سبحانه عن الآيات الكونية { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ... } [الروم: 46] كلمة الرياح جمع ريح، والرياح هنا بالمعنى العام: الهواء، وهو أنواع: هواء ساكن{ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ... }[الشورى: 33].

والهواء الساكن يضايق الإنسان، حيث يُصعِّب عليه عملية التنفس، فيجلب الهواء لنفسه إما بيده أو بمروحة. لماذا؟ ليجدد الأكسوجين في الهواء المحيط به فيستطيع التنفس، والهواء يأتي مرة ساخناً يلفح الوجوه، ومرة نسيماً مُنعِشاً عليلاً، ويأتي عاصفاً مدمراً.. الخ.

والحق سبحانه - كما سبق أنْ بينَّا - رتَّب مقومات حياة الخليقة في الأرض على: الهواء، ثم الماء، ثم الطعام على هذا الترتيب، وحَسْب أهمية هذه المقومات. فالهواء هو أهم مُقوِّم في حياة الكائن الحي، حيث لا يصبر عليه الإنسان إلا لحظة بمقدار شهيق وزفير ولو حُبس عنه لمات. ثم الماء ويصبر عليه الإنسان إلى عشرة أيام. ثم الطعام ويصبر عليه إلى شهر.

لذلك من حكمة الخالق سبحانه ألاَّ يُملِّك الهواء لأحد، ولو ملكه أحد وغضب عليك لمتَّ قبل أنْ يرضى عنك، أما الماء فقليل أنْ يُملكه للناس، أما الطعام فكثيراً ما يملك؛ لأن الإنسان يصبر عليه فترة طويلة تُمكِّنه أن يكتسبه، ويحتال عليه، أو لعل مالكَ الطعام يرقُّ قلبه ويعطيك.

لذلك نسمع من عبارات التهديد: والله لأكتم أنفاسه، كأن هذه العملية هي أقسى ما يمكن فِعْله؛ لأنك قد تمنع عنه الماء أو الطعام ولا يموت، لكن إنْ منعتَ عنهَ الهواء فهي نهايته، وهي أسرع وسائل الإبادة للإنسان وأيسرها وأقلّها أثراً، فلا يترتب عليها دم ولا جروح مجرد منديل مبلل بالماء. إذن: الهواء مُقوِّم هام حياة وإماتة.

وقلنا: إذا حُبِس الهواء أو سكن لا يتجدد فيه الأكسوجين فيتضايق الإنسان؛ لأن أنفاسه تكتم، أما إذا حدثت في المكان رائحة كريهة فترى الجميع يضج: افتحوا النوافذ، لماذا؟ ليتجدد الهواء.

إذن: إرسال الرياح في ذاتها نعمة، فإذا كان فيها برودة وشعرت بطراوتها فهي تُبشِّرك بالمطر؛ لذلك كان العربي يعرف المطر قبل وقوعه ويُقدِّر مسافة السحابة التي ستمطره، إذن: فالتبشير بالمطر نعمة أخرى.

وهاتان النعمتان إرسال الرياح وإنزال المطر، لا دخلَ للإنسان فيهما } وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ... { [الروم: 46] أي: بالمطر أما في آية الفلك } وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ... { [الروم: 46] فنسب الجريان إلى الفُلْك لأن للإنسان يداً فيها وعملاً، فهو صانعها ومُسيِّرها بأمر الله } وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ { [الروم: 46] أي: تسيرون في البحر للصيد وطلب الرزق، أو حتى للنزهة والسياحة.

إذن: الآية التي لا دخلَ للإنسان فيها تُنسَب إلى الله وحده، وإنْ كان للإنسان فيها عمل نسبها إليه، كما في قوله تعالى:{ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَىا أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ }[الواقعة: 58-61].

فأعطانا نعمة الحياة، ثم ذكر ما ينقضها، حتى لا نستقبل الحياة بغرور، ولما كانت آية الحياة وآية الموت لا دخلَ للإنسان فيها اكتفى بهذا الاستفهام{ أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ }[الواقعة: 59] ولا أحدَ يستطيع أنْ يقول أنا خلقتُ.

أما في آية الحَرْث، فنسب الحرث إلى الإنسان؛ لأن عمله كثير في هذه الآية، حيث يحرث ويبذر ويروي.. إلخ لذلك قال في نَقْض هذه النعمة{ لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً... }[الواقعة: 65] وأكدَ الفعل باللام حتى لا تغترّ بعملك في الزرع.

أما في الماء، فلم يذكر هذا التوكيد؛ لأن الماء نعمة لا يدَ للإنسان فيها؛ لذلك قال في نقضها{ لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً... }[الواقعة: 70] بدون توكيد.

النعمة الخامسة: } وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ { [الروم: 46] وهذه النعمة هي كنز النعم كلها وعقالها، فإنْ شكرتَ لله نعمة عليك زادك منها:{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ... }[إبراهيم: 7].

وبعد ذلك يُسلِّي الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم: } وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَىا قَوْمِهِمْ... {.

(/3380)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)

يعني: يا محمد، إنْ كنتَ تعبت في الدعوة، ولقيت من صناديد قريش عنتاً وعناداً وإيذاءً ومكراً وتبييتاً، فنحن مع ذلك نصرناك، وخُذْ لك أسوة في إخوانك من الرسل السابقين، فقد تعرَّضوا لمثل ما تعرضتَ له، فهل أسلمنا رسولنا لأعدائه؟ إذن: اطمئن، فلن ينال هؤلاء منك شيئاً.

ومعنى { فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ... } [الروم: 47] أي: الآيات الواضحات التي تثبت صدقهم في البلاغ عن الله، ومع ذلك لم يؤمنوا وكذَّبوا { فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ... } [الروم: 47] وهنا إيجاز لأمر يُفهم من السياق، فلم يقُل القرآن أنهم كذبوا، إنما جاء بعاقبة التكذيب { فَانتَقَمْنَا... } [الروم: 47].

وهذا الإيجاز واضح في قصة هدهد سليمان، في قوله تعالى:{ اذْهَب بِّكِتَابِي هَـاذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ }[النمل: 28] وحذف ما بين العبارتين من أحداث تُفهَم من السياق، وهذا مظهر من مظاهر بلاغة القرآن الكريم.

وتكذيب الأمم السابقة للآيات التي جاءتهم على أيدي الرسل دليل على أنهم أهل فساد، ويريدون أن ينتفعوا بهذا الفساد، فشيء طبيعي أنْ يعاندوا الرسل الذين جاءوا للقضاء على هذا الفساد، وأنْ يضطهدوهم، فيغار الله تعالى على رسله { فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ... } [الروم: 47].

ثم يقرر هذه القضية: { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ } [الروم: 47] وما كان الله تعالى ليرسل رسولاً، ثم يُسلِمه لأعدائه، أو يتخلى عنه؛ لذلك قال سبحانه في موضع آخر:{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }[الصافات: 171-173].

وسبق أنْ قُلْنا: لا ينبغي أن تبحث في هذه الجندية: أصادق هذا الجندي في الدفاع عن الإسلام أم غير صادق؟ إنما انظر في النتائج، إنْ كانت له الغلبة فاعلم أن طاقة الإيمان فيه كانت مخلصة، وإنْ كانت الأخرى فعليه هو أن يراجع نفسه ويبحث عن معنى الانهزام الذي كان ضد الإسلام في نفسه، لأنه لو كان من جٌنْد الله بحق لتحقق فيه{ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }[الصافات: 173] ولا يُغلب جند الله إلا حين تنحلّ عنهم صفة من صفات الجندية.

وتأمل مثلاً ما حدث في غزوة أحد، حيث انهزم المسلمون - وإنْ كانت كلمة الهزيمة هنا ليست على سبيل التحقيق لأن المعركة كانت سجالاً، وقد انتصروا في أولها، لكن النهاية لم تكُنْ في صالحهم؛ لأن الرماة خالفوا أمر رسول الله، والهزيمة بعد هذه المخالفة أمر طبيعي.

وهل كان يسرُّك أيها المسلم أنْ ينتصر المسلمون بعد مخالفتهم أمر رسولهم؟ والله لو انتصروا مع مخالفتهم لأمر رسولهم لهانَ كل أمر لرسول الله بعدها، ولقالوا: لقد خالفنا أمره وانتصرنا. إذاً فمعنى ذلك أن المسلمين لم ينهزموا، إنما انهزمت الانهزامية فيهم، وانتصر الإسلام بصِدْق مبادئه.

كذلك في يوم حنين الذي يقول الله فيه{ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ... }[التوبة: 25] حتى أن الصِّديق نفسه يقول: لن نُغلَب اليوم عن قلة، فبدأت المسألة بالهزيمة، لكن الأمر كما تقول (صعبوا على ربنا) فأنزل السكينة عليهم، وشاء سبحانه أن يسامحهم في هذه الزلَّة مراعاة لخاطر أبي بكر.

فقوله تعالى { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ } [الروم: 47] نعم، نصر المؤمنين حَقٌّ على الله، أوجبه سبحانه على نفسه، فهو تفضُّل منه سبحانه، كما يتفضل الموصِي بماله على الموصى له.

ثم يقول الحق سبحانه: { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ... }.

(/3381)

اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)

الحق سبحانه يعطينا هنا مذكرة تفصيلية لعملية حركة الرياح، وسَوْق السحاب، وإنزال المطر، وكلمة الرياح إذا جُمعَتْ دلَّتْ على الخير كما في قوله تعالى:{ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ... }[الحجر: 22].

أي: تُلقِّح النباتات فتأخذ من الذكَر، وتضع في الأنثى، فيحدث الإثمار، ومن عجيب هذه العملية أن ترى الذكر والأنثى في العود الواحد كما في نبات الذرة مثلاً، ففي (الشُّوشة) أعلى العود حبات اللقاح الذكر، وفي الشعيرات التي تخرج من الكوز متصلة بالحبات توجد أعضاء الأنوثة، ومع حركة الرياح تتناثر حبات اللقاح من أعلى وتنزل على هذه الشعيرات، فتجد الشعيرة التي لُقحت تنمو الحبة المتصلة بها، أما الأخرى التي لا يصلها اللقاح فتموت.

ولذلك نلحظ أن العيدان التي في مهبِّ الريح أو ناحية بحري أقلّ محصولاً من التي تليها، لماذا؟ لأن الرياح تحمل حبَّات لقاحها إلى العيدان الأخرى التي تليها، فيزداد محصولها.

فإذا كانت بعض النباتات نعرف فيها الذكر من الأنثى كالنخيل، والجميز مثلاً، فأين الذكر والأنثى في القمح، أو في الجوافة، أو في الموز.

ولما درسوا حبوب اللقاح هذه وجدوا أن كل حبة مهما صَغُرت فيها أهداب دقيقة مثل القطيفة تتناثر مع الرياح، ويحملها الهواء إلى أماكن بعيدة؛ لذلك ترى الجبال والصحراء تخضرّ بعد نزول المطر، فمَنْ بذر فيها هذه البذور؟ إنها الرياح اللواقح بقدرة الخالق عز وجل.

ولنا وَقْفة عند قوله تعالى:{ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىا ظَهْرِهِ... }[الشورى: 33] أي: السفن التي تسير بقوة الرياح تظل راكدة على صفحة الماء لا يحركها شيء، فإنْ قُلْت: كيف نفهم هذا المعنى الآن مع تقدم العلم الذي سيَّر السفن بقوة البخار والديزل أو الكهرباء، واستغنى عن الرياح؟

ونقول: الرياح من معانيها الهواء، وهي أيضاً تعني القوة مطلقاً، كما في قوله تعالى:{ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ... }[الأنفال: 46] أي: قوتكم، فالريح تعني القوة على أيِّ وضع، سواء أسارتْ بالرياح أو بالآلة، فهو سبحانه قادر على أنْ يُسكنها.

لذلك تجد أن الرياح بمعنى القوة لها قوة آنية، وقوة آتية، آنية يعني الآن، وآتية تأتي فيما بعد، وكذلك كل إنسان وكل شيء في الكون له نَفَس وريح وكيماوية خاصة به تميزه عن غيره وهذه مهمة كلاب البوليس التي تشم رائحة المتهمين والمجرمين في قضايا المخدرات مثلاً، فالشخص له رائحة الآن وهو موجود، وله رائحة تظلّ في المكان حتى بعد أنْ يفارقه.

لذلك يُعلِّمنا القرآن أن الريح هو أثبت الآثار في الإنسان، واقرأ في ذلك قوله تعالى عن يوسف ويعقوب عليهما السلام:{ اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـاذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىا وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً... }[يوسف: 93].

وكان يوسف في مصر، ويعقوب في أرض فلسطين، فلما فصلت العير بقميص يوسف، وخرج من نطاق المباني التي ربما حجزتْ الرياح، قال يعقوب

{ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ... }[يوسف: 94] على بُعْد ما بينهما من المسافات.

وإذا أفردت الرياح دلَّتْ على الشر، ومعنى الرياح أن تأتي ريح من هنا وريح من هنا.. فتأتيك بالأكسوجين أينما كان، وتحمل إليك عبير العطور في الكون، فهي إذن تأتيك بالفائدة.

وإذا أُفردت الرياح دلَّتْ على الشر، ومعنى الرياح أن تأتي ريح من هنا وريح من هنا.. فتأتيك بالأكسوجين أينما كان، وتحمل إليك عبير العطور في الكون، فهي إذن تأتيك بالفائدة.

وقلنا: إن الأشياء الثابتة اكتسبتْ الثبات من وجود الهواء في كُلِّ نواحيها وجهاتها، ولو فرَّغْتَ الهواء من ناحية من نواحي إحدى العمارات لانهارتْ في الحال، كذلك الريح إنْ جاءت مفردة فهي مدمرة، وفيها العطب كما في قوله تعالى:{ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ }[الذاريات: 41].

وقال:{ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ }[الحاقة: 6].

فقوله تعالى: } اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ... { [الروم: 48] فإرسال الرياح في ذاته نعمة } فَتُثِيرُ سَحَاباً... { [الروم: 48] إثارة السحاب أي: تهيجه وتحركه، وهذه نعمة أخرى.

والسحاب عبارة عن الماء المتبخِّر من الأرض، وتجمُّع بعضه على بعض في طبقات الجو، وماء المطر ماء مُقطر بقدرة الله، كما نُجِري نحن عملية التقطير في المعامل مثلاً، فيأتينا المطر بالماء العَذْب النقي الزلال الذي قطرته لنا عناية الخالق سبحانه دون أنْ ندري.

وإذا كان تقطير كوب واحد يحتاج إلى كل هذه العمليات، وكل هذه التكلفة، فما بالك بماء المطر؟

وسبق أنْ قُلْنا: إن من حكمة الخالق سبحانه أنْ جعل ثلاثة أرباع اليابسة ماء لتتسع رقعة البَخْر ليكفي الربع الباقي، وضربنا لتوضيح ذلك مثلاً بكوب الماء حين تتركه على المنضدة مثلاً، وحين تسكبه في أرض الغرفة، ففي الحالة الأولى يظل الماء فترة طويلة؛ لأن البَخْر قليل، أما في الأخرى فإنه سرعان ما يتبخر.

ثم يقول سبحانه: } فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ... { [الروم: 48] وانظر إلى طلاقة المشيئة، فالمطر يصرفه الله كيف يشاء إلى الأماكن التي تحتاج إلى مطر، ومن العجيب أن الله تعالى حين يريد أن يرزق إنساناً ربما يرزقه من سحاب لا يمر على بلده، وانظر مثلاً إلى النيل، من أين يأتي ماؤه؟ وأين سقط المطر الذي يروي أرض النيل من أوله إلى آخره؟

ومعنى } وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً... { [الروم: 48] كسفا: جمع كِسْفة، وهي القطعة } فَتَرَى الْوَدْقَ... { [الروم: 48] المطر } يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ... { [الروم: 48] أي: من بين هذه السحب.

} فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ { [الروم: 48] والإصابة قد تكون مباشرة، فيهطل المطر عليهم مباشرة، وقد تكون غير مباشرة بأنْ تكون الأرض منحدرة، فينزل المطر في مكان ويسقي مكاناً آخر، بل ويحمل إليه الخِصْب والنماء، كما كان النيل في الماضي يحمل الطمي من الحبشة إلى السودان ومصر.

وكان هذا الطمي يستمر مع الماء طوال مجرى النيل وإلى دمياط، فلماذا لم يترسب طول هذه المسافات؟

لم يترسب بسبب قوة دفع الماء وشدة انحداره، بحيث لا يستقر هذا الطمي ولا يترسب.

وقوله: } إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ { [الروم: 48] لأن الرياح حين تمر عليهم تُبشِّرهم بالمطر، وحين ينزل المطر يُبشِّرهم بالزرع والنماء والخِصْب والخير، كما قال تعالى:{ وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ }[الحج: 5].

وأذكر وأنا صغير وبلدنا على النيل، والنيل من أمامها متسع، وبه عدة جزر يزرعها الناس، فأذكر أننا كنا نزرع الذرة، وجاء الفيضان فأغرقه وهو ما يزال أخضر لم ينضج بَعْد، وكان الناس يذهبون إليه ويجمعونه بالقوارب، ورأيت النساء تزغرد والفرحة على الوجوه، فكنت أسأل أبي رحمه الله: النيل أغرق الزرع. فلماذا تزغرد النساء؟

فكان والدي يضحك ويقول: تزغرد النساء لأن النيل أغرق الزرع، وهذا هو مصدر الخير، وسبب خصوبة الأرض، فلما كبرتُ وقرأت قصيدة أحمد شوقي رحمه الله في النيل:مِنْ أيِّ عَهْدٍ في القُرَى تتدفَّقُ وبأيِّ كَفٍّ في المدائن تُغدِقالماءُ تُرسِلُه فيصبح عَسْجداً والأرض تُغرقُها فيحيَا المغرَقلما قرأتُ هذه القصيدة عرفت لماذا كانت النساء تزغرد حين يُغرق النيلُ الزرعَ.

والاستبشار لنزول المطر يأتي على حسب الأحوال، فإن جاء بعد يأس وقحط وجفاف كانت الفرحة أكبر، والاستبشار أبلغ حيث يأتي المطر مفاجئاً } إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ { [الروم: 48] أما إنْ جاء المطر في الأحوال العادية فإن الاستبشار به يكون أقلَّ.

ثم يقول سبحانه: } وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ... {.

(/3382)

وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)

معنى { لَمُبْلِسِينَ } [الروم: 49] آيسين من نزول المطر، فإنْ جاءهم المطر بعد هذا اليأس كانت فرحتهم به مزودجة ومضاعفة.

وللعلماء وقفة حول هذه الآية؛ لأنها كررتْ كلمة من قبل، وبالتأمل نجد المعنى: من قبل أنْ ينزل عليهم، وإنْ كانوا من قبل هذا القبل يائسين، فهنا إذن قبلان.

ولا بُدَّ أن نفهم أن هناك إرسالاً للرياح التي تبشر بالمطر، وهناك إنزال المطر، فلما ينزل المطر يكون هناك قبلية له هي الإرسال، فقبل الإرسال كان عندهم يأس، وبعد الإرسال قالوا ربما لا تمطر.

إذن: هنا كم قبل؟ قبل الإنزال وقبل الإرسال. فالمعنى: فهُمْ من قبله - أي من قبل أن ينزل المطر - من قبل هذا عندهم يأس.

(/3383)

فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)

كأن الحق سبحانه أراد أنْ يستدلَّ بالمحَسِّ المنظور في الكون على ما يريد أنْ يخبرنا به من الغيب من أمور البعث والآخرة؛ لذلك يعلل بقوله: { إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَىا وَهُوَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الروم: 50] فذكر مع الأرض الفعل المضارع يحيي، والفعل المضارع يدل على التجدد والاستمرار وهذه عملية مُحسَّة لنا.

أما في إحياء الموتى فجاء بالاسم محيي، والاسم يفيد ثبوت الصفة؛ ليؤكد إحياء الموتى، ومعلوم أن الموت لا يشك فيه أحد؛ لأنه مُشَاهد لنا، أما البعث فهو محلُّ شكٍّ لدى البعض لأنه غيب.

ومع ذلك يقول تعالى عن الموت:{ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيِّتُونَ }[المؤمنون: 15]، فيؤكد هذه القضية مرة بإنْ، ومرة باللام، والموت شيء واقع لا ننكره، فلماذا كل هذا التأكيد؟

قالوا: نعم هو واقع لا نشك فيه، لكنه واقع مغفول عنه، فكأن الغفلة عنه كالإنكار، ولو كنتم متأكدين منه ما غفلتم عنه.

فلما ذكر البعث قال:{ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ }[المؤمنون: 16] فأكدها بمؤكد واحد، مع أنه محلُّ شكٍّ، فكأنه لما قامت الأدلة عليه كان ينبغي ألاَّ يشك فيه؛ لذلك لم يؤكده كما أكَّد الموت، ولما غفلنا عن الأدلة كان واجباً أنْ يُؤكِّد الموت، فأكَّد الموت، ولم يؤكد البعث.

ومعنى { فَانظُرْ... } [الروم: 50] الأمر بالنظر هنا ليس (فنطزية) ولا (للفرجة) أو التسلية، لأننا نقول: هذا الأمر فيه نظر يعني: محلاً للبحث والتقصي لنصل إلى وجه الحق فيه، بترجيح بعض الأدلة على بعض.

إذن: (فانظر) أي: نظر اعتبار وتأمل؛ لأننا نريد أن نقيس الغائب عنا والذي نريد أن نخبر به من أمور الآخرة بالمنظور لنا من إحياء الأرض بعد موتها.

ففي الآية دليل جديد من أدلة قدرة الحق ووحدانيته، وهو دليل كوني نراه جميعاً، والحق سبحانه يُلوِّن الأدلة ليلفت المخلوق إلى عظمة الخالق ليؤمن به إلهاً واحداً قاهراً قيوماً مقتدراً، وهذه الأدلة حجة تضيء العقل، وآيات في الكون تبرهن على الصِّدق، وأمثال يضربها للناس في الكون وفي أنفسهم، ووعد لمن آمن، ووعيد لمن خالف.

وهنا أيضاً دليل كوني مشهود في الكون، فالذي أحيا الأرض الميتة كما تشاهدون (لمحي الموتى) في الآخرة كما يخبركم، وجاء بصيغة اسم الفاعل الدال على ثبوت صفة الإحياء قبل أنْ يُحيي، كما نقول: فلان شاعر فلم يكتسب هذه الصفة لأنه قال شعراً، إنما هو إنما هو شاعر قبل أن يقول، كذلك الخالق سبحانه (محي) قبل أن يوجد منه الفعل، وقادر قبل أنْ يخلق مقدوراً له، وخالق قبل أنْ يخلق خَلْقاً، فبالصفة فيه سبحانه خلق.

ولكي نُقرِّب الشبة بين إحياء الأرض بالنبات وإحياء الموتى يوم القيامة نقول: لو نظرنا إلى الإنسان لوجدنا هذا الهيكل الضخم الذي يزن إلى مائة كيلو أو يزيد، أصل تكوينه ميكروب لا يُرَى بالعين المجردة، حتى قالوا: إن أنسال العالم كله من الحيوان المنوي يمكن أنْ توضع في حجم كستبان الخياطة، إذا مليء نصفه من المني، ثم يأخذ هذا الحيوان المنوي من الغذاء من الرزق فينمو ويكبر في الحجم فقط، لكن تظل الشخصية كما هي.

فإذا مات الإنسان يبْلَى هذا الجسد، ويتحلل إلا عظمة الذنب، فتبقى لا تتحلل ولا تأكلها الأرض لتكون هي البذرة التي تنبت الإنسان بقدرة الله يوم القيامة؛ لذلك جاء في حديث إحياء الموتى يوم القيامة؛ " فينبتون كما ينبت البقل ".

ففي هذه العظمة الصغيرة كل صفات الإنسان وخصائصه، ومنها يعود كما كان قبل الموت، كما نرى حبة السمسم مثلاً، فهي رغم صِغَرها إلا أنها تحمل كل خصائص هذا النبات كلها، إذن: صِغَر الحجم دليل على القدرة، فإذا ما وضعت هذه الحبة الصغيرة في البيئة المناسبة تأخذ الغذاء من التربة ومن الهواء وتنمو وتكبر، وهذا النمو وهذا الكبر لا يعطي شخصية جديدة إنما الشخصية ثابتة، إنما يعطي تكبيراً لها فحسب.

لذلك لما شرَّحوا الأرنب وجدوه صورة طبق الأصل من تشريح الإنسان، بمعنى أن فيه كل جوارح الإنسان وكل أجهزته، حتى البعوضة في حجمها الضئيل فيها كل الأجهزة، لكن أين جهازها الهضمي وجهازها الدموي وجهازها العصبي والسمبتاوي والبولي.. الخ، فدقَّة هذه المخلوقات دليل على القدرة.

وفي حضارتنا الحالية نجد أن من علامات التقدم العلمي أنْ نُصغِّر الكبير إلى أقصى درجة ممكنة، وانظر مثلاً إلى الراديو أول ما اخترعوه كان في حجم النورج، أما الآن فهو في حجم علبة الكبريت.

إذن: فالعظمة أن تضع كل الأجهزة في هذا الحجم الصغير، أو تجعلها كبيرة فوق العادة وفوق القدرة، كما في ساعة " بج بن " مثلاً.

لذلك نرى الخالق سبحانه خلق الشيء الدقيق المتناهي في الصِّغَر، بحيث لا يُدرك بالعين المجردة، ومع ذلك يحتوي على كل خصائص الشيء الكبير، وخلق من المخلوقات الضخم الذي لا تستطيع أن تحدَّه.

إذن: حينما ينمو الشيء لا يزداد خصائص جديدة، إنما تكبُر عنده نفس الخصائص ونفس المشخَّصات الأصلية فيه.

وسبق أنْ قُلْنا: لو أن إنساناً يزن مثلاً مائة كيلو أصابه مرض والعياذ بالله أفقده نصف وزنه، نقول: أين ذهب هذا النقص؟ ذهب إلى فضلات نزلتْ منه؛ لأن الإنسان ينمو حينما يكون الداخل إليه من الغذاء أكثر من الخارج منه من الفضلات، فإنْ تساوى يقف عند حَدٍّ معين لا يزيد ولا ينقص.

فإذا سخر الله لهذا المريض طبيباً يداويه، فإنه يستعيد عافيته إلى أنْ يعود إلى وزنه الطبيعي مائة كيلو كما كان، فهل عاد إليه ما فقده في نقص الوزن، أم عاد إليه مثله من عناصر الغذاء والتكوين؟ عاد إليه مثل الذي فقده.

إذن: فالشخصية هي هي باقية لا تتغير مع النقص أو الزيادة.

كذلك فالشخصية أو الخصائص موجودة في هذا الميكروب الدقيق أو في هذه الحبة الصغيرة، إلى أنْ تُوضع في بيئتها المناسبة، فتعطي نفس الشخصية أو نفس الخصائص لنوعها، حتى قالوا: إن قدماء المصريين وضعوا مع الموتى بعض الحبوب، وحفظوها طوال آلاف السنين، بحيث إذا وُضِعت الحبة منها في التربة المناسبة فإنها تنبت.

فإذا كان الإنسان يستطيع أن يستنبت الحبة بعد بضعة آلاف من السنين، أيكون عزيزاً على الله أنْ يستنبت بذرة الإنسان، ويُحيي الذرة الباقية منه في الأرض حين ينزل عليها المطر بأمره تعالى يوم القيامة؟

ثم إن الحبة الواحدة التي يستنبتها الإنسان تعطيه آلافاً من نوعها، أما بذرة الإنسان والذرة الباقية منه فتعطي شخصاً واحداً لا غير، أيصعب هذا على القدرة الإلهية.

لذلك يحثُّنا الحق سبحانه على التأمل في قوله } فَانظُرْ... { [الروم: 50] لا نظر عين، ولكن نظر تأمُّل وتعقُّل واستنباط، وربنا ينعى علينا الغفلة في التأمل، فيقول سبحانه:{ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }[يوسف: 105].

ونسمي الجدل لإظهار الحقائق (مناظرة)، يناظر كل مِنَّا الآخر، لا نظرَ عين، ولكن نظر عَقْل واستنباط.

} فَانظُرْ إِلَىا آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَىا... { [الروم: 50] أي: الذي أحياها } لَمُحْيِ الْمَوْتَىا... { [الروم: 50] وما دام قد ثبتتْ له صفة الإحياء، فإذا أخبرك بأنه يُحيي الموتى، فصدِّق وخُذْ مما شاهدته دليلاً على ما غاب عنك.

ثم يختم الحق سبحانه هذه الآية بصفة أخرى تؤكد صفة الخَلْق والإحياء } وَهُوَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { [الروم: 50] فغير أنه سبحانه حيٌّ ومحيي له سبحانه صفات الكمال، والقدرة على كل شيء علماً وقدرةً وحكمة وبَسْطاً وقبضاً ونفعاً وضراً..إلخ.

فبعد أنْ ذكر الحدث في الفعل المضارع الدال على الاستمرار } يُحْيِ... { [الروم: 50] ذكر الاسم الدال على ثبوت الصفة } لَمُحْيِ... { [الروم: 50] ثم جاء بكل صفات الكمال في } وَهُوَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { [الروم: 50].

يريد الله أن يبين أن الإنسان كنود، وأنه خُلِق جزوعاً، إنْ مسَّه الشر يجزع، وإنْ مسه الخير يمنع، فلما كان يائساً من الهواء يهبُّ عليه أرسل الله إليه الرياح، وبعد أنْ كان يائساً من قطرة الماء أنزل الله عليه المطر مدراراً، فهل أخذ في باله هذا العطاء، بحيث إذا أصابه يأس من شيء طلب فرجه من الله، وأزاح اليأس عن نفسه وقال: إن لي رباً ألجأ إليه، ولا ينبغي لي أن أقنط وهو موجود؟

فالذي فرج عليك من يأس الرياح ومن يأس المطر قادر أنْ يُفرِّج عنك كل كَرْب؛ لذلك ينبغي أن يكون شعار كل مؤمن: لا كرْبَ وأنت ربٌّ، ما دام لك ربٌّ فلا تهتم ولا تيأس، فليستْ مع الله مشكلة المشكلة ألاَّ يكون لك ربٌّ تلجأ إليه.

وهذا هو الفرق بين المؤمن والكافر المؤمن له رَبٌّ يلجأ إليه إنْ عزَّتْ عليه الأسباب، أما الكافر فما أشقاه، فإنْ ضاقت به الأسباب لا يحد صدراً حنوناً يحتويه، فيلجأ في كثير من الأحوال إلى الانتحار.

لذلك كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبه أمر يقوم إلى الصلاة، وكان يقول: " ارحنا بها يا بلال " ففي الصلاة تختلي بربك وخالقك، وتعرض عليه حاجتك، وتستمد منه العون والقوة.

كذلك يُعلِّمنا هذا الدرس نبي الله موسى - عليه السلام - فحينما خرج ببني إسرائيل وأدركه فرعون وقومه، فوجدوا أنفسهم محاصرين، البحر من أمامهم والعدو من خلفهم، قالوا لموسى } إِنَّا لَمُدْرَكُونَ { [الشعراء: 61] وهذا منطق البشر وواقع الأشياء، لكن كان لموسى منطق آخر ينطلق فيه من وجود رَبٍّ قادر يلجأ إليه في وقت الشدة فيفرجها عنه.

فقال موسى بملء فيه (كلا) قالها على سبيل اليقين قَوْلة الواثق من أن ربه لن يتخلى عنه، لم يقُلْها برصيد من عنده، إنما برصيد إيمانه في الله{ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ }[الشعراء: 62] وهذا هو المَفْزَع لكل مؤمن.

لِمَ لا، وأنت إنْ كانت لديك قضية ترتاح إنْ وكَّلْتَ فيها محامياً يدافعَ عنك، فما بالك إنْ وكَّلت رب الأرض والسماء، فكان هو سبحانه المحامي والقاضي والشاهد والمنفِّذ للحكم؟

وأنت ترى القاضي في الدنيا يحكم ببينة قد يُدلِّس فيها ويحكم، ويحكم بإقرار لا يستطيع أنْ يتنزعه من صاحبه، أو بشهادة الشهود، وقد يكونون شهودَ زور، ثم هو بعد ذلك لا يملك تنفيذ حكمه، فهناك سلطة قضائية تحكم وسلطة تنفيذية تنفذ، حتى السلطة التنفيذية يستطيع المجرم أن يفلت منها.

أما في محكمة العدل الإلهي، فقاضيها هو الحق - سبحانه وتعالى - فلا يحتاج إلى بينة أو إقرار أو شهود، ولا يستطيع أحد أنْ يُدلِّس عليه سبحانه، أو أنْ يُفِلت من حكمة؛ لذلك قال تعالى عن نفسه:{ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ }[الأعراف: 87].

ثم يقول الحق سبحانه: } وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً... {.

(/3384)

وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)

لك أن تلحظ الفرق بين أسلوب هذه الآية { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً... } [الروم: 51] والآية السابقة{ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ... }[الروم: 48] فيرسل: مضارع دالٌّ على الاستمرار، والرياح كما قلنا لا تُستعمل إلا في الخير، فكأن إرسال الرياح أمر متوافر، وكثيراً ما يحدث فضلاً من الله وتكرُّماً.

أما هنا، وفي الحديث عن الريح، وسبق أن قُلْنا: إنها لا تستعمل إلا في الشر، فلم يقُلْ يرسل، بل اختار (إن) الدالة على الشك، والفعل الماضي الدال على الانتهاء لماذا؟ لأن ريح الشر نادراً ما تحدث، ونادراً ما يُسلِّطها الله على عباده، فمثلاً ريح السَّمُوم تأتي مرة في السنة، كذلك الريح العقيم جاءتْ في الماضي مرة واحدة، كذلك الريح الصرصر العاتية.

إذن: فهي قليلة نادرة، ومع ذلك إنْ أصابتهم يجزعون وييأسون، وهذا لا ينبغي منهم، أليست لهم سابقة في عدم اليأس حين يئسوا من إرسال الرياح، فأرسلها الله عليهم ومن إنزال المطر فأنزله الله لهم، فلماذا القنوط والرب موجود؟

ومعنى { فَرَأَوْهُ... } [الروم: 51] أي: رأوا الزرع الذي كان أخضر نضراً { مُصْفَرّاً... } [الروم: 51] أي: متغيراً ذابلاً { لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ } [الروم: 51] يكفرون باليأس الذي يعزل الحق سبحانه عن الأحداث، مع أن لهم سابقة، وقد يئسوا وفرَّج الله عليهم.

ذلك لأن الإنسان لا صبرَ له على البلاء، فإنْ أصابه سرعان ما يجزع، ولو قال أنا لي رب أفزع إليه فيرفع عني البلاء، وأن له حكمة سأعرفها لاستراحَ ولهانَ عليه الأمر.

ولك أنْ تسأل: لماذا قال القرآن { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا... } [الروم: 51] ولم يقُلْ وإن؟ قالوا: هذه اللام الزائدة يُسمُّونها اللام واو القسم واللام مُوطِّئة له، وللحق سبحانه أن يقسم بما يشاء على ما يشاء، وكل قسم يحتاج إلى جواب، تقول: والله لأضربنَّك.

كذلك الشرط في (إن) يحتاج إلى جواب للشرط، والحق سبحانه هنا مزج بين القسمَ والشرط في جملة واحدة، فإنْ قلت فالجواب هنا للقسمَ أم للشرط؟

قالوا: فطنة العرب تأبى أنْ يوجد جوابان في جملة واحدة، فيأتي السياق بجواب واحد نستغني به عن الجواب الآخر، والجواب يكون لما تقدَّم، فإنْ تقدم القسَم فالجواب للقسم، وإنْ تقدَّم الشرط فالجواب للشرط. وهنا { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً... } [الروم: 51] قدم القسم؛ لأن التقدير: والله لئن أرسلنا ريحاً..

وكلمة { لَّظَلُّواْ... } [الروم: 51] مأخوذة من الظل وظلَّ فعل مَاضٍ ناقص مثل بات يعني في البيتوتة، وأضحى يعني: استمر في وقت الضحى، وأمسى في وقت المساء، كذلك ظلَّ أي: استمر في الوقت الذي فيه ظِلٌّ يعني: طوال النهار، إذن: نأخذ الزمن من المشتق منه.

ثم يقول الحق سبحانه: { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَىا... }.

(/3385)

فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)

يريد الحق سبحانه أن يُسلِّي رسوله صلى الله عليه وسلم حتى لا يألم لما يلاقيه من قومه، يقول له: يا محمد لا تُتعب نفسك؛ لأن هؤلاء لا يؤمنوا، وما عليك إلا البلاغ، فلا تيأس لإعراض هؤلاء، ولا تتراجع عن تبليغ دعوتك والجهاد في سبيلها والجهر بها؛ لأنني أرسلتك لمهمة، ولن أتخلى عنك، وما كان الله ليرسل رسولاً ثم يخذله أو يُسْلمه.

وقد قال تعالى لنبيه:{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىا آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـاذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً }[الكهف: 6] ولو أردتُ لجعلتُهم مؤمنين قَسراً لا يملكون أنْ يكفروا:{ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ }[الشعراء: 4].

إنما أريد أنْ يأتوني طواعية عن محبة، لا عن قهر؛ لأنني لا أريد قوالبَ تخضع، إنما قلوباً تخشع، ويستطيع أيُّ بشر بجبروته أنْ يجعلَ الناس تخضع له أو تسجد، لكنه لا يستطيع مهما أُوتِي من قوة أنْ تُخْضِع قلوبهم، أو يحملهم على حُبِّه.

وهنا يقول تعالى لنبيه: { فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَىا... } [الروم: 52] فجعلهم في حكم الأموات، وهم أحياء يُرْزَقون، لماذا؟ لأن الذي لا ينفعل لما يسمع ولا يتأثر به، هو والميت سواء.

أو نقول: إن للإنسان حياتين: حياة الروح التي يستوي فيها المؤمن والكافر، والطائع والعاصي، وحياة المنهج والقيم، وهذه للمؤمن خاصة، والتي يقول الله فيها:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُفواْ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ... }[الأنفال: 24].

فهو سبحانه يخاطبهم هذا الخطاب وهم أحياء، لكن المراد هنا حياة المنهج والقيم، وهي الحياة التي تُورِثك نعيماً دائماً باقياً لا يزول، خالداً لا تتركه ولا يتركك.

لذلك يقول سبحانه عن هذه الحياة:{ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }[العنكبوت: 64].

لذلك سمَّى الله المنهج الذي أنزله على رسوله روحاً:{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا... }[الشورى: 52] لأن المنهج يعطيك حياة باقية لا تنزوي ولا تزول.

وسمَّى الملَك الذي نزل به روحاً:{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ }[الشعراء: 193] فالمنهج روح من الله، نزل به روح من الملائكة هو جبريل عليه السلام على قلب سيدنا رسول الله ليحمله رسول مصطفى فيبثُّه في الناس جميعاً، فَيحيَوْن الحياة الآخرة.

فالكفار بهذا المعنى يحيَوْن حياة روح القالب التي يستوي فيها جميع البشر، لكن هم أموات بالنسبة للروح الثانية، روح القيم والمنهج.

لذلك، إذا كان عندنا شخص شقي أو بلطجي يفسد في المجتمع أكثر مما يصلح نقول له: أنت وجودك مثل عدمه، لماذا؟ لأن الحياة إذا لم تُستغل في النافع الدائم، فلا معنى لها.

وهنا يقول تعالى لنبيه: لا تحزن، ولا تذهب نفسك على هؤلاء القوم الحسرات، فهم موتى لم يقبلوا روح المنهج وروح القيم، وما داموا لم تدخلهم هذه الروح، فلا أملَ في إصلاحهم، ولن يستجيبوا لك، فالاستجابة تأتي من أصغى سمعه، وأعمل عقله في الكون من حوله ليصل إلى حقيقة الحياة ولغز الوجود.

وسبق أنْ قُلْنا: إنك إذا سقطتْ بك طائرة مثلاً في صحراء، وانقطعت عن الناس، فلا أنيس ولا شيء من حولك، ثم فجأة رأيتَ أمامك مائدة عليها أطايب الطعام والشراب، فطبيعي قبل أنْ تمتد يدك إليها لا بُدَّ أنْ تسأل نفسك: مَنْ أتى بها؟

كذلك أنت أيها الإنسان طرأتَ على كون مُعَدٍّ لاستقبالك، مليء بكل هذا الخير، بالله ألاَ يستدعي هذا أنْ تسأل مَنْ أعد لي هذا الكون؟

ثم لم يدَّع أحد هذا الكون لنفسه، ثم جاءك رسول من عند الله يخبرك بحقائق الكون، ويحل لك لغز الحياة والوجود، لكن هؤلاء القوم لما جاءهم رسول الله أبَوْا أن يستمعوا إليه، ولم يقبلوا الروح الذي جاءهم به.

والحق سبحانه يعرض لنا هذه المسألة في آية أخرى:{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىا إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً... }[محمد: 16] وهذا يعني أن روح المنهج لم تباشر قلوبهم.

ويردُّ الحق عليهم:{ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَـائِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ }[فصلت: 44].

فالقرآن واحد، لكن المستقبل للقرآن مختلف، فواحد يسمعه بأذن مُرْهفة وقلب واعٍ فيستفيد، ويصل إلى حَلِّ اللغز في الكون وفي الخَلْق؛ لأنه استجاب للروح الجديدة التي أرسلها الله له، وآخر أعرض.

وهؤلاء الذين أعرضوا عن القرآن إنما يخافون على مكانتهم وسيادتهم، فهم أهل فساد وطغيان، ويعلمون أن هذا المنهج جاء ليقيد حرياتهم، ويقضي على فسادهم وطغيانهم؛ لذلك رفضوه.

لذلك تجد أن الذين تصدَّوْا لدعوات الرسل وعارضوهم هم السادة والكبراء، أَلاَ تقرأ قول الحق سبحانه عن مقالتهم:{ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ }[الأحزاب: 67].

إذن: لا تتعجب من أنَّ القرآن يسمعه إنسان فيقول مُستلذاً به: الله، أعِدْ، وآخر ينصرف عنه لا يدري ما يقول، والمنصرف عن القرآن نوعان: إما ينصرف عنه تكبُّراً يعني: وعي القرآن وفهمه لكن تكبَّر على الانصياع لأوامره، وآخر سمعه لكن لم يفهمه؛ لأن الله ختم على قلبه.

ومهمة الداعي أنْ يتعهد المدعو، وألاَّ ييأس لعدم استجابته، وعليه بتكرار الدعوة له، لعله يصادف عنده فترة صفاء وفطرة، وخلو نفس، فتثمر فيه الدعوة ويستجيب.

وإلا فقد رأينا من أهل الجاهلية مَنْ أسلم بعد فترة طويلة من عمر الدعوة أمثال: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعكرمة، وغيرهم.

ونعلم كم كان عمر بن الخطاب كارهاً للإسلام معادياً لأهله، وقصة ضَرْبه لأخته بعد أنْ أسلمتْ قصة مشهورة لأنها كانت سبب إسلامه، فلما ضربها وشجَّها حتى سال الدم منها رقَّ قلبه لأخته، فلما قرأت عليه القرآن صادف منه قلبه صافياً، وفطرة نقية نفضت عنه عصبية الجاهلية الكاذبة فانفعل للآيات وباشرتْ بشاشتها قلبه فأسلم.

لذلك أمر الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أنْ يجهر بالدعوة، وأنْ يصدع بما يُؤمر، لعلَّ السامع تصادفه فترة تنبه لفطرته، كما حدث مع عمر.

وحين نلحظ الفاء في بداية هذه الآية } فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَىا... { [الروم: 52] نجد أن التقدير: فلا تحزن، ولا يهولنك إعراضهم؛ لأنك ما قصرْتَ في البلاغ، إنما التقصير من المستقبل؛ لأنهم لم يقبلوا الروح السامية التي جاءتهم، بل نفروا من السماع، وتناهوا عنه، كما حكى القرآن عنهم:{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـاذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ }[فصلت: 26].

ونَهْى بعضهم بعضاً عن سماع القرآن دليل على أنهم يعلمون أن مَنْ يسمع القرآن بأذن واعية لا بُدَّ أنْ يؤمن به وأنْ يقتنع.

ثم يقول سبحانه:{ صُمٌّ بُكْمٌ... }[البقرة: 18].

وقد علمنا من وظائف الأعضاء أن البكَم يأتي نتيجة الصمم؛ لأن اللسان يحكي ما سمعته الأذن، فإذا كانت الأذن صماء فلا بُدَّ أن يكون اللسان أبكمَ، ليس لديه شيء يحكيه.

لذلك نجد الطفل العربي مثلاً حين ينشأ في بيئة إنجليزية يتكلم الإنجليزية لأنه سمعها وتعلمها، بل نجد صاحب اللغة نفسه تُعرض عليه الكلمات الغربية من لغته فلا يعرفها لماذا؟ لأنه لم يسمعها، فحين يقول العربي عن العجوز: إنها الحَيْزبون والدَّردبيس.. الخ تقول: ما هذا الكلام، مع أنه عربي لكن لم تسمعه أذنك.

والأذن هي أداة الالتقاط الأولى لبلاغ الرسالة، وما دام الله تعالى قد حكم عليهم بأنهم في حكم الأموات، فالإحساس لديهم ممتنع، فالأذن لا تسمع آيات القرآن، والعين لا ترى آيات الكون ولا تتأملها.

لذلك قال تعالى عنهم:{ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَـاكِن تَعْمَىا الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }[الحج: 46].

وكلمة أعمى نقولها للمبصر صحيح العينين حينما يخطيء في شيء، فتقول له: أنت أعمى؟ لماذا، لأنه وإنْ كان صحيح العينين، إلا أنه لم يستعملها في مهمتهما، فهو والأعمى سواء.

وهؤلاء القوم وصفهم الله بأنهم أولاً في حكم الأموات، ثم هم مصابون بالصمم، فلا يسمعون البلاغ، وتكتمل الصورة بأنهم عُمْى لا يروْنَ آيات الإعجاز في الكون، وليتهم صُمٌّ فحسب، فالأصم يمكن أن تتفاهم معه بالإشارة فينتفع بعينيه إنْ كان مقبلاً عليك، لكن ما الحال إذا كان مدبراً، كما قال تعالى: } إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ { [الروم: 52] يعني: أعطوْكَ ظهورهم، إذن: لم يَعُدْ لهم منفذ للتلقي ولا للإدراك، فهم صُم بُكْم، وبالإدبار تعطلت أيضاً حاسة البصر، فلا أملَ في مثل هؤلاء، ولا سبيل إلى هدايتهم.

(/3386)

وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)

والدلالة على الطريق والهداية إليه لا تتأتَّى مع العمى، خصوصاً إذا أصرَّ الأعمى على عماه، ونقول لمن يكابر في العمى (فلان لا يعطي العمى حَقّه) يعني: يأنف أنْ يستعين بالمبصر، ولو استعان بالناس من حوله لوجدهم خدماً له ولصار هو مُبصراً ببصرهم.

وقوله سبحانه: { إِن تُسْمِعُ... } [الروم: 53] أي: ما تُسمِع { إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُّسْلِمُونَ } [الروم: 53] وهؤلاء هم أصفياء القلوب والفطرة، الذين يلتفتون إلى كون الله، يتأملون أسراره وما فيه من وجوه الإعجاز والقدرة، فيستدلون بالخَلْق على الخالق، وبالكون على المكوِّن سبحانه، ولِمَ لا، ونحن نعرف مَنِ اخترع أبسط الأشياء في حياتنا ونُؤرِّخ له، ونُخلِّد ذكراه، ألسنا نعرف أديسون الذي اخترع المصباح الكهربائي، والله الذي خلق الشمس لَهُوَ أوْلَى بالمعرفة.

فإذا جاءك رسول من عند الله يخبرك بوجوده تعالى، ويحل لك لغز هذا الوجود الذي تحتار فيه، فعليك أنْ تُصدِّقه، وأن تؤمن بما جاءك به؛ لذلك الحق سبحانه يُعلِّم الرسل أنْ يقولوا للناس في أعقاب البلاغ{ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ... }[الشعراء: 109].

وفي هذا إشارة إلى أن العمل الذي يُؤدِّيه الرسل لأقوامهم عمل يستحقون عليه أجراً بحكم العقل، لكنهم يترفعون عن أجوركم؛ لأن عملهم غالٍ لا يُقدِّره إلا مَنْ أرسلهم، وهو وحده القادر على أنْ يُوفِّيهم أجورهم.

ومعنى { يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا... } [الروم: 53] يعني: ينظر فيها ويتأملها، ويقف على ما في الكون من عجائب الخَلْق الدالة على قدرة الخالق، فإذا ما جاءه رسول من عند الله أقبل عليه وآمن به؛ لذلك قال بعدها: { فَهُمْ مُّسْلِمُونَ } [الروم: 53].

ثم يقول الحق سبحانه: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن... }.

(/3387)

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)

الحق - تبارك وتعالى - بعد أنْ عرض علينا بعض الأدلة في الكون من حولنا يقول لنا: ولماذا نذهب بعيداً إذا لم تكْفِ الآيات في الكون من حولك، فانظر في آيات نفسك، كما قال سبحانه:{ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ }[الذاريات: 21] وجمع بين النوعين في قوله سبحانه:{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىا يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ... }[فصلت: 53].

فهنا يقول: تأمل في نفسك أنت: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ... } [الروم: 54]، فإنْ قال الإنسان المكلف الآن: أنا لم أشاهد مرحلة الضعف التي خُلِقْتُ منها.

نقول: نعم لم تشاهدها في نفسك، فلم تكُنْ لك ساعتها مشاهدة، لكن شاهدتها في غيرك، شاهدتها في الماء المهين الذي يتكوَّن منه الجنين، وفي الأم الحامل، وفي المرأة حين تضع وليدها صغيراً ضعيفاً، ليس له قَدَم تسعى، ولا يَدٌ تبطش، ولا سِنٌّ تقطع، ومع ذلك رُبي بعناية الله حتى صار إلى مرحلة القوة التي أنت فيها الآن.

إذن: فدليل الضعف مشهود لكل إنسان، لا في ذاته، لكن في غيره، وفي مشاهداته كل يوم، وكل منا شاهد مئات الأطفال في مراحل النمو المختلفة، فالطفل يُولَد لا حولَ له ولا قوة، ثم يأخذ في النمو والكَِبَر فيستطيع الجلوس، ثم الحَبْو، ثم المشي، إلى أنْ تكتمل أجهزته ويبلغ مرحلة الرشْد والفتوة.

وعندها يُكلِّفه الحق - سبحانه وتعالى - وينبغي أنْ نكلفه نحن أيضاً، وأنْ نستغل فترة الشباب هذه في العمل المثمر، فنحن نرى الثمرة الناضجة إذا لم يقطفها صاحبها تسقط هي بين يديه، وكأنها تريد أنْ تؤدي مهمتها التي خلقها الله من أجلها.

لذلك، فإن آفتنا نحن ومن أسباب تأخُّر مجتمعاتنا أننا نطيل عمر طفولة أبنائنا، فنعامل الشاب حتى سِنِّ الخامسة والعشرين على أنه طفل، ينبغي علينا أن نلبي كل رغباته لا ينقصنا إلا أنْ نرضعه.

آفتنا أن لدينا حناناً (مرق) لا معنى له، أما في خارج بلادنا، فمبجرد أن يبلغ الشاب رُشَدْه لم يَعُدْ له حق على أبيه، بل ينتقل الحق لأبيه عليه، ويتحمل هو المسئولية.

والحق سبحانه يُعلِّمنا في تربية الأبناء أنْ نُعوِّدهم تحمُّل المسئولية في هذه السِّنِّ:{ وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ... }[النور: 59].

فانظر أنت أيها الإنسان الذي جعلتَ كل الأجناس الأقوى منك في خدمتك، انظر في نفسك وما فيها من آيات وما بين جنبيك من مظاهر قدرة الله، فقد نشأتَ ضعيفاً لا تقدر على شيء يخدمك غيرك.

ومن حكمته تعالى في الطفل ألاَّ تظهر أسنانه طوال فترة الرضاعة حتى لا يؤذي أمه، ثم تخرج له أسنان مؤقتة يسمونها الأسنان اللبنية؛ لأنه ما يزال صغيراً لا يستطيع تنظيفها، فيجعلها الله مؤقتة إلى أن يكبر ويتمكَّن من تنظيفها، فتسقط ويخرج مكانها الأسنان الدائمة، ولو تأملتَ في نفسك لوجدتَ ما لا يُحصى من الآيات.

} ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً... { [الروم: 54] أي: قوة الشباب وفتوته: } ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً... { [الروم: 54] أي: ضعف الشيخوخة، وهذا الضعف يسري في كل الأعضاء، حتى في العلم، وفي الذاكرة{ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً... }[الحج: 5].

ويظل بك هذا الضعف حتى تصير إلى مثل الطفل في كل شيء تحتاج إلى مَنْ يحملك ويخدمك إذن: لا تأخذ هذه المسألة بطبع تكوينك، ولكن بإرادة مُكوِّنك سبحانه، فبعد أنْ كنتَ ضعيفاً يُقوِيك، وهو سبحانه القادر على أنْ يعيدك إلى الضعف، بحيث لا تستطيع عقاقير الدنيا أنْ تعيدك إلى القوة؛ لذلك يسخر أحد العقلاء ممن يتناولون (الفيتامينات) في سِنِّ الشيخوخة، ويقول: يا ويل مَنْ لم تكُنْ (فيتاميناته) من ظهره.

لذلك تلحظ الدقة في الأداء في قول سيدنا زكريا:{ قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي... }[مريم: 4]؛ لأن العظم آخر مخزن لقُوت الإنسان، حيث يختزن فيه ما زاد عن حاجة الجسم من الطاقة، فإذا لم يتغذَّ الجسم بالطعام يمتصّ من هذا المخزون من الشحوم والدهون، ثم من العضل، ثم من نخاع العظم، وهو آخر مخزن للقوت في جسمك.

فمعنى قول سيدنا زكريا:{ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي... }[مريم: 4] يعني: وصلتُ إلى مرحلة الحرض التي لا أملَ معها في قوة، ويؤكد هذا المعنى بقوله{ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً... }[مريم: 4].

وقلنا: إن بياض الشعر ليس لوناً، إنما البياض انعدام اللون؛ لذلك فاللون الأبيض ليس من ألوان الطيف، ومع الشيخوخة تضعف أجهزة الإنسان، وتضعف الغدد المسئولة عن لون الشعر عن إفراز اللون الأسود، فيظهر الشعر بلا لون.

ونلحظ أن أغلب ما يشيب الناس يشيبون مما يُعرف بـ " السوالف " من هنا ومن هنا، لماذا؟ قالوا: لأن الشعرة عبارة عن أنبوب دقيق، فإذا قُصَّتْ أثناء الحلق ينفتح هذا الأنبوب، وتدخله بعض المواد الكيمياوية مثل الصابون والكولونيا، فتؤثر على الحويصلات الملوّنة وتقضي عليها؛ لذلك نلاحظ هذه الظاهرة كثيراً في المترفين خاصة؛ لذلك تجد بعض الشباب يظهر عندهم الشيب في هذه المناطق من الرأس.

وقد رتب سيدنا زكريا مظاهر الضعف بحسب الأهمية، فقال أولاً{ وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي... }[مريم: 4] ثم{ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً... }[مريم: 4] ومع كِبَر سيدنا زكريا وضعفه، ومع أن امرأته كانت عاقراً إلا أن الله تعالى استجاب له في طلبه للولد الذي يرث عنه النبوة، فبشَّره بولد وسمَّاه يحيى، وكأن الحق - تبارك وتعالى - يقول لنا: إياكم، ألا أستطيع أنْ أخلق مع الشيب والكبر والضعف؟ لذلك قال بعدها: } يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ... { [الروم: 54].

وقال في شأن زكريا عليه السلام:{ قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً }

[مريم: 9].

وقوله تعالى: } وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ { [الروم: 54] أي: أن هذا الخَلْق ناشيء عن علم{ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }[الملك: 14] لكن العلم وحده لا يكفي، فقد تكون عالماً لكنك غير قادر على تنفيذ ما تعلم، كمهندس الكهرباء، لديه علم واسع عنها، لكنه لا يستطيع تنفيذ شبكة أو معمل كهرباء، فيذهب إلى أحد الممولين ليعينه على التنفيذ؛ لذلك وصف الحق سبحانه نفسه بالعلم والقدرة.

إذن: هذا هو الدليل النفسي على الموجد الحق الفاعل المختار الذي يفعل الأشياء بعلم وقدرة، ولا يكلفه العمل شيئاً ولا يستغرق وقتاً؛ لأنه سبحانه يقول للشيء: كن فيكون، ولا تتعجب أن ربك يقول للشيء كُنْ فيكون؛ لأنك أيها المخلوق الضعيف تفعل هذا مع أعضائك وجوارحك.

وإلاَّ فقُلْ لي: ماذا تفعل إنْ أردتَ أنْ تقوم مثلاً أو تحمل شيئاً مجرد أن تريد الحركة تجد أعضاءك طوع إرادتك، ودون أنْ تدري بما يحدث بداخلك من انفعالات وحركات، وإنْ قُلت فأنا كبير وأستطيع أداء هذه الحركات كما أريد، فما بالك بالطفل الصغير؟

وسبق أن ضربنا مثلاً لتوضيح هذه المسألة بالبلدوزر، فلكل حركة منه ذراع خاص بها يُحرِّكه السائق، وأزرار يضرب عليها، وربما احتاج السائق لأكثر من أداة التحريك هذه الآلة حركة واحدة.

أما أنت فمجرد أن تريد تحريك العضو تجده يتحرك معك كما تريد دون أن تعرف العضلات والأعصاب التي شاركت في حركته، فإذا كنتَ أنت على هذه الصورة، أتعجب من أن الله تعالى يقول للشيء كن فيكون؟

ثم يقول الحق سبحانه: } وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ... {.

(/3388)

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)

بعد أنْ عرض الحق - سبحانه وتعالى - الدليل ليهتدي به مَنْ يشاء، ومَنْ لم يهتَد يُلوِّح له بهذا التهديد: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ... } [الروم: 55] معنى كلمة { تَقُومُ السَّاعَةُ... } [الروم: 55] تدل على أنها موجودة، لكن نائمة تنتظر الإذن لها، فتقوم تنتظر أنْ نقول لها: كُنْ فتكون.

فالقيام هنا له دلالته؛ لأن الساعة أمر لا يتأتَّى به القيام، إنما يقيمها الحق سبحانه، فقوله { تَقُومُ... } [الروم: 55] كأنها منضبطة كما تضبط المنبه مثلاً، ولها وقت تنتظره، وهي من تلقاء نفسها إنْ جاء وقتُها قامتْ.

وحين تتأمل كلمة { تَقُومُ... } [الروم: 55] تجد أن القيام آخر مرحلة للإنسان ليؤدي مهمته، فيقابلها ما قبلها، فقبل القيام القعود، ثم الاضطجاع، ثم النوم، فمعنى قيام الساعة يعني: أنها جاءت لتؤدي مهمتها أداءً كاملاً.

وسُمِّيَتْ الساعة؛ لأنها دالة على الوقت الذي يأذن الله فيه بإنهاء العالم، وإنْ كانت الساعة عندنا كوحدة الحساب الزمن نقول: صباحاً أو مساءً وَفْق حساب الحكومة أو الأهالي، توقيت كذا أو كذا.

هذه الآلة التي في أيدينا بما تضبطه لنا من وقت أمرها هيِّن، ليست مشكلة أنْ تُقدِّم أو تُؤخِّر عدة ثوانٍ أو عدة دقائق، تعمل (أتوماتيكياً) أو بالحجارة، صُنِعتْ في سويسرا، أو في الصين، هذه الساعة لا تهم، المهم الساعة الأخرى، الساعة التي لا ساعة بعدها، واعلم أنها منضبطةٌ سبحانه، وما عليك إلا أنْ تضبط نفسك عليها، وتعمل لها ألف حساب.

وعجيب أنْ يقسم الكفار يوم القيامة { مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ... } [الروم: 55] فإنْ كذبوا في الدنيا، فهل يَكذْبون أيضاً في الآخرة؟ قالوا: بل يقولون ذلك على ظنهم، وإلا فالكلام منهم في هذا الوقت ليس اختيارياً، فقد مضى وقت الاختيار، ولم يَعُدْ الآن قادراً على الكذب.

لذلك سيقول الحق سبحانه في آخر الآية: { كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ } [الروم: 55] فقد كانوا يقلبون الحقائق في الدنيا، أما في الآخرة فلن يقلبوا الحقائق، إنما يقولون على حَسْب نظرهم.

والمجرمون: المجرم هو الذي خرج عن المطلوب منه بذنب يخالفه، فنقول: فلان أجرم، والقانون يُسمِّى الفعل جريمة.

ومعنى { مَا لَبِثُواْ... } [الروم: 55] اللبث: المكْث طويلاً أي في الدنيا، أو: ما لبثوا في قبورهم بعد الموت إلى قيام الساعة، أو: ما لبثوا بعد النفخة التي تميت إلى النفخة التي تُحيي.

فهذه فترات ثلاث للبثهم في القبور، أطولها للذين ماتوا منذ آدم عليه السلام، ثم أوسطهم الذين جاءوا بعد ذلك أمثالنا، ثم أقلّهم لُبْثاً وهم الذين يموتون بين النفختين، وفي كل هذه الفترات يوجد كفار، وعلى عهد آدم كان هناك كفار، وعلى مَرِّ العصور بعده يُوجَد كفار، حتى بين النفختين يوجد كفار، إذن: فكلمة لبثوا هنا على عمومها: أطول، وطويل، وقصيرة، وأقصر.

وهؤلاء يقولون يوم القيامة " ما لبثنا غير ساعة " مع أن الآخرة لا كذب فيها، لكنهم يقولون ذلك على حسب ظنهم؛ لأن الغائب عن الزمن لا يدري به، والزمن ظرف لوقت الأحداث، كما أن المكان ظرف لمكانها، فالنائم مثلاً لا يشعر بالزمن؛ لأن الزمن يُحسب بتوالي الأحداث فيه، فإذا كنتَ لا تشعر بالحدث فبالتالي لا تشعر بالوقت، سواء أكان بنوم كأهل الكهف، أو بموت كالذي أماته الله مائة عام ثم بعثه.

ولما قاموا من النوم أو الموت لم يُوقِّتوا إلا على عادة الناس في النوم، فقالوا:{ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ... }[الكهف: 19]؛ لأنه في هذه الحالة لا يدري بالزمن، إنما يدري بالزمن الذي يتتبع الأحداث، وما دام الإنسان في هذه الحالة لا يدرك الزمن، فهو صادق فيما يخبر به على ظنه.

لذلك يقول تعالى في آية أخرى:{ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعَآدِّينَ }[المؤمنون: 112-113] أي: اسأل الذين يعدُّون الزمن ويحصونه علينا، والمقصود والملائكة، فهم الذين يعرفون الأحداث، ويسجلونها من خَلْق آدم عليه السلام وإلى الآن، وإلى قيام الساعة.

فلا يسأل عن عدد إلا مَنْ عدَّ بالفعل، أو مَنْ يمكن أنْ يعُدّ، أما الشيء الذي لا يكون مظنة العدِّ والإحصاء فلا يُعَدُّ، وهل عَدَّ أحد في الدنيا رمال الصحراء مثلاً؟ لذلك نسمع في الفكاهات: أن واحداً سأل الآخر: تعرف في السماء كم نجم؟ قال: تسعة آلاف مليون وخمسمائة ألف وثلاثة وتسعون نجماً، فقال الأول: أنت كذاب، فقال الآخر: اطلع عِدّهم.

لكن، لماذا يستقلّ الكفار الزمن فيُقسمون يوم تقوم الساعة ما لبثوا غير ساعة؟ وفي موضع آخر يقول عنهم:{ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا }[النازعات: 46].

قالوا: لأن الزمن يختلف بحسْب أحوال الناس فيه، فواحد يتمنى لو طال به الزمن، وآخر يتمنى لو قصر، فالوقت الذي يجمعك ومَنْ تحب يمضي سريعاً وتتمنى لو طال، على خلاف الوقت الذي تقضيه على مَضض مع مَنْ تكره، فيمر بطيئاً متثاقلاً.

على حدِّ قول الشاعر:حَادِثَاتُ السُّرورِ تُوزَنُ وَزْناً والبَلاَيَا تُكَالُ بالقُفزانويقول آخر:وَدَّع الصَّبر محبٌّ ودَّعكَ ذائعٌ مِن سِرِّهِ مَا اسْتوْدعَكْيَقْرعُ السَّنَّ على أنْ لم يكُنْ زَادَ في تِلْكَ الخُطَى إذْ شيَّعَكْإلى أنْ يقولَ:إنْ يَطُلْ بعدكَ لَيْلى فلكَمْ بِتُّ أشكُو قِصَر الليْلِ معكْففي أوقات السرور، الزمن قصير، وفي أوقات الغَمِّ الزمن طويل ثقيل، ألم تسمع للذي يقول - لما جمع الليل شمله بمَنْ يحب:يَا لَيْلُ طُلْ يا نَوْمُ زُلْ يَا صُبْحُ قِفْ لا تطْلُعٍكذلك الذي ينتظر سروراً يستبطيء الزمن، ويود لو مرَّ سريعاً ليعاين السرور الذي ينتظره، أما الذي يتوقع شراً أو ينتظره فيودُّ لو طالَ الزمن ليبعده عن الشر الذي يخافه.

لذلك نجد المؤمنين يودُّون لو قصر الزمن؛ لأنهم واثقون من الخير الذي ينتظرهم والنعيم الذي وُعدوا به، أما المجرمون فعلى خلاف ذلك، يودُّون لو طال الزمن ليبعَدهم عما ينتظرهم من العذاب؛ لذلك يقولون ما لبثنا في الدنيا إلا قليلاً ويا ليتها طالتْ بنا. إما لأنهم لا يدرون بالزمن ويقولون حَسْب ظنهم، أو لأنهم يريدون شيئاً يُبعد عنهم العذاب.

إذن: أقسموا ما لبثوا غير ساعة، إما على سبيل الظن، أو لأن الغافل عن الأحداث لا يدري بالزمن، ولا يستطيع أنْ يُحِصيه، كالعُزير الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه{ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ... }[البقرة: 259] فأخبره ربه أنه لبث مائة عام{ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ... }[البقرة: 259].

والذي لا شكَّ فيه أن الله تعالى صادق فيما أخبر به، وكذلك العزير كان صادقاً في حكمه على الزمن؛ لذلك أقام الحق - سبحانه وتعالى - الدليل على صِدْق القولين فقال:{ فَانْظُرْ إِلَىا طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ... }[البقرة: 259] والطعام لا يتغير في يوم أو بعض يوم، فقام الطعام والشراب دليلاً على صِدْق الرجل.

ثم قال سبحانه{ وَانْظُرْ إِلَىا حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً... }[البقرة: 259].

فقامت العظام البالية دليلاً على صِدْقه تعالى في المائة عام. ولا تقل: كيف نجمع بين صدق القولين؟ لأن الذي أجرى هذه المسألة رب، هو سبحانه القابض الباسط، يقبض الزمن في حَقِّ قوم، ويبسطه في حَقِّ آخرين.

وهذه الآية } وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ... { [الروم: 55] جاءت بعد إعذار الله للكافرين برسله، ومعنى إعذارهم أي: إسقاط عذرهم في أنه سبحانه لم يُبيِّن لهم أدلة الإيمان في قمته بإله واحد، وأدلة الإيمان بالرسول بواسطة المعجزات حتى يؤمنوا بآيات الأحكام في: افعل، ولا تفعل.

فالآيات كما قلنا ثلاث: آيات تثبت قمة العقيدة، وهو الإيمان بوجود الإله القادر الحكيم، وآيات تثبت صِدْق البلاغ عن الله بواسطة رسله، وهذه هي المعجزات، وآيات تحمل الأحكام.

والحق سبحانه لا يطلب من المؤمنين به أنْ يؤمنوا بأحكامه في: افعل ولا تفعل إلا إذا اقتنعوا أولاً بالرسول المبلِّغ عن الله بواسطة المعجزة، ولا يمكن أنْ يؤمنوا بالرسول المبلِّغ عن الله إلا إذا ثبتَ عندهم وجود الله، ووجود الله ثابت في آيات الكون.

لذلك دائماً ما يعرض علينا الحق سبحانه آياته في الكون، لكن يعرضها متفرقة، فلم يصبّها علينا صَبّاً، إنما يأتي بالآية ثم يُردِفها بما حدث منهم من التكذيب والنكران، فيأتي بالآية ونتيجتها منهم، ذلك ليكرر الإعذار لهم في أنه لم يَعُدْ لهم عُذْر في ألاَّ يؤمنوا.

فنلحظ هذا التكرار في قوله سبحانه:{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }[الروم: 46].

ثم يذكر أن هذه الآيات لم تُجْد معهم:{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَىا قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ }[الروم: 47].

ثم يسوق آية أخرى:{ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانظُرْ إِلَىا آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَىا وَهُوَ عَلَىا كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }[الروم: 48-50].

ثم يذكر سبحانه ما كان منهم بعد كلِّ هذه الآيات:{ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ }[الروم: 51].

وهكذا يذكر الحق سبحانه الآية، ويُتبعها بما حدث منهم من نكران، ويكررها حتى لا تبقى لهم حجة للكفر، ثم تأتي هذه الآية: } وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ... { [الروم: 55] لتقول لهم: إنْ كنتم قد كذَّبتم بكل هذه الآيات، فستأتيكم آية لا تستطيعون تكذيبها هي القيامة.

وعجيب أنْ يُقسِموا بالله في الآخرة ما لبثوا غير ساعة، وقد كفروا به سبحانه في الدنيا.

وفي الآية جناس تام بين كلمة الساعة الأولى، والساعة الثانية، فاللفظ واحد لكن المعنى مختلف } وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ... { [الروم: 55] أي: القيامة } يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ... { [الروم: 55] أي: من الوقت، ومن ذلك قول الشاعر:رَحلْتُ عَنِ الديارِ لكُمْ أَسِيرُ وقَلْبي فِي محبِتكُمْ أَسِيرُأي: مأسور.

ولي أنا وزميلي الدكتور محمد عبد المنعم خفاجة - أطال الله بقاءه - قصة مع الجناس، ففي إحدى حصص البلاغة، قال الأستاذ: لا يوجد في القرآن جناس تام إلا في هذه الآية بين ساعة وساعة، لكن يوجد فيه جناس ناقص، فرفع الدكتور محمد أصبعه وقال: يا أستاذ أنا لا أحب أنْ يُقال: في القرآن شيء ناقص.

فضحك الشيخ منه وقال له: إذن ماذا نقول؟ وقد قسم أهل البلاغة الجناس إلى تام وناقص: الأول تتفق فيه الكلمتان في عدد الحروف وترتيبها وشكلها، فإن اختلف من ذلك شيء فالجناس بينهما ناقص، كما في قوله تعالى:{ ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ }[الهمزة: 1] فبين هُمزة ولمزة جناس ناقص؛ لأنهما اختلفا في الحرف الأول.

أذكر أن الشيخ أشار إليَّ وقال: ما رأيك فيما يقول صاحبك؟ فقلت: نسميه جناس كُل، وجناس بعض، يعني: تتفق الكلمتان في كل الحروف أو في بعضها، وبذلك لا نقول في القرآن: جناس ناقص.

فقولهم } مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ... { [الروم: 55] أي: الساعة الزمنية التي نعرفها، والزمن له مقاييس: ثانية، ودقيقة، وساعة، ويوم، وأسبوع، وشهر، وسنة، وقرن، ودهر، وهم يقصدون الساعة الزمنية المعروفة لنا.

إذن: فهم يُقلِّلون مدة مُكْثهم في الدنيا أو في القبور لما فاجأتهم القيامة، وقد أخبرناهم وهم في سَعَة الدنيا أن متاع الدنيا قليل، وأنها قصيرة وإلى زوال، فلم يُصدّقوا والآن يقولون: إنها كانت مجرد ساعة، ولم يقولوا حتى شهر أو سنة، فكيف تستقل ما سبق أن استكثرته، وظننتَ أنك خالد فيه حتى قلتَ

{ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدَّهْرُ... }[الجاثية: 24].

ففي الدنيا كذَّبتم وأنكرتم، ولم تستجيبوا لداعي الإيمان، أما الآن في الآخرة فسوف تستجيبون استجابة مصحوبة بحمده تعالى، كما قال سبحانه:{ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ... }[الإسراء: 52] أي: تقولون الحمد لله والإنسان لا يحمد إلا على شيء محبوب.

ثم يقول سبحانه: } كَذَلِكَ... { [الروم: 55] أي: كهذا الكذب } كَانُواْ يُؤْفَكُونَ { [الروم: 55] والإفك من أَفك إفكاً، أي: صرف الشيء عن وجهه؛ لذلك سُمِّي الكذب إفكاً؛ لأن الكاذب يخبر بقضية تخالف الواقع، فيأتي بها على غير وجهها، أو يُوجِدها وهي غير موجودة، أو ينكر وجودها.

ومنه قوله تعالى:{ وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىا }[النجم: 53] وهي القرى التي قلبها الله، فجعل عاليها سافلها.

فقوله } كَذَلِكَ... { [الروم: 55] أي: كهذا الإفك كانوا يُؤْفكون، يعني: يكذِّبون الرسل في الحقائق التي جاءوا بها من قِبلَ ربهم.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ... {.

(/3389)

وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)

قال هنا { الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ... } [الروم: 56] فهل العِلم ينافي الإيمان؟ لا، لكن هناك فَرْق بينهما، فالعلم كسب، والإيمان أنت تؤمن بالله وإنْ لم تَرَه. إذن: شيء أنت تراه وتعلمه، وشيء يخبرك به غيرك بأنه رآه، فآمنتَ بصدقه فصدَّقْتَه، فهناك تصديق للعلم وتصديق للإيمان؛ لذلك دائما يُقَال: الإيمان للغيبية عنك، أما حين يَقْوى إيمانك، ويَقْوى يقينك يصير الغيب كالمشاهَد بالنسبة لك.

وقد أوضحنا هذه المسألة في الكلام عن قوله تعالى في خطابه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ }[الفيل: 1].

فقال: ألم تَرَ مع أن النبي صلى الله عليه وسلم وُلِد عام الفيل، ولم يتسَنّ له رؤية هذه الحادثة، قالوا: لأن إخبار الله له أصدق من رؤيته بعينه.

فقوله: { أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ... } [الروم: 56] لأن العلم تأخذه أنت بالاستنباط والأدلة... الخ، أو تأخذه ممن يخبرك وتُصدِّقه فيما أخبر، " لذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل الصحابي: " كيف أصبحتَ "؟ قال: أصبحتُ مؤمناً حقاً، قال: " لكلِّ حقٍّ حقيقة، فما حقيقة إيمانك "؟

يعني: ما مدلول هذه الكلمة التي قلتها؟

فقال الصحابي: عزفتْ نفسي عن الدنيا، فاستوى عندي ذهبها، ومدرها، وكأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يُنعَّمون، وإلى أهل النار في النار يُعذَّبون - يريد أن يقول لرسول الله: لقد أصبحتُ وكأني أرى ما أخبرتنا به - فقال له رسول الله: " عرفتَ فالزم ".

لكن، مَن هم الذين أوتوا العلم؟ هم الملائكة الذين عاصروا كل شيء، لأنهم لا يموتون، أو الأنبياء لأن الذي أرسلهم أخبره، أو المؤمنون لأنهم صدَّقوا الرسول فيما أخبر به.

وقال { أُوتُواْ الْعِلْمَ... } [الروم: 56] ولم يقل: علموا، كأن العلم ليس كَسْباً، إنما إيتاء من عَالِم منك يعطيك. فإنْ قُلتَ: أليس للعلماء دور في الاستدلال والنَظر في الأدلة؟ نقول: نعم، لكن مَنْ نصب لهم هذه الأدلة؟ إذن: فالعلم عطاء من الله.

ثم يقول سبحانه: { لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَىا يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَـاذَا يَوْمُ الْبَعْثِ... } [الروم: 56] يعني: مسألة مرسومة ومنضبطة في اللوح المحفوظ إلى يوم البعث { فَهَـاذَا يَوْمُ الْبَعْثِ... } [الروم: 56] الذي كنتم تكذبون به، أما الآن فلا بُدَّ أنْ تُصدِّقوا فقد جاءكم شيء لا تقدرون على تكذيبه؛ لأنه أصبح واقعاً ومن مصلحتكم أنْ يقبل عذركم، لكن لن يقبل منكم، ولن نسمع لكم كلاماً لأننا قدمنا الإعذار سابقاً.

وقوله تعالى: { وَلَـاكِنَّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [الروم: 56] في أول الآية قال: { أُوتُواْ الْعِلْمَ... } [الروم: 56] فنسب العلم إلى الله، أما هنا فنسبه إليهم؛ لأن الله تعالى نصب لهم الأدلة فلم يأخذوا منها شيئاً، ونصب لهم الحجج والبراهين والآيات فغفلوا عنها، إذن: لم يأخذوا من الدلائل والحجج ما يُوصِّلهم إلى العلم.

ثم يقول الحق سبحانه: { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الَّذِينَ... }.

(/3390)

فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)

قوله { فَيَوْمَئِذٍ... } [الروم: 57] أي: يوم قيام الساعة { لاَّ ينفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } [الروم: 57] أي: لا يُقبَل منهم عذر، ومعنى { ظَلَمُواْ... } [الروم: 57] أي: ظلموا أنفسهم، والظالم يلجأ إلى الظلم؛ لأنه يريد أن يأخذ من الغير ما عجزتْ حركته هو عن إدراكه.

فالظلم أنْ تأخذ نتيجة عرق غيرك لتحوله إلى دم فيك، لكن دمك إنْ لم يكُنْ من عَرَقك فهو دم فاسد عليك، ولا تأتي منه أبداً حركة إجابة في الوجود لا بُدَّ أن تكون نتيجته حركات شر؛ لأنه دم حرام، فكيف يتحرك في سبيل الحلال؟

لذلك ورد في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلى طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين " ، فقال:{ ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }[المؤمنون: 51] وقال:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }[البقرة: 172] ثم ذكر " الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر ثم يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه من حرام، ومشربه من حرام، فأنَّى يُستجاب له " ".

إذن: كيف يُستجاب لنا وأبعاضنا كلها غير أهْلِ لمناجاة الله بالدعاء؟

ولا يقف الأمر عند عدم قبول العذر، إنما { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } [الروم: 57] العتاب: حوار بلُطْف ودلال بين اثنين في أمر أغضب أحدهما، وكان من المظنون ألاَّ يكون، ويجب أن يعرض عليه ليصفي نفسه منه، كأن يمر عليك صديق فلا يسلم عليك فتغضب منه، فإنْ كنتَ حريصاً على مودته تقابله وتقول: والله أنا في نفسي شيء منك، لأنك مررتَ فلم تسلم عليَّ يوم كذا، فيقول لك: والله كنتُ مشغولاً بكذا وكذا ولم أَرَك، فيزيل هذا العذر ما في نفسك من صاحبك.

ونقول: عتب فلان على فلان فأعتبه أي: أزال عتابه؛ لذلك يقولون: ويبقى الود ما بقي العتاب، ويقول الشاعر:أَمَّا العِتَابُ فبالأحِبّة أَخْلَق والحُبُّ يَصْلُح بالعِتَاب ويصْدُقُوالهمزة في أعتب تسمى همزة الإزالة، ومنها قول الشاعر:أُرِيدُ سُلوَّكم - أي بعقلي - والقَلْبُ يأْبَى وأعْتِبكُم ومِلءُ النَفْسِ عَتْبىومنه ما جاء في مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم لربه يوم الطائف بعد أن لَقي منهم ما لَقِي، حتى لجأ إلى حائط، وأخذ يناجي ربه: " ربِّ إلى مَنْ تَكِلني، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملّكته أمري؟ إنْ لم يكنْ بك عليَّ غضب فلا أُبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي.. إلى أنْ يقول: لك العُتْبى حتى ترضى ".

يعني: يا رب إنْ كنت غضبتَ لشيء بدر مني، فأنا أريد أن أزيل عتباك عليَّ.

ومن همزة الإزالة قولنا: أعجمت الكلمة أي: أزلْتُ عٌجْمتها وخفاءها، وأوضحت معناها، ومن ذلك نُسمِّي المعجم لأنه يزيل خفاء الكلمات ويُبيِّنها.

وتقرأ في ذلك قوله تعالى:{ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا... }[طه: 15] أي: أقرب أنْ أزيل خفاءها بالآيات والعلامات.

وهذه الكلمة } يُسْتَعْتَبُونَ { [الروم: 57] وردتْ في القرآن ثلاث مرات، ووردت مرة واحدة مبنية للفاعل (يَسْتعتبون)، لأنهم طلبوا إزالة عتابهم، فلم يُزِلْه الله ولم يسمح لهم في إزالته، أما (يُستعتبون) فلأنهم لم يطلبوا العتب بأنفسهم، إنما جعلوا لهم شفعاء يطلبون لهم، لكن خَاب ظنهم في هذه وفي هذه.

فالمعنى } وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ { [الروم: 57] لا يجرؤ شفيع أنْ يقول لهم: استعتبوا ربكم، واسألوه أنْ يعتبكم أي: يزيل العتاب عنكم.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـاذَا... {.

(/3391)

وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58)

وهذه الآية تعني أننا لم نترك معذرة لأحد ممن كفروا برسلهم؛ لأننا جئنا لهم بأمثال متعددة وألوان شتى من الأدلة المشاهدة ليستدلوا بها على غير المشاهد ليأخذوا من مرائيهم ومن حواسهم دليلاً على ما غاب عنهم.

فحين يريد سبحانه أن يقنعهم بأن يؤمنوا بإله واحد لا شريك له يضرب لهم هذا المثَلَ من واقع حياتهم:{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً... }[الزمر: 29].

هل يستوي عبد لسيد واحد مع عبد لعدة أسياد يتجاذبونه، إنْ أرضي واحد أسخط الآخرين؟

ثم يُقرِّب المسألة بمثَلٍ من الأنفس، وليس شيء أقرب إلى الإنسان من نفسه، فيقول الحق سبحانه وتعالى:{ ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }[الروم: 28].

والمعنى: إذا كنتم لا تقبلون أنْ يشارككم مواليكم فيما رزقكم الله، فتكونون في هذا الرزق سواء، فكيف تقبلون الشركة في حق الله تعالى؟

وحين يريد الحق سبحانه أنْ يبطل شرْكهم وعبادتهم للآلهة يضرب لهم هذا المثل{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ }[الحج: 73].

والمَثَل يعني أنْ تُشبِّه شيئاً بشيء، وتلحق خفياً بجلى، لتوضحه وليستقر في ذِهْن السامع، كأن تشبه شخصاً غير معروف بشخص معروف، ويُسَمَّى هذا: مثْل أو مَثَل، نقول: فلان مثْل فلان.

أما المثل فقول من حكيم شاع على الألسنة، وتناقله الناس كلما جاءت مناسبته، وسبق أنْ مثَّلنا لذلك بالملك الذي أرسل امرأة تخطب له أم إياس بنت عوف بن محلم الشيباني، وكان اسمها (عصام)، فلما عادت من المهمة بادرها بقوله: ما وراءكِ يا عصام؟ فصارت مثلاً يُقال في مثل هذه المناسبة مع أنه قيل في حادثة مخصوصة.

والمثل يقال كما هو، لا نغير فيه شيئاً، فنقول: ما وراءك يا عصام للمذكر وللمؤنث، وللمفرد وللمثنى وللجمع.

ومن ذلك نُشبِّه الكريم بحاتم، والشجاع بعنترة.. الخ لأن حاتماً الطائي صار مضربَ المثل في الكرم، وعنترة في الشجاعة. وفي المثال نقول لمن يواجه بمَنْ هو أقوى منه: إنْ كنت ريحاً فقد لاقيتَ إعصاراً، ونقول لمن لم يُعِدّ للأمر عُدَّته: قبل الرماء تُملأ الكنائن.

إذن: المثل قول شبه مضربه الآن بمورده، سابقاً لأن المورد كان قوياً وموجزاً لذلك حُفِظ وتناقلته الألسنة.

والقرآن يسير على أسلوب العرب وطريقتهم في التعبير وتوضيح المعنى بالأمثال حتى يضرب المثل بالبعوضة، والبعض يأنف أنْ يضرب القرآن بجلاله وعظمته مثلاً بالبعوضة، وهو لا يعلم أن الله يقول:{ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا... }

[البقرة: 26].

وليس معنى:{ فَمَا فَوْقَهَا... }[البقرة: 26] أي: في الكِبَر كما يظن البعض، فيقولون: لماذا يقول فما فوقها وهو من باب أَوْلى، لكن المراد ما فوقها في الصِّغَر وفيما تستنكرونه من الضآلة، كالكائنات الدقيقة والفيروسات...الخ.

لكن، لماذا يضرب الله الأمثال للناس؟ قالوا: لأن الإنسان له حواسّ متعددة، فهو يرى ويسمع ويشم ويتذوق ويلمس.. الخ، ولو تأملتَ كل هذه الحواس لوجدتَ أن ألصق شيء بالحس أنْ يضرب؛ لذلك حين تريد أنْ تُوقِظ شخصاً من النوم فقد لا يسمع نداءك فتذهب إليه وتهزُّه كأنك تضربه فيقوم.

إذن: فالضرب هو الأثر الذي لا يتخلف مدلوله أبداً، ومن ذلك قوله تعالى:{ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ... }[المزمل: 20] أي: يُؤثرون فيها تأثيراً واضحاً كالحرث مثلاً، وهو أشبه ما يكون بالضرب.

والضرب لا يكون ضرباً يؤدي مهمة وله أثر إلا إذا كان بحيث يُؤلم المضروب، ولا يُوجع الضارب، وإلا فقد تضرب شيئاً بقوة فتؤلمك يدك، فكأنك ضربتَ نفسك. وهذا المعنى فَطِن إليه الشاعر، فقال للذين لا يؤمنون بقدر الله:أيَا هَازئاً من صُنُوف القَدَرِ بنفسِكَ تعنف لاَ بالقَدرْوَيَا ضَارِباً صَخْرةً بِالعصَا ضربتَ العَصَا أَمْ ضربْتَ الحجَرْفالحق سبحانه يضرب المثل ليُشعركم به، وتُحسون به حِسَّ الألم من الضرب، فإذا لم يحسّ الإنسان بضرب المثل فهو كالذي لا يحسُّ بالضرب الحقيقي المادي، وهذا والعياذ بالله عديم الإحساس أو مشلول الحسِّ.

فالمعنى: } وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـاذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ... { [الروم: 58] يعني: أتيناهم بأمثال ودلائل لا يمكن لأحد إلا أنْ يستقبلها كما يستقبل الضرب؛ لأن الضرب آخر مرحلة من مراحل الإدراك.

وسبق أنْ قلنا: إن الحق سبحانه ضرب المثل لنفسه سبحانه في قوله:{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ... }[النور: 35].

والمثل هنا ليس لنوره تعالى كما يظن البعض، إنما مَثَلٌ لتنويره للكون الواسع، وهو سبحانه يُنوِّرك حِسِّياً بالشمس وبالقمر وبالنجوم، ويُنوِّرك معنوياً بالمنهج وبالقيم.

ففائدة النور الحسي أن يزيل الظلمة، وأنْ تسير على هُدى وعلى بصيرة فتسلم خطاك واتجاهك من أنْ تحطم ما هو أقلّ منك أو يحطمك ما هو أقوى منك، والمحصلة ألاَّ تضر الأضعف منك، وألاَّ يضرك الأقوى منك.

كذلك النور المعنوي، وهو نور القيم والمنهج يمنعك أنْ تضرَّ غيرك، ويمنع غيرك أنْ يضرَّك، وكما ينجيك النور الحسي من المعاطب الحسية كذلك ينجيك نور القيم من المعاطب المعنوية.

لذلك يقول سبحانه بعد أن ضرب لنا هذا المثل:{ نُّورٌ عَلَىا نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ }[النور: 35].

وسبق أنْ ذكرنا ما كان من مدح أبي تمام لأحد الخلفاء:إقْدامُ عَمروٍ في سَمَاحةِ حَاتمٍ في حِلْم أحْنَفَ في ذَكَاءِ إيَاسِفقال أحد حُسَّاده على مكانته من الخليفة: أتشبه الخليفة بأجلاف العرب؟ فأطرق هنيهة، ثم أكمل على نفس الوزن والقافية:

لاَ تُنكِروا ضرْبي لَهُ مَنْ دُونَه مثَلاً شَرُوداً في النَّدَى والبَاسِفاللهُ قَدْ ضربَ الأقلَّ لِنُورهِ مَثَلاً من المشْكَاةِ والنبراسِالأعجب من هذا أنهم أخذوا الورقة التي معه، فلم يجدوا فيها هذين البيتين، وهذا يعني أنه ارتجلهما لتوّه، وقد قلت: والله لو وجدوا هذه الأبيات مُعدة معه لما قلَّل ذلك من شأنه، بل فيه دلالة على ذكائه واحتياطه لأمره وتوقعه لما قد يقوله الحساد والحاقدون عليه.

لكن لم تُجد هذه الأمثال ولم ينتفعوا بها، وليت الأمر ينتهي عند هذا الحد بل: } وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ... { [الروم: 58] أي: جديدة } لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ { [الروم: 58] فيتهمون الرسل في بلاغهم عن الله بأنهم أهل باطل وكذب.

والحق سبحانه يحتجّ على الناس في أنه لم يُجبهم إلى الآيات التي اقترحوها؛ لأن السوابق مع الأمم التي كذَّبت الرسل تؤيد ذلك، فقد كانوا يطلبون الآيات، فيجيبهم الله إلى ما طلبوا، فما يزدادون إلا تكذيباً.

لذلك يقول سبحانه:{ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ... }[الإسراء: 59].

فالأمر لا يتعدى كونهم يريدون إطالة الإجراءات وامتداد الوقت في جدل لا يجدي، ثم إن في إجابتهم إلى ما طلبوا رغم تكذيبهم بالآيات السابقة احتراماً لعدم إيمانهم، ودليلاً على أن الآيات السابقة كانت غير كافية، بدليل أنه جاءهم بآية أخرى، إذن: فعدم مجيء الآيات يعني أن الآيات السابقة كانت كافية للإيمان لكنهم لم يؤمنوا؛ لذلك لن نجيبهم في طلب آيات أخرى جديدة.

وهذه القضية واضحة في جدل إبراهيم - عليه السلام - مع النمروذ في قوله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ... }[البقرة: 258].

وعندها شعر إبراهيم عليه السلام بأن خَصْمه يميل إلى الجدل والسفسطة، وأنه يريد إطالة مد الجدل، ويريد تضييع الوقت في أخذ وردٍّ؛ لذلك أضرب عن هذه الحجة - مع أن خَصْمه لا يميت ولا يحيى على الحقيقة - وألجأه إلى حجة أخرى لا يستطيع منها فكاكاً، ولا يجد معها سبيلاً للمراوغة فقال:{ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ... }[البقرة: 258] فماذا يقول هذا المعاند؟{ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }[البقرة: 258].

كذلك كان فرعون يلجأ إلى هذا الأسلوب في حواره مع موسى وهارون عليهما السلام، ففي كل موقف كان يقول:{ فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَىا }[طه: 49] إنه الجدل العقيم، يلجأ إليه مَنْ أفلس، فلم يجد حجة يستند إليها.

ونلحظ في أسلوب الآية صيغة الإفراد في } وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ... { [الروم: 58] ثم تنتقل إلى صيغة الجمع في } إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ { [الروم: 58] فلم يقولوا لرسولهم مثلاً: أنت مبطل، فلماذا؟ قالوا: لأن الرسول حين يُكذِّبه قومه فيقولون: أنت مبطل، فلعل من أتباعه المؤمنين به مَنْ يدافع عنه ويشهد بصدقه، فجاءت صيغة الجمع لتفيد الشمول، فكأنهم يقولون: أنت مبطل وكل مَنْ (يتشدد لك).

أو يكون المعنى } إِنْ أَنتُمْ... { [الروم: 58] يعني: كل الرسل } مُبْطِلُونَ { [الروم: 58] أي: كاذبون تختلفون من عند أنفسكم وتقولون: هو من عند الله. وعجيب من هؤلاء أن يؤمنوا بالله ويُكذِّبوا رسله، ككفار مكة الذين شمتوا في رسول الله حين فتر عنه الوحي فقالوا: " إن رب محمد قلاه ".

وهم لا يدرون أو الوحي كان يجهد رسول الله، وكان يشقُّ عليه في بداية الأمر، حتى جاء زوجه خديجة يقول: زملوني زملوني، دثروني دثروني، وكان جبينه يتفصد عرقاً، وكان صلى الله عليه وسلم يقول عن الملَك: " وضمني حتى بلغ مني الجهد ".

وما ذاك إلا لالتقاء الملكية بالبشرية؛ لذلك كان جبريل عليه السلام يتمثل لسيدنا رسول الله في صورة بشر، ليس عليه غبار السفر ولا يعرفه أحد، كما جاء لرسول الله وهو في مجلس الصحابة يسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان.

إذن: مسألة فتور الوحي وانقطاعه مدة عن رسول الله أراد الله به أن يستريح رسول الله من مشقة الوحي حتى يزول عنه الألم والعناء وعندها يشتاق للوحي من جديد، ويهون عليه فيتحمله ويصير له دُرْبه على تلقيه من الملك، فشَوْق الإنسان إلى الشيء يجعله يتحمل المشاقّ في سبيله، ويُهوِّن عليه الصعاب، كالذي يسير إلى محبوبه فلا يبالي حتى لو سار على الشوك، أو اعترضته المخاوف والأخطار.

والوحي لقاء بشري بملكي، فإما أنْ ينتقل الرسول إلى مرتبة الملَك، أو ينتقل الملك إلى مرتبة البشر، وهذا التقارب لم يحدث في بداية نزول الوحي فأجهد رسول الله واحتاج إلى هذه الراحة بانقطاع الوحي.

لذلك يقول سبحانه:{ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ }[الشرح: 2-3] أي: جعلناه خفيفاً لا يجهدك، ويقول سبحانه في الرد عليهم:{ وَالضُّحَىا * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىا * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىا }[الضحى: 1-3].

فعجيب أنْ يقولوا: " إن رب محمد قلاه " فيعترفون برب محمد ساعة الشدة والضيق الذي نزل به، فأشمتهم فيه حتى قالوا: إن رب محمد جفاه، فلما وصله ربه بالوحي ودعاهم إلى الإيمان كفروا وكذَّبوا.

(/3392)

كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59)

قوله سبحانه: { كَذَلِكَ... } [الروم: 59]. أي: كتكذيبهم لكل آية تأتيهم بها { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىا قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [الروم: 59]. أي ختمها وأغلقها.

فإنْ قلتَ: فمن المصلحة أنْ تظل قلوبهم مفتوحة لعلها تستقبل شيئاً من الهداية والنور. نقول: الخَتْم على قلوب هؤلاء لا يكون إلا بعد استنفاد كل وسائل الدعوة، فلم يستجيبوا فلا أملَ في هدايتهم ولا جدوى من سماعهم.

والحق - سبحانه وتعالى - ربٌّ يعين عبده على ما يحب ويلبي له رغبته، حتى وإنْ كانت الكفر، وهؤلاء أرادوا الكفر وأحبوه، فأعانهم الله على ما أرادوا، وختم على قلوبهم حتى لا يدخلها إيمان، ولا يفارقها كفر.

لذلك سبق أنْ حذَّرنا أصحاب المصائب، أو الذين يفقدون عزيزاً، حذرناهم أنْ يستديموا الحزن، وأنْ يألفوه مخافة أنْ يوافقكم الله على هواكم في محبة الحزن وعِشْقه، فتتوالى عليكم الأحزان وتتتابع المصائب، إياكم ان تدعوا باب الحزن موارباً، بل أغلقوه بمسمار الرضا، فالحزن إنْ ظلَّ بك فلن يدعَ لك حبيباً.

وكذلك نقول: إن شُغل عنك شخص فلا تُذكِّره بنفسك، بل أَعِنْهُ على هجرك، وساعده بألاَّ تذكره.

فإذا قلتَ: إذا كان الحق سبحانه قد وصفهم بأنهم لا يعلمون، فلماذا يختم على قلوبهم، ولماذا يحاسبهم؟ نقول: لأن عدم العلم نتيجة تقصيرهم، فالحق سبحانه أقام لهم الأدلة والآيات الكونية الدالة على وجوده تعالى، فلم ينظروا في هذه الآيات ولم يستدلوا بالأدلة على وجود الخالق القادر سبحانه، وضرورة البلاغ من الله، إذن: فعدم علمهم نتيجة غفلتهم وتقصيرهم.

لكن، ماذا بعد أنْ كذَّبوا الرسل وأنكروا الآيات، أتتوقف مسيرة الدعوة، لأنهم صَمُّوا آذانهم عنها؟ لقد خلق الله الكون ونثر فيه الآيات التي تدل على وجود الإله الواحد الأحد، وجعل فيه المعجزات التي تثبت صِدْق الرسُل في البلاغ عن الله، والحق سبحانه لا ينتفع بهذه الآيات؛ لأن مُلْكِه تعالى لا يزيد بطاعتنا، ولا ينقص بمعاصينا، فالمسألة تعود إلينا نحن أولاً وآخراً، إذن: فالحسم في هذه المسألة: دَعْكَ من هؤلاء المكذَّبين يا محمد، واتبُتْ على ما أنت عليه.

ثم يقول الحق سبحانه: { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ... }.

(/3393)

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)

اصبر على كرههم، واصبر على لَدَدهم وعنادهم، واصبر على إيذائهم لك ولمن يؤمن بك، اصبر على هذا كله؛ لأن العاقبة في صالحك { إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ... } [الروم: 60]. وقد وعد الله رسله بالنصرة والغَلَبة، ووَعْد الله حق، فتأكد أن النصر آتٍ.

لكن ما دام النصر آتياً، فلماذا هذا الصراع بين المؤمنين والكافرين؟ ولماذا كل هذه المشقة والعناء في سبيل الدعوة؟ قالوا: لأن الله تعالى يريد أن يُمحِّص أتباع محمد، وأن يُدرِّبهم على مسئولية حمل أمانة الدعوة وشعلة النور من بعد رسول الله، لا إلى اهل الجزيرة العربية وحدها، إنما إلى الكون كله.

فلا بُدَّ أنْ يكونوا من أهل الثبات على المبدأ الذين لا تزعزعهم الشدائد، والدليل على ذلك أنهم يُؤذّوْن ويُضطهدون فيصبرون، وهذه أهم صفة فيمن يُعدُّ لتحمُّل الأمانة.

لذلك نقول: إذا رأيتَ منهجاً أو مبدأ يغدق على أصحابه أولاً، فاعلم أنه مبدأ باطل؛ لأن المبدأ الحق يضحي أهله من أجله بأنفسهم وبأموالهم، يعطونه قبل أنْ يأخذوا منه، لماذا؟ لأن صاحب المبدأ الباطل لن يجد مَنْ يناصره على باطله إلا إذا أغراهم بالمال أولاً واشترى ذممهم، وإلا فماذا يلجئه إلى مبدأ باطل، ويحمله على اتباعه؟ إذن: لا بد أن يقبض الثمن أولاً.

أما المبدأ الحق فيعلم صاحبه أن الثمن مُؤجَّل للآخرة، فهو ممنَّى بأشياء فوق هذه الدنيا يؤمن بها ويعمل من أجلها، فتهون عليه نفسه، ويهون عليه ماله في سبيل هذا المبدأ.

وفي رحلة الدعوة، رأينا الكثيرين يتساقطون بالردة عندما تَحْدثُ لرسول الله آية أو هزة تهزُّ الناس، وكأن الشدة غربال يميز هؤلاء وهؤلاء، حتى لا يبقى تحت راية لا إله إلا الله إلا الصناديد الأقوياء القادرون على حمل هذا اللواء إلى العالم كله.

فالله يقول لنبيه: اصبر على تكذيبهم وعلى إنكارهم وعلى ائتمارهم عليك، فنحن مُؤيدوك، ولن نتخلى عنك، وقد وضح لك هذا التأييد حين جاهروك فانتصرت على جهرهم وبيَّتوا لك في الخفاء فانتصرتَ على تبييتهم، واستعانوا حتى بالجن ليفسدوا عليك أمرك، ففضح الله تدبيرهم ونجاك منهم.

إذن: فاطمئن، فنحن لهم بالمرصاد، ولن نُسْلِمك أبداً، بل وسوف نريك فيهم ما يستحقون من العقاب في الدنيا، وتراه بعينك، أو في الآخرة بعد موتك:{ فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ }[غافر: 77].

ومن هذا العقاب الذي نزل بهم في الدنيا ورآه سيدنا رسول الله ما حاق بهم يوم بدر من قَتْل وأسْر وتشريد، وقلنا: إن عمر رضي الله عنه وما أدراك ما عمر، فقد كان القرآن ينزل على وَفْق رأيه، ومع ذلك لما نزلت:

{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }[القمر: 45] تعجب وقال: أيُّ جمع هذا الذي سيُهزم، ونحن عاجزون حتى حماية أنفسنا، فلما كانت بدر، ورأى ما رأى قال: صدق الله{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }[القمر: 45]

وقوله تعالى: } إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ... { [الروم: 60] الوعد: هو البشارة بخير لم يأت زمنه الآن، وفَرْق بين الوعد بالخير من إنسان، والوعد من الله تعالى، فوَعْدكَ قد يختلف لأنك ابن أغيار، ولا تملك كل عناصر الوفاء بالوعد، وربما جاء وقت الوفاء فلم تقدر عليه أو تتغير نفسك من ناحيته فتبخل عليه، أو تراه لا يستحق...إلخ.

إذن: الأغيار التي تنتابك أو تنتابه أو تنتاب قيمة ما تؤديه من الخير موجودة، وقد تحول بينك وبين الوفاء بما وعدتَ.

لذلك يعلمنا الحق سبحانه أنْ نحتاط لهذا الأمر، فيقول سبحانه:{ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ... }[الكهف: 23-24] فاربط فِعْلك بمشيئة الله التي تُيسِّر لك الفعل، ولا ينبغي أنْ تجزم بشيء أنتَ لا تملك شيئاً من أسبابه.

قلنا: هَبْ أنك قلتَ: سألقاك غداً في المكان الفلاني، وسأعطيك كذا وكذا، فأنت قلتَ هذه المقولة ووعدتَ هذا الوعد وأنت لا تضمن أن تعيش لغد، ولا تضمن أنْ يعيش صاحبك، وإنْ عِشْتُما لغد فقد يتغير رأيك، أو يصيبك شيء يعوقك عن الوفاء، إذَن: فقولك إنْ شاء الله يحميك أنْ تُوصف بالكذب في حالة عدم الوفاء؛ لأنك وعدتَ ولم يشأ الله، فلا دخلَ لك في الأمر.

فالوعد الحق يأتي ممَّنْ؟ مِنَ الذي يملك كُلَّ أسباب الوفاء، ولا يمنعه عنه مانع.

وقوله تعالى: } وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ { [الروم: 60] خف الشيء: لم يَعُدْ له ثِقَل، واستخفّ غيره: طلب منه أنْ يكون خفيفاً، فمثلاً حين تقسو على شخص يأتي آخر فيقول لك: خف عنه. واستخفّه مثل استفزّه يعني: حرّكة وذبذبة من ثباته، فإنْ كان قاعداً مثلاً هَبَّ واقفاً.

لذلك نقول في مثل هذه المواقف (خليك ثقيل.. فلان بيستفزك يعني: يريد أنْ يُخرجك عن حلمك وثباتك.. متبقاش خفيف..إلخ) ونقول للولد (فز) يعني قِفْ انهض، ومنه قوله تعالى{ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ... }[الإسراء: 64]

إذن: فالمعنى استخفه: حمله على الخفة وأن يتحول عن الثبات الذي هو عليه.

فالمعنى: إياك يا محمد أنْ يستقزّك القوم، أو يُخرجوك عن ثباتك، فتتصادم معهم، لكن ظلّ على ثباتك في دعوتك ولا تقلق؛ لأن الله وعدك بالنصرة ووَعْد الله حَقٌّ. والحق سبحانه ساعة يُرخِى العنان لمن كفر به إنما يريد أنْ يُخرِج كل ما عندهم حتى لا يبقى لهم عذر، ثم يقابلهم ببعض ما عنده مما يستحقون في الدنيا، والباقي سيرونه في الآخرة.

والله يقول:{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ }

[الصافات: 171-173].

ومن سيرة الإمام علي - رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه - علمنا أنه ابتُلي بجماعتين: الخوارج الذين يُكفِّرونه، والشيعة الذين يُؤلهونه ويصلون به إلى درجة النبوة، حتى صدق فيه قول رسول الله: " هلك فيك اثنان: مُحب غالٍ، ومبغض قَالٍ ".

ويروى أنه - رضي الله عنه - كان يصلي يوماً الفجر بالناس، فلما قرأ: (ولا الضالين) اقترب منه أحد الخوارج وقرأ:{ وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }[الزمر: 65] يريد أن يقول له: أنت كافر ولن يقبل منك عملك.

وسرعان ما فطن علي لما أراده الرجل، فقرأ بعدها مباشرة: } فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ { [الروم: 60]. يعني: لن تُخرِجني عن ثباتي وحِلْمي ولن تستفزني.

والعظمة في هذا الموقف أنْ يرد عليه لتوِّه بالقول الشافي من كتاب الله دون سابق إعداد أو ترتيب، ولِمَ لا، وهو علي بن أبي طالب الذي أُوتِي باعاً طويلاً في البلاغة والفصاحة والحجة.

ومعنى: } الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ { [الروم: 60] من اليقين، وهو الإيمان الثابت الذي لا يتزعزع، فيصير عقيدة في القلب لا تطفو إلى العقل لتناقش من جديد.

(/3394)

الم (1)

{ الـم }

سبق أنْ فصَّلنا القول في الحروف المقطعّة في بدايات السور، وذكرنا كل ما يمكن أن يقوله بشر، وبعد هذا كله نقول: والله أعلم بمراده؛ لأننا مهما أوتينا من العلم فلن نصل إلى غاية هذه الحروف، وسيظل فيها من المعاني ما نعجز نحن عن الوصول إليه.

فإنْ قلتَ: فما فائدة هذه الحروف المقطعة إنْ كانت غير معلومة المعنى؟ نقول: نحن نناقشكم بالعقل وبالمنطق، فالقرآن نزل بأسلوب عربي، وتحدى العرب وهم أهل الفصاحة والبلاغة والبيان وأصحاب التعبير الجميل والأداء الرائع، ونزل في قريش التي جمعتْ في لغتها كل لغات القبائل العربية، وقد خرج منها صناديد كذبوا محمداً، وكفروا بدعوته، فهل سمعنا منهم مَنْ يقول مثلاً: ما معنى (الم) أو (حم).

والله لو كان فيها مطعن ما تركوه، إذن: فهذا دليل على أنهم فهموا هذه الحروف، وعرفوا أن لها معنى أبسطها أن نقول: هي من حروف التنبيه التي كان يستخدمها العرب في كلامهم، فهي مثل (إلا) في قول الشاعر:ألاَ هُبِّي بِصحْنك فَاصْبِحينا ولاَ تُبْقِ خُمور الأَنْدرينَافألا أداة للتنبيه، وتأتي أهمية التنبيه في أول الكلام من أن المتكلم يملك زمام منطقه فيرتبه ويُعده، ويدير المسائل بنسب ذهنية في ذِهْنه، لكن السامع قد يكون غافلاً، فيُفاجأ بالكلام دون استعداد، فيفوته منه شيء، فتأتي حروف التنبيه لتُخرِجه من غفلته، وتسترعي انتباهه، فلا يفوته من كلامك شيء، إذن: أبسط ما يقال في هذه الحروف أنها للتنبيه على طريقة العرب في كلامهم.

وسبق أنْ بيَّنا أن القرآن مبني كله على الوصل في آياته وسوره، بل في آخره وأوله نقول: (من الجنة والناس بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين) وكذلك في الآيات والسور. وكأن الله تعالى يريد منك ألاَّ تفصل آية من القرآن عن التي بعدها؛ لذلك يقولون عن قارئ القرآن: هو الحالّ المرتحل، فهو حالٌّ في آية أو سورة، مرتحل إلى التي تليها.

إذن: الوصْل سِمَة عامة في القرآن كله لا يستثنى من ذلك إلا الحروف المقطعة في بدايات السور، فهي قائمة على القطع، فلا نقول هنا ألفٌ لامٌ ميمٌ، لكن نقول ألفْ لامْ ميمْ، فلماذا اختلفت هذه الحروف عن السمة العامة للقرآن كله؟

قالوا: ليدلَّك على أن الألف أو اللام أو الميم، لكل منها معناه المستقل، وليست مجرد حروف كغيرها من حروف القرآن؛ لذلك خالفتْ نسق القرآن في الوصل؛ لأن لها معنىً مستقلاً تؤديه.

ويفسر هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: " مَنْ قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف ".

ثم يقول الحق سبحانه: { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ... }.

(/3395)

تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)

تلك: اسم إشارة للمؤنت مثل ذلك المذكر، وهي عبارة عن التاء للإشارة، واللام للبُعْد، سواء أكان في المكان أو في المكانة والمنزلة، ثم الكاف للخطاب، وتأتي بحسب المخاطب مذكراً أو مؤنثاً، مفرداً أو مثنىً أو جمعاً.

فتقول في خطاب المفرد المذكر: تلك. وللمفردة المؤنثة: تلك. وللمثنى تلكما..إلخ، ومن ذلك قول امرأة العزيز في شأن يوسف عليه السلام:{ فَذالِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ.... }[يوسف: 32].

فذا اسم اشارة ليوسف، واللام للبعد وكُنَّ ضمير لمخاطبة جمع المؤنث ويقول تعالى في خطاب موسى:{ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ... }[القصص: 32] أي اليد والعصا، فذانِ اسم إشارة للمثنى، والكاف للخطاب.

والإشارة هنا { تِلْكَ آيَاتُ... } [لقمان: 2] لمؤنث وهي الآيات، والمخاطب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته تبع له، والقرآن الكريم مرة يشير إلى الآيات، ومرة يشير إلى الكتاب نفسه، فيقول: الكتاب أو الفرقان، أو القرآن ولكل منها معنى.

فالكتاب دلَّ على أنه يُكتب وتحويه السطور، والقرآن دلَّ على أنه يُقرأ وتحويه الصدور، أما الفرقان فهذه هي المهمة التي يقوم بها: أنْ يفرق بين الحق والباطل.

وهنا قال: { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } [لقمان: 2] فوصفه بالحكمة، أما في أول البقرة فقال:{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى... }[البقرة: 2] فلم يُوصَف بالحكمة، إنما نفى عنه أن يكون فيه ريب. أي: شك.

وكلمة{ لاَ رَيْبَ فِيهِ... }[البقرة: 2] تؤكد لنا صِدْق الرسول في البلاغ عن الله، وصَدْق الملك الذي حمله من اللوح المحفوظ إلى رسول الله، وقد مدحه الله بقوله{ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ }[التكوير: 20].

وقال عن سيدنا رسول الله في شأن تبليغ القرآن{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ }[الحاقة: 44-46].

إذن: فالقرآن كما نزل من عند الله، لم يُغيَّر فيه حرف واحد، وسيظل كذلك محفوظاً بحفظ الله له إلى أنْ تقوم الساعة، وسنظل نقرأ{ لاَ رَيْبَ فِيهِ... }[البقرة: 2].

ويقرؤها مَنْ بعدنا إلى قيام الساعة، فقد حكم الحق سبحانه بأنه لا ريْب في هذا القرآن منذ نزل إلى قيام الساعة، فإنْ شككونا في شيء من كتاب ربنا فعلينا أن نقرأ:{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }[البقرة: 2].

فهذه قضية حكم الله بها، وهي ممتدة وباقية ما بقيتْ الدنيا، كما سبق أنْ قُلْنا ذلك في قوله تعالى:{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ... }[فصلت: 53]. فالآية تستوعب المستقبل كله، مستقبل مَنْ عاصر نزول القرآن، ومستقبل مَنْ يأتي بعد إلى قيام الساعة، بل مستقبل مَنْ تقوم الساعة عليه.

فالقرآن لم ينزله الله ليُفرغ كل أسراره وكل معجزاته في قَرْن واحد، ولا في أمة واحدة، ثم يستقبل القرون والأمم الأخرى دون عطاء، الله يريد للقرآن أنْ يظل جديداً تأخذ منه كل الأمم وكل العصور، وتقف على أسراره ومعجزاته وآياته في الكون.

ومعنى } الْكِتَابِ الْحَكِيمِ { [لقمان: 2] الكتاب لا يُوصَف بالحكمة إنما يُوصَف بالحكمة مَنْ يعلم، فالمعنى: الكتاب الحكيم أي: الموصوف بالحكمة، أو الحكيم قائله، أو الحكيم مُنزِله. ومعنى حكيم: هو الذي يضع الشيء في موضعه، ولا يضعَ الشيء في موضعه إلا الله؛ لأنه هو الذي يعلم صِدْق الشيء في موضعه.

أما نحن فنهتدى إلى موضع الشيء، ثم يتبين لنا خطؤه في موضعه، ونضطر إلى تغييره أو تعديله ككثير من المخترعات التي ظننا أنها تخدم البشرية قد رأينا مضارها، واكتويْنا بنارها فيما بعد.

فكل آية ذكرت ناحية من نواحي كمال القرآن وجهة من جهات عظمته، إذن: فهي لقطات مختلفة لشيء واحد متعدد الملكات في الكمال، وكذلك تجد تعدد الكمالات في الآية بعدها: } هُدًى وَرَحْمَةً... {.

(/3396)

هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)

هنا يقول سبحانه { هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ } [لقمان: 3] أما في صدر سورة البقرة فيقول{ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }[البقرة: 2] وفَرْق بين المعنيين، فالتقوى تقتضي الإيمان، ومطلوب الإيمان الافتراض يعني: أنْ تؤدي ما فرضه الله عليك.

أما مطلوب الإحسان ففوق ذلك، فالإحسان في الأداء أن تُحسن في كَمِّه، وأن تحسن في كيفه: تحسن في كيفه بأن تستطحب مع العمل الإخلاصَ للمعمول له، وهو الحق سبحانه، وتحسن في كَمِّه بأنْ تعشق التكليف حتى تؤدي فوق ما فُرِض عليك، فبدل أنْ تصلي ركعتين أن تصلي ثلاثاً أو أربعاً، هذا إحسان في الكم.

والتقوى من عجائب التأويل القرآني كما سبق أنْ قلنا. فالقرآن يقول (اتقوا الله) ويقول (اتقوا النار)، والمعنى عند التحقيق واحد؛ لأن اتق النار يعني: اجعل بينك وبينها وقاية وحاجزاً يمنعك منها، كذلك اتق الله، لا أن تجعل بينك وبين ربك حاجزاً؛ لأن المؤمن دائماً يكون في معية الله.

إنما اجعل بيك وبين صفات الجلال ومتعلقاتها من الله وقاية، اتق صفات المنتقم الجبار القهار..إلخ؛ لأنك لستَ مطيقاً لهذه الصفات، ولا شكَّ أن النار جندي من جند الله، ومتعلق من متعلقات صفات الجلال إذن: فالمعني واحد.

والبعض يأخذون بالظاهر فيقولون: كيف نتقي الله، والتقوى أن تبعد شيئاً ضاراً عنك؟ نقول: نعم أنت تبعد عنك الكفر، وهذا هو عين التقوى، والمتقون هم الذين يحبون أنْ يتقوا الله بألاَّ يكونوا كافرين به، وما دام الإنسان اتقى الكفر فهو مُحسِن ومؤمن، فالقرآن مرة يأتي باللازم، ومرة بالملزوم، ليؤدي كل منهما معنى جديداً

لذلك لما سُئِل سيدنا رسول الله عن الإحسان - في حديث جبريل - قال: " أنْ تعبد الله كأنك تراه، فإنْ لم تكُنْ تراه فإنه يراك ".

فحين نوازن بين صدر سورة البقرة، وبين هذه الآية { هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ } [لقمان: 3] نرى أن القرآن لا يقوم على التكرار، إنما هي لقطات إعجازية كل منها يؤدي معنى، وإنْ ظن البعض في النظرة السطحية أنه تكرار، لكن هو في حقيقة الأمر عطاء جديد لو تأملته.

فهنا وصف الكتاب بأنه حكيم، وأنه هدى ورحمة: والهدى هو الدلالة على الخير بأقصر طريق، وقد نزل القرآن لهداية قوم قد ضلوا، فلما هداهم إلى الصواب وأراهم النور أراد أنْ يحفظ لهم هذه الهداية، وألاَّ يخرجوا عنها فقال { وَرَحْمَةً } [لقمان: 3] يعني: من رحمة الله بهم ألاَّ يعودوا إلى الضلال مرة أخرى.

كما في قوله سبحانه:{ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً }[الإسراء: 82]. فالمعنى: شفاء لمن كان مريضاً، ورحمة بألاَّ يمرض أبداً بعد ذلك.

ثم يقول الحق سبحانه: { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ... }.

(/3397)

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

جاءت هذه الآية كوصف للمحسنين، فهل هذه هي كل صفاتهم، أنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وبالآخرة هم يوقنون؟ قالوا: لا لكن هذه الصفات هي العُمد الأساسية، والحق سبحانه يريد من خَلْقه سواسية في العبودية، وهذه السواسية لا تتأتى إلا إذا تساوى الجميع.

وفي الصلاة بالذات تتجلى هذه المساواة، وفيها يظهر عِزّ الربوبية وذل العبودية، وفيها منتهى الخضوع لله عز وجل، ثم هي تتكرر خمس مرات في اليوم والليلة.

أما الفرائض الأخرى فلا تأخذ هذه الصورة، فالزكاة مثلاً تجب مرة واحدة في العام{ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ }[الأنعام: 141] وتجب على القادر فقط دون غيره، كذلك الصوم والحج، فكأن الصلاة هي عمدة العبادات كلها، ولشرفها ومنزلتها جعلها الله لازمة للعبد ولا تسقط عنه بحال إبداً؛ لذلك شُرعت صلاة المريض والمسافر والخائف... الخ.

وفي الصلاة استطراق للعبودية في الخَلْق جميعاً، حيث نخلع أقدارنا حين نخلع نعالنا على باب المسجد، ففي الصف الواحد، الرئيس والمرءوس، والكبير والصغير، والرفيع والوضيع - نقصد الوضيع في نظر الناس، وربما لا يكون وضيعاً عند ربه - فالجميع هنا سواء، ثم حين نرى الكبار والرؤساء والسادة معنا في الصفوف خاضعين لله أذلاء تزول بيننا الفوارق، ويدكُّ في نفوسهم الكبرياء، فلا يتعالى أحد في مجتمع المسلمين على أحد.

ولمنزلة الصلاة وأهميتها رأينا كيف أنها الفريضة الوحيدة التي فرضها الله علينا بالمباشرة، أما باقي التكاليف فقد فُرِضَتْ بواسطة الوحي، وسبق أنْ ضربنا مثلاً لذلك برئيس العمل حينما يأتيه أمر هام، فلا يأمر به بمكاتبة أو بالتليفون، إنما يستدعي الموظف المختص إلى مكتبه، ويلقي إليه الأمر مباشرة.

وكذلك رسول الله استدعاه ربه إلى السماء، وأخذ حظاً بالقُرْب من الله تعالى، والله سبحانه يعلم حب الرسول لأمته وحرصه عليهم، وعلى أنْ ينالوا هم أيضاً هذا القرب من حضرته تعالى، فأجابه ربه، وجعل الصلاة حضوراً للعبد في حضرته تعالى، وقرباً كقرب رسول الله في رحلة المعراج.

لذلك خاطبه ربه بقوله:{ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىا }[الضحى: 5]

فقال سيدنا رسول الله: " إذن، لا أرضى وواحد من أمتي في النار ".

وكما تُحدِث الصلاة استطراق عبودية تُحِدث الزكاةُ في المجتمع استطراقاً اقتصادياً، فيعيش الجميع الغني والفقير عيشة كريمة مُيسَّرة، فلا يشبع واحد حتى التخمة، والآخر يموت جوعاً. وما بالك بمجتمع لا يتعالى فيه الكبير على الصغير ولا يبخل فيه الغني على الفقير؟ إذن: في الصلاة والزكاة ما يكفل سعادة المجتمع كله.

وقد فرض الله الزكاة للفقراء؛ لأن الله سبحانه حين يستدعي عبد إلى كونه لا بُدَّ أنْ يضمن له مُقومات الحياة، ولم لا وأنت إذا دعوْتَ شخصاً إلى بيتك لا بُدَّ أنْ تكرمه، وأنْ تُعِد له على الأقل ضروريات ما يلزمه فضلاً عن الإكرام والحفاوة ورفاهية المأكل والمشرب.

.الخ.

فالله سبحانه استدعى عباده إلى الوجود مؤمنهم وكافرهم، وعليه سبحانه أنْ يوفر لهم القوت، بل كل مقومات حياتهم، كذلك يضمن للعاجز غير القادر قوته، لذلك يفرض الزكاة حقاً معلوماً للسائل والمحروم، فهي صِلاتٌ والأولى صلاة.

ولهذه المسألة قصة في الأدب العربي، فيُرْوى أن ابن مدبر وكنيته أبو الحسن، كان الشعراء يقصدونه للنيل من عطاياه، يقولون: إن الُّها تفتح اللَّها، أي: أن العطايا تفتح الأفواه بالمدح والثناء.

لكن، كان ابن المدبر إذا مدحه شاعر بشعر لم يعجبه يأمر رجاله أنْ يأخذوه إلى المسجد ولا يتركوه حتى يصلي لله مائة ركعة، وبذلك خافه الشعراء وتحاشوْا الذهاب إليه إلا أبو عبدالله الحسين بن عبدالسلام البشري، ذهب إليه وقال: عندي شعر أحب أنْ أنشده لك.

فقال: أتدري ما الشرط؟ قال: نعم، قال: قُلْ ما عندك، فقال:أَرَدْنَ فِي أَبي حَسَنٍ مَدِيحاً كَمَا بالمْدحِ تُنْتَجَعُ الوُلاَةيعني: يذهب الشعراء إليهم لينالوا من خيراتهم.فَقْلْنا أكْرَمُ الثَّقلَيْنِ طُرّاً ومِنْ كفَّيْهِ دجلَةُ والفُراتُوقالوا يَقبل المدحاةَ لكنْ جَوَائِزُهُ عليهِنَّ الصَّلاَةُفقُلْتُ لهم ومَا تُغَني صَلاَتِي عِيَالي إنما الشْأنُ الزَّكَاةُفَيأمُر لي بِكسْر الصّادِ منها فَتُصبح ليِ الصِّلات هِي الصَّلاةُفلما تجرَّأ عليه أحدهم وسأله: لماذا تعاقب مَنْ لم يعجبك شعره بصلاة مائة ركعة؟ فقال: لأنه إما مسيء وإما محسن، فإنْ كان مسيئاً فهي كفارة لإساءته في شعره، وإنْ كان محسناً فهي كفارة لكذبه فيَّ.

ثم يقول سبحانه في وصفهم: } وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ { [لقمان: 4] لأن الإيمان باليوم الآخر يقتضي أنْ نعمل بمنهج الله في (افعل كذا) و (لا تفعل كذا)، ونحن على يقين من أننا لن نفلت من الله ولن نهرب من عقابه في الآخرة، وأننا مُحَاسبون على أعمالنا، فلم نُخلق عبثاً، ولن نُتْرك سدى، كما قال سبحانه:{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ }[المؤمنون: 115].

ونلحظ هما في الأسلوب تكرار ضمير الغيبة (هم) فقال: } وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ { [لقمان: 4] وهذا يدلُّنا على أن الإيمان بالآخرة أمر مؤكد لا شكَّ فيه، ومع أن الناس يؤمنون بهذا اليوم، ويؤمنون أنهم محاسبون، وأن الله لم يكلفهم عبثاً - مع هذا - يؤكد الحق سبحانه على أمر الآخرة؛ لأنها مسألة بعيدة في نظر الناس، وربما غفلوا عنها لبُعْدها عنهم، ولم لا وهم يغفلون حتى عن الموت الذي يرونه أمامهم كل يوم، ولكن عادة الإنسان أن يستعبده في حق نفسه.

لذلك يقول الحسن البصري: ما رأيت يقيناً أشبه بالشك من يقين الناس بالموت.

أما الكفار فينكرون هذا اليوم، ولا يؤمنون به؛ لذلك أكد الله عليه.

ولما " سأل النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة رضي الله عنه: " كيف أصبحت يا حذيفة؟ " قال: أصبحت مؤمنا حقاً، فقال: " لكلِّ حقٍّ حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفتْ نفسي عن الدنيا فاستوى عندي ذهبها ومدرها، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يُنعَّمون، وإلى أهل النار في النار يُعذَّبون " فقال صلى الله عليه وسلم: " عرفتَ فالزم " ".

وقوله } يُوقِنُونَ { [لقمان: 4] من اليقين، وهو الإيمان الراسخ الذي لا يتزعزع، ولا يطرأ عليه شكٌّ فيطفو إلى العقل ليناقش من جديد وسبق أنْ قُلْنا: إن المعلومة تتدرج على ثلاث مراحل: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.

علم اليقين إذا أخبرك به مَنْ تثق به، فإذا رأيتَ ما أخبرك به فهو عين اليقين، فإذا باشرتَ ذلك بنفسك فهو حَقُّ اليقين.

وضربنا لذلك مثلاً إذا قلت لك: إن البيت الحرام في مكة وصفَته كذا وكذا، وقد حدثت فيه توسعات كذا وكذا، فهذه المعلومات بالنسبة لك علم يقين، فإذا رأيتَ الحرم فهي عَيْن يقين، فإذا يسَّر الله لك الحج أو العمرة فباشرْتَه بنفسك، فهو حَقُّ اليقين.

والحق سبحانه وتعالى عالج هذه المراتب في سورتين:{ أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ * حَتَّىا زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ }[التكاثر: 1-8].

وذلك حين يمرون على الصراط ويروْنَ النار بأعينهم رأي العين.

أما حق اليقين بالنسبة للنار، فقد جاء في قوله تعالى:{ فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّآلِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَـاذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ }[الواقعة: 88-96].

لكن، هل القرآن نزل هُدى للمتقين، وهدى للمحسنين فحسب؟ قلنا: إن الهداية تأتي بمعنيين: هداية دلالة وإرشاد، وهداية توفيق ومعونة، فإن كانت هداية دلالة فقد دلّ الله المؤمن والكافر بدليل قوله تعالى{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَىا عَلَى الْهُدَىا }[فصلت: 17]

فالحق سبحانه دلَّ الجميع لأنهم عباده، فمنهم من قَبِل الدلالة واقتنع بها فآمن، ومنهم مَنْ رفضها فكفر، أما الذي قَبِل دلاَلة الله وآمن به فيزيده الله هداية أخرى، هي المعونة علىَ الإيمان، فيُحِّببه إليه حتى يعشقه، ثم يعينه عليه، كما قال سبحانه{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ }[محمد: 17].

ثم يقول الحق سبحانه: } أُوْلَـائِكَ عَلَىا هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ... {.

(/3398)

أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

وصف الحق سبحانه قرآنه بأنه هدى، أما هنا فيقول: { أُوْلَـائِكَ عَلَىا هُدًى } [لقمان: 5] والمتكلم هو الله - عز وجل - فلا بُدَّ أنْ نتأمل المعنى، ربنا عز وجل يريد أنْ يقول لنا نعم القرآن هُدى، لكن إياك أنْ تظن أنك حين تتبع هذا الهدى تنفعه بشيء، إنما المنتفع بالهداية أنت، فحين تكون على الهدى يدلُّك ويسير بك إلى الخير، فالهدى كأنه مطية يُوصِّلك إلى الخير والصلاح، فأنت مُسْتعلٍ على الهدى إنْ قَبِلْتَه، وإنْ كان هو مُسْتَعلياً عليك تشريعاً.

ثم هو هدى ممَّنْ؟ { هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } [لقمان: 5] ممن لا يستدرك عليه، فإنْ دلَّك دلَّك بحق، وهَبْ أن البشر اهتدوْا إلى شيء فيه خير، لكن بعد فترة يعارضون هم أنفسهم هذا الطريق، ويكتشفون له مضارّ ومثالب، ويستدركون عليه، وربما يعدلون عنه إلى غيره، وكم هي القوانين البشرية التي أُلغيت أو عُدِّلت؟

إذن: الهداية والدلالة الحقة لا تكون إلا لله، والقانون الذي ينبغي أن يحكمنا ونطمئن إليه لا يكون إلا لله، لماذا؟ لأن البشر ربما ينتفعون من قوانينهم، وقد تتحكم فيهم الأهواء أو يميلون لشخص على حساب الآخر، أما الحق - سبحانه وتعالى - فهو وحده سبحانه الذي لا ينتفع بشبء مما شرع لعباده، ولا يحابي أحداً على حساب أحد، والعباد كلهم عباده وعنده سواء.

لذلك يطمئننا الحق سبحانه على تشريعه وعدالته سبحانه، فيقول{ مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً }[الجن: 3] يعني: اطمئنوا، فربكم ليس له صاحبة تؤثر عليه، ولا ولد يظلم الناس فيحابيه، فأنتم جميعاً عنده سواسية.

ثم هناك فَرْق بين هُدى من الله، وهدى من الرب، فالرب هو الذي ربَّاك، هو الذي أوجدك من عَدم، وأمدك من عُدْم، وأعطاك قبل أنْ تعرف السؤال، وتركك تربع في كونه وتتمتع بنعمه.

لذلك يُعلمك ربك: إياك أنْ تسألني عن رزق غدٍ؛ لأنني رزقْتُك قبل أنْ تعرف أن تسأل، ثم لم أطالبك بعبادة غدٍ، إذن: ليكُنْ العبد مؤدباً مع ربه عزوجل.

وهكذا نتبين أن الربوبية عطاء، أما الألوهية فتكليف.

ثم يخبر الحق سبحانه عنهم بخبر آخر { وَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [لقمان: 5] فالفلاح نتيجة الهدى الذي ساروا عليه واتبعوه، كما قال تعالى:{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ }[المؤمنون: 1].

الفلاح أصله من فلاحة الأرض بالحرث والبَذْر والسَّقْى..الخ، فاستعارها أسلوب القرآن للعمل الصالح، ووجه الشبه بين الأمرين واضح، فالفلاح يلقى الحبة فيضاعفها له ربه سبعمائة حبة، كذلك العمل الصالح يُضَاعَف لصاحبه، فالحسنة عند الله بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف{ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ }[البقرة: 261]

واقرأ في كتاب الله هذا المثل:{ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[البقرة: 261].

وتأمل الاستدلال هنا: إذا كانت الأرض وهي مخلوقة لله تعطي كل هذا العطاء، فكيف يكون عطاء مَنْ خلقها؟ إذن: فهم لاشكَّ مفلحون أي: فائزون بالثمرة الطيبة التي تفوق ما بذلوه من مشقة، كما يزرع الفلاح الأرض فتعطيه أضعاف ما وُضِح فيها.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ... }.

(/3399)

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)

بعد أن ذكر الحق سبحانه الكتاب وآياته، وأن فيه هدى ورحمة لمن اتبعه وفلاحاً لمن سار على هديه يبين لنا أن هناك نوعاً آخر من الناس ينتفعون بالضلال ويستفيدون منه، وإلا ما راجتْ سوقه، ولما انتشر بين الناس أشكالاً وألواناً.

لذلك نرى للضلال فئة مخصوصة حظهم أن يستمر وأن ينتشر

لتظل مكاسبهم، ولتظل لهم سيادتهم على الخَلْق وعبوديتهم لهم واستنزاف خيراتهم.

وطبيعي إنْ وُجِد قانون يعيد توازن الصلاح للمجتمع لا يقف في وجهه إلا هؤلاء يحاربونه ويحاربون أهله ويتهمونهم ويُشككون في نواياهم، بل ويواجهونهم بالسخرية والاستهزاء مرة وبالتعدي مرة أخرى.

وربما قطعوا عليهم سبل الحياة، كما عزلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شِعْب أبي طالب، ثم يُكرهون أهل الحق على الهجرة والخروج من أموالهم وأهلهم إلى الحبشة مرة، وإلى المدينة مرة أخرى، لماذا؟ لأن حياتهم تقوم على هذا الضلال فلا بُدَّ أنْ يحافظوا عليه.

والحق سبحانه يبين لنا أن هؤلاء الذين يحاربون الحق ويقفون في وجه الدعوة إلى الإيمان يعرفون تماماً أنهم لو تركوا الناس يسمعون منهج الله وداعي الخير لا بُدَّ أنْ يميلوا إليه؛ لذلك يَحُولُون بين آذان الناس ومنطق الحق، فهم الذين قالوا للناس:{ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـاذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْاْ فِيهِ... }[فصلت: 26]

وما ذلك إلا أنهم واثقون من لغة القرآن وجمال أسلوبه، واستمالته للقلوب بحلو بيانه، فلو سمعتْه الأذن العربية لا بُدَّ وأنْ تتأثر به، وتقف على وجوه إعجازه، وتنتهي إلى الإيمان.

فإذا ما أفلتَ منهم أحد، وانصرف إلى سماع الحق أتوْهُ بصوارف أخرى وأصوات تصرفه عن الحق إلى الباطل.

وقوله { وَمِنَ النَّاسِ } [لقمان: 6] من هنا للتبعيض أي: الناس المستفيدون من الضلال، والذين يسؤوهم أنْ يأتم الناس جميعاً بمنطق واحد، وهدف واحد؛ وهدى واحد لأن هذه الوحدة تقضي على تميزهم وجبروتهم وظلمهم في الأرض؛ لذلك يبذلون قصارى جهدهم في الضلال { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ... } [لقمان: 6]

قوله تعالى: { يَشْتَرِي } [لقمان: 6] من الشراء الذي يقابله البيع، والشراء أنْ تدفع ثمناً وتأخذ في مقابله مُثمناً، وهذا بعدما وُجِد النقد، لكن قبل وجود النقد كان الناس يتعاملون بالمقايضة والتبادل سلعة بسلعة، وفي هذه الحالة فكل سلعة مباعة وكل سلعة مشتراة، وكل منهما بائع ومُشْتر.

ومن ذلك قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام:{ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ }[يوسف: 20].

والمعنى: شروه أي: باعوه.

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ... }[البقرة: 207].

أي: يبيعها، إذن: الفعل (شَرَى) يأتي بمعنى البيع، وبمعنى الشراء.

أما إذا جاء الفعل بصيغة (اشترى) فإنه يدل على الشراء الذي يُدفع له ثمن، ومن ذلك قوله تعالى:{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً... }[آل عمران: 199]

وقوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ }[التوبة: 111]

وعادة تدخل الباء على المتروك تقول: اشِتريتُ كذا بكذا

وحين نتأمل قوله تعالى: } وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ... { [لقمان: 6] نجد أن هذه عملية تحتاج إلى طلب للشيء المشترَى، ثم إلى ثمن يُدفع فيه، وليت الشراء لشيء مفيد إنما } لَهْوَ الْحَدِيثِ { [لقمان: 6] وهذه سلعة خسيسة.

إذن: هؤلاء الذين يريدون أنْ يصدوا عن سبيل الله تحملوا مشقة الطلب، وتحملوا غُرْم الثمن، ثم وُصِفوا بالخيبة لأنهم رَضوا بسلعة خسيسة، والأدهى من ذلك والأمرّ منَه أن يضعوا هذا في مقابل الحق الذي جاءهم من عند الله على يد رسوله بلا تعب وبلا مشقة وبلا ثمن، جاءهم فضلاً من عند الله وتكرماً:{ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىا }[الشورى: 23]

فأيُّ حمق هذا الذي يوصفون به؟

وكلمة اللهو: ذكر القرآن اللهو وذكر اللعب في عدة آيات، قدَّمت اللعب على اللهو في قوله تعالى:{ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }[الأنعام: 32]

وفي قوله تعالى:{ اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ }[الحديد: 20]

وقدمت اللهو في قوله تعالى:{ وَمَا هَـاذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ }[العنكبوت: 64]

فقدمت الآيات اللعب في آيتين؛ لأن اللعب أن تصنع حركة غير مقصودة لمصلحة، كما يلعب الأطفال، يعني: حركة لا هدفَ لها، ونقول عنها (لعب عيال) وسُمِّيت لعباً؛ لأن الطفل يلعب قبل أنْ يُكلِّف بشيء، فلم يشغل باللعب عن غيره من المهمات.

لكن إذا انتقل إلى مرحلة التكليف، فإن اللعب يشغله عن شيء طُلب منه، ويُسمَّى في هذه الحالة لهواً، ومنه قوله تعالى:{ وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً }[الجمعة: 11]

إذن: فاللهو هو الشيء الذي لا مصلحة فيه، ويشغلك عن مطلوب منك.

فآية سورة العنكبوت التي قدمت اللهو على اللعب تعني أن أمور الاشتغال بغير الدين قد بلغت مبلغاً، وأن الفساد قد طمَّ واستشرى الانشغال بغير المطلوب عن المطلوب، فهذه أبلغ في المعنى من تقديم اللعب؛ لأن اللعب لم يُلهه عن شيء.

لكن، ما اللهو الذي اشتروه ليصرفوا الناس به عن الحق وعن دعوة الإسلام؟ إنهم لما سمعوا القرآن فيه قصصاً عن عاد وثمود، وعن مدين وفرعون..الخ، فأرادوا أنْ يشغلوا الناس بمثل هذه القصص.

وقد ذهب واحد منهم وهو النضر بن الحارث إلى بلاد فارس وجاءهم من هناك بقصص مسلية عن رستم وعن الأكاسرة وعن ملوك حِمْيَر، اشتراها وجاء بها، وجعل له مجلساً يجتمع الناس فيه ليقصّها عليهم، ويصرفهم بسماعها عن سماع منطق الحق في رسول الله.

وآخر يقول: بل جاء أحدهم بمغنية تغنيهم أغاني ماجنة متكسرة.

ومعنى: } لَهْوَ الْحَدِيثِ { [لقمان: 6] قال العلماء: هو كل ما يُلهي عن مطلوب لله، وإنْ لم يكُنْ في ذاته في غير مطلوب الله لَهْواً، وعليه فالعمل الذي يُلهي صاحبه من صناعة أو زراعة..الخ يُعَدُّ من اللهو إنْ شغله مثلاً عن الصلاة، أو عن أداء واجب لله تعالى.

ومن التصرفات ما يُعَدُّ لهواً، وإنْ لم يشغلك عن شيء كالغناء، وللعلماء فيه كلام كثير خاصة بعد أنْ صاحبته الموسيقى وآلات الطرب والحركات الخليعة الماجنة، ولفقهائنا القدامى رأيهم في هذا الموضوع، لكن العلماء المحدثين والذين يريدون أنْ يُجيزوا هذه المسألة يأخذون من كلام القدماء زاوية ويُطبِّقونها على غير كلامهم.

نعم، أباح علماؤنا الأُنْس بالغناء في الأفراح وفي الأعياد اعتماداً على " قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق الذي رأى جاريتين تغنيان في بيت رسول الله فنهرهما، وقال: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: " دعهما، فإننا في يوم عيد " ".

وكذلك أباحوا الأناشيد التي تقال لتلهب حماس الجنود في الحرب، أو التي ينشدها العمال ليطربوا بها أنفسهم وينشغلوا بها عن متاعب العمل، أو المرأة التي تهدهد ولدها لينام.

ومن ذلك حداء الإبل لتسرع في سيرها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأنجشة: " رفقاً بالقوارير " فشبَّه النساء في لُطفهن ورقّتهن بالقوارير، فإذا ما أسرعتْ بهن الإبل هُزَّت بهن الهوادج، وهذا يشقُّ على النساء.

إذن: لا مانع من كل نصٍّ له غرض نبيل، أما إنْ أهاج الغرائز فهو حرام - والكلام هنا عن مجرد النص - لأن الخالق سبحانه يعلم طبيعة الغرائز في البشر؛ لذلك نسميها غريزة؛ لأن لها عملاً وتفاعلاً في نفسك بدون أيِّ مؤثرات خارجية، ولها طاقة لا بُدَّ أنْ تتحرك، فإنْ أثرْتَها أنت ثارتْ ونزعتْ إلى ما لا تُحمدَ عُقْباه.

وسبق أن أوضحنا أن مراتب الشعور ثلاث: يدرك بحواسه، ثم وجدان يتكوَّن في النفس نتيجة للإدراك، ثم النزوع والعمل الذي يترجم هذا الوجدان.

ومن رحمة الله بنا أن الشرع لا يتدخل في هذه المسألة إلا في مرحلة النزوع، فيقول لك: قِفْ لا تمدّ يدك إلى ما ليس لك: ومثَّلنا لهذه المسألة بالوردة تراها في البستان، ويُعجبك منظرها، وتجذبك رائحتها فتعشقها وهذا لك، فإن مددْتَ يدك لتقطفها يقول لك الشارع قِفْ ليس من حقك.

إذن: فالشارع الحكيم لا يتدخَّل في مرحلة الإدراك، ولا في المواجيد إلا في مسألة واحدة لا يمكن الفصل فيها بين الإدراك والوجدان والنزوع، لأنها جميعها شيء واحد، إنها عملية نظر الرجل إلى المرأة التي لا تحل له، لماذا هذه المسألة بالذات؟

قالوا: لأنها لا تقف عند حَدِّ الإعجاب بالمنظر، إنما يُرثك هذا الإعجاب انفعالاً خاصاً في نفسك، ويُورثك تشكلاً خاصاً لا يهدأ، إلا بأن تنزع، فرحمة بك يا عبدي أنا سأتدخل في هذا الأمر بالذات من أوله، وأمنعك من مجرد الإدراك، لأنك إنْ أدركتَ وجدتَ، وإنْ وجدتَ نزعتَ إلى ما تجد فأثمت في أعراض الناس أو كبت في نفسك، فأضررتَ بها، وربك يريد أنْ يُبرئك من الإثم ومن الإضرار بالنفس، فالأسلم لكم أنْ تغضُّوا أبصاركم.

إذن: لا تقُل الغناء لكن قُلْ النص نفسه: إنْ حثَّ على فضيلة فهو حلال، وإنْ أهاج الغرائز فهو حرام وباطل، كالذي يُشبِّب بالمرأة ويذكر مفاتنها، فهذا حرام حتى في غير الغناء، فإذا ما أضفتَ إليه الموسيقى والألحان والتكسر والميوعة ازدادت حرمته وتضاعف إثمه.

أما ما نراه الآن وما نسمعه مما يُسمُّونه غناء، وما يصاحبه من حركات ورقصات وخلاعات وموسيقى صاخبة، فلا شكّ في حرمته.

فكل ما يُخرج الإنسان عن وقاره ورزانته وكل ما يجرح المشاعر المهذبة فهو حرام، ثم إن الغناء صوت فإنْ خرج عن الصوت إلى أداء آخر مُهيّج، تستعمل فيه الأيدي والأرجل والعينان والوسط.. الخ فهذا كله باطل ومحرم.

ولا ينبغي للمؤمن الذي يملك زمام نفسه أن يقول: إنهم يفرضون ذلك علينا، فالمؤمن له بصيرة يهتدي بها، ويُميز بين الغثِّ والسمين، والحق والباطل، فكُنْ أنت حكماً على ما ترى وما تسمع، بل ما يرى وما يسمع أهلك وأولادك، وبيدك أنت الزمام إنْ شئتَ سمعتَ، وإنْ شئتَ أغلقتَ الجهاز، فلا حجة لك لأن أحداً لا يستطيع أنْ يجبرك على سماع أو رؤية ما تكره.

ففي رمضان مثلاً، وهو شهر للعبادة نصوم يومه، ونقوم ليله، وينبغي أن نكرمه، ونحتفظ فيه بالوقار والروحانية، ومع ذلك يخرجون علينا بألوان اللهو الذي يتنافى والصيام، فإنْ سألتهم قالوا: الناس مختلفو الأمزجة، وواجبنا أن نوفر لهم أمزجتهم، لكن للمؤمن ولاية على نفسه وهو يملك زمامها، فلا داعي أن تتهم أحداً ما دام الأمر في يدك، وعليك أن تنفذ الولاية التي ولاك الله، فإنْ فعلتَ ففي يدك خمسة وتسعون بالمائة من حركة الحياة، ولغيرك الخمسة الباقية.

ثم إن ما يحلّ من الغناء مشروط بوقت لا يكون سمة عامة ولا عادة مُلِحّة على الإنسان يجعلها ديدنه؛ لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " روِّحوا القَلوب ساعة بعد ساعة ".

وهؤلاء المغنون والمغنيات الذين يُدخِلون في الغناء ما ليس منه من الحركات والرقصات لا يدرون أنهم يَثيرون الغرائز، ويستعدون على الشباب غير القادر على الزواج، ويلبهون مشاعر الناس ويثيرون الغيرة.

.الخ

إذن: القضية واضحة لا تحتاج منا إلى فلسفة حول حكم الغناء أو الموسيقى، فكل ما يثير الغرائز، ويُخرجك عن سَمْت الاعتدال والوقار فهو باطل وحرام، سواء أكان نصاً بلا لحن، أو لحناً بدون أداء، أو أداء مصحوباً بما لا دخلَ له بالغناء.

لكن، لماذا يكلفون أنفسهم ويشترون لهو الحديث؟

العلة كما قال الحق سبحانه: } لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ { [لقمان: 6] وفرْق بين مَنْ يشتري اللهو لنفسه يتسلى به، ويقصر ضلاله على نفسه وبين مَنْ يقصد أن يَضِلَّ ويُضل غيره؛ لذلك فعليه تبعة الضَّلالَيْن: ضلالة في نفسه، وإضلاله لغيره.

وقوله: } لَهْوَ الْحَدِيثِ { [لقمان: 6] لا يقتصر على الغناء والكلام، إنما يشمل الفعل أيضاً، وربما كان الفعل أغلب.

وقوله تعالى: } بِغَيْرِ عِلْمٍ { [لقمان: 6] يدل على عدم معرفتهم حتى بأصول التجارة في البيع والشراء، فالتاجر الحق هو الذي يشتري السلعة، بحيث يكون نفعها أكثر من ثمنها، أما هؤلاء فيشترون الضلال؛ لذلك يقول الحق عنهم:{ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ }[البقرة: 16]

والسبيل: هو الطريق الموصل إلى الخير من أقصر طريق، وهو الصراط المستقيم الذي قال الله تعالى عنه{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }[الفاتحة: 6] لذلك نقول في علم الهندسة: المستقيم هو أقصر بُعد بين نقطتين.

وقوله: } وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً { [لقمان: 6] أي: السبيل؛ لأن السبيلِ تُذكَّر وتؤنث، تُذكَّرِ باعتبار الطريق، كقوله تعالى:{ وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً }[الأعراف: 146]

وتُؤنَّث على اعتبار الشِّرْعة، كقوله تعالى:{ قُلْ هَـاذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَىا اللَّهِ عَلَىا بَصِيرَةٍ }[يوسف: 108]

هؤلاء الذين يشترون الضلال لإضلال الناس لا يكتفون بذلك، إنما يسخرون من أهل الصلاح، ويهزأون من أصحاب الطريق المستقيم والنهج القويم، ويُسفِّهون رأيهم وأفعالهم.

ثم يذكر الحق سبحانه عاقبة هذا كله: } أُوْلَـائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ { [لقمان: 6] أولئك: أي الذين سبق الحديث عنهم، وهم أهل الضلال } لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ { [لقمان: 6] ووصْف العذاب هنا بالمهانة دليل على أن من العذاب ما ليس مُهيناً، بل ربما كان تكريماً لمن وقع عليه كالرجل الذي يضرب ولده ليُعلِّمه ويُربِّيه، فهو يضربه لا ليعذبه ويؤلمه ويهينه، إنما لكي لا يعود إلى الخطأ مرة أخرى. على حَدِّ قول الشاعر:فَقَسَا لِيزْدجِرُوا ومَنْ يَكُ حَازِماً فَلْيقسُ أحْيَاناً على مَنْ يَرْحَمإذن: فمن العذاب ما هو تذكير وتطهير أو ترضية وتكريم لمستقبل، وإنما سُمِّي عذاباً تجاوزاً، فهو في هذه الحالة لا يُعَدُّ عذاباً.

وفي هذا المعنى قال الزمخشري رضي الله عنه: الملك يكون عنده الخادم، فيفعل ما لا يُرضي سيده، فيأمر صاحب الشرطة أنْ يأخذه ويعذبه جزاء ما فعل، فيأخذه الشرطي ويُعذَّبه بقدر لا يتعداه، لأنه يعلم أنه سيعود مرة أخرى إلى خدمة السيد، فالعذاب في هذه الحالة يكون بقدر ما فعل الخادم ليس مهنياً له. لكن إنْ قال له: خُذْ هذا الخادم واقْصِه عن الخدمة أو افصله، يعني: ليست له عودة فلا شكَّ أن العذاب سيكون مهنياً وأليماً.

فالعذاب إنْ سمَّيناه عذاباً يكون إكراماً لمن تحب وتريد أن تطهره، أما العذاب المهين فهو لمن لا أمل في عودته، والإهانة تقتضي الأبدية والخلود.

ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: } وَإِذَا تُتْلَىا عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّىا مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ... {.

(/3400)

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)

قوله تعالى: { وَإِذَا تُتْلَىا عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّىا مُسْتَكْبِراً... } [لقمان: 7] بعد قوله:{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ }[لقمان: 6] يدلنا على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ أمر دعوته، حتى لمن يعلم عنه أنه ضَلَّ في نفسه، بل ويريد أنْ يُضل غيره.

ومعنى { وَلَّىا } [لقمان: 7] يعني: أعرض وأعطانا (عرض أكتافه) كما نقول: وتولى وهو مستكبر { وَلَّىا مُسْتَكْبِراً } [لقمان: 7] أي: تكبَّر على ما يُدْعى إليه، أنت دُعيت إلى حق فاستكبرت، ولو كنت مستكبراً في ذاتك لما لجأت إلى باطل لتشتريه، إذن: فكيف تستكبر عن قبول الحق وأنت محتاج حتى إلى الباطل؟

ولماذا تتكبَّر وليس عندك مُقوِّمات الكِبْر؟ ومعلوم أنك تستكبر عن قبول الشيء إنْ كان عندك مثله، فكيف وأنت لا تملك لا مثله ولا أقل منه؟

إذن: فاستكبارك في غير محله، والمستكبر دائماً إنسان في غفلة عن الله؛ لأنه نظر إلى نفسه بالنسبة للناس - وربما كان لديه من المقومات ما يستكبر به على الناس - لكنه غفل عن الله، ولو استحضر جلال ربه وكبرياءه سبحانه لاستحى أنْ يتكبَّر، فالكبرياء صفة العظمة وصفة الجلال التي لا تنبغي إلا لله تعالى، فكبرياؤه سبحانه شرف لنا وحماية تمنعنا أن نكون عبيداً لغيره سبحانه.

لذلك نسمع في الأمثال العامية (اللي ملوش كبير يشتري له كبير) فإنْ كان لي كبير خافني الناس واحتميتُ به، كذلك المؤمن يحتمي بكبرياء ربه؛ لأن كبرياء الله على الجميع والكل أمامه سواسية، لا أحد يستطيع أن يرفع رأسه أمام الحق سبحانه.

إذن: فكبرياؤه تعالى لصالحنا نحن.

وهذا المستكبر استكبر عن سماع الآيات { كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً } [لقمان: 7] أي: ثِقَل وصَمَم { فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [لقمان: 7] ونحن نعلم أن البشارة لا تكون إلا في الخير، فهي الإخبار بأمر سارٍّ لم يأْت زمنه، كما تبشر ولدك بالنجاح قبل أنْ تظهر النتيجة.

أما البشارة بالعذاب فعلى سبيل التهكّم بهم والسخرية منهم، كما تتهكم من التلميذ المهمل فتقول له: أبشرك رسبت هذا العام. واستخدام البُشرى في العذاب كأنك تنقله فجأة من الانبساط إلى الانقباض، وفي هذا إيلام للنفس قبل أن تُقاسي ألم العذاب، فالتلميذ الذي تقول له: أُبشِّرك يستبشر الخير بالبشرى، ويظن أنه نجح لكن يُفَاجأ بالحقيقة التي تؤلمه.

والشاعر يُصوِّر لنا هذه الصدمة الشعورية بقوله:كَما أبرقَتْ يَوْماً عِطَاشَاً غَمامَةٌ فَلمّا رأوْهَا أقْشَعَتْ وتجلَّتِويقول آخر:فَأصْبحتُ من ليلى الغَداةَ كقَابِضٍ علَى الماء خَانتْه فُروجُ الأصَابِعلذلك يقولون: ليس أشرّ على النفس من الابتداء المطمع يأتي بعده الانتهاء الموئس، وسبق أن مثلنا لذلك بالسجين الذي بلغ به العطش منتهاه، ورجا السجان، إلى أنْ جاء له بكوب من الماء، ففرح واستبشر، وظن أن سبحانه رجل طيب أصيل فلما رفع الكوب إلى فيه ضربه السجان من يده فأراقه على الأرض.

ولا شكَّ أن هذا آلم وأشدّ على نفس السجين، ولو رفض السجان أنْ يأتي له بالماء من البداية لكان أخفّ ألماً. وهذا الفعل يسمونه " يأس بعد إطماع " فقد ابتدأ معه بداية مُطمِعة، وانتهى به إلى نهاية موئسة، نعوذ بالله من القبض بعد البسط.

ثم يذكر الحق سبحانه عقوبة الإضلال عن سبيل الله والتولِّي والاستكبار } فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ { [لقمان: 7] فعذابهم مرة (مهين) ومرة (أليم).

ثم يقول الحق سبحانه: } إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ... {.

(/3401)

إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8)

وهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات في مقابل الذين يشترون لهو الحديث ليضلوا عن سبيل الله، وهذه سِمَة من سمات الأسلوب القرآني؛ لأن ذكر الشيء مع مقابله يُوضِّح المعنى ويعطيه حُسْناً، كما في قوله تعالى:{ إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ }[الانفطار: 13-14]

فالجمع بين المتقابلات يُفرح المؤمن بالنعيم، ثم يفرحه بأنْ يجد أعداءه من الكفار الذين غاظوه واضطهدوه وعذَّبوه يجدهم في النار.

وقلنا: إن الحق - سبحانه وتعالى - حينما يتكلم عن الإيمان يردفه بالعمل الصالح { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } [لقمان: 8] لأن الإيمان أن تعلم قضايا غيبية فتُصدِّق بها، لكن ما قيمة هذا الإيمان إذا لم تنفذ مطلوبه؟

وكذلك في سورة العصر:{ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ... }[العصر: 1-3] ففائدة الإيمان العمل بمقتضاه، وإلا فما جدوى أن تؤمن بأشياء كثيرة، لكن لا تُوظف ما تؤمن به، ولا تترجمه إلى عمل وواقع؛ لذلك إنْ اكتفيتَ بالإيمان ككلمة تقال دون عمل، فقد جعلت الإيمانَ حجة عليك لا حجةً لك.

ومعنى { وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ } [لقمان: 8] أي: الصالح، والحق سبحانه خلق الكون على هيئة الصلاح، فالشيء الصالح عليك أنْ تزيد من صلاحه، فإنْ لم تقدر فلا أقلَّ من أنْ تدعَ الصالح على صلاحه فلا تفسده.

ثم يذكر سبحانه جزاء الإيمان والعمل الصالح { لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ } [لقمان: 8] فهي جنات لا جنة واحدة، ثم هي جنات النعيم أي: المقيم الذي لا تفوته ولا يفوتك.

ثم يقول الحق سبحانه: { خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً... }.

(/3402)

خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)

حين نتأمل هذه الآيات نلمس رحمة الله بعباده حتى الكافر منهم الذي ضلَّ وأضلَّ، ومع ذلك فالله رحيم به حتى في تناول عذابهم، ألا ترى أن الله تعالى قال في عذابهم أنه مهين، وأنه أليم، لكن لم يذكر معه خلوداً كما ذكر هنا الخلود لنعيم الجنات، كما أن العذاب جاء بصيغة المفرد، أما الجنة فجاءت بصيغة الجمع، ثم أخبر عنها أنها { وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً } [لقمان: 9]

والوعد يستخدم دائماً لِعَدةٍ بخير يأتيك، وقلنا: إن العبد يِعد وقد لا يفي بوعده؛ لأنه لا يملك كل مُقوِّمات الوفاء، أما الوعد إنْ كان من الله فهو محقق لأنه سبحانه يملك كل أسباب الوفاء، ولا يمنعه أحد عن تحقيق ما أراد؛ لأنه سبحانه يملك كل أسباب الوفاء، ولا يمنعه أحد عن تحقيق ما أراد؛ لأنه سبحانه ليس له شريك، كالرجل الذي أراد أنْ يذم آخر فقال له: الدليل على أن الله ليس له شريك أنه خلقك، فلو كان له شريك لقال له: لا داعي لأنْ تخلق هذا.

لذلك يعلمنا الحق - سبحانه وتعالى - أنْ نردف وَعْدنا بقولنا: إن شاء الله حتى نكون منصفين لأنفسنا من الناس، ولا نُتهم بالكذب إذا لم نَفِ، وعندها لي أن أقول: أردت ولكن الله لم يُرِد، فجعلت المسألة في ساحة ربك عز وجل.

وبهذه المشيئة رحم الله الناس من ألسنة الناس، فإذا كلفتني بشيء فلم أقضه لك فاعلم أن له قدراً عند الله لم يأتِ وقته بعد، واعلم أن الأمر لا يُقْضي في الأرض حتى يُقْضي في السماء، فلا تغضب ولا تتحامل على الناس، فالأمور ليست بإرادة الناس، وإنما بإرادة الله.

لذلك حين تتوسط لأخيك في قضاء مصلحة وتُقْضي على يديك، المؤمن الحق الذي يؤمن بقدر الله يتأدب مع الله فيقول: قُضِيْتْ معي لا بي، يعني: شاء الله أنْ يقضيها فأكرمني أن أتكلم فيها وقت مشيئته تعالى، كذلك يقول الطبيب المؤمن: جاء الشفاء عندي لا بي.

ولو فهم الناس معنى قدر الله لاستراحوا، فحين ترى المجدّ العامل يُقْصي ويُبعد، وحين ترى الخامل والمنافق يُقرّب ويعتلي أرفع المناصب فلا تغضب، وإذا لم تحترمه لذاته فاحترم قدر الله فيه.

فالمسائل لا تجري في كَوْن الله بحركة (ميكانيكية)، إنما بقدر الله الذي يرفع مَنْ يشاء ويضع مَنْ يشاء، وله سبحانه الحكمة البالغة في هذه وتلك، وإلا لقلنا كما يقول الفلاسفة: إن الله تعالى خلق القضايا الكونية ثم تركها للناس يُسيِّرونها.

والحق سبحانه ما ترك هذه القضايا، بدليل قوله تعالى:{ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً }

[الشورى: 49-50].

فبعد هذه الآية لا يقل أحد: إن فلاناً لا ينجب أو فلانه لا تنجب؛ لأن هذه مرادات عليا لله تعالى، ولو أن العقيم احترم قَدَر الله في العقم لجعل الله كل مَنْ يراهم من الأولاد أولاده، وما دام الله تعالى قال{ يَهَبُ }[الشورى: 49] فالمسألة في كل حالاتها هبة من الله تعالى لا دَخْلَ لأحد في الذكورة أو الأنوثة أو العقم. فلماذا - إذن - قبلتَ هبة الله في الذكور، ولم تقبل هبة الله في العقم؟

وسبق أن تحدثنا عن وَأْد البنات قبل الإسلام؛ لأن البنت كانت لا تركب الخيل، ولا تدافع عن قومها، ولا تحمل السلاح.. إلخ، فلما جاء الإسلام حرم ذلك وكرَّم المرأة، وأعلى من شأنها، لكن ما زالت المفاضلة قائمة بين الولد والبنت.

والآن احتدم صراع مفتعل بين أنصار الرجل وأنصار المرأة، والإسلام بريء من هذا الصراع؛ لأن الرجل والمرأة في الإسلام متكاملان لا متضادان، وعجيب أنْ نرى من النساء مَنْ تتعصب ضد الرجال وهي تُجَنّ إنْ لم تنجب الولد، وهذه شهادة منهن بأفضليته.

وكأن الحق - تبارك وتعالى - يعلمنا أن مَنْ يحترم قدره في إنجاب البنات يقول الله له: لقد احترمتَ قدري فسوف أعطيك على قدرْي، فيعطيه الله البنين، أو يُيسِّر لبناته أزواجاً يكونون أبرَّ به من أولاده وأطوع.

ثم أَلاَ ترى أن الله تعالى قدم البنات، في الهبة، فقال:{ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذُّكُورَ }[الشورى: 49] لماذا؟ لأنه سبحانه يعلم محبة الناس للذكور:{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَىا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَىا مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ }[النحل: 58-59].

وقوله تعالى: } وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ { [لقمان: 9] العزيز الذي لا يغلب، ولا يستشير أحداً فيما يفعل } الْحَكِيمُ { [لقمان: 9] أي: حين يعِد، وحين يفي بالوعد.

ثم تنتقل الآيات إلى دليل من أدلة الإيمان الفطري بوجود الإله: } خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ... {.

(/3403)

خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)

أولاً: ذكر الحق سبحانه آية كونية لم يدَّعها أحد لنفسه من الكفار أو من الملاحدة، وهي آية موجودة ومُشَاهدة، وبعد أن قال سبحانه أنا خالق السماء والأرض لم يعارضه أحد، ولم يأْتِ مَنْ يعارضه فيقول: بل أنا خالق السماء والأرض.

وسبق أنْ قلنا: إن القضية تسلم لصاحبها ومدعيها إذا لم يَقُمْ لها معارض، فإن كانت هذه القضية صحيحة، والحق سبحانه هو الخالق فقد انتهتْ المسألة، وإذا كان هناك خالق غيره سبحانه فأين هو؟ هل درى أن واحداً آخر أخذ منه الخَلْق، ولماذا لم يعارض ويدافع عن حقِّه؟ أو أنه لم يَدْرِ بشيء فهو إله (نائم على ودنه)، وفي كلا الحالين لا يصلح أن يكون إلهاً يُعبد.

لذلك قال تعالى:{ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ }[آل عمران: 18]، فهذه شهادة الذات للذات، ولم يعارضها معارض فصَحَّتْ لصاحبها إلى أنْ يوجد معارض.

وسبق أن مثَّلنا لذلك - ولله المثل الأعلى - بجماعة جلسوا في مجلس فلما انفضَّ مجلسهم وجد صاحب البيت حافظة نقود لا يعرف صاحبها، فاتصل بمن كانوا في مجلسه، وسألهم عنها فلم يقُلْ واحد منهم أنها له، إلى أن طرق الباب أحدهم وقال: والله لقد نسيت حافظة نقودي هنا، فلا شكَّ إذن أنها له وهو صاحبها حيث لم يدَّعها واحد آخر منهم.

والحق سبحانه يقول في إثبات هذه القضية:{ قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىا ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً }[الإسراء: 42] أي: لذهبوا يبحون عمَّنْ أخذ منهم الخَلْق والناس، وأخذ منهم الألوهية.

فإنْ قالوا نحن آلهة لكن فوقنا إله أكبر يردُّ الحق عليهم:{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً }[الكهف: 51]

وقوله تعالى: { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } [لقمان: 10] حين تدور في أنحاء الكرة الأرضية من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها تجد السماء تظلّك، ومع سعة السماء لا تجد لها عمداً ترفعها، وكلمة { تَرَوْنَهَا } [لقمان: 10] تحمل معنيين: إما هي فعلاً بغير عمد، أو لها عمد لكن لا نراها { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } [لقمان: 10] يعني: لا نرى لها عمداً، لكن الحقيقة أن لها عمداً لا ترونها بإحساسكم ومقاييسكم.

فإنْ قلت، فما هذه العمد التي لا نراها؟ البعض يقول: هي الجاذبية، وهذا القول مجانب للصواب، والحق سبحانه يكفينا مؤنة البحث في هذه المسألة، فيقول سبحانه:{ ... وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ }[الحج: 65]

إذن: لا نملك إلا أنْ نقول إنها ممسوكة بقدرة الله، ولكي لا نحار في كيفية ذلك يُقرِّب الله لنا هذه المسألة بمثال مُشاهد لنا، فالطير يمسكه الله في جو السماء:

{ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىا الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ... }[النحل: 79]

وفي موضوع آخر يقول الحق سبحانه:{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ }[فاطر: 41] إذن: فهو سبحانه يمسكها بقانون، لكن لا نعرفه نحن ولا ندركه.

والسماء في اللغة: كل مَا علاك فأظلّك، فالغيم الذي يعلوك وتراه قريباً منك يُعد من السماء بدليل قول الله تعالى: } وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً { [لقمان: 10] والماء ينزل من الغيم، لا من السماوات العلا، والفرق بينهما أن الغيم تراه في مكان دون آخر، وتراه مُتقطعاً منفطراً، أمَّا السماء العليا فهي بشكل واحد، لا ترى فيها من فطور.

وحين تكلم الحق سبحانه عن الأرض والسماء قال: إنها سبع سماوات، ولم يقُلْ سبع أراضين، بل{ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ }[الطلاق: 12] فدلَّ على أن الأرض سبع كالسماء، وإنْ كانت السماء كل ما أظلّك، فالأرض كل ما أقلَّك، لكن أين هذه الأرَضين السبع؟

لقد أخبرنا القرآن الكريم أن السماوات سبع، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه مرَّ بها في مرحلة المعراج فقال في الأولى كذا وكذا، وفي الثانية كذا وكذا، وما دامتْ السماء كل ما أظلك، والأرض كل ما أقلك فالخَلْق في السماء الأولى مثلاً سماؤهم السماء الثانية، وأرضهم سماؤنا الأولى، وهكذا وهكذا.

ثم يقول سبحانه: } وَأَلْقَىا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ { [لقمان: 10] أي: الجبال الراسية الثابتة المتصلة بالأرض اتصالاً وثيقاً بحيث لا تتخلخل منها، والعلة في خَلْق الجبال الرواسي على الأرض } أَن تَمِيدَ بِكُمْ { [لقمان: 10] أي: تميل وتضطرب بكم، ولو أن الأرض مخلوقة على هيئة الثبات لما احتاجت إلى ما يثبتها.

إذن: فالأرض متحركة، وما خُلِقت الجبال إلا لتثبيتها وضبط حركتها، فدَّلت هذه الآية على صِدْق النظرية القائلة بدوران الأرض، كذلك في قوله تعالى:{ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ }[النمل: 88]

إذن: فللجبال حركة مرتبطة بحركة الأرض، فإنْ قُلْتَ: ولماذا لا نراها؟ نقول: لأن وحدة المكان تجعلك لا تدرك هذه الحركة، فالمتحد في مكان لا تختلف مرائي الأشياء بالنسبة له.

فلو تصوَّرنا أن هذا المسجد الذي يجمعنا صُمِّم على هيئة رَحَىً تدور بنا، فهل نشعر بدورانه ونحن ندور بدورانه؟ لا نشعر، لماذا؟ لأن مواقعنا من بعض ثابتة لا تتغير، كذلك موقعنا من المكان؛ لذلك لا نشعر بالحركة لكن نشعر بالحركة حين نقيس متحركاً بثابت، فلو فتحنا الباب مثلاً أو الشباك ورأينا ما هو خارج المسجد، عندها نشعر أننا نتحرك.

إذن: لا يمكن لمَنْ على الأرض أن يشعر بحركتها؛ لأنه يتحرك معها، وما دامت الجبال أوتاداً في الأرض وهي - أي الجبال - تمر مرَّ السحاب فلا بُدَّ أن الأرض كذلك تمر وتتحرك بنفس الحركة، وحركة الجبال ليست ذاتية، إنما هي تابعة لحركة الأرض، والحق سبحانه شبَّه حركة الجبال بحركة السحاب، والسحاب حركته غير ذاتية، إنما هي تابعة لحركة الرياح.

ثم يذكر الحق سبحانه علة أخرى لخَلْق الجبال: } وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ { [لقمان: 10] وسبق أنْ أوضحنا أن الجبال تمثل مخازن للقوت الذي به قوام الحياة للإنسان وللحيوان والذي ينشأ من الزرع، وبيَّنا أن الطبقة الخارجية للجبال تتفتتْ بعوامل التعرية، ثم يحملها ماء المطر إلى الوديان فتزيد من خصوبة الأرض بمقدار كل عام، ومن الجبال أيضاً يتكون الماء في الأنهار او في مسارب الأرض فنخرجه حين الحاجة إليه.

ومن حكمته تعالى أنْ جعل الجبال راسية ثابتة، وجعلها صلدة وإلا لو كانت هشّة لأذابتها الأمطار وفتتها في عدة سنوات، ثم حرمت الأرض من الخصوبة التي تستمدها من الجبال؛ لذلك يقول الله تعالى:{ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ }[الحجر: 21] فمع زيادة السكان تزداد المساحة الخِصْبة التي يُكوِّنها الغِرْين الذي يتفتت من الجبال عاماً بعد عام.

واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى:{ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا... }[فصلت: 9-10]

فالجبال جعلها الله راسية حتى لا تضطرب بنا الأرض، وجعلها صلبة لأنها مخزن الخِصْب الذي يُمِدُّنا بالزرع الذي به قِوَام حياتنا.

ومن رحمة الله بالإنسان أنْ جعل فيه ذاتية استبقاء الحياة، فإن مُنِع عنه الطعام أو الشراب تغذَّى من المخزون في جسمه؛ فيأخذ أولاً من الدهن، ثم من اللحم، ثم من العظم؛ لذلك قلنا: إن العظم هو آخر مخازن القوت في جسم الإنسان، وفي ضوء ذلك نفهم قول سيدنا زكريا:{ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي }[مريم: 4]

يعني: قد بلغتُ آخر مرحلة من مراحل استبقاء الحياة.

فكان من رحمة الله بالخَلْق أنْ جعل حتى شَرَه الإنسان للطعام والشراب رحمة به، حيث يتحول الزائد عن طاقته وحاجته إلى مخزون في جسمه، فإذا انقطعتْ به السُّبُل أو تعذَّر عليه الطعام والشراب استمد مما في جسمه.

كذلك من رحمة الله بالإنسان أنْ جعله يصبر على الطعام إلى شهر، ويصبر على الماء من ثلاثة أيام إلى عشرة بحسب ما في جسمه من مخزون الطعام والشراب، اما الهواء فلا يصبر عليه إلا بمقدار شهيق وزفير؛ لذلك تتجلى رحمته تعالى وحكمته في خَلْقه بألاَّ يُملِّك الهواء لأحد، فلو مَلكه عدوك لمتّ قبل أن يرضى عنك.

وقوله: } وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ { [لقمان: 10] بث أي: نشر، والدابة: كل ما له دبيب على الأرض، والدبيب بحسب ما يدبّ على الأرض، وكل ما يمشي على الأرض له دبيب نسمعه في الحيوان الضخم مثلاً، لكن لا نسمعه في النملة مثلاً، فهي أيضاً لها دبيب بدليل قولنا: فلان يسمع دبّة النملة، إذن: لها دبيب على الأرض، لكن أذن مَنْ التي تستطيع أنْ تسمعه؟

وقوله تعالى: } مِن كُلِّ دَآبَّةٍ { [لقمان: 10] كل تعني سوراً كلياً يضم كل ما له حركة ودبيب على الأرض، يعني: كل ما يقال له دابة بداية من النملة أو الفيروسات الآن إلى أكبر حيوان على الأرض.

وقوله (من) تتدرج من الصغير إلى الكبير فتدلُّ على الشمول.

ومن هذه الدواب ما أحله الله ومنها ما حرمه؛ لذلك يقول البعض: ما دام الله حرَّم هذه الحيوانات، فما الضرورة في خَلْقها؟ وهل كل شيء مخلوق يُؤكل؟

لا، ليس كل مخلوق من الحيوانات يؤكل؛ لأن له مهمة أخرى يؤديها.

ولو تأملت ما حُرِّم عليك لوجدته يخدمك في ناحية أخرى، فمنه ما يمد الحيوانات التي تأكلها، ومنه ما فيه خاصية تحتاج إليها في غير الأكل، فالثعبان مثلاً لا نرى فيه إلا أنه مخلوق ضار، لكن ألم نحتَجْ إلى سُمِّه الآن، ونجعله مَصْلاً نافعاً؟ ألسنا ننتفع بجلوده؟ الخ، فإذا كنا لا نأكله فنحن نستفيد من وجوده في نواحٍ أخرى.

كذلك الخنزير مثلاً: البعض يقول: ما دام الله تعالى حرمه، فلماذا خلقه؟ سبحان الله، هل خلق الله كل شيء لتأكله أنت؟ ليس بالضرورة أنْ تأكل كل شيء، لأن الله جعل لك طعامك الذي يناسبك، أتأكل مثلاً البترول؟ كيف ونحن نرى حتى السيارات والقطارات والطائرات لكل منها وقوده المناسب له، فالسيارة التي تعمل بالبنزين مثلاً لا تعمل بالسولار..الخ، فربك أعطاك قُوتَك كما أعطى لغيرك من المخلوقات أقواتها.

لذلك؛ إذا نظرت في غابة لم تمتد إليها يد الإنسان تجد فيها جميع الحيوانات والطيور والدواب والحشرات.. الخ دون أنْ تجد فيها رائحة كريهة أو منظراً مُنْفراً، لماذا؟

لأن الحيوانات يحدث بينها وبين بعضها توازن بيئي، فالضعيف منها والمريض طعام للقوي، والخارج من حيوان طعام لحيوان آخر.. وهكذا، فهي محكومة بالغريزة لا بالعقل والاختيار.

وكل شيء لا دَخْلَ للإنسان فيه يسير على أدقِّ نظام فلا تجد فيه فساداً أبداً إلا إذا طالتْه يد البشر، ولك أنْ تذهب إلى إحدى الحدائق أو المنتزهات في شم النسيم مثلاً لترى ما تتركه يد الإنسان في الطبيعة.

لكن، لماذا وُصِف الإنسان بهذا الوصف؟ ولماذا قُرِن وجوده بالفساد؟ نقول: لأَنه يتناول الأشياء بغير قانون خالقها، ولو تناول الأشياء بقانون الخالق عز وجل ما أحدث في الطبيعة هذا الفساد.

وسبق أنْ بيَّنا أن الإنسان لا قدرةَ له على شيء من مخلوقات الله إلا إذا ذلَّلها الله له ويسِّرها لخدمته، بدليل أن الولد الصغير يركب الفيل ويسحب الجمل ويُنيخه ويحمله الأثقال في حين لا قدرةَ لأحدنا على ثعبان صغير، أو حتى برغوث، لماذا؟ لأن الله تعالى ذلَّلَ لنا هذا، ولم يُذلِّل لنا هذا.

ثم يقول تعالى: } وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ { [لقمان: 10] من السماء: أي من جهة العلو ومن ناحية السماء، وإلا فالمطر لا ينزل من السماء، إنما من الغمام } فَأَنْبَتْنَا فِيهَا.. { [لقمان: 10] أي: في الأرض: } مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ { [لقمان: 10] زوج أي: نوع من النبات، فهي كلمة تدل على مفرد، لكن معه مثله، والبعض يظن أنها تعني اثنين وهذا خطأ؛ لذلك نقول عن الرجل زوج، وعن المرأة زوج رغم أنه مفرد، لكن قُرِن بغيره.

وقال تعالى عن التكاثر:{ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ.. }[الذاريات: 49] فَسمّي الذكر (زوج) وسمّي الأنثى (زوج).

ومثلها كلمة (توأم) فهي تدل على مفرد، لكن مفرد لم يُولَد وحده إنما معه غيره، والبعض يقول (توأم) ويقصد الاثنين، إنما الصواب أن نقول هما توأمان.

ووصف الحق سبحانه الزوج أي النوع من النبات بأنه } كَرِيمٍ { [لقمان: 10] لأنه يعطيك بكرم وسخاء، فالحبة تعطيك سبعمائة حبة، وهذا عطاء المخلوق لله، فما بالك بعطاء الخالق عز وجل؟

ثم يقول الحق سبحانه: } هَـاذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن... {.

(/3404)

هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)

والكلام هنا مُوجَّه للمكابرين وللمعاندين الجاحدين لآيات الله: { هَـاذَا } [لقمان: 11] أي: ما سبق ذِكْره لكم من خَلْق السماوات بغير عمد، ومن خَلَق الجبال الرواسي والدواب وإنزال المطر وإحياء النبات..الخ.

هذا كله { خَلْقُ اللَّهِ... } [لقمان: 11] فلم يدَّعهِ أحد لنفسه، وليس لله فيه شريك { فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذيِنَ مِن دُونه.. } [لقمان: 11] أي: الذين اتخذتموهم شركاء مع الله، ماذا خلقوا؟

وليس لهذا السؤال إجابة عندهم، حيث لا واقع له يستدلون به، ولا حتى بالمكابرة؛ لأن الحق أبلج والباطل لجلج، لذلك لم نسمع لهم صوتاً ولم يجرؤ واحد منهم مثلاً على أن يقول آلهتنا خلقت الجبال مثلاً أو الشمس أو القمر، فلم يستطيعوا الردّ رغم كفرهم وعنادهم.

والحق سبحانه في الرد عليهم يبين لهم أن المسألة لا تقف عند عدم قدرتهم على الخَلْق، إنما لا يعرفون كيف خُلُقوا هم أنفسهم:{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً }[الكهف: 11] وفي قول الله{ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً }[الكهف: 51] دليل على صِدْق القرآن ومظهر من مظاهر إعجازه، فقد أخبرنا الحق سبحانه أنه سيُوجد مُضلون يضلون الناس في مسألة الخَلْق، ويصرفونهم عن الحق بكلام باطل.

وفعلاً صدق الله وسمعنا من هؤلاء المضلين مَنْ يقول: إن الأرض قطعة من الشمس انفصلتْ عنها، وسمعنا مَنْ يقول إن الإنسان في أصله قرد..الخ، ولولا هذه الأقاويل وغيرها ما صدقت هذه الآية، ولجاء أعداء الإسلام يقولون لنا: أين المضلون الذين أخبر عنهم القرآن؟

فكأن كل كلام يناقض { هَـاذَا خَلْقُ اللَّهِ.. } [لقمان: 11] هو كلام مُضِل، وكأن هؤلاء المضلين - في غفلة منهم ودون قصد - يؤيدون كلام الله{ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً }[الكهف: 51]

ونجد هذه المسألة أيضاً في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يطلع علينا من حين لآخر مَنْ ينكر سنة رسول الله ويقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما كان فيه من حلال حللناه، وما كان فيه من حرام حرمناه.

وعندها نقول: سبحان الله، كأن الله تعالى أقامكم دليلاً على صِدْق رسوله، فقد أخبر الرسول عنكم، وعما تقولونه في حَقِّ سنته، حيث قال: " يوشك رجل يتكئ على أريكته، يُحدَّث بالحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه ".

ومعنى: { هَـاذَا خَلْقُ اللَّهِ } [لقمان: 11] أي: مخلوقاته { فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ.. } [لقمان: 11] ولن نطلب منك خَلْقاً كخَلْق السماء والأرض والجبال، ولا إنزال المطر وإحياء الأرض بالنبات، بل اختلقوا أقلّ شيء في الموجودات التي ترونْها، وليس هناك أقل من الذباب:{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ.. }[الحج: 73] بل وأبلغ من ذلك{ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ }[الحج: 73]

ثم يختم الحق سبحانه الآية بقوله: { بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [لقمان: 11] أي: ضلال محيط بهم من كل اتجاه، والضلال المبين المحيط لا تُرْجى معه هداية، فلن يهتدي هؤلاء، وما عليك إلا أنْ تصبر على دعوتك يا محمد حتى يُبدلك الله خيراً من هؤلاء، ويكونون لك جنوداً يؤمنون بك، وينصرون دعوتك. وقد كان.

ثم يقول الحق سبحانه: { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ... }.

(/3405)

وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)

الحق سبحانه آتانا قبل أنْ يخلقنا، وآتانا بعد أن خلقنا بالمنهج ثم وَالَى إلينا بمواكب الرسالات التي تحمل إلى كل بيئة المنهج الذي يناسبها، وقبل أن يخرج آدم عليه السلام لتحمُّل عبء هذه الخلافة أعطى الله له تجربة، هذه التجربة مفادها أن يحافظ على منهج ربه في (افعل) و (لا تفعل) وأن يحذر كيد الشيطان.

وقد مرَّ آدم بهذه التجربة البيانية قبل أن يجتبيه الله للنبوة وكثيرون يظنون أن عصيان آدم جاء بعد أن كُلِّف بالنبوة فيقولون: كيف يعصي آدم ربه، وهو نبي والنبي معصوم؟

ونقول: نعم، عصى آدم ربه، لكن قبل النبوة، وهو ما يزال بشراً عادياً؛ لذلك قال سبحانه في حقه:{ وَعَصَىا ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَىا * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىا }[طه: 121-122]

إذن: جاء الاجتباء بعد المعصية، فإنْ قلتَ: فما الداعي للعصيان يصدر من آدم، وهو يُعد للنبوة؟ قالوا: لأنه أبو البشر، والبشر قسمان: بشر معصومون، وهم الأنبياء، وبشر ليست لهم عصمة وهم عامة الناس غير الأنبياء، ولا بُدَّ لآدم أنْ يمثل النوعين لأنه أبو الجميع، فمثَّل البشر عامة حين وقع في المعصية، ومثّل الأنبياء حين اجتباه ربه وتاب عليه، فجمع بذلك بين الملحظين.

هنا يقول سبحانه: { وَلَقَدْ آتَيْنَا.. } [لقمان: 12] والإيتاء يُطلَق على الوحي مع الفارق بينهما، فإنْ أطلق الوحي فإنه ينصرف إلى الوحي للرسول بمنهج من الله، ويُعرَف الوحي عامة بأنه إعلام بخفاء.

ومن ذلك قوله تعالى في الوحي للملائكة:{ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ... }[الأنفال: 12]

ويُوحِي للبشر، قال تعالى:{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىا أُمِّ مُوسَىا أَنْ أَرْضِعِيهِ.. }[القصص: 7]

ويوحى للحيوان{ وَأَوْحَىا رَبُّكَ إِلَىا النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً... }[النحل: 68]

ومن ذلك أيضاً يوحي الشياطين بعضهم إلى بعض من شياطين الإنس أو الجن:{ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ... }[الأنعام: 121]

كذلك يوحي الله إلى أهل الخير من أتباع الرسل:{ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي... }[المائدة: 111]

هذا في المعنى اللغوي للوحي وهو: إعلام بخفاء، فإنْ قصدت الوحي الشرعي الاصطلاحي: فهو إعلام من الله لرسوله بمنهجه. وهذا التعريف يُخرِج كل الأنواع السابقة.

والحق سبحانه عبَّر عن الإيتاء العام بقوله:{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ.. }[الشورى: 51]

والإيتاء يُقصد به الإلهام، ويكون حين تتوفر للإنسان آلة استقبال سليمة صالحة لاستقبال الإلهام والخاطر من الحق سبحانه وتعالى، وآلة الاستقبال لا تصلح للاستقبال عن الله تعالى إلا إذا كانت على مواصفات الخالق سبحانه صانعها ومبدعها، كما يلتقط (الراديو أو التليفزيون) الإرسال، فإنِ انقطع عنك الإرسال فاعلم أن جهاز استقبالك به عطب، أما الإرسال فموجود لا ينقطع، ولله تعالى المثل الأعلى.

وله سبحانه إرسال دائم إلى عباده، لا يلتقطه إلا مَنْ صفَتْ آلة استقباله، وصلحت للتلقي عن الله، وهذه الآلة لا تصلح إلا إذا كانت على المنهج في افعل ولا تفعل، لا تصلح إذا تكونت من الحرام وتغذَّتْ به؛ لأن الحرام يفسد كيماوية الفطرة التي خلقها الله في عباده يوم أن أخذ عليهم العهد:{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىا أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىا.. }[الأعراف: 172]

فهذه الذرية لو ظلتْ على حالها من الصفاء يوم كانت في ظهر آدم ويوم أخذ الله عليها العهد، ولو التزمت منهج ربها في (افعل) و (لا تفعل) لكانت أهلاً لإلهام الله؛ لأن آلة استقبالها عن الله سليمة.

وتأمل في وحي الله إلى أم موسى:{ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي.. }[القصص: 7]

فأيُّ آلة استقبال هذه التي استقبلتْ هذا الأمر ونفذته دون أنْ تناقشه، واطمأنتْ إليه قبل أنْ تفكر فيه؟ وكيف تقتنع الأم أن الموت المحقق يُنجي وليدها من موت مظنون؟

لذلك نقول: إذا صادف الإلهام آلة استقبال سليمة فإنه لا يوجد في النفس ما يصادره، ولا ما يبحث عن دليل، فقامت أم موسى ونفذت الأمر كما أُلقي إليها، هذا هو الإيتاء.

ومنه أيضاً قوله تعالى:{ فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً }[الكهف: 65] والعبد الصالح لم يكن نبياً، ومع ذلك آتاه الله بدون واسطة، فكان هو مُعلِّماً للنبي، وما ذلك إلا لأنه عبد لله على منهج موسى، وأخلص لله تعالى فآتاه الله من عنده.

واقرأ قول الله تعالى:{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً.. }[الأنفال: 29] وقال سبحانه:{ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ }[محمد: 17]

إذن: كلُّ ما علينا لنأخذ إلهامات الحق سبحانه أنْ نحتفظ بصفاء البنية التي خلقها الله لتظل بمواصفات خالقها، ثم نسير بها على منهجه تعالى في افعل ولا تفعل، وكان سيدنا لقمان من هذا النوع الصافي الطاهر النقي، الذي لم يخالط جسمه حرام، والذي لا يغفل عن منهج ربه؛ لذلك آتاه الله الحكمة، وقال فيه: } وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ.. { [لقمان: 12]

وقد اختلف العلماء فيه: أهو نبي أم غير نبي، والغالب أنه غير نبي؛ لأن القائلين بنبوته ليس لهم سند صحيح، والجمهور اجتمعوا على أنه رجل صالح مرهف الحس، دقيق الإدراك، والحسّ كما قلنا هو الأصل الأول في المعلومات، وكان لقمان لا يمر على الأشياء إلا بهذا الحسِّ المرهف والإدراك الدقيق العميق، فتتكون لديه مُدْركات ومواجيد دقيقة تختمر في نفسه، فتتجمع لديه مجموعة من الفضائل والقيم التي تسوس حركة حياته، فيسعد بها في نفسه، بل ويسعد غيره من حوله بما يملك من المنطق المناسب والتعبير الحسن، كذلك كان لقمان.

وللعلماء أبحاث حول شخصية لقمان وجنسيته، فمنهم مَنْ ذهب إلى أنه كان أسود اللون غليظ الشفتين كأهل جنوب إفريقيا، لكنه مع ذلك أبيض القلب نقي السريرة، تخرج من بين شفتيه الغليظتين الحِكَم الرقيقة والمعاني الدقيقة.

وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قالوا: " إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم ".

لذلك حين ترى مَنْ هو أقل منك في مال، أو صحة، أو جاه، أو منظر فلا تغتر بذلك، وانظر وتأمل ما تميزّ به عليك؛ لأن الخالق سبحانه - كما قلنا - وزَّع فضله بين عباده بالتساوي، بحيث يكون مجموع كل إنسان يساوي مجموع الآخر، ولا تفاضلَ بين المجموعات إلا بالتقوى: " لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح ".

فالذين يحلو لهم أنْ يقسموا المهن مثلاً إلى مهن شريفة وأخرى حقيرة نقول: ليست هناك مهنة حقيرة ما دام المجتمع في حاجة إليها ولا تستقيم حركة الحياة إلا بها، فكيف تحقرها؟ وكيف تحقر أهلها؟ والله لو قعد الوزراء في بيوتهم أسبوعاً ما حدث شيء، لكن لو تعطل عمال النظافة مثلاً أو الصرف الصحي ليوم واحد لحدثتْ مشكلة، ولأصبحت الدنيا (خرارة).

وكيف نحقر هذه المهن ونحقر أصحابها، وهم يرضوْنَ باليسير، ويتحملون ما لا يطيقه غيرهم، كيف نحقرهم، والله تعالى يقول:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىا أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ... }[الحجرات: 11]

فإن قلت: ما دام ليس نبياً، فكيف يؤتيه الله؟ نقول: بالمدد والإلهام الذي قال الله فيه:{ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً }[الأنفال: 29] فمَنْ يحافظ على مواصفات التكوين بمنطق الله يأخذ من الله مباشرة.

كما لو طلب منك ولدك مبلغاً من المال يتاجر به في السوق، فتعطيه مبلغاً يسيراً تُجرِّبه به، فإنْ أفلح وربحت تجارته يطمئن قلبك فتزيده أضعاف ما أخذ في المرة الأولى، كذلك الإنسان إن أحسن صحبته لربه داوم الله عليه فضله ووالى إليه فيضه.

لذلك يقول سيدنا عمر بن عبد العزيز: ما قصر بنا في علم ما نجهل إلا عدم عملنا بما علمنا - يعني: لو كنا أهلاً للزيادة لزادنا، لو كنا مأمونين على ما علمنا فوظّفناه في حركة حياتنا لجاءتنا فيوضات إشراقية وعطاءات من ربنا ممتدة لا تنتهي، أما إنْ أخذنا العلم فألقيناه جانباً ولم نعمل به، فما الداعي للزيادة، وأنت لم تستفِدْ بما عندك؟

وكما تكلم العلماء في شخصية لقمان وجنسيته تكلموا في حكمته، فسأله أحدهم وقد تبسَّط معه في الحديث: ألم تكُنْ عبداً تخدم فلاناً؟ قال: بلى، قال: فَبِمَ أوتيت الحكمة؟ قال: باحترامي قدر ربي، وأدائي الأمانة فيما وليت من عَمل، وصدق الحديث، وعدم تعرُّضي لما لا يعنيني.

وهذه الصفات كافية لأنْ تكون منهجاً لكل مؤمن، ولأنْ ينطق صاحبها بالحكمة، والله لو كانت فيه صفة الصدق في الحديث لكانت كافية.

لذلك وصل لقمان إلى هذه المرتبة وهو العبد الأسود، فآتاه الله الحكمة مباشرة، وهو ليس نبياً ولا رسولاً، وسُمِّيت إحدى سور القرآن باسمه، وهذا يدلك على أن الإنسان إذا اعتدل مع الله وأخلص في طاعته فإن الله يعطيه من فيضه الواسع، فيكون له ذِكْر في مصافِّ الرسل والأنبياء.

ويُرْوَى من حكمة لقمان أن سيده أمره أن يذبح له شاة ثم يأتيه بأطيب مُضْغتين فيها، فذبح الشاة وجاءه بالقلب واللسان، وفي اليوم التالي قال له: اذبح لي شاة وأتني بأخبث مُضغتين فيها، فجاءه أيضاً بالقلب واللسان فسأله: ألم تَأْتِ بهما بالأمس على أنهما أطيب مضغتين في الشاة؟ قال: بلى فليس شيء أطيب منهما إذا طَابَا، ولا شيء أخبث منهما إذا خَبُثَا.

وبعد لقمان جاء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا هذا الدرس فيقول: "... ألا أن في الجسد مضغة إذا صَلُحت صلح الجسد كله، وإذا فسدتْ فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ".

ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: " من حفظ ما بين لحييه وما بين رِجْليه دخل الجنة ".

ويُروى أن لقمان كان يفتي الناس، وكانوا يثقون بكلامه، وكان ذلك قبل داود عليه السلام، فلما جاء داود كفَّ لقمان عن الفُتْيا، فلما سألوه: لماذا امتنعتَ عن الفُتْيا؟ فقال - وهذه أيضاً من حكمته: ألاَ أكتفي إذا كُفيت؟

يعني: لماذا أتمسَّك بها وقد بعث الله لي مَنْ حملها عني، وهو يعلم تماماً أنه مجرد عبد صالح (أي: أنه أخذ الحكمة من منازلهم كما يقال)، أما داود فرسول من عند الله، ومن الحكمة أنْ يُفسِح له هذا المجال، ويترك له ساحة الفُتْيا في القوم لعله يأتي بأفضلَ مما عند لقمان؛ لذلك تركها له عن رضاً وطيب خاطر.

والبعض يقول: إن الله خيَّره بين أن يكون نبياً أو حكيماً، فقال: أما وقد خيَّرتني يا رب، فأنا أختار الراحة ـ وأترك الابتلاء، أما إنْ أردْتها يا رب عزمة فأنا سأقبلها سمعاً وطاعة؛ لأني أعلم أنك لن تخذلني.

والحق سبحانه يُنطق لقمان بأشياء من الحكمة يسبق بها النبوة؛ ليبين لنا أن الإنسان من الممكن أن يكون ربانياً، كما جاء في الحديث القدسي: " عبدي، أطعني تكُنْ ربانياً، تقول للشيء كُنْ فيكون ".

ذلك لأن فضل الله ليس له حدود، وليس عليه حرج، وبابه تعالى مفتوح، المهم أن تكون أهلاً لأنْ تلِجَ هذا الباب، وأنْ تكون في معية ربك دائماً.

ومما يُرْوَى من حكمة لقمان أنه غاب في سَفْرة، ثم عاد فلقيه تابعه، فقال له: مَا حال أبي؟ فقال: مات، فقال لقمان: الآن ملكْتُ أمري، ثم سأل: فما حال زوجتي؟ فقال: ماتت، فقال: جدّدتُ فراشي، ثم سأل عن أخته، فقال: ماتت، فقال: ستَر الله عِرْضي، ثم سأل عن أخيه، فقال: مات، فقال: انقصم ظهري.

وهذا الكلام لا يصدر إلا عن حكمة، فكثيراً ما يفرح الابن - خاصة العاق - بموت أبيه؛ لأنه سيترك له المال يتمتع به، أما لقمان فيقول عندما علم بموت أبيه: الآن ملكْتَ أمري؛ لأنه في حياة أبيه كان له أمر، لكن أمره ليس في يده إنما في يد أبيه، فلما مات أبوه صار أمره بيده.

وهذه الحكمة توضح لنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أنت وما ملكت يداك لأبيك " كأنه من العيب أن تقول في حياة أبيك: أنا أملك كذا وكذا. أما الآن فقد تجاوز الأبناء كل هذه القيم، ونسمع الابن يقول لأبيه: اكتب لي كذا وكذا.

أما قوله: " جددت فراشي " فهي كلمة لها معنى كبير: أنا لا أُدخِل الجديدة على فراش القديمة حتى لا أجرح مشاعرها، أو أنني لا أتزوج إلا بعد وفاة زوجتي الأولى؛ ذلك لأن الغيرة طبع في النساء.

وكانت أم المؤمنين عائشة تغار حتى من ذكر السيدة خديجة، فقد " دخلت فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم على أبيها مُغْضبة فقال صلى الله عليهم وسلم: " ما أغضبك يا أم أبيها " فقالت: والله إن عائشة قالت لي: إن رسول الله تزوج أمك ثيباً، ولم يتزوج بِكْراً غيري، فقال لها رسول الله: " إذا أعادت عليك هذا القول - وانظر هنا إلى أدب النبوة في الردَّ وفي سرعة الخاطر - فقولي لها: ولكن أمي تزوجتْ رسول الله وهو بكر، وتزوجيته أنت وهو ثيَّب " هذا كلام النبوة، ومن بعدها لم تُعِدْها عائشة مرة أخرى.

وقد يقول قائل: وكيف تغار عائشة، وهي أم المؤمنين وزوج رسول الله؟ قالوا: هذه الغيرة لها معنى، فقد عقد رسول الله عليها وهي بنت السادسة، ودخل بها وهي بنت التاسعة، وقد جاوز صلى الله عليه وسلم الخمسين من عمره، ومع فارق السن بينهما رضيتْ عائشة برسول الله؛ لأنها رأتْ فيه من مزايا نوره ما جعلها تَغَار عليه رغم كِبَر سنّه وصِغَر سنها، فلم تنظر إليه على أنه رجل عجوز يكبرها، بل رأَتْ فيه ما يفوق ويعلو على مجرد الشباب.

إذن: فمعنى: " جددت فراشي " أنني أراعي مشاعر الزوجة الجديدة، فلا أُدِخلها على فراش القديمة فأصدمها به، وأُلِهب مشاعر الغيرة عندها، حتى من التي ماتت، وأنا أريد أن تكون صافية التكوين لذاتي، راضية عن كل تصرفاتي، أريد أن أمنع كل شبهة تقلق كونها سكناً لي، وأنا سَكن لها.

نعود إلى قوله تعالى: } وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ... { [لقمان: 12] فالذي آتى هو الله عز وجل، والحكمة: مادة حكَم تدل على وَضْع الشيء في موضعه، ومنها الحاكم؛ لأنه يضع الحق في نصابه، حتى في الدواب نسمي الحديدة التي توضع في فم الفرس لأتحكم في حركته (حَكَمه)؛ لأن الهدف من ركوب الخيل مختلف، فمرة أركبه للنزهة، ومرة أركبه لأدرك به صَيْداً، ومرة للكِّر وللفرِّ في المعركة، فكُلُّ هدف من هذه له حركة، وينبغي أنْ أتحكم في حصاني ليؤدي لي ما أريده منه.

إذن: فالحكمة تعني في معناها العام وَضَع الشيء في موضعه، وهي مجموعة من مَلَكات الفضائل تصدر عنها الأشياء التي تضع كل أمر في محله لكن بيُسْر وبلا مشقة ولا تعب، كالشيخ الذي ظل يدرس في الأزهر مثلاً عشرين أو ثلاثين سنة تذهب إليه، وتستفتيه في أمر من الأمور، فيجيبك بيُسْر وسهولة، وبدون تفكير أو إعداد، لماذا؟ لأن الفُتْيا أصبحت ملَكَه عنده لا تحتاج منه إلى مجهود ولا مشقة.

ومن الحكمة أنْ يخلق الله لك أشياءً، ويهديك لأنْ تستنبط منها أشياءً أخرى.

وساعة تسمع من الله تعالى: } وَلَقَدْ.. { [لقمان: 12] فاعلم أن هنا قَسَماً فالواو واو القسم، والمقسَم عليه مُؤكَّد باللام ومُؤكَّد بقد التي تفيد التحقيق.

قوله سبحانه: } آتَيْنَا.. { [لقمان: 12] الحق - سبحانه وتعالى - في إتيانه للأشياء يعني تعدَّي ما قدره لمن قدره من خير ظاهر ومن خير مستور. وقبل أنْ يخلق الله الإنسان خلق له، فجاء الإنسان الأول (آدم عليه السلام) وطرأ على كون فيه كل مُقوِّمات حياته من هواء وماء وأرض وسماء وطعام وشراب..الخ.

وكل ذلك مُسخَّر له تسخيراً لا دَخْلَ للمنتفع به فيه، وهذا أول الإيتاء، بل قبل ذلك، وفي الأزل قبل أن يخلق الإنسان خلق له مُقوِّمات مادته ومُقوِّمات قيمه وروحه - أي: أوجدها.

لأننا نعلم أن كل صانع قبل أن يُقدِم على صَنْعة لا بُدَّ أن يُحدِّد الغاية، ويضع الهدف منها أولاً، لا أنْ يصنع الشيء ثم ينظر فيه: لأيِّ شيء يصلح هذا الشيء، كذلك لا بُدَّ أنْ يسبق الصنعةَ منهجُ صيانتها.

فالحق سبحانه قبل أنْ يخلق الإنسان وضع له مُقوِّماته المادية والمعنوية، والمنهج الذي يُصلِحه وحدّد الهدف من وجوده؛ لذلك يُنبِّهنا الحق سبحانه إلى هذه المسألة في قوله تعالى:{ الرَّحْمَـانُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ }[الرحمن: 1-3] فقبل أنْ يخلق الله الإنسانَ وضع المنهج الذي به صيانته، وهو القرآن الكريم.

إذن: فمعنى الإيتاء أنْ يعدي الله ما قدره من خير ظاهر أو خير مستور لمن قدره، والخير يكون على نوعين: خير يقيم المادة، وخير يقيم القيم الروحية، المادة تقوم بالهواء وبالطعام وبالشراب..الخ، والقيم تقوم بالوحي وبالمنهج الذي حمله الرسل بافعل ولا تفعل.

والله تعالى آتى كثيراً من خلقه، فلماذا خَصَّ لقمان بالذات، فقال } وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ.. { [لقمان: 12]؟ قالوا: لأن الله تعالى حين يأمر الرسل بأمر ليُبلِّغوه يُعِد الرسل لهذا الأمر، وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يقول لنا، إن الفَطرة السليمة تهتدي إلى الله، وإلى المطلوب من الله بدون وحي، وبدون إعداد.

ومن ذلك ما رُوِي عن سيدنا عمر - رضي الله عنه - من أنه كان يُحدِّث سيدنا رسول الله بالأمر، ويقترح عليه فيأتي الوحي موافقاً لرأيه، فكيف يتسنى لعمر أن يقترح على رسول الله وفي وجوده، وهو المشرع الثاني بعد القرآن؟

نقول: لأن الله تعالى يريد أنْ يثبت لنا أن الفطرة السليمة إذا صَفتْ لله تستطيع أنْ تهتدي إلى الأشياء، وتصل إلى الحق قبل أنْ ينزل الوحي به.

إذن: فالإيتاء من الله لا يأتي عبثاً، فالإيتاء الأول كان لآدم عليه السلام، وآدم شاء الله أنْ يجعله خليفة له في الأرض، ولا يعني هذا أنه أول المخلوقات في الأرض، والحق سبحانه لم يَقُلْ إنني أول ما خلقتُ خلقتُ آدم، وبدليل قوله تعالى:{ وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ }[الحجر: 27].

ومسألة الخلْق هذه هيِّنة على الله، بدليل قوله تعالى:{ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذالِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ }[إبراهيم: 19-20] فالمسألة ليست نادرة حدثت مرة واحدة، ولن تحدث بعد ذلك.

وللعلماء كلام طويل في عوالم أخرى غير عالمنا كعالم الحن، وعالم البنِّ، وعالم الجن وغيرها مما لا يعمله إلا الله، لكن إنْ حدَّثك المضللون الذين يريدون أنْ يستدركوا على الدين ويقولون: إن الحفريات أثبتت وجود مخلوقات قبل آدم، فكيف تقولون: إن آدم أول مخلوق؟

ونقول لهؤلاء: لم يقُلْ أحد: إن آدم أول مخلوق على الأرض، إنما هو أول هذا الجنس البشري الذي نسميه " إنسان " لكن سبقته أجناس أخرى، وشاء الله أنْ يجعل آدم خليفة في الأرض، ثم أخبر الملائكة{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً.. }[البقرة: 30]

والله حين يخبر الملائكة هذا الخبر لا يستشيرهم، إنما ليبين لهم أمراً واقعاً، وخصَّ الملائكة بهذا الإخبار؛ لأنه سيكون لهم دور مع هذا الخليفة الجديد. إذن: فالذين قال الله لهم:{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً.. }[البقرة: 30] ليسوا كل الملائكة، إنما الذين لهم دور ومهمة مع هذا المخلوق، أما باقي الملائكة فلا يدرون بآدم، ولا يعرفون عنه شيئاً، وليس في بالهم إلا الله.

والقرآن الكريم يشير لنا إلى هذه المسألة إشارةً دقيقة في قوله تعالى مخاطباً إبليس لما رفض السجود لآدم:{ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ }[ص: 75] والعالون هم الملائكة الذين لم يشملهم الأمر بالسجود.

وقلنا: إن الله تعالى كرَّم آدم حين خلقه تعالى، وباشر خَلْقه بيده سبحانه، ولم يخلقه كباقي المخلوقات (بكُنْ)؛ لذلك جاء في حيثية النقد على إبليس:{ قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ.. }[ص: 75]

إذن: مباشرة الخَلْق باليد دليل على العناية بالمخلوق؛ لأن اليد هي الآلة الفاعلة لأكثر الأشياء، وحتى الآن نفخر بعمل اليد فنقول (هذا الشيء يدويّ) يعني: لم تصنعه آلة صماء، إنما يد مفكر يتقن الصنعة.

وفي مسألة خَلْق آدم - عليه السلام - يحلو للبعض أن يقول: هو الذي أخرجنا من الجنة، فهل قال الله تعالى قبل أن يصدر أول بيان عن آدم أنني خلقُته للجنة، ثم عصى آدم ربه وتسبب في أنْ نخرج منها؟

لم يقُلْ ذلك، إنما قال:{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً.. }[البقرة: 30] فهو - إذن - مخلوق للأرض، وما الجنة التي دخلها إلا جنة التجربة لا جنة الخلد، والبعض يظن أن كلمة الجنة إذا أُطلقَتْ تعني جنة الآخرة، وهذا خطأ بدليل قول الله تعالى:{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ }[القلم: 17]

وقوله تعالى:{ وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ.. }[الكهف: 32]

فالجنة في اللغة هي المكان المليء بالأشجار الكثيفة التي تستر مَنْ يسير فيها، كما تستره أيضاً عن البيئة الخارجية؛ لأنها تكفيه بما فيها عن الاحتياج إلى غيرها، فبها كل مُقوِّمات الحياة، ومن ذلك الجنة التي دخلها آدم؛ لأن الله تعالى أراد أنْ يصنع لآدم تدريباً على مهمة الخلافة، ولم لا ونحن نُدرَّب كل صاحب مهمة على مهمته قبل أنْ يقوم بها، حتى لاعب الكرة.

وحين نأخذ المتدرب لندربه على أداء مهمته لا بُدَّ أن نوفر له كل مُقوِّمات حياته، ونتكفل له بكل ما يعينه على أداء مهمته، فنقدم له إقامة كاملة من طعام وشراب ومسكن..إلخ وكذلك فعل الله تعالى لآدم فقال له{ يَآءَادَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ }[البقرة: 35]

وحين نقارن بين ما أباحه الله لآدم وما حظره عليه نجد أنه تعالى أباح له كُلَّ ما في الجنة ولم يحرم عليه إلا هذه الشجرة التي أوضحها وبيَّنها له. كما نلحظ قوله تعالى:{ لاَ تَقْرَبَا.. }[البقرة: 35] ولم يقُلْ: لا تأكلا؛ لأن القرب من الشيء قد يُغرِي بمزاولته، فاحتطْ أنت لنفسك بعدم القرب منه.

وهذا التدريب لآدم فيه إشارة رمزية لكل تكليف من الله لخَلْقه في (افعل) و (لا تفعل).

ثم يذكِّر الحق سبحانه آدم بالمقدمة العدائية التي حدثتْ بينه وبين إبليس، وينصحه بأنْ يحذر هذا العدو؛ لأنه أبى أنْ يسجد له لما أمره الله بالسجود استكباراً وعُتواً.

والله حين يأمر بالسجود لآدم إنما يريد السجود للأمر والانصياع له، لا السجود لآدم في ذاته؛ لذلك نجد الأمر من الله تعالى يختلف باختلاف المأمورين، فمرة ينهي عن شيء ويأمر بمثله ليرى مدى انضباطك للأمر وللنهي.

ففي الحج مثلاً، يأمرك أنْ تُقبِّل حجراً، وأنْ ترمي حجراً آخر وترجمه، وهذا حجر وذاك حجر، إذن: فالحجرية غير منظورة، لكن المنظور فيه إلى الأمر أو النهي.

وبصرف النظر عن المصلحة أو الحكمة من الأمر أو النهي، فمثلاً حينما يتعذر الماء يشرع التيمم بدلاً من الوضوء، فيأتي مَنْ يقول: الوضوء للنظافة، فما النظافة في التيمم، وهو يُلوِّث الجسم؟

ونقول: فَرْق بين النظافة والتطهير، والمراد من التيمم التطهير بشيء هو أصل في مادتك وتكوينك، فالمسألة انضباط في طاعة الأمر بأن تفعل شيئاً تجعله مقدمة لصلاتك، كأنك لا تُقبل على الصلاة إلا بتهيئة، وأيضاً لأن الصلاة بها قِوامَ روحك وحياتك، وحياتك في الأصل ومادتك من الماء الذي تستخدمه في الوضوء والتراب الذي تستخدمه التيمم.

إذن: لهاتين المادتين رمزية يجب أن تُلحظ في الدخول على الله في الصلاة، ولا يليق بالمؤمن أنْ يُفلسف أمور العبادات ويبحث عن عِلّتها والحكمة أو المصلحة من أدائها، إنما يكفي أن يقول: عِلَّة هذا الأمر أن الله أمر به أنْ يفعل، وعلة هذا الحكم أن الله أمر به ألاَّ يُفعل.

لذلك ورد عن الإمام علي رضي الله عنه أنه قال: لو كانت المسألة بالعقل لكان أسفل الخُفِّ أوْلَى بالمسح من أعلاه، إذن: المسألة طاعة والتزام للأمر وللنهي؛ لذلك من غير المناسب أن نقول: إن من حكمة الصوم: أنْ يَشعر الغني بألم الجوع، فيعطف على الفقير؛ لأنني سأقول لك إذن: لماذا يصوم الفقير؟

ولتوضيح هذه المسألة ضربنا مثلاً وما زْلنا نكرره. قلنا: إن أعز شيء على المرء صحته، فإنْ أصابته علة، فأول ما يُعمِل عقله يبحث عن الطبيب المتخصص في مرضه فيذهب إليه، ثم يسلم له نفسه ليفحصه، ثم يكتب له الدواء فيأخذه ويتناوله دون أنْ يسأل عن عِلَّته، أو لماذا وصفه الطبيب، لماذا؟

لأن الطبيب مؤتمن بعد أنْ تعلَّم ودرس وتخصَّص، فأنت لا تسأله ولا تناقشه: لماذا كتب لك هذا الدواء، وهو مع ذلك إنسان وعُرْضة للخطأ وللسهو وللنسيان، ومع ذلك لا يناقش. إذن: علة تناول الدواء أن الطبيب وصفه لي، وعلة كل أمر عند الآمر به.

والآمر في العبادات هو الحق - سبحانه وتعالى - فلا يليق بالمؤمن بعد أن آمن بالله وبحكمته وقدرته أنْ يبحث ليعلم الحكمة من كل أمر يأتيه من ربه عز وجل.

نعود إلى آدم - عليه السلام - وأن الجنة التي دخلها كانت للتدريب والتجربة ولم تكُنْ جنة الخلد، تدرَّب فيها آدم على: كل (افعل) وعلى: لا تقرب (لا تفعل) واحذر الشيطان فإنه عدو لك، وسوف يوسوس لك، ويغويك؛ لأنه لا يريد أنْ يكونَ عاصياً وحده، يريد أنْ يجرَّك معه إلى حمأة المعصية.

وظل آدم وزوجته يأكلان كما قال تعالى من الجنة رغداً حيث شاءا، دون أنْ يقربا هذه الشجرة التي بيَّنها الله لهما إلى أنْ وسوس لهما الشيطان وأغراهما بالأكل منها، مع أن الله تعالى حذَّرهما، وأعطاهما حقنة مناعة ضد الشيطان ووسوسته، ومع ذلك حدثتْ من آدم الغفلة.

وهذه الغفلة الله يُنبِّه بها ذرية آدم من بعده: أن الشيطان لن يدعكم، وسوف يدخل عليكم بألاعيبه وحيله، كما دخل على أبيكم آدم، فكونوا منه على حذر، وابحثوا بعقولكم ما يلقيه إليكم من وساوس بالله.

ماذا قال إبليس لآدم حين أغواه بالأكل من الشجرة؟ قال:{ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـاذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ }[الأعراف: 20]

أليس من المنطق أن نقول: ولماذا لم تأكل أنت منها يا إبليس فتصير مَلَكاً، وتصير من الخالدين، ولا تتمحك فتقول:{ فَأَنظِرْنِي إِلَىا يَوْمِ يُبْعَثُونَ }[الحجر: 36] إذن: كان على آدم أنْ ينتبه إلى مكايد الشيطان وألاعيبه.

ثم يُنبِّهنا - سبحانه وتعالى - من خلال هذه القصة إلى أن الشيطان سيأتينا في مقام الطاعة، فلو أن آدم وزوجه ذهبا إلى هذه ذهبا إلى هذه الشجرة وأكلا منها ما وسوس لهما، فهذا دليل على أنهما احتاطا للأمر، فلم يقربا من الشجرة تنفيذاً لأمر الله؛ لذلك تدخَّل الشيطان.

إذن: نقول إن الشيطان لا يتدخل إلاّ في مجال الطاعة، أما المعصية فصاحبها كفاه مؤنة الوسوسة، الشيطان يذهب إلى المسجد لا يذهب إلى الخمارة؛ لأن الذي يذهب إلى الخمارة صار شيطاناً في ذاته، فما حاجته لإبليس؟

لذلك يقول تعالى حكاية عن إبليس:{ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ }[الأعراف: 16] أي: في مواضع الخير وطرق الصلاح والهداية لأبطل أعمالهم، وأفسد عليهم أمرهم، ونحن نلحظ ذلك في صلاتنا مثلاً، فقد تنسى شيئاً، وتحاول أن تتذكره فلا تستطيع، وفجأة وأنت تصلى تتذكره.

فلو أننا أخذنا (الروشتة) من خالقنا عز وجل وبمجرد أنْ ينزغنا الشيطان نقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لتنبّه الشيطان، وعلم أننا لسنا في غفلة، وأننا نكشف ألاعيبه، ونعرف حيله وصدق الله العظيم حين قال:{ وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }[الأعراف: 200]

وقد وصف الله الشيطان بأنه خنّاس، يعني: إذا ذُكِر الله خنس وتضاءل، فإنْ جاءك هذا الخاطر الشيطاني - حتى وإنْ كنتَ تقرأ القرآن - قُلْ بجرأة وقوة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ ليعلم أن ألاعيبه لا تخفي عليك فينصرف عنك، أما أن تخضع له فإنه يعطيك فقط طرف الخيط، ويفتح لك باباً يشغلك به، ثم يتركك أنت (تكُرُّ) هذا الخيط من نفسك، ويذهب هو (يستغفل) واحداً غيرك.

والشيطان رغم عِلْمه، إلا أن فيه تغفيلاً بدليل أنه أعلن عن خطته، وأظهر لنا مكايده قبل أنْ يكيدنا بها، فقال:{ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ }[الأعراف: 16] وقال{ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ.. }[الأعراف: 17]، فالذي يدبر المكايد ويتآمر على غيره لا يعلن عن مكايده مُقدماً، ونحن أيضاً كان علينا أنْ نحذر هذه المكايد خاصة، وقد أعلن عدونا عنها.

ولك أنْ تلحظ في خطة إبليس أنه يأتيك من جهاتك الربع، ومعلوم أن الجهات ست، فلماذا لم يذكر فوقنا وتحتنا؟ قالوا: لأن هاتين الجهتين محلُّ نظر إلى الله عز وجل، فالعبد ينظر إلى عِزِّ الربوبية في عليائه وذُلِّ العبودية إذا اتجه في سجوده إلى أسفل.

إذن: فأنت في معية ربك في هاتين الجهتين، والشيطان لا ينال منك إلا وأنت بعيد عن معية ربك. ومثَّلْنا لذلك، ولله المثل الأعلى؛ قلنا: إن الغلام إذا كان يسير في يد أبيه وفي صحبته، لا يجرؤ أحد من أمثاله على الاعتداء عليه، إنما إنْ سار وحده فهو عُرْضة للإيذاء.

وهذا دليل على علم إبليس وعلى ذكائه، ونلحظ هذا أيضاً في قوله:{ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }[ص: 82-83] كأنه يقول لربه: أنا لا أقترب من عبادك الذين هم في حضانتك، وفي معيتك.

والتغفيل الأكبر في إبليس أنه مع علمه بمقام ربه يتمرد على أمره، حين يأمره بالسجود فلا يسجد.

إذن: نبَّه الله تعالى آدم وحذره من كيْد إبليس، وكان عليه أنْ يحذر وألاَّ تدخل عليه حيلة الأكل من الشجرة إلا أنه في غفلة منه عن أمر ربه أكل من الشجرة، فلما خالف الأمر اختلفتْ طبيعته، وبدَتْ له ولزوجه السَّوْءة، وكانت المرة الأولى التي يشعر فيها آدم بعورته عند خروج الغائط.

لكن، ما الفرق بين فتحة دخول الطعام (الفم) وفتحة خروجه؟ ولماذا أصبحت هذه عورة، وهذه غير عورة؟

قالوا: لأن آدم حال طاعته لأمر ربه في الأكل من ثمار الجنة كان يأكل بطهي ربه، وهو طهي بحكمة وبقدر معلوم، يكفي مقومات الحياة ولا يزيد عنها، لذلك لم يَبْق في بطن آدم فضلات، ولم توجد عنده غازات أو أرياح، فلم يشعر في هذه الحالة بحاجة إلى التغوط، فكانت الفتحتان متساويتين، هذه فتحة، وهذه فتحة.

فلما خالف آدم ربه وذاق الشجرة اختلفتْ الأغذية في بطنه، وحدث لها تفاعلات، ونتج عنها فضلات وأرياح، ولما أحسَّ بها آدم نفر منها وأصابه الخجل، وشعر أنها عورة ينبغي أنْ تُستر، فالطبع السليم لا بُدَّ أنْ ينفر منها؛ لذلك أخذ يزيل هذا الأذى عن نفسه، ويستره بأوراق الشجر، ومنذ ذلك الحين لم يستطع آدم أن يسدَّ هذه الفتحة، ولن تُسدَّ.

إذن: الحق سبحانه جعل الدُّرْبة لآدم في الجنة هذه، وهيَّأ له فيها طعامه، ونهاه عن نوع بعينه، فأمره ونهاه وعلَّمه وحذَّره، فلما وقع في المخالفة وأغواه الشيطان، ولم يعمل بنصيحة ربه أخرجه إلى الأرض بهذه التجربة، لتكون رمزاً له ولذريته من بعده: إنْ سِرْتَ على منهجي ووِفْق أوامري في (فعل) و (لا تفعل) فلن تجد عورة في الكون كله، ونحن نرى ذلك فعلاً في حركة حياتنا في الكون، فلا نرى عورة في المجتمع ولا خللاً إلا إذا خُولِفَتْ أوامر الله.

هذا هو الإتيان الأول، بعد ذلك قدَّر الله غفلة البشر، فأرسل إليهم الرسل بالمنهج، فكان إتيان آخر، كما قال تعالى:{ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً }[النساء: 163] وقال في عيسى عليه السلام:{ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ }[الحديد: 27]

وهذا الإيتاء من الله يتم في خفاء؛ لذلك يُسمونه وحياً، وهو من الغيبيات، فالله تعالى لا يمدُّ يده فيعطي النبي أو الرسول شيئاً حسِّياً، ومن هنا ارتبط الإيمان بالغيبيات دون المحسَّات، فأنا لا أقول مثلاً: آمنتُ بأنني قاعد في مسجد الشيخ سليمان وأمامي جَمْع من الإخوة..الخ. إذن: لا بُدَّ أنْ يكون الإيمان بأمر غيبي.

الحق - سبحانه وتعالى - يُؤتِى على توالي العصور أنبياءه معجزات، ويؤتيهم منهجاً يسوس حركة الحياة، ولا يقتصر إيتاء الله على الرسل، إنما يؤتى غير الرسل، ويؤتى الحيوان..الخ.

ثم يعطينا الحق سبحانه نموذجاً للحكمة التي آتاها لقمان: } أَنِ اشْكُرْ للَّهِ.. { [لقمان: 12] هذه هي الحكمة الأولى في الوجود؛ لأنك إنْ شكرتَ الله على ما قدَّم لك قبل أنْ توجد، وعلى ما أعطاك قبل تسأل، وعلى ما هدى جوارحك لتؤدي مهمتها حتى وأنت نائم، كأنه تعالى يقول لعباده: ناموا أنتم فربكم لا تأخذه سنة ولا نوم.

فإن شكرك لله يهدم أول لبنة من لبنات الاغترار، فالذي يفسد خلافة الإنسان في الأرض أنْ يغترَّ بما أعطاه الله وبما وهبه، وينسى أنه خليفة، ويعتبر نفسه أصيلاً في الكون، والشكر لله تعالى يكون على ما قدَّم لك من نعم.

ومن ذلك قوله تعالى:{ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }[النحل: 78] أي: تشكر الله على ما سبق، فقد وُلدتَ لا تعلم شيئاً، ثم تكونت عندك آلات الإدراك والعلم، فعلمتَ وملأت قلبك بالمعاني الجميلة؛ لذلك تشكر الله عليها، فجَعْل هذه الآلات لك، عِلَّته أنْ تشكر أي: على ما مضى.

ثم هناك شكر آخر، لا على ما فات، لكن شكر هو في ذاته نعمة جديدة، وتأمل في ذلك قول الله تعالى:

{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ.. }[الروم: 46] هذه كلها نِعَم يعطف عليها بقوله:{ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }[الروم: 46]

فعطف الشكر على النعم السابقة يعني أنه في ذاته نعمة، وإلا لقال كما في الآية السابقة{ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }[النحل: 78]

والشكر بهذا المعنى هو المراد في قوله تعالى:{ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ.. }[إبراهيم: 7] فهذا شكر لما سبق، وهذا شكر لما هو آتٍ.

والشكر في قوله تعالى: } أَنِ اشْكُرْ للَّهِ.. { [لقمان: 12] مُوجه إلى الله تعالى، فكيف إذا توجه الشكر في أسباب تناوله إلى غير الله، كأنْ تشكر صاحبك الذي قدم لك معروفاً مثلاً؟ قالوا: لو تأملتَ شكر غير الله ممن قدَّم لك معروفاً يستوجب الشكر لوجدته يؤول إلى شكر الله في النهاية.

لذلك قالوا: لا تشكر الله إلا حين تشكر مَنْ ساق لك الجميل على يديه، يعني: جعله سبباً في قضاء حاجتك، ثم إن الذي قدَّم لك جميلاً، ما قدّمه لك وما آثرك على نفسه إلا لأن الله أمره بذلك، ودعاه إليه. وأثابه على فعله، فإذا سلسلتَ الشكر لانتهى إلى شكر الله تعالى.

ثم يقول سبحانه: } وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ { [لقمان: 12] علمنا أن الشكر لله هو أول الحكمة، فلماذا؟ لأن مَنْ يشكر تعود إليه ثمرة شكره.

وإياك أن تظن أن من مقومات قيومية ربك أنْ تشكره، فشكْرك وعدمه سواء بالنسبة لله تعالى، كيف وقد وسِع سبحانه الكافر الذي كفر به، ولم يقطع عنه نعمه؛ ذلك لأنه سبحانه غني عن خَلْقه } وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ { [لقمان: 12] لأنه سبحانه يعرف أنه رب، حتى للكافر الجاحد.

ونلحظ في الأسلوب هنا عظمة وروعة، ففي الشكر قال سبحانه } وَمَن يَشْكُرْ.. { [لقمان: 12] أما في الكفر فقال: } وَمَن كَفَرَ.. { [لقمان: 12] ولم يقل: ومَنْ يكفر، وفَرْق بين الأسلوبين، والكلام هنا كلام ربٍّ، ففي الشكر جاء بالفعل المضارع } يَشْكُرْ... { [لقمان: 12] الدال على الحال والاستقبال، فالشكر متجدد ودائم على خلاف الكفر.

وكأنه - سبحانه وتعالى - لا يريد من عبده الدوام على كفره، فلعله يتوب ويرجع إلى ساحة الإيمان، فجاء بالفعل الماضي } كَفَر.. { [لقمان: 12] أي: في الماضي فحسب، وقد لا يعود في المستقبل، وهذا مظهر من مظاهر الإعجاز البياني في القرآن الكريم.

ومعنى } حَمِيدٌ { [لقمان: 12] من صيغ المبالغة على وزن " فعيل " وتأتي مرة بمعنى " فاعل " مثل رحيم، ومرة بمعنى " مفعول " مثل قتيل أي: مقتول، والمعنى هنا } حَمِيدٌ { [لقمان: 12] أي: محمود وجاءت هذه الصفة بعد } غَنِيٌّ { [لقمان: 12] لأن الكافر لو كان يعلم أن الله لم يقطع عنه نعمه رغم كفره به لحمد هذا الإله الذي حلم عليه، ولم يعامله بالمثل.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ... {.

(/3406)

وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)

يعطينا الحق سبحانه طرفاً من حكَم لقمان التي رواها القرآن الكريم: { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ.. } [لقمان: 13] قوله: { وَإِذْ.. } [لقمان: 13] أي: اذكر يا محمد حين قال لقمان لابنه، وتوجيه حكمة لقمان ونصيحته لابنه يدلُّنا على صدق ما رُويَ عنه أنه كان يفتي الناس ويعظهم قبل سيدنا داود عليه السلام، فلما جاء داود أمسك لقمان وقال: ألا أكتفى وقد كُفِيت، ثم وجه نصائحه لمن يحب وهو ولده.

ولذلك، فالإمام أبو حنيفة - رضوان الله عليه - عندما شكاه القاضي ابن أبي ليلى إلى الخليفة أنه يفند شكاواه وأحكامه، فأرسل إليه الخليفة بأنْ يترك الفتوى، وبينما هو في بيته إذ جاءته ابنته وقالت له: يا أبي حدث لي كذا وكذا - تريد أن تستفتيه - فماذا قال لها وهي ابنته؟ قال: سِلَى أخاك حماداً، فإن أمير المؤمنين نهاني عن الفُتْيا.

وفَرْق بين أنْ يتكلم الإنسان مع عامة الخَلْق، وبين أنْ يتكلم مع ولده، فالابن هو الإنسان الوحيد في الوجود الذي يودُّ أبوه أن يكون الابن أفضلَ وأحسن حالاً منه، ويتمنى أن يُعوِّض ما فاته في نفسه في ولده ويتدارك فيه ما فاته من خير.

ومعنى { وَهُوَ يَعِظُهُ.. } [لقمان: 13] الوعظ: هو التذكير بمعلومة عُلِمت من قبل مخافة أنْ تُنْسى، فالوعظ لا يكون بمعلومة جديدة، إنما يُنبه غفلتك إلى شيء موجود عندك، لكن غفلت عنه، فهناك فَرْق بين عالم يُعلم، وواعظ يعظ، والوعظ للابن يعني أنه كان على علم أيضاً بالمسائل، وكان دور الوالد أنْ يعظه ويُذكِّره.

ونلحظ في أسلوب الآية أن الله تعالى لما أخبر عنه قال { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ.. } [لقمان: 13] ولما تكلم لقمان عن ابنه قال { يابُنَيَّ.. } [لقمان: 13] ولم يقل يا ابني، فصغّره تصغير التلطف والترقيق، وليوحي له: إنك لا تزال في حاجة إلى نصائحي، وإياك أنْ تظن أنك كَبِرت وتزوجت فاستغنيتَ عني.

وأول عِظَة من الوالد للولد { لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ.. } [لقمان: 13] وهذه قمة العقائد؛ لذلك بدأ بها؛ لأنه يريد أنْ يُصحِّح له مفهومه في الوجود، ويلفت نظره إلى أن الأشياء التي نعم بها آباؤك وأجدادك لا تزال تعطي في الكون، ومن العجيب أنها باقية، وهي تعطِي في حين يموت المعطَى المستفيد بها.

وتأمل منذ خلق الله الكون كم جيل من البشر انتفع بالشمس؟ ومع ذلك انذثروا جميعاً، وما زالت الشمس باقية، كذلك القمر والهواء والجبال..الخ. فكيف وأنت سيد هذا الكون يكون خادمك أطول عمراً منك؟

إذن: على العاقل أن يتأمل، وعلى الإنسان الذي كرَّمه الله على سائر المخلوقات أن يقول: لا بُدَّ أن لي عمراً أطول من عمر هذه المخلوقات التي تخدمني، وهذا لا يتأتى إلا حين تصل عمرك في الدنيا بعمرك في الآخرة، وهذا يستدعي أن تؤمن بالله وألاّ تشرك به شيئاً، فهو وحده سبحانه الذي خلق لك هذا كله، وأعدّه لخدمتك قبل أن توجد:

واقرأ:

{ هَـاذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ.. }[لقمان: 11]

فكيف تدعي أن لله شركاء في الخَلْق، وهم أنفسهم لم يدَّعوا أنهم آلهة، أو أنهم خلقوا شيئاً في كون الله؟ كيف وأنت تسير في الصحراء، فترى الحجر يعجبك فتأخذه وتُسوِّيه وتجعله إلهاً ولو هبَّتْ الريح لأطاحتْ به؟

ثم ما المنهج الذي جاءتكم به هذه الآلهة بِمَ أمرتكم وعَمَّ نهتكم؟ ماذا أعدت من نعيم لمن عبدها، وماذا أعدَّت من عذاب لمن كفر بها؟ إذن: فهذه آلهة بلا تكليف، والعبادة في حقيقتها أنْ يطيع العابد أمر معبوده، إذن: هي آلهة باطلة لا يخفى بطلانها على العاقل.

لذلك يقول لقمان: } إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ { [لقمان: 13] نعم الشرك ظلم؛ لأن الظلم يعني: نَقْل حق الغير إلى الغير، وقمة الظلم ومنتهاه أن تأخذ حق الله، وتعطيه لغير الله، ألا ترى أن الصحابة ضجُّوا لما نزل قوله تعالى:{ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـائِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ }[الأنعام: 82]

وقالوا: يا رسول الله، ومَنْ منا لم يخالط إيمانه ظلم؟ فهدَّأ رسول الله من رَوْعهم وطمأنهم أن المراد بالظلم هنا ظلم القمة أي: الشرك بالله } إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ { [لقمان: 13]

ثم يقول الحق سبحانه: } وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ... {.

(/3407)

وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)

أهذه وصية من وصايا لقمان لابنه، أم هي كلام جديد من الله تعالى جاء في سياق كلام لقمان؟ قالوا: هو من كلام الحق تبارك وتعالى، بدليل قوله تعالى بعد ذلك:{ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىا أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا... }[لقمان: 15]

ومن التكريم للقمان أن الله تعالى ساق هذه الوصية بعد وصيته لابنه، فجاءت وكأنها حكاية عنه.

ومعنى { وَوَصَّيْنَا.. } [لقمان: 14] يعني: علّمنا ووعظنا، وهما يدلان على معلومات تبتدئ بعلمنا ويذكر بها في وعظنا، ويُوفى بها حين جمعنا كل الخير في كلمة واحدة؛ لذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم عندما خطب الناس في حجة الوداع ذكر أمهات الفضائل، لماذا؟ لأنه آخر كلامه إليهم، والموقف لا يناسب أنْ يذكر فيه تفاصيل الدين كله، فاكتفى بذكر أسسه وقواعده، كالرجل منَّا حين تحضره الوفاة يجمع أولاده، ويوصيهم، فيختار الأمور الهامة والخلاصة في أضيق نطاق.

الله تعالى يقول: { وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ... } [لقمان: 14] والوصية بالوالدين بالذات أخذتْ رقعة واسعة في كتاب الله، في هذه الآية ذكر علة الوصية، فقال: { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىا وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ... } [لقمان: 14]

وفي خمس آيات أخرى وردتْ كلمة (إحساناً)، في قوله تعالى:{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً... }[البقرة: 83]

وفي سورة النساء:{ وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً... }[النساء: 36]

وفي الأنعام:{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً... }[الأنعام: 151]

وفي الإسراء:{ وَقَضَىا رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً... }[الإسراء: 23]

وفي الأحقاف:{ وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً... }[الأحقاف: 15]

وفي آية واحدة وردت كلمة (حسناً) في سورة العنكبوت:{ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً... }[العنكبوت: 8]

وفي آية واحدة أيضاً جاءت الوصية بالوالدين دون ذكر لهاتين الكلمتين: (حُسْناً وإحساناً) هي الآية التي نحن بصدد الحديث عنها.

لكن، ما الفرق بين (إحساناً) و (حُسناً)؟ الفرق أن الإحسان مصدر أحسن، وأحسن حدث، تقول: أحسن فلان إحساناً. أما حُسناً فمن الحسن وهو المصدر الأصيل لهذه المادة كما تقول: فلان عادل، فوصفته بالعدل، فإنْ أردتَ أنْ تبالغ في هذا الوصف تقول: فلان عَدْل أي: في ذاته، لا مجرد وَصْف له.

إذن: فحُسْناً آكد في الوصف من إحساناً، فلماذا جاءت في هذه الآية بالذات:{ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً... }[العنكبوت: 8] قالوا: لأن هذه الآية تتعرض لمسألة صعبة تمسُّ قمة العقيدة، فسوف يطلب الوالدان من الابن أنْ يشرك بالله.

لذلك احتاج الأمر أنْ نوصي الابن بالحُسْن في ذاته، وفي أسمى توكيداته فلم يقُلْ هنا (إحْسَاناً) إنما قال (حُسْناً) حتى لا يظن أن دعوتهما إياه إلى الشرك مبرر لإهانتهما، أو التخلي عنهما؛ لذلك يُعلِّمنا ربنا:

{ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً }[لقمان: 15]

وإنْ كانت الوصية هنا بالوالدين ألا أن حيثيات الوصية خاصة بالأم } حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىا وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ { [لقمان: 14] فلم يذكر شيئاً عن دور الأب، لماذا؟ قالوا: لأن الكلام هنا كلام رب، وما عليك إلا أنْ تُعمِل فيه فكرك وقلبك لتصل إلى دقائقه.

الله تعالى يُذكِّرنا هنا بدور الأم خاصة، لأنها تصنع لك وأنت صغير لا تدرك صُنْعها، فهو مستور عنك لا تعرفه، أما الأفعال الأب وصنعه لك فجاء حال كِبَرك وإدراكك للأمور من حولك، فالابن يعرف ما قدَّم أبوه من أجله.

فكأن أفعال الأب وُجِدت حين تم تكوين العمر العقلي الواعي، ففهم الابن ما فعل أبوه، وكثيراً ما سمع الابن: أبوك ذهب إلى كذا، أبوك أحضر لك كذا، وهذا الأمر عندما يأتي أبوك..الخ، فدوْر الأب ظاهر على خلاف دور الأم؛ لذلك ذكره الحق - تبارك وتعالى - هنا } حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىا وَهْنٍ { [لقمان: 14]

ويأتي مَنْ يقول: أليس الابن نتيجة التقاء الأب والأم، فهما فيه سواء؟ ونقول: بلى، لكن مشقة الأم فيه أوضح أثناء الحمل وعند الولادة، ولولا أن الله تعالى ربط النسل بالشهوة لَزهدَ الناس فيه لما تتحمله الأم من مشاق، ولما يتحمله الأب من تبعات الأولاد.

ونعرف قصة المرأة التي ذهبت تقاضي زوجها لأنه يريد يأخذ ولدها منها، فقالت للقاضي وقد قال لها: أليس الولد ولدكما معاً؟ قالت: بلى، ولكنه حمله خِفّاً ووضعه شهوة، وحملتُه وهناً على وهن، فحكم لها.

ومعنى: } وَهْناً عَلَىا وَهْنٍ.. { [لقمان: 14] أي: ضعفاً على ضعف، والمرأة بذاتها ضعيفة، فاجتمع لها ضعفها الذاتي مع ضعف بسبب الجنين الذي يتغذى منها، ويكبر في أحشائها يوماً بعد يوم؛ لذلك قلنا: إن من حكمة الله تعالى في خَلْق الرحم أنْ جعله قابلاً للتمدد والاتساع ليحتوي الجنين في مراحل الحمل المختلفة إلى أنْ يزيد الجنين زيادةً لا يتحملها اتساع الرحم فينفجر إيذاناً بولادة إنسان جديد وخَلْق آخر كما قال تعالى:{ ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }[المؤمنون: 14]

فالجنين كان خَلْقاً تابعاً لأمه في غذائه وفي تنفسه وحركته، لكن حينما جاء أمر الله وأذن بميلاده أنشأه خَلْقاً آخر له مُقوِّمات حياة مستقلة غير متصل بأمه.

ويقولون في هذه العملية (القرن طش) كما تنفجر البالونة إذا نُفخت لدرجة أكثر مما تتحمل، ومن العجيب أن الرحم يتسع بقدرة الله لعدة توائم كما نرى ونسمع.

ومن عظمة الخالق سبحانه في مسألة الرزق أن رزق الجنين يأتيه منفصلا عن رزق أمه، فلكل منها رزق لا يأخذه الآخر، ومعلوم أن المرأة حين يُقدَّر لها حَمْل ينقطع عنها الدم الذي كان ينزل بصفة دورية حال فراغ الرحم من الحمل، هذا الدم هو الذي جعله الله غذاءً للجنين الجديد.

أما إذا لم يُقدَّر لها حمل فإنَّ جسمها يطرد هذا الدم ويتخلص منه ولا يستفيد به، لماذا؟ لأنه ليس غذاءها، وكأن الخالق - عز وجل - يُنبِّهنا أن لكل منا رزقه الذي لا يتعدَّاه إلى غيره.

وأيضاً من حكمته تعالى في وَضْع الجنين في بطن أمه عند الولادة أنْ ينزل برأسه، وهذا هو الوضع الطبيعي لولادة طفل سليم؛ لأن أول ضروريات الحياة للطفل ساعةَ ينفصل عن أمه أنْ يتنفس، فإذا نزل برأسه - وهذا الوضع يحاول أطباء الولادة التأكد منه - استطاع التنفس حتى وإنْ تعسر نزول باقي جسمه، أمّا إنْ نزل الطفل بعكس هذا الوضع فإنه يختنق ويموت قبل أنْ يتم نزوله.

ثم يقول سبحانه: } وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ.. { [لقمان: 14] الفصال: أي الانفصال عن الأم في مسألة الرضاعة، ومنه: يسمون ولد الناقة الذي استغنى عن لبنها: الفصيل أي الذي فُصِل عن أمه، وأصبح قادراً على أنْ يأكل، وأن يعيش دون مساعدتها، وحتى عملية فصال الولد عن أمه فيها مشقة وألم للأم.

أما العملية الجنسية التي أثمرتْ الولد فكانت شركة بينهما، وبذلك لا بُدَّ أن نعترف أن للأم الدور الأكبر وعليها العبء الأكبر في مسألة الأولاد؛ لذلك كان لها الحظ الأفر في وصية النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي الذي سأله: مَنْ أحق الناس بحُسْن صحابتي يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، فأعطى كلاً منهما على قدر ما قدَّم.

ومسألة الفصال هذه شُرحت في آيات أخرى، ففي سورة البقرة:{ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ... }[البقرة: 233] وهذه تؤكد } وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ { [لقمان: 14]

وفي آية أخرى تجمع الحمل والرضاعة معاً:{ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً... }[الأحقاف: 15] وبخصم العامين من الثلاثين شهراً يكون الباقي ستة أشهر، وهي أقلّ مدة للحمل.

وهذه المسألة اعتمد عليها الإمام علي - رضي الله عنه - حينما رأى عمر رضي الله عنه يريد أن يُقيم الحد على امرأة ولدتْ لستة أشهر؛ لأنه يعتقد أن مدة الحمل تسعة أشهر، فقال لعمر: يا أمير المؤمنين، الله يقول غير ذلك، فقال: وماذا يقول الله؟ فذكر عليٌّ الآيتين السابقتين:{ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً... }[الأحقاف: 15]

والأخرى: } وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ { [لقمان: 14]

ثم بيَّن له عليٌّ أن أقلَّ مدة للحمل بناءً على هاتين الآيتين ستة أشهر، فقال عمر: بئس المقام بأرض ليس فيها أبو الحسن.

وقوله تعالى: } أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ { [لقمان: 14] فالله تعالى هو المستحق للشكر أولاً؛ لأنه سبحانه هو الذي أنشأ من عدم، وأمدَّ من عُدْم، ثم الوالدان لأنهما السبب في الإيجاد وإنشاء الولد.

فكأن الحق سبحانه مسبِّب أعلى؛ لأنه خلق من لا شيء، والوالدان سبب من أسباب الله في الوجود، إذن: لا تُحسِن شكر الله الخالق الأول والمسبِّب الأعلى حتى تُحسِن شكر الوالدين، وهما السبب الثاني في وجودك.

فقوله سبحانه: } أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ { [لقمان: 14] أي: على الإيجاد، لكن في موضع آخر:{ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً }[الإسراء: 24] وهذه للإيجاد وللتربية وللرعاية، فكما أن هناك أبوةً للإيجاد هناك أبوة للتربية، فكثيراً ما نجد الطفل يريبه غير أبيه وغير أمه، ولا بُدَّ أنْ يكون لهؤلاء نصيب من الشكر ومن الولاء والبرِّ ما دام أن الله تعالى ذكرهم في العلة{ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً }[الإسراء: 24]

والعلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً، فإذا لم يكُنْ للأب الحقيقي وجود، فالأبوة لمن ربَّى، وله نفس حقوق الأب من حيث الشكْر والبر والمودة، بل ينبغي أن يكون حقُّه مضاعفاً؛ لأن في الأب الحقيقي عطف البُضع على البُضع، وفي الأب المربِّي عطف الدين على الدين، وهذه مسألة أخرى غير مجرد الأبوة.

لكن، هل شكر الله أولاً دُرْبة على أنْ تشكر الوالدين، وهما السبب المباشر في وجودك؟ أم أن شكرَ الوالدين دربةٌ على أن تشكر الله الذي خلقك وأوجدك؟ نقول: هما معاً، فشُكْر الله يستلزم شكْر الوالدين، وشكر الوالدين ينتهي إلى شُكْر الله.

وقوله: } إِلَيَّ الْمَصِيرُ { [لقمان: 14] أي: المرجع، والمعنى: أنني أوصيك بأهم شيء فاحذر أنْ تخالف وصيتي؛ لأنني أقدر على أنْ أعاقب مَنْ خالف.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىا أَن... {.

(/3408)

وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)

يؤكد الحق سبحانه على أمر الوالدين، وكأنه سبحانه استدرك غير مُستدَرك، فليس لأحد أنْ يستدرك على الله، وكأن واحداً كان يناقش رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الوالدين وما نزل في شأنهما، فسأل: كيف لو أمراني بالكفر، أأكفر طاعة لهما؟ لذلك جاء الحكم من الله في هذه المسألة.

وفي آية العنكبوت:{ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }[العنكبوت: 8]

فذكر فيها (حُسنْاً) ولم يقل فيها { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً } [لقمان: 15] فكأن كلمة الحُسْن، وهي الوصف الجامع لكلِّ مدلولات الحُسْن أغنتْ عن المصاحبة بالمعروف.

ومعنى { جَاهَدَاكَ.. } [لقمان: 15] نقول: جاهد وجهد، جهد أي في نفسه، أما جهاد ففيها مفاعلة مع الغير، نقول: جاهد فلان فلاناً مثل قاتل، فهي تدل على المشاركة في الفعل، كما لو قلت: شارك عمرو زيداً، فكل منهما فاعل، وكل منهما مفعول، لكن تغلب الفاعلية في واحد، والمفعولية في الآخر.

فمعنى { وَإِن جَاهَدَاكَ.. } [لقمان: 15] لا تعني مجرد كلمة عَرَضَا فيها عليك أن تشرك بالله، إنما حدث منهما مجهود ومحاولات لجذبك إلى مجاراتها في الشرك بالله، فإن حدث منهما ذلك فنصيحتي لك { فَلاَ تُطِعْهُمَا.. } [لقمان: 15]

ثم إياك أنْ تتخذ من كفرهما ودعوتهما لك إلى الكفر سبباً في اللدد معهما، أو قطع الرحم، فحتى مع الكفر يكون لهما حق عليك { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً.. } [لقمان: 15] ثم إنهما كفرا بي أنا، وأنا الذي أوصيك بهما معروفاً.

وقوله تعالى: { وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ.. } [لقمان: 15] أي: لن تكون وحدك، إنما سبقك أُنَاسٌ قبلك تابوا وأنابوا فكُنْ معهم { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ.. } [لقمان: 15] أي: مأواكم جميعاً.

قالوا: إن هذه الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص، الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خالي سعد، فليُرني امرؤ خاله " ولما أسلم سعد غضبت أمه - وكانت شديدة الحب له فكادت تُجَنُّ وحلفتْ لا تأكل ولا تشرب ولا تغتسل، وأنْ تتعرَّى في حَرَّ الشمس حتى يرجع دينه، فلما علم سعد بذلك قال: دعوها والله لو عضَّها الجوع لأكلتْ، ولو عضَّها العطش لشربتْ، ولو أذاها القمل لاغتسلتْ، أما أنا فلن أحيد عن الدين الذي أنا عليه، فنزلا: { وَإِن جَاهَدَاكَ.. } [لقمان: 15]

ولو أن الذي يكفر بالله ويريد لغير من المؤمنين أنْ يكفر معه كابن أو غيره، ثم يرى وصية الله به رغم كفره لعلم إن الله تعالى رب رحيم لا يستحق منه هذا الجحود.

وسبق أن ذكرنا الحديث القدسي الذي قالت فيه الأرض:

" رب ائذن لي أن أخسف بابن آدم، فقد طعم خيرك ومنع شكرك وقالت السماء: رب ائذن لي أن أسقط كسَفاً على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك، وقالت البحار: يا رب ائذن لي أن أُغرق ابن آدم فقد طعم خيرك، ومنع شكرك..الخ، فقال الحق تبارك وتعالى: لو خلقتموهم لرحمتموهم ".

ذلك لأنهم عباد الله وصَنْعته، وهل رأيتم صاحب صنعة يُحطِّم صنعته، وجاء في الحديث النبوي: " الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره، وقد أضله في أرض فلاة ".

إذن: فنِعْمَ الرب هو.

ويُروى أن سيدنا إبراهيم - عليه السلام - جاءه ضيف، فرأى أن سَمْته غير سَمْت المؤمنين، فسأله عن دينه فقال: إنه من عُبَّاد النار، فردَّ إبراهيم الباب في وجهه، فانصرف الرجل، فعاتب الله نبيه إبراهيم في شأن هذا الرجل فقال: يا إبراهيم، تريد أن تصرفه عن دينه لضيافة ليلة، وقد وَسِعْتُه طوال عمره، وهو كافر بي؟

فأسرع إبراهيم خلف الرجل حتى لحق به، وأخبره بما كان من عتاب الله له، فقال الرجل: نِعْم الرب ربٌّ يعاتب أحبابه في أعدائه، ثم شهد ألاَّ إله إلا الله.

فلو أن الكافر الذي يريد الكفر لغيره يعرف أن الله يوصي به وهو كافر، ويُرقِّق له القلوب لَعاد إلى ساحة الإيمان بالله؛ لذلك كثيراً ما نقابل أصحاب ديانات أخرى يعشقون الإسلام فيختارونه، فيغضب عليهم أهلهم فنقول للواحد منهم: كُنْ في دينك الجديد أبرَّ بهم من دينك القديم، ليعلموا محاسن دينك، فضاعف لهم البر، وضاعف لهم المعروف، لعل ذلك يُرقِّق قلوبهم ويعطفهم نحو دينك.

وتأمل عظمة الأسلوب في } وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً.. { [لقمان: 15] فلم يقل مثلاً أعطهم معروفاً، إنما جعل المعروف مصاحبة تقتضي متابعتهما وتفقُّد شأنهما، بحيث يعرف الابن حاجة أبويْه، ويعطيهما قبل أنْ يسألا، فلا يلجئهما إلى ذُلِّ السؤال، وهذا في ذاته إحسان آخر.

كالرجل الذي طرق بابه صديق له، فلما فتح له الباب أسرَّ له الصديق بشيء فدخل الرجل وأعطى صديقه ما طلب، ثم دخل بيته يبكي فسألته زوجته: لم تبكي وقد وصلْته؟ فقال: أبكي لأنني لم أتفقد حاله فأعطيه قبل أن يذَّل نفسه بالسؤال.

والحق - تبارك وتعالى - حين يقول بعد الوصية بالوالدين: } إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ { [لقمان: 15] إنما لينبهنا أن البرَّ بالوالدين ومصاحبتهما بالمعروف لم يُنسى لك ذلك، إنما سيُكتب لك، وسيكون في ميزانك؛ لأنك أطعتَ تكليفي وأمري، وأدَّيْتَ، فلك الجزاء لأنك عملتَ عملاً إيمانياً لا بُدَّ أن تُثاب عليه.

(/3409)

يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)

{ يابُنَيَّ.. } [لقمان: 16] نداء أيضاً للتطلف والترقيق { إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ.. } [لقمان: 16] يريد لقمان أن يدل ولده على صفة من صفات الحق سبحانه، هي صفة العلم المطلق الذي لا تخفى عليه خافية، وكأنه يقول له: إياك أن تظن أن ما يخفى على الناس يخفى على الله تعالى{ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ }[الملك: 14]

وكما ان الله تعالى لا يخفى عليه مثقال حبة من خردل، حتى إن كانت في باطن صخرة، أو في السماوات، أو في الأرض، كذلك لا تخفى عليه حسنة ولا سيئة مهما دَقَّتْ، ومهما حاول صاحبها إخفاءها.

وقلنا: إن المستشرقين وقفوا عند مسألة علم الله الخفي بخفايا خَلْقه، وعند قوله تعالى:{ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ }[الأنبياء: 110] يقولون: الله يمتنُّ بعلم ما نكْتُم، فكيف يمتنُّ بعلم الجهر، وهو معلوم للجميع؟

ونقول: الحق سبحانه في قوله:{ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ }[الأنبياء: 110] لا يخاطب فرداً، إنما يخاطب جماعة، فهو يعلم جَهْر الجماعة في وقت واحد، ومثَّلْنا لذلك بمظاهرة مثلاً، فيها الآلاف من البشر يهتفون بأصوات مختلفة وشعارات شتى، منها ما يعاقب عليه القانون، فهل تستطيع مع اختلاط الأصوات وتداخلها أن تُميِّز بينها، وتُرجع كل كلمة إلى صاحبها؟

إنك لا تستطيع، مع أن هذا جهر يسمعه الجميع، أما الحق - تبارك وتعالى - فيعلم كل كلمة، ويعلم مَنْ نطق بها ويردّ كل لفظ إلى صاحبه. إذن: من حقه تعالى أن يمتنَّ بعلم الجهر، بل إن عِلْم الجهر أعظم من علْم السرِّ وأبلغ.

وقوله تعالى{ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ.. }[لقمان: 16] أي: وزن حبة الخردل، وكانت أصغر شيء وقتها، فجعلوها وحدة قياس للقلة، وليس لك الآن أن تقول: وهل حبة الخردل أصغر شيء في الوجود؟ فالقرآن ذكرها مثالاً للصِّغَر على قدر معرفة الناس بالأشياء عند نزوله، أما من حيث التحقيق فقد ذكر القرآن الذرة والأقلَّ منها.

لذلك لما اخترعوا في ألمانيا أسطوانة تحطيم الجوهر الفرد (أي الجزء الذي لا يتجزأ)، واستطاعوا تفتيت الذرة، ظنوا أن في هذه العملية مأخذاً على القرآن، فقد ذكر القرآن الذرة، وجعلها مقياساً دينياً في قوله تعالى:{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }[الزلزلة: 7-8] لكن لم يذكر الأقلَّ منها، ومعلوم أن الجزء أصغر من كله.

ونقول: قرأتم شيئاً وغابت عنكم أشياء، ولو كان لديكم إلمام بكلام الله لعلمتم أن فيه احتياطاً لما توصلتم إليه، ولما ستتوصلون إليه فيما بعد، واقرأوا إن شئتم قول الله تعالى عن الذرة:{ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذالِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }

[يونس: 61]

بل نقول: إن الاحتياط هنا احتياط مركب، فلم يقل صغير إنما قال (أصغر) وهذا يدل على وجود رصيد في كلام الله لكل مُفتّت من الذرة.

وقوله: } فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ.. { [لقمان: 16] } فِي صَخْرَةٍ.. { [لقمان: 16] أي: على حبكة الوجود، وفي أضيق مكان } أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ.. { [لقمان: 16] يعني: في المتسع الذي لا حدود له، فلا في الضيق المحكم، ولا في المتسع يخفى على الله شيء } يَأْتِ بِهَا اللَّهُ.. { [لقمان: 16] واستصحب حيثيات الإتيان بها بوصفين لله تعالى: } إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ { [لقمان: 16]

وجمع بين هاتين الصفتين؛ لأنك قد تكون خبيراً بالشيء عالماً بمكانه، لكنك لا تستطيع الوصول إليه، كأنْ يكون في مكان ضيق لا تنفذ إليه يدك، وعندها تستعين بآلة دقيقة كالملقاط مثلاً، فالخبرة موجودة، لكن ينقصك اللطف في الدخول.

والحق - سبحانه وتعالى - لطيف، فمهما صَغُرت الأشياء ودقَّتْ يصل إليها، فهو إذن عليم خبير بكل شيء مهما صغر، قادر على الإتيان به مهما دقَّ؛ لأنه لطيف لا يمنعه مانع، فصفة اللطف هذه للتغلغل في الأشياء.

ونحن نعلم أن الشيء كلما دقَّ ولَطُف كان أعنف حتى في المخلوقات الضارة، وسبق أن أوضحنا هذه المسألة بمَنْ بنى بيتاً في الخلاء، وأراد أنْ يؤمِّن نوافذه من الحيوانات والحشرات الضارة، فوضع على النوافذ شبكة من الحديد تمنع اللصوص والحيوانات الكبيرة، ثم تذكّر الفئران والثعابين قضيّق الحديد، ثم تذكّر الذباب والناموس فاحتاج إلى شيء أضيق وأدقّ، إذن: كلما كان عدوك لطيفاً دقيقاً كان أعنف، واحتاج إلى احتياط أكثر.

فقوله تعالى } إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ { [لقمان:16] يعني: لا يعوزه علم بالمكان، ولا سهولة ويُسْر في الوصول إلى الأشياء.

كانت هذه بعض وصايا لقمان ومواعظه لولده، ولم يأمره حتى الآن بشيء من التكاليف، إنما حرص أنْ يُنبه: أنك قد آمنت بالله وبلغَك منهجه واستمعت إليه، فأطع ذلك المنهج في افعل ولا تفعل، لكن قبل أنْ تباشر منهج ربك في سلوكك اعلم أنك تتعامل مع إله قيوم، لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يغيب عنه شيء، فادخل على المنهج بهذا الاعتقاد.

وإياك أنْ تتغلَّب عليك شبهة أنك لا ترى الله، فإنك إنْ لم تكُنْ تراه فإنه يراك، واعلم أن عملك محسوب عليك، وإنْ كان في صخرة صماء ضيقة، أو في سماء، أو في أرض شاسعة.

ويؤكد هذه المسألة قوله تعالى في الحديث القدسي: " يا عبادي: إنْ كنتم تعتقدون أني لا أراكم فالخلل في إيمانكم، وإنْ كنتم تعتقدون أنِّي أراكم، فَلِمَ جعلتموني أهونَ الناظرين إليكم؟ ".

بعد ذلك يدخل لقمان في وعظه لولده مجال التكليف، فيقول له: } يابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ... {.

(/3410)

يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)

هذه مسائل أربع بدأها لقمان بإقامة الصلاة، والصلاة هي الركن الأول بعد أنْ تشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وعلمنا أن الصلاة لأهميتها فُرِضت بالمباشرة، ولأهميتها جُعلِت ملازمة للمؤمن لا تسقط عنه بحال، أما بقية الأركان فقد تسقط عنك لسبب أو لآخر، كالصوم والزكاة والحج، فإذا سقطت عنك هذه الأركان لم يَبْق معك إلا الشهادتان والصلاة؛ لذلك جعلها النبي صلى الله عليه وسلم عماد الدين.

ولذلك بدأ بها لقمان: { يابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ.. } [لقمان: 17] لأنها استدامة إعلان الولاء لله تعالى خمس مرات في اليوم والليلة، فحين يناديك ربك (الله أكبر) فلا ينبغي أن تنشغل بمخلوق عن نداء الخالق، وإلا فما موقف الأب مثلاً حين ينادي ولده فلا يجيبه؟ فاحذر إذا ناداك ربك ألا تجيب.

ثم تأمل النداء للصلاة الذي اهتدتْ إليه الفطرة البشرية السليمة، وأقرّه سيدنا رسول الله: الله أكبر الله أكبر، يعني أكبر من كل ما يشغلك عنه، فإياك أن تعتذر بالعمل في زراعة أو صناعة أو تجارة عن إقامة الصلاة.

وقد ناقشتُ أحد أطباء الجراحة في هذه المسألة، فقال: كيف أترك عملية جراحية من أجل الصلاة؟ فقلت له: بالله لو اضطررتَ لقضاء الحاجة تذهب أم لا؟ فضحك وقال: أذهب، فقلت: فالصلاة أوْلَى، ولا تعتقد أن الله تعالى يكلِّف العبد تكليفاً، ثم يضنّ عليه باتساع الزمن له، بدليل أنه تعالى يراعي وقت العبد ومصالحه وإمكاناته، ففي السفر مثلاً يشرع لك الجمع والقصر.

فبإمكانك أنْ تُوفِّق صلاتك حسب وقتك المتاح لك، إما بجمع التقديم أو التأخير، وكم يتسع وقتك ويخلو من مشغولية العبادة إذا جمعتَ الظهر والعصر جمْعَ تقديم، والمغرب والعشاء جَمْع تأخير في آخر وقت العشاء؟ أو حين تجمع الظهر والعصر جمعَ تأخير، فتصليهما قبل المغرب، ثم تصلي المغرب والعشاء جمع تقديم؟

إذن: المسألة فيها سِعَة، ولا حجةَ لأحد في تَرْك الصلاة بالذات، أما الذين يقولون في مثل هذه الأمور{ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا... }[البقرة: 286] وأن هذا ليس في وُسْعي.. فنقول لهم: لا ينبغي أنْ تجعل وُسْعك هو الحكم، إنما التكليف هو الحكم في الوُسْع، وما دام ربك - عز وجل - قد كلَّفك فقد علم سبحانه وُسْعْك وكلّفك على قدره بدليل ما شرعه لك من رُخَص إذا خرجتْ العبادة عن الوُسْع.

وقال { أَقِمِ الصَّلاَةَ.. } [لقمان: 17] لأن الصلاة أول اكتمال في الإجماع لمنهج الله، وبها يكتمل إيمان الإنسان في ذاته، وسبق أن قلنا: إن هناك فرقاً بين أركان الإسلام وأركان المسلم، أركان الإسلام هي الخمس المعروفة، أمَّا أركان المسلم فهي الملازمة له التي لا تسقط عنه بحال، وهي الشهادتان والصلاة، وإنْ كان على المسلم أنْ يؤمن بها جميعاً، لكن في العمل قد تسقط عنه عدا الصلاة والشهادتين.

ثم يبين لقمان لولده: أن الإيمان لا يقف عند حدِّ الاستجابة لهذين الركنين الأساسيين، إنما من الإيمان ومن كمال الإيمان أنْ تحب لأخيك ما تحب لنفسك، فيقول له: } وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ.. { [لقمان: 17] فانشغل بعد كمالك بإقامة الصلاة، بأنْ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فبالصلاة كَمُلْتَ في ذاتك، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنقل الكمال إلى الغير، وفي ذلك كمال الإيمان.

وأنت حين تأمر بالمعروف، وحين تنهي عن المنكر لا تظن أنك تتصدَّق على الآخرين، إنما تؤدي عملاً يعود نفعه عليك، فبه تجد سعة الراحة في الإيمان، وتجد الطمأنينة والراحة الذاتية؛ لأنك أديْتَ التكاليف في حين قصرَّ غيرك وتخاذل.

ولا شك أن في التزام غيرك وفي سيره على منهج الله راحة لك أنت أيضاً، وإلا فالمجتمع كله يَشْقى بهذه الفئة القليلة الخارجة عن منهج الله.

ومن إعزاز العلم أنك لا تنتفع به الانتفاع الكامل إلا إذا عدَّيْته للغير، فإنْ كتمته انتفع الآخرون بخيرك، وشقيتَ أنت بشرّهم. إذن: لا تنتفع بخير غيرك إلا حين تؤدي هذه الفريضة، فتأمر غيرك بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، وتحب لهم ما تحب لنفسك، وبذلك تنال الحظين، حظك عند الله لأنك أديْتَ، وحظك عند الناس لأنك في مجتمع متكامل الإيمان ينفعك ولا يضرك.

ولك هذا أن تلحظ أن هذه الآية لم تقرن إقامة الصلاة بإيتاء الزكاة كعادة الآيات، فغالباً ما نقرأ:{ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ... }[البقرة: 43]

وحين نستقرئ كلمة الزكاة في القرآن الكريم نجد أنها وردت اثنتين وثلاثين مرة، اثنتان منها ليستا في معنى زكاة المال المعروفة النماء العام إنما بمعنى التطهر، وذلك في قوله تعالى في قصة الخضر وموسى عليه السلام:{ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ... }[الكهف: 74]

ثم قوله تعالى:{ فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَـاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً }[الكهف: 81]

والمعنى: طهرناهم حينما رفعنا عنهم باباً من أبواب الفتنة في دين الله.

والموضع الآخر في قوله تعالى:{ وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً }[مريم: 13] فالمعنى: وهبنا لمريم شيئاً نُزكيها به؛ ذلك لأن الزكاة أول ما تتعدى تتعدَّى من واجد لمعدم، ومريم لم تتزوج فهي مُعْدَمة في هذه الناحية؛ لذلك وهبها الله النماء الخاص من ناحية أخرى حين نفخ فيها الروح من عنده تعالى.

وفي موضع واحد، جاءت الزكاة بمعنى زكاة المال، لكن غير مقرونة بالصلاة، وذلك في قوله تعالى:{ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ }[الروم: 39]

وفي هذه الآية قال لقمان لولده: } يابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ.. { [لقمان: 17] ولم يقل: وآتِ الزكاة، فلماذا؟

ينبغي أن نشير إلى أن القرآن جمع بين الصلاة والزكاة؛ لأن الصلاة فيها تضحية بالوقت، والوقت زمن العمل، والعمل وسيلة الكسب والمال، إذن؛ ساعة تصلي فقد ضحيْتَ بالوقت الذي هو أصل المال، فكأن في الصلاة تصدقت بمائة في المائة من المال المكتسب في هذا الوقت، أمّا في الزكاة فأنت تتصدَّق بالعُشْر، أو نصف العشر، أو رُبْع العشر، ويبقى لك معظم كسبك، فالواقع أن الزكاة في الصلاة أكبر وأبلغ من الزكاة نفسها.

إذن: لما كانت الزكاة في كل منهما، قرن القرآن بينهما إلا في هذا الموضع، ولما تتأمله تجده من دقائق الأسلوب القرآني، فالقرآن يحكي هذه الوصايا عن لقمان لولده، ولنا فيه ملحظان:

الأول: أن الله تعالى لم يكلِّف العبد إلا بعد سِنِّ البلوغ إلا في الصلاة، وجعل هذا التكليف مُوجهاً إلى الوالد أو ولي الأمر، فأنابه أن يكلف ولده بالصلاة، وأن يعاقبه إنْ أهمل في أدائها، ذلك ليربي عند ولده الدُّرْبة على الصلاة، بحيث يأتي سِنّ التكليف، وقد ألفَها الولد وتعوَّد عليها، فهي عبادة تحتاج في البداية إلى مران وأخذ وردَّ، وهذا أنسب للسنَّ المبكرة.

والوالد يُكلف ولده على اعتبار أنه الموجد الثاني له، والسبب المباشر في وجوده، وكأن الله تعالى يقول: أنا الموجد لكم جميعاً وقد وكَّلتُك في أنْ تكلِّف ولدك؛ لأن معروفك ظاهر عنده، وأياديك عليه كثيرة، فأنت القائم بمصالحه المُلَبِّي لرغباته، فإنْ أمرته قَبِل منك واطاعك، فهي طاعة بثمنها.

وطالما وكلتك في التكليف فطبيعي أنْ أُوكِّلك في العقوبة، فإنْ حدث تقصير في هذه المسألة فالمخالفة منك، لا من الولد؛ لأنني لم أُكلِّفه إنما كلَّفْتُك أنت.

لذلك بدأ لقمان أوامره لولده بإقامة الصلاة، لأنه مُكلَّف بهذا الأمر، فولده ما يزال صغيراً بدليل قوله } يابُنَيَّ.. { [لقمان: 17] فالتكليف هنا من الوالد، فإنْ كان الولد بالغاً حال هذا الأمر فالمعنى: لاحظ التكليف من الله بإقامة الصلاة.

أما الزكاة، وهي تكليف من الله أيضاً فلم يذكرها هنا - وهذه من حكمة لقمان ودقَّة تعبيره، وقد حكاها لنا القرآن الكريم لنأخذ منها مبادئ نعيش بها.

ثانياً: إنْ كلَّفه بالزكاة فقال: أقم الصلاة وآتِ الزكاة فقد أثبت لولده ملكية، ومعروف أن الولد لا ملكيةَ له في وجود والده، بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " أنت ومالك لأبيك " وذكرنا أن لقمان لما علم بموت أبيه قال: إذن ملكتُ أمري فأمره ليس مِلْكاً له في حياة أبيه؛ لذلك لم يأمر ولده بالزكاة، فالزكاة في ذمته هو، لا في ذمة ولده.

وتتأكد لدينا هذه المسألة حين نقرأ قول الله تعالى:{ لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَىا حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَىا أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ }

[النور: 61]

فالله تعالى رفع عنَّا الحرج أنْ نأكل من هذه البيوت، ونلحظ أن الآية ذكرتْ الأقارب عدا الأبناء، وكان الترتيب المنطقي أن يقول بعد أمهاتكم: أو بيوت أبنائكم، فلماذا لم يذكر هنا بيوت الأبناء؟ قالوا: لأنها داخلة في قوله: بيوتكم، فبيت الابن هو بيت الأب، والولد وما ملكتْ يداه مِلْكٌ لأبيه.

ثم يقول لقمان لولده: } وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ أَصَابَكَ.. { [لقمان: 17] الصبر: حَمْل النفس على التجلُّد للأحداث، حتى لا تعينَ الأحداث على نفسك بالجزع، فأنت أمام الأحداث تحتاج إلى قوة مضاعفة، فكيف تُضعِف نفسك أمامها؟

والمصيبة تقع إما لك فيها غريم، أو ليس لك فيها غريم، فالذي يسقط مثلاً، فتنكسر ساقه، أو الذي يفاجئه المرض..الخ هذه أقدار ساقها الله إليك بلا سبب فلا غريم لك فيها؛ لذلك يجعلها في ميزامك:إما أنْ يعلي بها درجاتك، وإما أنْ يُكفِّر بها سيئاتك؛ لذلك كان الكفار بفرحون إذا أصاب المسلمين مصيبة، كما فرحوا يوم أُحُد، وقد ردَّ الله عليهم وبيَّن غباءهم، وقال سبحانه:{ قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا... }[التوبة: 51]وتأمل الجار والمجرور (لنا) ولم يقُلْ كتب علينا، إذن: فالمعصية في حساب (له) لا (عليه) فلماذا تفرحون في المصيبة تقع بالمسلمين؟

وأوصى بالصبر بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الذي يتعرض لهذين الأمرين لا بُدَّ أن يصيبه سوء من جراء أمره بالمعروف أو نَهْيه عن المنكر، فإنْ تعرضتْ للإيذاء فاصبر؛ لأن هذا الصبر يعطيك جزاءً واسعاً.

وتغيير المنكر له مراحل وضحها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " مَنْ رأى منكم منكراً فليُغيِّره بيده، فإنْ لم يستطع فبلسانه، فإنْ لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ".

فالله أمرك أنْ تُغيِّر المنكر، لكن جعل لك تقدير المسألة ومدى إمكانك فيها، فالدين يريدك مُصلحاً لكن لا يريد أنْ تلقى بنفسك إلى التهلكة، فلك أنْ تُغيِّر المنكر بيدكَ فتضرب وتمنع إذا كان لك ولاية على صاحب المنكر، كأن يكون ولدك أو أخاك.. إلخ.

فلك أن تضربه مثلاً إنْ رأيتَ سيجارة في فمه، أو أنْ تكسر له كأس الخمر إنْ شربها أو تمزق له مثلاً ورق " الكوتشينة " ، فإنْ لم تكُنْ لك هذه الاستطاعة فيكفي أنْ تُغيِّر بلسانك إنْ كانت لديك الكلمة الطيبة التي تداوي دون أن تجرح الآخرين، ودون أنْ يؤدي النصح إلى فتنة، فيكون ضرره أكثر من نفعه.

فإنْ لم يكُنْ في استطاعتك هذه أيضاً، فليكُنْ تغيير المنكر بالقلب، فإنْ رأيتَ منكراً لا تملك إلا أنَّ تقول: اللهم إنَّ هذا منكر لا يرضيك لكن أيُعَدُّ عمل القلب تغييراً للمنكر وأنت مطالب بأنْ تُغيِّره بيدك يعني: إلى ضده؟ وهل هذه الكلمة تغير من الواقع شيئاً؟

قالوا: لا يحدث التغيير بالقلب إلا إذا كان القالب تابعاً للقلب، فالقلب يشهد أنَّ هذا منكر لا يُرضي الله، والقالب يساند حتى لا تكون منافقاً، فأنت أنكرتَ عليه الفعل، ولا استطاعة لك على أنْ تمنعه، ولا أن تنصحه، فلا أقلَّ من أنْ تعزله عن حياتك وتقاطعه، وإلاَّ فكيف تُغيِّر بقلبك إنْ أنكرتَ عليه فعله وأبقيتَ على وُدِّه ومعاملته؟

إذن: لا يكون التغيير بالقلب إلا إذا أحسَّ صاحب المنكر أنه في عزلة، فلا تهنئه في فرح، ولا تعزيه في حزن، وإنْ كنتَ صاحب تجارة، فلا تَبِعْ له ولا تشتر منه.

.الخ.

وما استشرى الباطل وتَبجح أهل الفساد وأهل المنكر إلا لأن الناس يحترمونهم ويعاملونهم على هذه الحال، بل ربما زاد احترام الناس لهم خوفاً من باطلهم ومن ظلمهم.

فالتغيير بالقلب ليس كلمة تقال إنما فعل وموقف، وقد علَّمنا ربنا - تبارك وتعالى - هذه القضية في قوله سبحانه:{ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّىا يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً }[النساء: 140]

ويقول سبحانه في آية أخرى:{ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىا يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }[الأنعام: 68]

والنبي صلى الله عليه وسلم في قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا بغير عذر في غزوة تبوك، يُعلِّمنا كيف نعزل أصحاب المنكر، لا بأن نعزلهم في زنزانة كما نفعل الآن، إنما بأن نعزل المجتمع عنهم، ليس المجتمع العام فحسب، بل عن المجتمع الخاص، وعن أقرب الناس إليه.

وقد تخلف عن هذه الغزوة عدة رجال اعتذروا لرسول الله فقَبِل علانيتهم وترك سرائرهم لله، لكن هؤلاء الثلاثة لم يجدوا لأنفسهم عذراً، ورأوا أنهم لا يستطعيون أنْ يكذبوا على رسول الله، ولم يحبسهم الرسول، إنما حبس المجتمع عنهم حتى الأقارب، فكان الواحد منهم يمشي و (يتمحك) في الناس ليكلمه أحد منهم، فلا يكلمه أحد، وكعب بن مالك يتسوَّر على ابن عمه الحديقة، ويقول له: تعلم أني أحب الله ورسوله فلا يجيبه، ويصلي بجوار الرسول يلتمس أنْ ينظر إليه، فلا ينظر إليه.

ولما نجحت هذه المقاطعة على هذا المستوى أعلاها الشرع وتسلسل بها إلى الخصوصيات في البيت، فعزل هؤلاء الثلاثة عن زوجاتهم، فأمر كلاً منهن ألاَّ يقربها زوجها إلى أن يحكم الله في أمرهم، حتى أن واحدة من هؤلاء جاءت لرسول الله وقالت: يا رسول الله، إن زوجي رجل كهدبة الثوب (يعني: ليست له رغبة في أمر النساء) فأذن لها رسول الله في أن تخدمه على ألاَّ يقربها.

ظل هؤلاء الثلاثة ثلاثين يوماً في هذا الامتحان العام وعشرة أيام في الامتحان الخاص، ونجح المجتمع العام، ونجح المجتمع الخاص، وهكذا علَّمنا الشرع كيف نعزل أصحاب المنكر وأهل الجريمة، فعزل المجتمع عنهم أبلغ من عزلهم عن المجتمع، لذلك كان وَقْع هذه العزلة قاسياً على هؤلاء.

فهذا كعب بن مالك يحكي قصته ويقول: لقد ضاقت بي الأرض على سعتها، والحق يقول في وصف حالهم:{ حَتَّىا إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }[التوبة: 118]

فلما استوى المجتمع العام والمجتمع الخاص على منهج الله فرَّج الله عن هؤلاء الثلاثة، ونزل قوله تعالى:{ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }[التوبة: 118]

فأسرع أحدهم يبشر كعباً بهذه البشرى فطار كعب فرحاً بها، وقال: فوالله ما ملكتُ أنْ أخلع عليه ثيابي كلها، ثم أستعير ثياباً أذهب بها إلى رسول الله.

إذن: ينبغي أن نعزل المجتمع كله عن أصحاب المنكر، لا أن نعزلهم هم في السجون، لكن مَنْ يضمن لنا استقامة المجتمع في تنفيذ هذه العزلة كما نفذها المجتمع المسلم على عهد رسول الله؟

نعود إلى ما كنا نتحدث عنه من أن المصيبة إذا كانت قدراً من الله ليس لك فيها غريم، فإن الصبر عليها هيِّن، فالأمر بينك وبين ربك، أما إنْ كان لك في المصيبة غريم كأن يعتدي عليك أحد فيحرق زرعك أو يقتل ولدك، فهذه تحتاج إلى صبر أشد، فكلما رأيتَ غريمك هاجتْ نفسك وغلى الدم في عروقك، فيحتاج إلى طاقة أكبر ليحمل نفسه على الصبر.

لذلك يقول سبحانه في هذه المسألة:{ وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }[الشورى: 43] فأكَّدها باللام؛ لأنها تحتاج إلى طاقة أكبر من الصبر وضبط النفس حتى لا تتعدى كلما رأيت الغريم، وهذا من المواضع التي وقف عندها المستشرقون يلتمسون فيها مأخذاً على كلام الله.

يقولون: ما الفرق بين قول القرآن } إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ { [لقمان: 17] وقوله:{ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ }[الشورى: 43]

ثم أيهما أبلغ من الأخرى، فإنْ كانت الأولى بليغة فالأخرى غير بليغة.

ونقول في الرد عليهم: كل من الآيتين بليغة في سياقها، فالتي أُكِّدت باللام جاءت في المصيبة التي لك فيها غريم وتحتاج إلى صبر أكبر، أما الأخرى ففي المصيبة التي ليس لك فيها غريم، فهي بينك وبين ربك، والصبر عليها هيِّن يسير.

لذلك، فالحق سبحانه يعالج هذه المسألة ليُصفِّي النفس ويمنع ثورتها، فيقول:{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا }[الشورى: 40] لتقف النفس عند حدِّ الرد بالمثل، ثم يُرقِّى المسألة، ويفتح باباً للعفو:

{ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ... }[الشورى: 40] وقال في موضع آخر:{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ }[النحل: 126]

فحين يبيح لك ربك أنْ تأخذ بحقك تهدأ نفسك، وربما تتنازل عن هذا الحق بعد أن أصبح في يدك؛ لذلك كثيراً ما نرى - خاصة في صعيد مصر حيث توجد عادة الأخذ بالثأر - القاتل يأخذ كفنه على يديه، ويدخل به على ولي الدم، ويُسلِّم نفسه إليه، وعندها لا يملك ولي الدم إلا أن يعفو.

حتى في مسألة القتل والقصاص يجعل الحق سبحانه مجالاً لترقية النفس البشرية وأريحيتها، بل ويُسمِّي الطرفين إخوة في قوله تعالى:{ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ... }[البقرة: 178]

ففي هذا الجو وفي أثناء ما تسيل الدماء يُحدِّثنا ربنا عن العفو والإحسان والأخوة، ومعلوم أن هناك فَرْقاً بين أن تأخذ الحق، وبين أنْ تنفذ أخذ الحق بيدك.

فالله تعالى خالق النفس البشرية ويعلم ما جُبلَتْ عليه من الغرائز وما تُكِنّه من العواطف، وما يستقر فيها من القيم والمبادئ، لكنه - سبحانه وتعالى - لا يبني الحكم على ارتفاع المناهج في الإنسان، إنما على ضوء هذه الطبيعة التي خلقه عليها، فليس الخَلْق كلهم على درجة من الورع تدعوهم إلى العفو والصفح؛ لذلك أعطاك حقَّ الرد بالمثل على مَن اعتدى عليك{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا... }[الشورى: 40] وقال:{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ... }[النحل: 126]

ومع ذلك حين تتأمل هذه الآيات تجد أن تنفيذها من الصعوبة بمكان، فمَنْ لديه القدرة والمقاييس الدقيقة التي تُوقِفه عند حدِّ المثلية التي أمر الله بها؟

وسبق أنْ بيَّنا: أنه إذا اعتدى عليك شخص وضربك مثلاً، أتستطيع أنْ تضربه مثل ضربته لا تزيد عليها، لأنك إنْ زدتَ صرْتَ ظالماً، واقرأ بقية الآية:{ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ }[الشورى: 40]

وسبق أنْ ذكرنا قصة المرابي اليهودي الذي اتفق مع مدينه على أنْ يقطع من جسمه رطلاً، إذا لم يُؤدِّ في الموعد المحدد، وفعلاً جاء موعد السداد، ولم يَف المدين، فرفع اليهودي أمره إلى القاضي وأخبره بشرطه - وكان القاضي مُوفَّقاً قد نوَّر الله بصيرته، فقال لليهودي: نعم لك حَقٌ في أن تُنفذ ما اتفقنا عليه، وسأعطيك السكين على أنْ تأخذ من المدين رطلاً من لحمه في ضربة واحدة، بشرط إذا زدتَ عنها أو نقصتَ أخذناه من لحمك.

وعندها انصرف اليهودي؛ لأن المثلية لا يمكن أن تتحقق، فكأن الله تعالى بهذا الشرط - شرط المثلية في الردِّ - يلفت انتباهك إلى أن العفو أوْلَى بك وأصلح.

إذن: يُحدِّثنا الحق - تبارك وتعالى - عن العفو وعن الإحسان في المصيبة التي لك فيها غريم، ويبين لنا أنك إذا أخذتَ حقك الذي قرره لك فقد أرحتَ نفسك، لكن حرمتها الأجر الذي تكفَّل الله لك به إنْ أنت عفوتَ.

وكأن الحق - تبارك وتعالى - يريد أنْ يولد من أسباب البغضاء أسباباً للولاء، فالذي كان من حقك أنْ تقتله ثم عفوتَ عنه أصبحت حياته مِلْكاً لك، فهل يفكر لك في سوء بعدها؟

لذلك يُعلِّمنا ربنا:{ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ }[فصلت: 34]

وأذكر أنني جاءني مَنْ يقول: والله أنا دفعتُ بالتي هي أحسن مع خصمي، فلم أجده ولياً حميماً كما قال الله تعالى، فقلت له: عليك أن تراجع نفسك؛ لأنك ظننتَ أنك دفعتَ بالتي هي أحسن، لكن الواقع غير ذلك، ولو دفعتَ بالتي هي أحسن لَصدق الله معك، ورأيت خَصْمك ولياً حميماً، إنما أنت تريد أنْ تُجرِّب مع الله والتجربة مع الله شكٌّ.

والنبي صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا أنْ نبقى على يقين التوكل سارياً دون أنْ نفكر كيف يحدث، وقصة الصحابية أم مالك شاهدَة على ذلك، فقد كان عندها غنم تحلب لبنها، فتصنع مما زاد عن حاجتها وحاجة أولادها زبداً، وكانت تهدي منه إلى رسول الله في عكة عندها، فكان أهل بيت رسول يُفرغون هذه العكة في آنيتهم، ثم يعيدونها إليها وهكذا.

حتى قالت أم مالك: والله ما أصبتُ إداماً إلا من هذه العكة، وكانت كلما احتاجت الإدام أفرغتْ العكة، فوجدت بها الإدام حتى بعد أن أفرغها أهل بيت الرسول، لكن خُيِّل لها في يوم من الأيام أنها أسرفت في استعمال هذه العكة، وظنت أن ما بها من إدام قد نفد، فأخذتها وعصرتها، فلم تجد فيها شيئاً، فظنت أن رسول الله غاضب منها، فذهبت إليه وقصَّتْ عليه هذه المسألة، فقال لها صلى الله عليه وسلم: " " أعَصريتها يا أم مالك؟ " فقالت: نعم يا رسول الله، فأخبرها أن التجربة مع الله شكٌّ وأنها لو لم تعصرها ولم تظن هذا الظن لبقيتْ العُكَّة على حالها " ، وكما تعودت منها.

وتلحظ أن كلمة (أصابك) والمصيبة تدل على أنها واقعة بك ولن تنجو منها؛ لأنها قدر أرسل إليك بالفعل، وسيصيبك لا محالة، والمسألة مسألة وقت إلى أنْ يصلك هذا السهم الذي أُطِلق عليك، فإياك أنْ تقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا، فما سُمِّيت المصيبة بهذا الاسم إلا لأنها صائبتك لا تستطيع أنْ تفرَّ منها. كما يقولون عن الموت: تأكد أنك ستموت، وعمرك بمقدار أنْ يصلك سهم الموت.

وكلمة } مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ { [لقمان: 17] نقول: فلان له عزم، ونسمع القرآن يقول:{ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ... }[آل عمران: 159] العزم: الفرض المقطوع به، والذي لا مناص عنه، ومنه ما جاء في قول لقمان لما خيَّره ربه بين أن يكون رسولاً أو حكيماً، فاختار الراحة وترك الابتلاء، لكنه قال: يارب إنْ كانت عزمة منك فسمعاً وطاعة، يعني: أمراً مفروضاً ينبغي ألاَّ نحيد عنه.

والعزم يعني شحن كل طاقات النفس للفعل والقطع به، فالصلاة على الميت مثلاً لا تُسمَّى عزيمة؛ لأنها فرض كفاية إنْ فعلها البعض سقطتْ عن الباقين، على خلاف الصلاة التامة في السفر مثلاً حيث يعتبرها الإمام أبو حنيفة عزيمة لا رخصة، فإن أتممت الصلاة في السفر أسأْت، عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يحب أن تؤتى عزائمه ".

والمعنى: لا ترد يد الله المبسوطة لك بالتيسير في الصلاة أثناء السفر.

ثم يعتمد في هذا الرأي على دليل آخر من علم الأصول هو أن الصلاة فُرضَتْ في الأصل مثنى مثنى، ثم أقرت في السفر وزيدت في الحضر. إذن: فصلاة السفر مع الأصل، فلو أتممتَ الصلاة في السفر أسأْتَ.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ... {.

(/3411)

وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)

معنى: تصعر من الصَّعَر، وهو في الأصل داء يصيب البعير يجعله يميل برقبته، ويشبه به الإنسان المتكبر الذي يميل بخدِّه، ويُعرض عن الناس تكبّراً، ونسمع في العامية يقولون للمتكبر (فلان ماشي لاوي رقبته).

فقول الله تعالى: { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ.. } [لقمان: 18] واختيار هذا التشبيه بالذات كأن الحق سبحانه يُنبِّهنا أن التكبُّر وتصعير الخدِّ داء، فهذا داء جسدي، وهذا داء خلقي. وقد تنبه الشاعر إلى هذا المعنى فقال:فَدَعْ كُلَّ طَاغِيةٍ للزَّمانِ فإنَّ الزمانَ يُقيم الصَّعَريعني: إذا لم يستطع أبناء الزمان تقويم صعر المتكبر، فدعْه للزمان فهو جدير بتقويمه، وكثيراً ما نرى نماذج لأناس تكبروا وتجبروا، وهم الآن لا يستطيع الواحد منهم قياماً أو قعوداً، بل لا يستطيع أنْ يذب الطير عن وجهه.

والإنسان عادة لا يتكبر إلا إذا شعر في نفسه بميزة عن الآخرين، بدليل أنه إذا رأى مَنْ هو أعلى منه انكسر وتواضع وقوَّم من صَعره، ومثَّلنا لذلك بـ (فتوة) الحارة الذي يجلس على القهوة مثلاً واضعاً قدماً على قدم، غير مُبَال بأحد، فإذا دخل عليه (فتوة) آخر أقوى منه تلقائياً يعتدل في جلسته.

وهذه المسألة تفسر لنا الحكمة التي تقول (اتق شر من أحسنت إليه) لماذا؟ لأن الذي أحسنتَ إليه مرتْ به فترة كان ضعيفاً محتاجاً وأنت قوي فأحسنتَ إليه، وقدَّمْتَ له المعروف الذي قوّم حياته فأصبح لك يَدٌ عليه، وكلما رآك ذكَّرته بفترة ضعفه، ثم إن الأيام دُوَل تدور بين الخَلْق، والضعيف يصبح قوياً ويحب أنْ يُعلي نفسه بين معارفه، لكنه لا بُدَّ أن يتواضع حينما يرى مَنْ أحسن إليه، وكأن وجود مَنْ أحسن إليه هو العقبة أمام عُلُوِّه وكبريائه؛ لذلك قبل: (اتق شر من أحسنت إليه).

ثم أن الذي يتكبر ينبغي أنْ يتكبَّر بشيء ذاتي فيه لا بشيء موهوب له، وإذا رأيتَ في نفسك ميزة عن الآخرين فانظر فيما تميزوا وهم به عليك، وساعة تنظر إلى الخَلْق والخالق تجد كل مخلوق لله جميلاً.

لذلك تروى قصة الجارية التي كانت تداعب سيدتها، وهي تزينها وتدعو لها بفارس الأحلام ابن الحلال، فقالت سيدتها: لكني مشفقة عليك؛ لأنك سوداء لم ينظر أحد إليك، فقالت الجارية: يا سيدتي، اذكري أن حُسْنك لا يظهر لأعين الناس إلا إذا رأوا قُبْحي - فالذي تراه أنت قبيحاً هو في ذاته جميل، لأنه يبدي جمال الله تعالى في طلاقة القدرة - ثم قالت: يا هذه، لا تغضبي الله بشيءٍ من هذا، أتعيبين النقش، أم تعيبين النقاش؟ ولو أدركت ما فيَّ من أمانة التناول لك في كل ما أكلف به وعدم أمانتك فيما يكلفك به أبوك لعلمت في أي شيء أنا جميلة.

ويقول الشاعر في هذا المعنى:فَالوَجْه مِثْلُ الصُّبْح مُبيضُّ والشَّعْر مثْل الليْل مُسْوَدُّضِدَّانِ لما اسْتجْمعَا حَسُناَ والضِّد يُظْهِر حُسْنَهُ الضِّدُّوالله تعالى يُعلِّمنا هذا الدرس في قوله تعالى:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىا أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىا أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ... }[الحجرات: 11]

فإذا رأيتَ إنساناً دونك في شيء ففتش في نفسك، وانظر، فلا بُدَّ أنه متميز عليك في شيء آخر، وبذلك يعتدل الميزان.

فالله تعالى وزَّع المواهب بين الخَلْق جميعاً، ولم يحابِ منهم أحداً على أحد، وكما قلنا: مجموع مواهب كل إنسان يساوي مجموع مواهب الآخر.

وسبق أن ذكرنا أن رجلاً قال للقمان: لقد عرفناك عبداً أسود غليظ الشفاه، تخدم فلاناً وترعى الغنم، فقال لقمان: نعم، لكني أحمل قلباً أبيض، ويخرج من بين شفتيَّ الغليظتين الكلام العذب الرقيق.

ويكفي لقمان فخراً أن الله تعالى ذكر كلامه، وحكاه في قرآنه وجعله خالداً يُتْلى ويُتعبَّد به، ويحفظه الله بحفظه لقرآنه.

ولنا مَلْحظ في قوله تعالى } وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ.. { [لقمان: 18] فكلمة للناس هنا لها مدخل، وكأن الله تعالى يقول لمن يُصعِّر خده؛ لا تَدْعُ الناس إلى العصيان والتمرد على أقدار الله بتكبُّرك عليهم وإظهار مزاياك وسَتْر مزاياهم، فقد تصادف قليلَ الإيمان الذي يتمرد على الله ويعترض على قدره فيه حينما يراك متكبراً متعالياً وهو حقير متواضع، فإنْ كنت محترف صَعَر و (كييف) تكبُّر، فليكُنْ ذلك بينك وبين نفسك، كأن تقف أمام المرآة مثلاً وتفعل ما يحلو لك مما يُشْبع عندك هذا الداء.

فكأن كلمة } لِلنَّاسِ.. { [لقمان: 18] تعني: أن الله تعالى يريد أنْ يمنع رؤية الناس لك على هذا الحال؛ لأنك قد تفتن الضعاف في دينهم وفي رضاهم عن ربهم.

ثم يقول لقمان: } وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً.. { [لقمان: 18] المرح هو الاختيال والتبختر، فربُّكَ لا يمنعك أنْ تمشي في الأرض، لكن يمنعك أنْ تمشي مِشيْة المتعالي على الناس، المختال بنفسه، والله تعالى يأمرنا:{ فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }[الملك: 15]

فالمشي في الأرض مطلوب، لكن بهيئة خاصة تمشي مَشْياً سوياً معتدلاً، فعمر - رضي الله عنه - رأى رجلاً يسير متماوتاً فنهره، وقال: ما هذا التماوت يا هذا ، وقد وهبك الله عافية، دَعْها لشيخوختك.

ورأى رجلاً يمشي مشية الشطار - يعني: قُطَّاع الطرق - فنهاه عن القفز أو الجري والإسراع في المشي.

إذن: المطلوب في المشي هيئة الاعتدال، لذلك سيأتي في قول لقمان:{ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ... }[لقمان: 19] يعني: لا تمشِ مشية المتهالك المتماوت، ولا تقفز قفز أهل الشر وقُطَّاع الطريق.

} إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ { [لقمان: 18] المختال: هو الذي وجد له مزية عند الناس، والفخور الذي يجد مزية في نفسه، والله تعالى لا يحب هذا ولا ذاك؛ لأنه سبحانه يريد أنْ يحكم الناس بمبدأ المساواة ليعلم الناس أنه تعالى ربُّ الجميع، وهو سبحانه المتكبِّر وحده في الكون، وإذا كان الكبرياء لله وحده فهذا يحمينا أنْ يتكبِّر علينا غيره، على حدِّ قول الناظم:

والسُّجُود الذي تَجْتويه من أُلُوفِ السُّجُودِ فيه نَجَاةُفسجودنا جميعاً للإله الحق يحمينا أن نسجد لكل طاغية ولكل متكبر ومتجبر، فكأن كبرياء الحق - تبارك وتعالى - في صالح العباد.

ثم يقول الحق سبحانه على لسان لقمان عليه السلام: } وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ... {.

(/3412)

وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)

القصد: هو الإقبال على الحدث، إقبالاً لا نقيضَ فيه لطرفين، يعني: توسطاً واعتدالاً، هذا في المشي { وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ.. } [لقمان: 19] أي: اخفضه وحَسْبك من الأداء ما بلغ الأذن.

لكن، لماذا جمع السياق القرآني بين المشي والصوت؟ قالوا: لأن للإنسان مطلوبات في الحياة، هذه المطلوبات يصل إليها، إما بالمشي - فأنا لا أمشي إلى مكان إلا إذا كان لي فيه مصلحة وغرض - وإما بالصوت فإذا لم أستطع المشي إليه ناديته بصوتي.

إذن: إما تذهب إلى مطلوبك، أو أنْ تستدعيه إليك. والقصد أي التوسط في الأمر مطلوب في كل شيء؛ لأن كل شيء له طرفان لا بُدَّ أن يكون في أحدهما مبالغة، وفي الآخرة تقصير؛ لذلك قالوا: كلا طرفي قصد الأمور ذميم.

ثم يقول سبحانه مُشبِّهاً الصوت المرتفع بصوت الحمار: { إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } [لقمان: 19] والبعض يفهم هذه الآية فهماً يظلم فيه الحمير، وعادة ما يتهم البشرُ الحميرَ بالغباء وبالذلة، لذلك يقول الشاعر:ولاَ يُقيم علَى ضيَمْ يُرَادُ به إلاَّ الأذلاَّنِ عَيْرُ الحيِّ والوَتِدُهذا على الخسفْ مربوطٌ برمته وذَا يُشَدُّ فَلاَ يَرْثِى لَهُ أَحَدونعيب على الشاعر أن يصف عِيرَ الحي - والمراد الحمار - بالذلة، ويقرنه في هذه الصفة بالوتد الذي صار مضرب المثل في الذلة حتى قالوا (أذلّ من وتد) لأنك تدقّ عليه بالآلة الثقيلة حتى ينفلق نصفين، فلا يعترض عليك، ولا يتبرم ولا يغيثه أحد، فالحمار مُسخّر، وليس ذليلاً، بل هو مذلَّل لك من الله سبحانه.

ولو تأملنا طبيعة الحمير لوجدنا كم هي مظلومة مع البشر، فالحمار تجعله لحمل السباخ والقاذورات، وتتركه ينام في الوحل فلا يعترض عليك، وتريده دابة للركوب فتنظفه وتضع عليه السِّرْج، وفي فمه اللجام، فيسرع بك إلى حيث تريد دون تذمر أو اعتراض.

وقالوا في الحكمة من علو صوت الحمار حين ينهق: أن الحمار قصير غير مرتفع كالجمل مثلاً، وإذا خرج لطلب المرعى ربما ستره تلّ أو شجرة فلا يهتدي إليه صاحبه إلا إذا نهق، فكأن صوته آلة من آلات البادية الطبيعية ولازمة من لوازمه الضرورية التي تناسب طبيعته.

لذلك يجب أن نفهم قول الله تعالى: { إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } [لقمان: 19] فنهيق الحمار ليس مُنكَراً من الحمار، إنما المنكر أن يشبه صوت الإنسان صوت الحمار، فكأن نهيق الحمار كمال فيه، وصوتك الذي يشبهه مُنكَر مذموم فيك، وإلا فما ذنب الحمار؟

إنك تلحظ الجمل مثلاً وهو أضخم وأقوى من الحمار إذا حمَّلته حِمْلاً فإنه (ينعَّر) إذا ثقل عليه، أما الحمار فتُحمِّله فوق طاقته فيحمل دون أنْ يتكلم أو يبدي اعتراضاً، الحمار بحكم ما جعل الله فيه من الغريزة ينظر مثلاً إلى (القناة) فإنْ كانت في طاقته قفز، وإنْ كانت فوق طاقته امتنع مهما أجبرته على عبورها.

أما الإنسان فيدعوه غروره بنفسه أنْ يتحمّل ماَلا يطيق. ويُقال: إن الحمار إذا نهق فإنه يرى شيطاناً، وعلمنا بالتجربة أن الحيوانات ومنها الحمير تشعر بالزلزال قبل وقوعه، وأنها تقطِّع قيودها وتفرّ إلى الخلاء، وقد لوحظ هذا في زلزال أغادير بالمغرب، ولاحظناه في زلزال عام 1992م عندما هاجت الحيوانات في حديقة الحيوان قبيل الزلزال.

ثم إن الحمار إنْ سار بك في طريق مهما كان طويلاً فإنه يعود بك من نفس الطريق دون أنْ تُوجِّهه أنت، ويذهب إليه مرة أخرى دون أنْ يتعدَّاه، لكن المتحاملين على الحمير يقولون: ومع ذلك هو حمار لأنه لا يتصرف، إنما يضع الخطوة على الخطوة، ونحن نقول: بل يُمدح الحمار حتى وإنْ لم يتصرف؛ لأنه محكوم بالغريزة.

كذلك الحال في قول الله تعالى:{ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً... }[الجمعة: 5]

فمتى نثبت الفعل وننفيه في آن واحد؟ المعنى: حملوها أي: عرفوها وحفظوها في كتبهم وفي صدورهم، ولم يحملوها أي: لم يؤدوا حق حملها ولم يعملوا بها، مثَلهم في ذلك{ كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً... }[الجمعة: 5] فهل يُعَدُّ هذا ذَماً للحمار؟ لا، لأن الحمار مهمته الحمل فحسب، إنما يُذَمّ منهم أَنْ يحملوا كتاب الله ولا يعملوا به، فالحمار مهمته أنْ يحمل، وأنت مهمتك أنْ تفقه ما حملت وأنْ تؤديه.

فالاعتدال في الصوت أمر ينبغي أن يتحلى به المؤمن حتى في الصلاة وفي التعبد يُعلِّمنا الحق سبحانه:{ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً }[الإسراء: 110] أما ما تسمعه من (الجعر) في مكبرات الصوت والنُّواح طوال الليل فلا ينالنا منه إلا سخط المريض وسخط صاحب العمل وغيرهم، ولقد تعمدنا عمل إحصاء فوجدنا أن الذين يأتون إلى المسجد هم هم لم يزيدوا شيئاً بـ (الميكروفونات).

كذلك الذين يعرفون أصواتهم بقراءة القرآن في المساجد فيشغلون الناس، وينبغي أن نترك كل إنسان يتقرب إلى الله بما يخفّ على نفسه: هذا يريد أنْ يصلي، وهذا يريد أن يُسبِّح أو يستغفر، وهذا يريد أنْ يقرأ في كتاب الله، فلماذا تحمل الناس على تطوعك أنت؟

بعد أنْ عرضتْ لنا الآيات طرفاً من حكمة لقمان ووصاياه لولده تنقلنا إلى معنى كوني جديد: } أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ... {.

(/3413)

أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)

التسخير: هو الانقياد للخالق الأعلى بمهمة يؤديها بلا اختيار في التنقُّل منها، كما سخر الله الشمس والقمر..إلخ، فعلى الرغم من أن كثيراً من الناس منصرفون عن الله وعن منهج الله لم تتأبَّ الشمس في يوم من الأيام أنْ تشرق عليهم، ولا امتنع عنهم الهواء، ولا ضنَّتْ عليهم الأرض بخيراتها ولا السماء بمائها، لماذا؟ لأنها مُسخَّرة لا اختيار لها.

ولا نفهم من ذلك أن الله سخَّر هذه المخلوقات رغماً عنها، فهذا فهم سطحي لهذه المسألة، حيث يرى البعض أن الإنسان فقط هو الذي خُيِّر، إنما الحقيقة أن الكون كله خُيِّر، وهذا واضح في قول الله تعالى:{ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }[الأحزاب: 72]

إذن: فالجميع خُيِّر، خُيِّرت السماوات والأرض والجبال فاختارت أن تكون مُسخَّرة لا إرادة لها، وخُيِّر الإنسان فاختار أنْ يكون مختاراً؛ لأن له عقلاً يفكر به ويقارن بين البدائل.

ومعنى التسخير أنك لا تستطيع أن تخضع ما ينفعك من الأشياء في الكون بعقلك ولا بإرادتك ولا بالمنهج، والدليل على ذلك أنك إذا صِدْتَ طيراً وحبسته في قفص ومنعته من أنْ يطير في السماء وتريد أن تعرف: أهو مُسخَّر لك أم غير مسخر وحبسه حلال أم حرام؟ فافتح له باب القفص، فإنْ ظلَّ في صحبتك فهو مُسخَّر لك، راضٍ عن بقائه معك باللقمة التي يأكلها أو المكان الذي أعددتَهُ له، وإنّ خرج وترك صحبتك فاعلم أنه غير مُسخَّر لك، ولا يحقُّ لك أن تستأنسه رغماً عنه.

لذلك سيدنا عمر - رضي الله عنه - لما مَرَّ بغلام صغير يلعب بعصفور أراد أنْ يُعلِّمه درساً وهو ما يزال (عجينة) طيِّعة، فأقنعه أنْ يبيعه العصفور، فلما اشتراه عمر وصار في حوزته أطلقه، فقال الغلام: فو الله ما قَصَرْتُ بعدها حيواناً على الأنس به.

وسبق أنْ تكلمنا عن مسألة التسخير، وكيف أن الله سخر الجمل الضخم بحيث يسوقه الصبي الصغير ولم يُسخِّر لك مثلاً البرغوث فلو لم يُذلِّل الله لك هذه المخلوقات ويجعلها في خدمتك ما استطعت أنت تسخيرها بقوتك.

وقوله تعالى: { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً.. } [لقمان: 20] أسبغ: أتمّ وأكمل، ومنها قوله تعالى عن سيدنا داود:{ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ... }[سبأ: 11] أي: دروعاً ساترة محكمة تقي لابسها من ضربات السيوف وطعنات الرماح، والدروع تُجعل على الأعضاء الهامة من الجسم كالقلب والرئتين، وقد علَّم الله تعالى داود أن يصنع الدروع على هيئة الضلوع، ليست ملساء، إنما فيها نتوءات تتحطم عليها قوة الضربة، ولا تتزحلق فتصيب مكاناً آخر.

ورُوِي أن لقمان رأى دواد - عليه السلام - يعجن الحديد بين يديه فتعجب، لكنه لم يبادر بالسؤال عما يرى وأمهله إلى أن انتهى من صنعته للدرع، فأخذه ولبسه وقال: نِعْمَ لَبُوس الحرب أنت، فقال لقمان: الصمت حُكْمٌ وقليل فاعله فظلت حكمة تتردد إلى آخر الزمان.

فمعنى أسبغ علينا النعمة: أتمها إتماماً يستوعب كل حركة حياتكم، ويمدكم دائماً بمقوِّمات هذه الحياة بحيث لا ينقصكم شيء، لا في استبقاء الحياة، ولا في استبقاء النوع؛ لأن الذي خلق سبحانه يعلم كل ما يحتاجه المخلوق.

أما إذا رأيتَ قصوراً في ناحية، فالقصور من ناحية الخَلْق في أنهم لم يستنبطوا من معطيات الكون، أو استنبطوا خيرات الكون، لكن بخلوا بها وضنُّوا على غيرهم، وهذه هي آفة العالم في العصر الحديث، حيث تجد قوماً قعدوا وتكاسلوا عن البحث وعن الاستنباط، وآخرين جدُّوا، لكنهم بخلوا بثمرات جدهم، وربما فاضتْ عندهم الخيرات حتى ألقَوْها في البحر، وأتلفوها في الوقت الذي يموت فيه آخرون جوعاً وفقراً.

إذن: فآفة العالم ليس في أنه لا يجد، إنما في أنه لا يحسن استغلال ما يجد من خيرات، ومن مُقوِّمات لله تعالى في كونه. فقوله تعالى: } وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً.. { [لقمان: 20] هذه حقيقة لا ينكرها أحد، فهل تنكرون أنه خلقكم، وخلق لكم من أنفسكم أزواجاً منها تتناسلون؟

هل تنكرون أنه خلق السماوات بما فيها من الكواكب والمجرَّات، وخلق الليل فيه منامكم، والنهار وفيه سعيكم على معايشكم؟ ثم في أنفسكم وما خلقه فيكم من الحواس الظاهرة وغير الظاهرة، وجعل لكل منها مجالاً ومهمة تؤديها دون أنْ تشعر أنت بما أودعه الله في جسمك من الآيات والمعجزات، وكل يوم يطلع علينا العلم بجديد من نِعَم الله علينا في أنفسنا وفي الكون من حولنا.

فمعنى } ظَاهِرَةً.. { [لقمان: 20] أي: التي ظهرتْ لنا: } وَبَاطِنَةً.. { [لقمان: 20] لم نصل إليها بعد، ومن نِعَم الله علينا ما ندركه، ومنها ما لا ندركه.

تأمل في نفسك مثلاً الكليتين وكيف يعمل بداخلك وتصفي الدم من البولينا، فتنقيه وأنت لا تشعر بها، وأول ما فكر العلماء في عمل بديل لها حال فشلها صمموا جهازاً يملأ حجرة كبيرة، كانت نصف هذا المسجد من المعدات لتعمل عمل الكليتين، ثم تبين لهم أن الكُلْية عبارة عن مليون خلية لا يعمل منها إلا مائة بالتناوب.

وقالوا: إن الفشل الكُلَوي عبارة عن عدم تنبه المائة خلية المناط بها العمل في الوقت المناسب يعني المائة الأولى أدَّتْ مهمتها وتوقفت دون أنْ تنبه المائة الأخرى، ومن هندسة الجسم البشري أن خلق الله للإنسان كليتين، حتى إذا تعطلت إحداهما قامت الأخرى بدورها.

أما النعم الباطنة فمنه ما يُكتشف في مستقبل الأيام من آيات ونِعَم، فمنذ عدة سنوات أو عدة قرون لم نكُنْ نعرف شيئاً عن الكهرباء مثلاً، ولا عن السيارات وآلات النقل وعصر العجلة والبخار.

.إلخ.

كلها نِعَم ظاهرة لنا الآن، وكانت مستورة قبل ذلك أظهرها النشاط العلمي والبحث والاستنباط من معطيات الكون، وحين تحسب ما أظهره العلم من نِعَم الله تجده حوالي 3% ونسبة 97% عرفها الإنسان بالصدفة.

وقلنا: إن أسرار الله ونعمه في كونه لا تتناهى، وليس لأحد أن يقول: إن ما وضعه الله في الأرض من آيات وأسرار أدى مهمته؛ لأنه باقٍ ببقاء الحياة الدنيا، ولا يتوقف إلا إذا تحقَّق قوله تعالى:{ حَتَّىا إِذَآ أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ... }[يونس: 24]

وفي الآخرة سنرى من آيات الله ومن عجائب مخلوقاته شيئاً آخر، وكأن الحق تعالى يقول لنا: لقد رأيتُم آياتي في الدنيا واستوعبتموها، فتعالوا لأُريكم الآيات الكبرى التي أعددتها لكم في الآخرة.

ففي الآخرة سأنشئكم نشأة أخرى، بحيث تأكلون ولا تتغوَّطون ولا تتألمون، وتمر عليكم الأعوام ولا تشيبون، ولا تمرضون، ولا تموتون، لقد كنتم في الدنيا تعيشون بأسبابي، أما في الآخرة فأنتم معي مع المسبِّب سبحانه، فلا حاجة لكم للأسباب، لا لشمس ولا لقمر ولا..إلخ.

لذلك نقول: من أدب العلماء أنْ يقولوا اكتشفنا لا اخترعنا؛ لأن آيات الله ونِعَمه مطمورة في كونه تحتاج لمن يُنقِّب عنها ويستنتجها مما جعله الله في كونه من معطيات ومقدمات.

وسبق أنْ قلنا: إن كل سرٍّ من أسرار الله في كونه له ميلاد كميلاد الإنسان، فإذا حان وقته أظهره الله، إما ببحث العلماء وإلا جاء مصادفة تكرُّماً من الله تعالى على خَلْقه الذين قَصُرَت جهودهم عن الوصول إلى أسراره تعالى في كونه.

وفي هذا إشارة مقدمة لنْ نؤمن بالغيب الذي أخبرنا الله به، فما دُمْنا قد رأينا نِعَمه التي كانت مطمورة في كونه فينبغي علينا أنْ نؤمنَ بما يخبرنا به من الغيب، وأنْ نأخذَ من المُشاهَد دليلاً على ما غاب.

واقرأ في هذه المسألة قول الله تعالى:{ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ... }[البقرة: 255] أي: شاء سبحانه أنْ يوجد هذا الغيب، وأن يظهر للناس بعد أنْ كان مطموراً، فإنْ صادف بحثاً جاء مع البحث، وإنْ لم يصادف جاء مصادفة وبلا أسباب، بدليل أنه نسب إحاطة العلم لهم.

أما الغيب الذي ليس له مُقدِّمات توصل إليه، ولا يطلع عليه إلا الله فهو المعنيّ بقوله تعالى:{ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىا غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَىا مِن رَّسُولٍ... }[الجن: 26-27]

وقال سبحانه: } ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً.. { [لقمان: 20] لأن الظاهرة تلفتنا إلى الإيمان بالله واجب الوجود الأعلى، والباطنة يدخرها الله لمن يأتي بعد، ثم يدخر ادخاراً آخر، بحيث لا يظهر إلا حين نكون مع الله في جنة الله.

وقد حاول العلماء أن يُعدِّدوا النعم والآيات الظاهرة والباطنة، فالظاهرة ما يعطيه لنا في الدنيا ظاهراً، والباطنة ما أخبرنا الله بها، فمثلاً حين تريد الجهاد في سبيل الله تُعِدُّ لذلك عُدَّته من سلاح وجنود..إلخ وتأخذ بالأسباب، فيؤيدك الله بجنود من عنده لم ترَوْها، كما قال سبحانه:{ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ... }[الأنفال: 12]

والرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا ببعض هذه النعم الباطنة، فيقول: " للمؤمن ثلاثة هي له وليست له - يعني ليست من عمله - أما الأولى: أن المؤمنين يصلون عليه، وأما الثانية فجعل الله له ثلث ماله يوصي به - يعني: لا يتركه للورثة إنما يتصرف هو فيه، وكان المنطق أن تستفيد بما لك وأنت حيٌّ، فإذا ما انتهيت فليس لك منه شيء وينتقل إلى الورثة يوزعه الله تعالى بينهم بالميراث الذي شرعه، فمن النعم أن يباح لك التصرف في ثلث ما لك توصي به لتُكفّر به عن سيئاتك وتُطَهر به ذنوبك - أما الثالثة: أن الله تعالى ستر مساويك عن خَلْقه، ولو فضحك بها لنبذك أهلك وأحبابك وأقرباؤك ".

إن من أعظم النعم علينا أن يحجب الله الغيب عن خَلْق الله، ولو خيَّرتَ أيَّ إنسان: أتحب أن تعرف غَيْب الناس ويعرفوا غيبك؟ فلا شكَّ في أنه لن يرضى بذلك أبداً.

والنبي صلى الله عليه وسلم يوضح هذه المسألة في قوله: " لو تكاشفتم ما تدافنتم " يعني: لو ظهر المستور من غيب الإنسان، واطلع الناس على ما في قلبه لتركوه إنْ مات لا يدفنونه، ولقالوا دَعُوه للكلاب تأكله، جزاءً له على ما فعل.

لكن لما ستر الله غيوب الناس وجدنا حتى عدو الإنسان يُسرع بحمله ودفنه، كما قال القائل: محا الموت أسباب العداوة بيننا. لكن من غباء الإنسان أن ينبشَ عن عيوب الآخرين، وأنْ يتتبعَ عوراتهم، فهل ترضى أنْ يعاملك الناس بالمثل، فيتتبعون عوراتك، ويبحثون عن عيوبك؟

ثم إن سيئة واحدة يعرفها الناس عنك كفيلة بأن تُزهَّدهم في كل حسناتك، والله تعالى يريد أنْ ينتفع الناس بعضهم ببعض ليثرى حركة الحياة.

ثم يقول تعالى: } وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ { [لقمان: 20]

المجادلة: الحوار في أمر، لكل طرف فيه جنود، وكل منهم لا يؤمن برأي الآخر، والجدل لا يكون إلا في سبيل الوصول إلى الحقيقة، ويسمونه الجدل الحتمي، وهذا يكون موضوعياً لا لَددَ فيه، ويعتمد على العلم والهدى والكتاب المنير، وفيه نقابل الرأي بالرأي ليثمر الجدال.

ومن ذلك قوله تعالى:{ وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ... }[العنكبوت: 46] أما الجدل الذي يريد فيه كل طرف أنْ يُعلي رأيه ولو بالباطل فهو مماراة وسفسطة لا توصل إلى شيء.

والجدل مأخوذ من الجَدْل أي الفَتْل، والشيء حين يُفتل على مثله يقويه، كذلك الرأي في الجدل يُقوِّي الرأي الآخر، فإذا ما انتهيا إلى الصواب تكاتفا على إظهاره وتقويته، فالجدل المراد به تقوية الحق وإظهاره.

فإنْ كان الجدل غير ذلك فهو مماراة يحرص فيها كل طرف على أن يعلي رأيه ولو بالباطل.

والحق سبحانه يبين لنا أن من الناس من أِلفَ الجدل في الله على غير علم ولا هُدىً ولا كتاب منير، فيقولون مثلاً في جدالهم: أللكون إله موجود؟ وإنْ كان موجوداً، أهو واحد أم متعدد؟ وإنْ كان موجوداً أيعلم الجزئيات أم الكليات؟ أيزاول مُلْكه كل وقت؟ أم أنه خلق القوانين، ثم تركها تعمل في الكون وتُسيِّره؟ كأن الله تعالى زاول سلطانه في الملْك مرة واحدة.

ومعلوم أن الله تعالى قيُّوم أي: قائم على أمر الخلَقْ كله في كل وقت، والدليل على ذلك هذه المعجزات التي خرقتْ النواميس لتدلّ على صِدْق الرسل في البلاغ عن الله، كما عرفنا في قصة إحراق إبراهيم - عليه السلام - فلو أن المسألة إنجاء إبراهيم من النار لما مكّنهم الله منه، أو مكَنهم منه ومن إلقائه في النار، ثم أرسل على النار سحابة تُطفِئها.

لكن أراد سبحانه أن يشعلوا النار، وأنْ يُلقوا بإبراهيم فيها، ومع ذلك يخرج منها سالماً ليروْا بأعينهم هذه المعجزة الخارقة لقانون النار ليكبتهم الله، ولا يعطيهم الفرصة ليخدعوا الناس، ولو أفلتَ إبراهيم من قبضتهم لوجودا هذه الفرصة ولقالوا: لو أمسكنا به لفعلنا به كذا وكذا.

ومعنى } بِغَيْرِ عِلْمٍ.. { [لقمان: 20] العلم أن تعرف قضية وتجزم بها، وهي واقعة وتستطيع أنْ تُدلِّل عليها، فإنْ كانت القضية التي تؤمن بها غير واقعة، فهذا هو الجهل، فالجاهل لا يوضع في مقابل العالم؛ لأن الجاهل لديه علم بقضية لكنها باطلة، وهذا يتعبك في الإقناع؛ لأنه ليس خالي الذهن، فيحتاج أولاً لأنْ تُخرج من ذهنْه القضية الباطلة وتُحلِ محلها القضية الصحيحة، أما الأُميّ فهو خالي الذِّهن من أي قضيةَ.

فإنْ كانت القضية التي تجزم بها واقعة لكن لا تستطيع أنْ تُدلِّل عليها، كالولد الصغير الذي علمناه أن (الله أحد) واستقرتْ في ذهنه هذه المسألة؛ لأن أباه أو معلمه لقَّنه هذه القضية حتى أصبحتْ عقيدة عنده، فالذي يُدلِّل عليها مَنْ لقنّها له إلى أنْ يكبر، ويستطيع هو أن يُدلِّل عليها.

والعلم أنواع، منها وأولها: العلم البدهي الذي نصل إليه بالبديهة دون بحث، فمثلاً حين نرى الإنسان يتنفس نعلم أنه حيٌّ بالبديهة، ونعلم أن الواحد نصف الاثنين، وأن السماء فوقنا، والأرض تحتنا.. الخ.

وإذا نظرتَ إلى معلومات الأرض كلها تجد أن أم هذه المعلومات البديهة. فعلم الهندسة مثلاً يقوم على نظريات تستخدم الأولى منها مقدمة لإثبات الثانية، والثانية مقدمة لإثبات الثالثة وهكذا.

فحين تعيد تسلسل النظريات الهندسية فإنك لا بُدَّ عائد إلى النظرية الأولى وهي بديهة تقول: إذا التقى مستقيم بآخر نتج عن هذا الالتقاء زاويتان قائمتان.

إذن: فأعقد النظريات لا بُدَّ أن تعود إلى أمر بدهي منثور في كون الله، المهم مَنْ يلتفت إليه، وقد قال الحق سبحانه وتعالى:{ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }[يوسف: 105]

فقوله تعالى: } وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ... { [لقمان: 20] أي: وجوداً وصفاتاً } بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ { [لقمان: 20] يعني: أن الجدل يصحّ إنْ كان بعلم وهدى وكتاب منير، فإنْ كان بغير ذلك فلا يُعَدُّ جدلاً إنما مراء لا طائلَ من ورائه.

ومعنى الهدى: أي الاستدلال بشيء على آخر، كالعربي الذي ضَلَّ في الصحراء، فلما رأى على الرمال بَعْراً وأثراً لأقدام استأنس بها، وعلم أنه على طريق مطروق ولا بُدَّ أن يمرَّ به أحد، فلما عرضتْ له قضية الإيمان استدل عليها بما رأى فقال:

البعرة تدل على البعير، والقدم تدل على المسير، سماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، نجوم تزهر، وبحار تزخر..أَلاَ يدل ذلك على اللطيف الخبير.

فالإنسان حين ينظر في الكون وفي آياته لا بُدَّ أنْ يصل من خلالها إلى الخالق عز وجل، فما كان لها أنْ تتأتى وحدها، ثم إنه لم يدَّعها أحدٌ لنفسه ممَّنْ ينكرون وجود الله، وقلنا: إن أتفه الأشياء التي نراها لا يمكن ان توجد هكذا بدون صانع، فمثلاً الكوب الذي نشرب فيه، هل رأينا مثلاً شجرة تطرح لنا أكواباً؟

إذن: لا بُدَّ أن لها صانعاً فكر في الحاجة إليها، فصنعها بعد أنْ كان الإنسان يشرب الماء عباً، أو نزحاً بالكفن وما توصلنا إلى هذا الكوب الرقيق النظيف إلا بعد بحث العلماء في عناصر الوجود، أيها يمكن أنْ يعطيني هذه الزجاجة الشفافة، فوجدوا أنها تُصنَع من الرمل بعد صَهْره تحت درجة حرارة عالية، فهذا الكوب الذي يمكن أنْ نستغني عنه أخذ منا خبرة وقدرة وعلماً..إلخ.

فما بالك بالشمس التي تنير الكون كله منذ خلق الله هذا الكون دون أنْ تكلّ أو تملَّ أو تتخلف يوماً واحداً، وهي لا تحتاج إلى صيانة ولا إلى قطعة غيار، أليست جديرة بأن نسأل عمَّنْ خلقها وأبدعها على هذه الصورة، خاصة وانها فوق قدرتنا ولا تنالها إمكاناتنا.

هذه هي الآيات التي نأخذها بالأدلة، لكن هذه الأدلة لا تُوصِّلنا إلا إلى أن لهذا الكون بآياته العجيبة خالقاً مبدعاً، لكن العقل لا يصل بي إلى هذا الخالق: مَنْ هو، وما اسمه، إذن: لا بُدَّ من بلاغ عن الله على يد رسول يبلغنا مَنْ هذا الخالق وما اسمه وما مطلوباته، وماذا أعدّ لمن أطاعه، وماذا أعدَّ لمن عصاه.

وفَرْق بين التعقُّل والتصوُّر، والذي أتعب الفلاسفة أنهم خلطوا بينهما، فالتعقل أن أنظر في آيات الكون، وأرى أن لها موجداً، أمّا التصور فبأنْ أتصور هذا الموجِد: شكله، اسمه، صفاته..إلخ وهذه لا تتأتى بالعقل، إنما بالرسول الذي يأتي من قِبَل الإله الموجد.

وسبق أن ضربنا مثلاً - ولله تعالى المثل الأعلى - قلنا: لو أننا نجلس في مكان مغلق، وطرق الباب طارق، فكلنا يتفق على أن طارقاً بالباب لا خلاف في هذه، لكن نختلف في تصوُّره، فواحد يتصور انه رجل، وآخر يقول: طفل، وآخر يتصوَّره امرأة، وواحد يتصوره بشيراً، وآخر يتصوره نذيراً..إلخ.

إذن: اتفقنا في التعقُّل، واختلفنا في التصور، ولكي تعرف مَن الطارق فعلينا أن نقول: من الطارق؟ ليعلن هو عن نفسه ويخبرنا مَنْ هو؟ ولماذا جاء؟ ويُنهي لنا في هذا الخلاف.

كذلك الحق - تبارك وتعالى - هو الذي يخبرنا عن نفسه، لكن كيف يتم ذلك؟ من خلال رسول من البشر يستطيع أنْ يتجلى الله عليه بالخطاب، بأن يكون مُعدّاً لتلقِّي هذا الخطاب، لا أنْ يخاطب كل الناس.

وقد مثَّلْنا لذلك أيضاً (بلمبة) الكهرباء الصغيرة أو (الراديو) الذي لا يتحمل التيار المباشر، يل يحتاج إلى (ترانس) أو منظم يعطيه الكهرباء على قَدْره وإلا حُرق، فحتى في الماديات لا بد من قوي يستقبل ليعطي الضعيف.

والحق سبحانه يُعد من خَلْقه مَنْ يتلقى عنه، ويُبلِّغ الناس، فيكلم الله الملائكة، والملائكة تكلم الرسل من البشر؛ لذلك يقول سبحانه:{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً... }[الشورى: 51]

وإلا لو كلَّم الله جميع البشر، فما الحاجة للرسل؟ لذلك لما سُئِل الإمام علي رضي الله عنه: أعرفتَ ربك بمحمد، أم عرفتَ محمداً بربك؟ فقال: لو عرفتُ ربي بمحمد لكان محمد أوثقَ عندي من ربي، ولو عرفتُ محمداً بربي، فما الحاجة إذن للرسل، لكن عرفتُ ربي بربي، وجاء محمد، فبلَّغني مراد ربي منى. إذن: لا بُدَّ من هذه الواسطة.

والحق سبحانه يعطينا في القرآن مثالاً يوضح هذه المسألة في قوله تعالى عن سيدنا موسى:{ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ.. }[الأعراف: 143] فبماذا أجابه ربه؟{ قَالَ لَن تَرَانِي... }[الأعراف: 143] ولم يقل سبحانه: أنا لا أُرىَ، والمعنى: لو أعددتُكَ الإعدادَ المناسب لهذه الرؤية لرأيتَ بدليل أننا سنُعَدُّ في الآخرة على هيئة نرى فيها الله عز وجل:{ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىا رَبِّهَا نَاظِرَةٌ }[القيامة: 22-23]

وفي المقابل يقول عن الكفار الذين سيُحرمون هذه الرؤية{ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ }[المطففين: 15]

ثم لما تجلى الحق سبحانه للجبل، وهو الجنس الأقوى من موسى مادةً وصلابة أندكَّ الجبل، ونظر موسى إلى الجبل المتجلَّي عليه فخرَّ صَعقاً، فما بالك لو نظر إلى المتجلِّي سبحانه؟

إذن: الحق سبحانه حينما يريد أنْ يخاطب أحداً من خَلْقه، أو يتجلى عليه يُعِدُّه لذلك، ويُربِّيه على عينه، كما قال عن موسى

{ وَلِتُصْنَعَ عَلَىا عَيْنِي }[طه: 39] وقال في موضع آخر:{ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي }[طه: 41] ثم يقوم هذا المربي الذي رباه الله بتربية الخَلْق.

وقد ربى محمد صلى الله عليه وسلم أمته في ثلاث وعشرين سنة، ولو أن الله تعالى خاطب كل إنسان بالمنهج لاستغرقتْ تربية الناس وقتاً طويلاً؛ لذلك يصطفي الله الرسل، ويعطيهم من الخصائص ما يُمكِّنهم من تربية الأمم بعد أنْ ربَّاهم الله، واصطنعهم على عينه.

إذن: كان ولا بُدَّ من إرسال الرسل للبلاغ عن الله: مَنْ هو، ما اسمه، ما صفاته؟ ما مطلوباته؟ ماذا أعدَّ لمن اطاعه؟ وماذا أعد لمن عصاه..إلخ. لذلك فأول دليل على بطلان الشرك أنْ تقول للذي يشرك الشمس أو القمر أو الأصنام مع الله في العبادة: وماذا قالت لك هذه الأشياء؟ ما مطلوباتها؟ ما مرادها منك؟ وإلا، فلماذا تعبدها والعبادة في أوضح معانيها: طاعة العابد لأمر المعبود ونهيه؟

فإنْ قُلْتَ: إذن لماذا قَبِلَتْ عقول هؤلاء القوم أنْ يعبدوا هذه الأشياء؟ نقول: لأن التديُّنَ طبيعة في النفس البشرية ومركوز في الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وسبق أنْ أوضحنا أن كلاً منا فيه ذرة حية من أبيه - عليه السلام - لم يطرأ عليها الفناء، وإلا لما وُجِد الإنسان، وهذه الذرة في كل منا هي التي شهدتْ الفطرة، وشهدتْ الخلقَ، وشهدتْ العهد الذي أخذه الله علينا جميعاً{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ... }[الأعراف: 172]

فإنْ حافظتَ على إشراقية هذه الذرة فيك، ولم تُعرِّضها لما يطمس نورها - ولا يكون ذلك إلا بالسير على منهج خالقك وبناء لبنات جسمه مما أحل الله - إنْ فعلتَ ذلك أنار الله وجهك وبصيرتك.

لذلك جاء في الحديث أن العبد يشكو: يقول " دعوتُ فلم يُستجب لي، لكن أنِّى يستجاب له، ومطعمه من حرام، ومشربه من حرام، وملبسه من حرام؟ " كيف وقد طمس الذرة النورانية فيه، وغفل عن قانون صيانتها؟ واقرأ قوله تعالى:{ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىا * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىا }[طه: 123-124]

فالمعيشة الضنك والعياذ بالله تأتي حين تنطمس النورانية الإيمانية، وحين لا تحافظ على إشراقية هذه الذرة التي شهدتْ خَلْق الله، وشهدتْ له بالربوبية، ولو حافظت عليها لظلّتْ كل التعاليم واضحة أمامك، وما غفلت عن منهج ربك هذه الغفلة التي جرَّتْ عليك المعيشة الضنك، واقرأ قول الله تعالى:{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً... }[الأنفال: 29] أي: نوراً يهديكم وتُفرِّقون به بين الحق والباطل.

والحق سبحانه يوضح لنا ما يطمس الفطرة الإيمانية، وهما أمران: الغفلة والتي قال الله عنها:{ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ }[الأعراف: 172] والقدوة التي قال الله عنها:{ إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ... }

[الأعراف: 173]

فالذي يطمس الفطرة الإيمانية الغفلة عن المنهج، هذه الغفلة تُوجِد جيلاً لا يتمسك بمنهج الحق، وبذلك تكون العقبة في الجيل الأول الغفلة، لكن في الأجيال اللاحقة الغفلة والقدوة السيئة، وهكذا كلما تنقضي الأجيال تزداد الغفلة، وتزداد القدوة السيئة؛ لذلك يوالي الحق سبحانه إرسال الرسل ليزيح عن الخَلْق هذه الغفلة، وليوجد لهم من جديد قدوةً حسنة، ليقارنوا بين منهج الحق ومنهج الخَلْق.

فمَنْ أراد أنء يجادل في الله فليجادل بعلم وبهدى وبكتاب منير مُنزَّلٍ من عند الله، ووَصْف الكتاب بأنه منير يدلُّنا على أن الكتاب المنسوب إلى الله تعالى لابُدَّ أن يكون منيراً؛ لكنه قد يفقد هذا النور بما يطرأ عليه من تحريف وتبديل ونسيان وكتمان..إلخ.

وقد أوضح الله تعالى هذه المراحل في قوله تعالى:{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ... }[الأنعام:44]

ثم:{ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَىا.. }[البقرة: 159]

وإن كان الإنسان يُعذَر في النسيان، فلا يُعذَر في الكتمان، ثم الذي نجا من النسيان ومن الكتمان وقع في التحريف{ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ.. }[المائدة: 13] ولَيْتهم اقتصروا على ذلك، إنما اختلفوا من عند أنفسهم كلاماً، ثم نسبوه إلى الله:{ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـاذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ... }[البقرة: 79] فأنواع الطمس هذه أربعة ظهرت كلها في اليهود.

إذن: فالكتب التي بأيديهم لا تصلح للجدل في الله؛ لأنها تفقد العلم والحجة والهدى، ولا تُعَدُّ من الكتاب المنير المشرق الذي يخلو من التضبيبات والفجوات، فجوات النسيان والكتمان، والتحريف والاختلاق.

فمَنْ يريد أنْ يجادل في الله فليجادل بناء على علم بدهىٍّ أو هدى استدلالي، أو كتاب منير. والكتب المنزلَّة كثيرة، منها صحف إبراهيم وموسى، ومنها زُبُر الأولين، والزبور نزل على سيدنا داود، والتوراة على موسى، والإنجيل على عيسى - عليهم جميعاً السلام - وهذه كلها كتب من عند الله، لكن هل طرأ عليها حالة عدم الإنارة؟

نقول: نعم، لأنها انطمست بشهوات البشر فيها وبأهوائهم التي شوَّهتها وأخرجتها عن الإشراقية والنورانية التي كانت لها، وهذا نتيجة السلطة الزمنية وهي أقسى شيء في تغيير المناهج.

هذه السلطة الزمنية هي التي منعتْ اليهود أن يؤمنوا برسول الله، وهم يعلمون بعثته في بلاد العرب، ويعلمون موعده وأوصافه، وأنه صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل؛ لذلك يقول القرآن عنهم:{ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمُ... }[الأنعام: 20]

ويقول عنهم:{ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }[البقرة: 146] لذلك، سيدنا عبدالله بن سلام يقول عن سيدنا رسول الله: والله لقد عرفتُه حين رأيته كمعرفتي لابني، ومعرفتي لمحمد أشد.

ويحكي القرآن عن أهل الكتاب أنهم كانوا يستفتحون برسول الله على الكفار فيقولون لهم: لقد أظل زمان نبي جديد نسبقكم إليه، ونقتلكم به قتل عاد وإرم{ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ }

[البقرة: 89]

لماذا؟ لأنهم يعلمون أنه سيسلبهم المكانة التي كانت لهم، والريادة التي أخذوها في العلم والاقتصاد والحرب..إلخ، لقد كانوا يُعِدُّون واحداً منهم ليُنصِّبوه ملكاً عليهم في المدينة ليلة هاجر إليها رسول الله، فلما دخلها رسول الله لم تًعُد لأحد مكانة الريادة بعد رسول الله، فرفض هذا الملك الجديد.

إذن: فكل الكتب السماوية لحقها التحريف والتغيير، فلم يضمن لها الحق سبحانه الصيانات التي تحميها كما حمى القرآن، وما ذاك إلا ليظهر شرف النبي الخاتم، فالكتب السابقة للقرآن جاءت كتبَ أحكام، ولم تكن معجزة في ذاتها، فالرسل السابقون كانت لهم معجزات منفصلة عن الكتب وعن المنهج، فموسى عليه السلام معجزته: العصا واليد..إلخ وكتابه ومنهجه التوراة، وعيسى عليه السلام معجزته أنْ يُبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله وكتابه ومنهجه الإنجيل.

أما محمد صلى الله عليه وسلم فمعجزته وكتابه ومنهجه هو القرآن، فهو منهج ومعجزة ستصاحب الزمان إلى أنْ تقوم الساعة؛ لأن رسالته هي الرسالة الخاتمة، فلا بُدَّ أن يكون كتابه ومعجزته كذلك فنقول: هذا محمد وهذه معجزته.

أما الرسالات السابقة فكانت المعجزة وقتية لمن رآها وعاصرها ولولا أن الله أخبرنا بها ما عرفنا عنها شيئاً، وما صدَّقنا بها، وسبق أنْ شبَّهناها بعود الكبريت الذي يشعل مرة واحدة رآه مَنْ رآه، ثم يصبح خبراً؛ لذلك لا نستطيع أن نقول مثلاً: هذا موسى عليه السلام وهذه معجزته؛ لأننا لم نَرَ هذه المعجزة.

ولما كانت الكتب السابقة كتباً تحمل المنهج، وليست معجزة في ذاتها ترك الله تعالى حفظها لأهلها الذين آمنوا بها، وهذا أمر تكليفي عُرْضة لأنْ يُطاع، ولأنْ يُعصَى، فكان منهم أنْ عصوا هذا الأمر فحدث تضبيب في هذه الكتب.

يقول تعالى:{ إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ... }[المائدة: 44]

وساعة تسمع الهمزة والسين والتاء، فاعلم أنها للطلب: استحفظتُك كذا يعني: طلبتُ منك حِفْظه، مثل: استفهمتُ يعني طلبت الفهم، واستخرجت، واستوضحت..إلخ.

فلما جُرِّب الخَلْق في حفظ كلام الخالق فلم يؤدوا، ولم يحفظوا، تكفَّل الله سبحانه بذاته بحفظ القرآن، وقال:{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[الحجر: 9]

لذلك ظلَّ القرآن كما نزل لم تَنَلْه يد التحريف أو الزيادة أو النقصان، وصدق الله تعالى حين قال في أول سوره{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ... }[البقرة: 2] لا الآن، ولا بعد، ولا إلى قيام الساعة، حتى أن أعداء القرآن أنفسهم قالوا: لا يوجد كتاب مُوثَّق في التاريخ إلا القرآن.

والعجيب في مسألة حِفْظ القرآن أن الذي يحفظ شيئاً يحفظه ليكون حجة له، لا حجة عليه، كما تحفظ أنت الكمبيالة التي لك على خصمك، أما الحق - سبحانه وتعالى - فقد ضمن حِفْظ القرآن، والقرآن ينبئ بأشياء ستوجد فيما بعد، والحق سبحانه لا يحفظ هذا ويُسجِّله على نفسه، إلا إذا ضمن صِدْق وتحقُّق ما أخبر به وإلا لما حفظه، إذن: فحِفْظ الحق سبحانه للقرآن دليل على أنه لا يطرأ شيء في الكون أبداً يناقض كلام الله في القرآن:

{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }[النساء: 82]

وسبق أنْ قُلنا: إن القرآن حكم في أشياء مستقبلية للخلق فيها اختيار، فيأتي اختيار الخَلْق وفق ما حكم، مع أنهم كافرون بالقرآن، مكذبون له، ومع ذلك لم يحدث منهم إلا ما أخبر الله به، وكان بإمكانهم أنْ يمتنعوا، لكن هيهات فلا يتم في كون الله إلا ما أراد.

لكن، ماذا نفعل فيمَنْ يجادل في الله بغير علم ولا هُدىً ولا كتاب منير؟ نلفته إلى العلم، وإلى الهدى، وإلى الكتاب المنير.

ندعوهم إلى النظر في الآيات الكونية، وفي البدهيات التي تثبت وجود الخالق عز وجل، ندعوهم إلى الهدى، والاستدلال وإلى النظر في المعجزة التي جاء بها رسول الله، ألم يخبر وهو في شدة الحصارالذي ضربه عليه وعلى آله كفار مكة حتى اضطروهم إلى أكل الميتة وأوراق الشجر..إلخ.

إلم يُخبر القرآن في هذه الأثناء بقوله تعالى:{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }[القمر: 45] حتى أن سيدنا عمر ليتعجب: أيُّ جمع هذا؟ ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا؟ فلما جاء يوم بدر ورأى بعينه ما حاق بالكفار قال: صدق الله{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }[القمر: 45].

ألم يقل القرآن عن الوليد بن المغيرة{ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ }[القلم: 16] وفعلاً، لم يعرفوا الوليد يوم بدر بين القتلى إلا بضربة على خرطومه. ألم يُشِرْ رسول الله قبل المعركة إلى مصارع القوم، فيقول وهو يشير إلى مكان بعينه: هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، ثم تأتي المعركة ويُقتل هؤلاء في نفس الأماكن التي أشار إليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والحق سبحانه أعطانا في القرآن أشياء تدل على أنه كتاب يُنوِّر لنا الماضي، ويُنوِّر لنا الحاضر والمستقبل. وسبق أنْ قُلْنا: إن الغيب دونه حجب الزمان، أو حجب المكان، فما سبقك من أحداث يحجبها عنك حجاب الزمان الماضي، وما سيحدث في المستقبل يحجبه عنك حجاب الزمان المستقبل، أما الحاضر الذي تعيشه فيحجبه عنك المكان، بل وقد تكون في نفس المكان وتجلس معي، لكنك لا تعرف ما في صدري مثلاً.

وكل هذه الحجب خرقها الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم، فمثلاً في غزوة مؤتة لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم جيشه إليها، وبقي هو في المدينة قال: حين وزَّع القيادة: يحمل الراية فلان، فإذا قُتِل يحملها فلان، فإذا قُتِل يحملها فلان وسمَّى هؤلاء الثلاثة، ثم قال: فإذا قُتِل الثالث فاختاروا من بينكم مَنْ يحملها.

وجلس النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه في المدينة، وأخذ يصف لهم المعركة وصفاً تفصيلياً، فلما عاد الجيش من مؤتة وجدوا واقع المعركة وفق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة.

وقد نبهتنا هذه المسألة إلى السر في تسمية مؤتة (غزوة) وكانوا لا يقولون غزوة إلا للتي شهدها رسول الله بنفسه، أما التي لا يخرج فيها فتسمّى (سرية) فلما أخبر صلى الله عليه وسلم بما يدور في المعركة مع بُعد المسافات اعتبرها المسلمون غزوة.

بل وأبلغ من ذلك، فالحق سبحانه كسف لرسوله صلى الله عليه وسلم ما يدور في نفوس قومه:{ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ... }[المجادلة: 8]

هذه كلها من آيات الإنارة في القرآن التي استوعبتْ الماضي والحاضر والمستقبل.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ... {.

(/3414)

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)

كلمة { مَآ أَنزَلَ اللَّهُ.. } [لقمان: 21] عامة تشمل كل الكتب المنزَّلة، وأقرب شيء في معناها أن نقول: اتبعوا ما أنزل الله على رسلكم الذين آمنتم بهم، ولو فعلتم ذلك لَسلَّمتم بصدق رسول الله وأقررتم برسالته.

أو: يكون المعنى { اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ.. } [لقمان: 21] أي: تصحيحاً للأوضاع، واعرضوه على عقولكم وتأملوه.

لكن يأتي ردهم: (بَلْ) وبل تفيد إضرابهم عما أنزل الله { نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا.. } [لقمان: 21] وفي آية أخرى{ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ... }[البقرة: 170]

فما الفرق بين (وجدنا) و (ألفينا) وهما بمعنى واحد؟ قالوا: لأن أعمار المخاطبين مختلفة في صُحْبة آبائهم والتأثر بهم، فبعضهم عاش مع آبائه يُقلِّدهم فترة قصيرة، وبعضهم عاصر الآباء فترة طويلة حتى أَلف ما هم عليه وعشقه؛ لذلك قال القرآن مرة (أَلْفيْنَا) ومرة (وَجَدَنْا).

والاختلاف الثاني نلحظه في اختلاف تذييل الآيتين، فمرة يقول:{ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }[البقرة: 170] ومرة أخرى يقول:{ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }[المائدة: 104]

فما الفرق بين: يعقلون ويعلمون؟

الذي يعقل هو الذي يستطيع بعقله أنْ يستنبط الأشياء، فإذا لم يكن لديه العقل الاستنباطي عرف المسألة ممَّنْ يستنبطها، وعليه فالعلم أوسع دائرة من العقل؛ لأن العقل يعلم ما عقله، أما العلم فيعلم ما عقله هو ما عقله غيره، فقوله (يَعْلَمُونَ) تشمل أيضاً (يَعْقِلوُن).

إذن: إذا نُفي العقل لا يُنفي العلم؛ لأن غيرك يستنبط لك فالرجل الريفي البسيط يستطيع أن يدير التلفزيون مثلاً ويستفيد به ويتجول بين قنواته، وهو لا يعرف شيئاً عن طبيعة عمل هذا الجهاز الذي بين يديه، إنما تعلَّمه من الذي يعلمه، فالإنسان يعلم ما يعقله بذاته، ويعلم ما يعقله غيره، ويؤديه إليه؛ لذلك فنَفْي العلم دليل على الجهل المطبق الذي لا أملَ معه في إصلاح الحال.

ونلحظ أيضاً أن القرآن يقول هنا: { قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا.. } [لقمان: 21]، وفي موضع آخر يقول:{ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ... }[المائدة: 104] فقولهم: نتبع ما وجدنا عليه آباءنا فيه دلالة على إمكانية اتباعهم الحق، فالإنكار هنا بسيط، أما الذين قالوا{ حَسْبُنَا... }[المائدة: 104] يعني: يكفينا ولا نريد غيره، فهو دلالة على شدة الإنكار؛ لذلك في الأولى نفى عنهم العقل، أما في الأخرى فنفى عنهم العلم، فعَجُز الآيات يأتي مناسباً لصدرها.

وهنا يقول تعالى في تذييل هذه الآية { أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَىا عَذَابِ السَّعِيرِ } [لقمان: 21] لأن آباءهم ما ذهبوا إلى ما ذهبوا إليه من عبادة الأصنام والكفر بالله إلا بوسوسة الشيطان، فالشيطان قَدْر مشترك بينهم وبين آبائهم.

وهذا يدلنا على أن منافذ الإغواء مرة تأتي من النفس، ومرة تأتي من الشيطان، وبهما يُطمس نور الإيمان ونور المنهج في نفس المؤمن.

وسبق أنْ بينَّا أنك تستطيع أن تفرق بين المعصية التي تأتيك من قِبَل الشيطان، والتي تأتيك من قِبَل نفسك، فالشيطان يريدك عاصياً على أيِّ وجه من الوجوه، فإذا تأبيْتَ عليه في ناحية نقلك إلى ناحية أخرى.

أما النفس فتريد معصية بعينها تقف عندها لا تتحول عنها، فالنفس تميل إلى شيء بعينه، ويصعب عليها أنْ تتوبَ منه، ولكل نفس نقطة ضعف أو شهوة تفضلها؛ لذلك بعض الناس لديهم كما قلنا (طفاشات) للنفوس؛ لأنهم بالممارسة والتجربة يعرفون نقطة الضعف في الإنسان ويصلون إليه من خلالها، فهذا مدخله كذا، وهذا مدخله كذا.

لكن نرى الكثيرين ممن يقعون في المعصية يُلْقون بالتبعة على الشيطان، فيقول الواحد منهم: لقد أغواني الشيطان، ولا يتهم نفسه، وهذا يكذّبه الحديث النبوي في رمضان:

" إذا جاء رمضان فُتِحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النار، وصُفِّدت الشياطين ".

فلو أن المعاصي كلها من قِبَل الشيطان ما رأينا معصية في رمضان، ولا ارتكبت فيه جريمة، أما وتقع فيه المعاصي وتُرتكب الجرائم، فلا بُدَّ أن لها سبباً آخر غير الشيطان؛ لأن الشياطين مُصفَّدة فيه مقيدة.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ... {.

(/3415)

وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)

يعني: مَنْ أراد أن يُخلِّص نفسه من الجدل بغير علم، وبغير هدى، وبغير كتاب منير، فعليه أنْ يُسلم وجهه إلى الله؛ لأن الله تعالى قال في آية أخرى:{ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }[ص: 82] ثم استثنى منهم{ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ }[الحجر: 40]

وقال سبحانه:{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ... }[الإسراء: 65]

ومعنى { يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ.. } [لقمان: 22] أخلص وجهه في عبادته لله وحده، وبذلك يكون في معية الله، ومَنْ كان في معية ربه فلا يجرؤ الشيطان على غوايته، ولا يُضيع وقته معه، إنما ينصرف عنه إلى غافل يستطيع الدخول إليه، فالذي ينجيك من الشيطان أن تُسلم وجهك لله.

وقد ضربنا لذلك مثلاً بالولد الصغير حينما يسير في صحبة أبيه فلا يجرؤ أحد من الصبيان أن يعتدي عليه، أما إنْ سار بمفرده فهو عُرْضة لذلك، لا يَسْلم منه بحال، كذلك العبد إنِ انفلتَ من يد الله ومعيته.

وهذا المعنى ورد أيضاً في قوله سبحانه:{ بَلَىا مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ... }[البقرة: 112] وهنا قال { إِلَى اللَّهِ... } [لقمان: 22] فما الفرق بين حرفي الجر: إلى، اللام؟

استعمال (إلى) تدل على أن الله تعالى هو الغاية، والغاية لا بُدَّ لها من طريق للهداية يُوصِّل إليها. أمَّا (اللام) فتعني الوَصْل لله مباشرة دون قطع طريق، وهذا الوصول المباشر لا يكون إلا بدرجة عالية من الإخلاص لله.

فقوله تعالى: { وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ.. } [لقمان: 22] يعني: أنك على الطريق الموصِّل إلى الله تعالى، وأنك تؤدي ما افترضته عليك.

ومن إسلام الوجه لله قَوْل ملكة سبأ:{ وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[النمل: 44] الكلام هنا كلام ملكة، فلم تقل: أسلمتُ لسليمان، لكن مع سليمان لله، فلا غضاضة إذن.

وإسلام الوجه لله، أو إخلاص العمل لله تعالى عملية دقيقة تحتاج من العبد إلى قدر كبير من المجاهدة؛ لأن النفس لا تخلو من هفوة، وكثيراً ما يبدأ الإنسان العمل مخلصاً لله، لكن سرعان ما تتدخل النفس بما لها من حب الصِّيت والسمعة، فيخالط العملَ شيء من الرياء ولو كان يسيراً.

لذلك؛ فإن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحمل عنا هذه المسألة ويطمئن المسلم على عمله، فيقول في دعائه: " اللهم إني أستغفرك من كل عمل أردتُ به وجهك، فخالطني فيه ما ليس لك ".

والنبي صلى الله عليه وسلم ليس مظنة ذلك، لكن الحق سبحانه علَّمه أن يتحمل عن أمته كما تحمَّل الله عنه في قوله تعالى:{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ... }[الأنعام: 33] أي: أنك أسمى عندهم من أن تكون كاذباً.{ وَلَـاكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }[الأنعام: 33]

وقوله تعالى: { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىا.

. { [لقمان: 22] كلمة استمسك تدلُّ على القوة في الفعل والتشبُّث بالشيء؛ كما نقول (تبِّت فيه)، وهي تعني: طلب أنْ يمسك؛ لذلك لم يَقُل مسكَ إنما (استمسك).

وأول مظاهر الاستمساك أنك لا تطمئن إلى ضعف نفسك، فيكون تمسك بالعروة الوثقى أشدّ، كما لو أنك ستنزل من مكان عالٍ على حبل مثلاً فتتشبت به بشدة؛ لأنك إنْ تهاونت في الاستمساك به سقطت، وهذا دليل على ثقتك بضعف نفسك، وأنه لا ينُجيك من الهلاك، ولا واقي لك إلا أنْ تستمسك بهذا الحبل.

كذلك الذي يُسِلْم وجهه لله ويُمسِك بالعروة الوثقى، فليس له إلا هذه مُنْجية وواقية.

وكلمة } بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىا.. { [لقمان: 22] العروة: هي اليد التي نمسك بها الكوز أو الكوب أو الإبريق، وهي التي تفرق بين الكوب والكأس، فالكأس لا عروة لها، إلا إذا شُرب فيها الشراب الساخن، فيجعلون لها يداً.

ومعنى } الْوُثْقَىا.. { [لقمان: 22] أي: المحكمة، وهي تأنيث أوثق، نقول: هذا أوثق، وهذه وُثْقى، مثل أصغر وصُغْرى، وهي تعني الشيء المرتبط ارتباطاً وثيقاً بأصله، فإنْ كان دَلْواً فهي وُثْقى بالدلو، وإنْ كان كوباً فهي وُثْقى بالكوب، فهي الموثقة التي لا تنقطع، ولا تنفصل عن أصلها.

والعُرْوة تختلف باختلاف الموثِّق، فإنْ صنع العروة صانع غاشٌّ، جاءت ضعيفة هشَّة، بمجرد أنْ تمسك بها وتنخلع في يدك، وهذا ما نسميه " الغش التجاري " وهو احتيال لتكون السلعة رخيصة يقبل عليها المشتري، ثم يكون المعوِّض في ارتفاع قطع الغيار، كما نرى في السيارات مثلاً، فترى السيارة رخيصة وتنظر إلى ثمن قطع الغيار تجده مرتفعاً.

إذن: إرادة عدم التوثيق لها مقصد عند المنتفع، فإذا كان الموثِّق هو الله تعالى فليس أوثق من عُرْوته.

وفي موضع آخر يقول الحق عنها{ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ... }[آل عمران: 103] فالعروة الوُثْقى هي حبل الله المتين الذي يجمعنا فلا نتفرق؛ لذلك في الاصطلاح نسمي الفتحة في الثوب والتي يدخل فيها الأزرار (عروة) لماذا؟ لأنها هي التي تجمع الثوب، فلا يتفرق.

وفي آية أخرى وصفَ العروة الوثقى بقوله سبحانه:{ لاَ انفِصَامَ لَهَا.. }[البقرة: 256]

ثم يقول سبحانه: } وَإِلَىا اللَّهِ عَاقِبَةُ الأَمُورِ { [لقمان: 22] أي: مرجعها، فلا نظن أن الله تعالى خلقنا عبثاً، أو أنه سبحانه يتركنا سُدًى:{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ }[المؤمنون: 115]. ولو تركنا الله تعالى بلا حساب لكان المنحرف الذي أعطى لنفسه شهواتها في الدنيا أوفر حظاً من المستقيم، وما كان الله تعالى ليغشَّ عبده الذي آمن به، وسار على منهجه، أو يسلمه للظلمة والمنحرفين.

وإذا كانت لله تعالى عاقبة الأمور أي: في الآخرة، فإنه سبحانه يترك لنا شيئاً من ذلك في الدنيا نصنعه بذواتنا لتستقيم بنا مسيرة الحياة وتثمر حركتها، ومن ذلك مثلاً ما نجريه من الامتحانات للطلاب آخر العام لنميز المجدّ من الخامل، وإلا تساوى الجميع ولم يذاكر أحد، ولم يتفوق أحد؛ لذلك لا بُدَّ من مبدأ الثواب والعقاب لتستقيم حركة الحياة، فإذا كنا نُجري هذا المبدأ في دنيانا، فلماذا نستنكره في الآخرة؟

فهل يليق بهذا العالمَ الذي خلقه الله على هذه الدقة؛ وكوَّنه بهذه الحكمة أن يتركه هكذا هَملاً يستشري فيه الفساد، ويرتع فيه المفسدون، ثم لا يُحاسبون؟ إن كانت هذه هي العاقبة، فيا خسارة كل مؤمن، وكل مستقيم في الدنيا.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم... {.

(/3416)

وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23)

بعد أن بيِّن الحق سبحانه أن إليه مرجع كل شيء ونهاية الأمور كلها، أراد أن يُسلِّى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: { وَمَن كَفَرَ.. } [لقمان: 23] أي: بعدما قلناه من الجدل بالعلم وبالهدى وبالكتاب المنير، وبعدما بيناه من ضرورة إسلام الوجه لله، مَنْ يكفر بعد ذلك { فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ.. } [لقمان: 23]

وهذا القول من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم يدل على أن الله علم أن رسوله يحب أن تكون أمته كلها مؤمنة، وأنه يحزن لكفر من كفر منهم ويؤلمه ذلك، وقد كرر القرآن هذا المعنى في عدة مواضع، منها قوله تعالى:{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىا آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَـاذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً }[الكهف: 6] ويقول:{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ }[الشعراء: 3]

فالله تعالى يريد أنْ يقول لرسوله: أنا أرسلتُك للبلاغ فحسب، فإذا بلَّغْت فلا عليك بعد ذلك، وكثيراُ ما تجد في القرآن عتاباً لرسول الله في هه المسألة، وهو عتاب لصالحه لا عليه، كما تعاتب ولدك الذي أجهد نفسه في المذاكرة خوفاً عليه.

ومن ذلك قوله تعالى معاتباً نبيه صلى الله عليه وسلم:{ عَبَسَ وَتَوَلَّىا * أَن جَآءَهُ الأَعْمَىا * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىا }[عبس: 1-3]

والعتاب هنا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الرجل المؤمن الذي جاءه يستفهم عن أمور دينه، وذهب يدعو الكفار والمكِّذبين به، فكأنه اختار الصعب الشاق وترك السهل اليسير، إذن: فالعتاب هنا عتاب لصالح الرسول لا ضده، كما يظن البعض في فهمهم لهذه الآيات.

كذلك الأمر في قوله تعالى:{ ياأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ... }[التحريم: 1] فالله يعاتب رسوله لأنه ضيَّق على نفسه، فحرَّم عليها ما أحله الله لها.

ثم يقول سبحانه: { إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ.. } [لقمان: 23] يعني: إذا لم تَرَ فيهم عاقبة كفرهم، وما ينزل بهم في الدنيا، فسوف يرجعون إلينا ونحاسبهم في الآخرة، كما قال سبحانه في موضع آخر:{ فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ... }[غافر: 77] أي: ترى بعينك ما ينزل بهم من العقاب{ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ }[غافر: 77]

إذن: { إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ.. } [لقمان: 23] هذه هي الغاية النهائية، وهذه لا تمنع أن نُريَك فيهم أشياء تُظهر عزتك وانتصارك عليهم، وانكسارهم وذِلَّتهم أمامك، وهذا ما حدث يوم الفتح يوم أنْ دخل النبي مكة منصراً ومتواضعاً يطأطئ رأسه بأدب وتواضع؛ لأنه يعلم أن النصر من الله، وكأنه صلى الله عليه وسلم يقول لأهل مكة: لقد كنتم تريدون الملْك لتتكبروا به، وأنا أريده لأتواضع به، وهذا هو الفرق بين عزَّة المؤمن وعِزّة الكافر.

لذلك لما تمكن رسول الله من رقابهم - بعد أنْ فعلوا به ما فعلوا - جمعهم وقال قولته المشهورة:

" يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟ " قالوا: خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: " اذهبوا فأنتم الطلقاء ".

ولك أنْ تلحظ تحوُّل الأسلوب من صيغة الإفراد في } وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ.. { [لقمان: 23] إلى صيغة الجمع في } إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ.. { [لقمان: 23] ولم يقل: إليَّ مرجعه؛ لأن مَنْ في اللغة تقوم مقام الأسماء الموصولة كلها، فإنْ أردتَ لفظها فأفردها، وإن أردتَ معناها فاجمعه.

وقوله تعالى: } فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ.. { [لقمان: 23] لأننا نُسجِّله عليهم ونحصيه، كما قال سبحانه:{ أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ... }[المجادلة: 6] } إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ { [لقمان: 23] أي: بنات الصدر ومكنوناته يعلمها الله، حتى قبل أنْ تُترجم إلى نزوع سلوكي عملي أو قَوْلي، فالله يعلم ما يختلج في صدورهم من حقد أو غلٍّ أو حسد أو تآمر.

و{ عَلِيمٌ... }[آل عمران: 119] صيغة مبالغة من العلم، وفَرْق بين عالم وعليم: عالم: ذاتٌ ثبت لها العلم، أما عليم فذات عِلْمها ذاتي؛ لذلك يقول تعالى:{ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ }[يوسف: 76]

ثم يقول الحق سبحانه: } نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ... {.

(/3417)

نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)

الحق سبحانه يُبيِّن لكل مؤمن ألاَّ يغتر بحال الكفار حين يراهم في حال رَغَد من العيش، وسعة وعافية وتمكُّن؛ لأن ذلك كله متاع قليل، والحق سبحانه يريد من أتباع الأنبياء أنْ يدخلوا الدين على أنه تضحية لا مغنم.

وسبق أن أوضحنا أنك تستطيع أن تُفرِّق بين مبدأ الحق ومبدأ الباطل بشيء واحد، هو استهلال الاثنين، فالداخل في مبدأ الحق مستعد لأنْ يُضحِّي، والداخل في مبدأ الباطل ينتظر أنْ يأخذ المقابل؛ لذلك ضحَّى المسلمون الأوائل في سبيل دينهم بالأنفس والأموال، وتركوا بلادهم وأبناءهم لماذا؟ لأنهم مُكلَّفون بأداء مهمة إنسانية عالمية، لا يحملها إلا مَنْ كان مستعداً للعطاء، أما أصحاب الدعوات الباطلة كالشيوعية وغيرها فلا بُدَّ أنْ يأخذوا أولاً.

لذلك روُي أن صحابياً حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم البشرى بالجنة، وأنه ليس بينه وبينها إلا أنْ يحارب فيُقتل ألقى تمرات كانت في يده، ولم ينتظر حتى يمضغها، وأسرع إلى المعركة مُبتغياً الشهادة وطامعاً فيما عند الله، وقد سُمع منهم في ساحة القتال أنْ ينادي أحدهم: هُبِّي يا رياح الجنة، وآخر يقول: إني لأجد ريح الجنة دون أحد.

فقوله تعالى: { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَىا عَذَابٍ غَلِيظٍ } [لقمان: 24] هذا التمتُّع بزينه الحياة الدنيا ما هو إلا استدراج لهم لا تكريم، وقلنا: إنك لا تلقى بعدوك من على الحصيرة مثلاً، إنما تعليه وترفعه ليكون أَخْذه أليماً وشديداً، كذلك الحق سبحانه يُمتَّعهم، لكن لفترة محدودة لتكون حسرتهم أعظم إذا ما أخذهم من هذا النعيم.

واقرأ في هذا المعنى قول الله تعالى:{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىا إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ }[الأنعام: 44] أي: يائسون.

وكلمة الفتح لا تؤدي نفعاً إلا إذا جاءت معرفة (الفتح) وقلنا: هناك فرق بين فتح لك وفتح عليك، فتح لك أي: لصالحك، أمّا فتح عليك أي: أعطاك الدنيا لتكون حِمْلاً فوق رأسك.

إذن: فإذا رأيت لهم هذا الفتح فلا تغترّ به، واعلم انهم نَسُوا ما ذُكَّروا به. وقد ورد في الأثر أن الله تعالى إذا غضب من المرء رزقه من الحرام، فإذا اشتد غضبه عليه بارك له فيه.

ذلك ليظل في سَعَة ورَغَد عيش وعُلو مكان، حتى إذا أخذه الله آلمه الأخذ واشتد عليه، فأخْذُ الكافر وهو في أَوْج قوته وجبروته يدل على قوة الأَخْذ وقدرته، أما الضعيف فلا مزيّة في أَخْذه، كالذي يريد أنْ يحطم الرقم القياسي مثلاً، فإنه يعمد إلى أعلى الأرقام فيحطمها ليثبت جدارته.

ومن ذلك أيضاً نرى أن القرآن لما أراد التحدي ببلاغته وفصاحته تحدَّى العرب، وهم أهل الفصاحة والبلاغة وفن الأداء البياني، ولا معنى لأنْ يتحدى عَيّياً لا يقدر على الكلام.

ومعنى { نَضْطَرُّهُمْ.. } [لقمان: 24] نلجئهم أي: نُضيِّق عليهم الخناق، بحيث لا يجدون إلا العذابَ الغليظ، أو: أن فترة الحساب وما قبل العذاب أشدّ من العذاب نفسه، كما جاء في الحديث من " أن الشمس تدنو من الرؤوس، حتى ليتمنى الناسُ الانصرافَ ولو إلى النار ".

ووصف العذاب هنا بأنه { غَلِيظٍ } [لقمان: 24] والغِلظ يعني السُّمْك، فالمعنى أنه عذاب كبير يصعب قلقلة النفس منه، فلو كان رقيقاً لربما أمكن الإفلات منه.

ثم يعود السياق إليهم: { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ... }.

(/3418)

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)

هذا إفحام لهم، حيث شهدوا بأنفسهم أن الله تعالى هو خالق السماوات والأرض، وتعجب بعد ذلك لأنهم ينصرفون عن عبادة الخالق سبحانه إلى عبادة مَنْ لا يخلق ولا يرى ولا يسمع.

لذلك بعد هذه الشهادة منهم، وبعد أنْ قالوا (الله) يُتبعها الحق سبحانه بقول { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ.. } [لقمان: 25] أي: الحمد لله؛ لأنهم أقروا على أنفسهم، ونحن في معاملاتنا نفعل مثل هذا، فحين يعترف لك خَصمْك تقول: الحمد لله.

وهذه الكلمة تُقال تعليقاً على أشياء كثيرة، فحين يعترف لك الخَصْم بما تريد تقول: الحمد لله، وحين يُخلِّصك الله من أذى أحد الأشرار تقول: الحمد لله أي: الذي نجانا من فساد هذا المفسد.

فلو بلغنا خبر موت أحد الأشقياء أو قُطّاع الطرق نقول: الحمد لله أي: الذي خلصنا من شرِّه، وأراح منه البلاد والعباد، ومن ذلك قول الله تعالى:{ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَْ }[الأنعام: 45]

كذلك تقال حينما يُنصَف المظلوم، وتُردُّ إليه مظلمته، أو تظهر براءته، كما سنقول - إنْ شاء الله - في الآخرة:{ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ }[فاطر: 34]{ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الّجَنَّةِ زُمَراً حَتَّىا إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَـالُواْ الْحَـمْدُ للَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ }[الزمر: 73-74]

فالحمد لله تُقال أيضاً عند خلوصك إلى غاية تُخرِجك مما كنتَ فيه من الضيق، ومن الهَمِّ، ومن الحزن، وتقال حين ندخل الجنة، وننعم بنعيمها ونعلم صِدْق الله تعالى فيما أخبرنا به من نعيمها.

هذا كله حَمْد على نِعمه، وهناك الحمد الأعلى: ألم تقرأ الحديث القدسي: " إن الله يتجلى على خَلْقه المؤمنين في الجنة فيقول: يا عبادي، ألا أزيدكم؟ فيقولون: وكيف تزيدنا وقد أعطيْتنا مَا لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر؟ قال: أُحِلُّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعدها أبداً " فماذا بعد هذا الرضوان؟

يقول تعالى:{ وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }[الزمر: 75]

هذا هو الحمد الأعلى، فقد كنت في الحمد مع النعمة، وأنت الآن في الحمد مع المنعم سبحانه.

ثم يقول سبحانه: { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [لقمان: 25] وهم أهل الغفلة عن الله، أو { لاَ يَعْلَمُونَ } [لقمان: 25] أي: العلم الحقيقي، النافع، وإنْ كانوا يعلمون العلم من كتاب غير منير، أو: يعلمون العلم الذي يُحقِّق لهم شهواتهم.

ثم ينتقل السياق إلى آيات كونية فيقول سبحانه: { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ... }.

(/3419)

لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)

بعد أن سجَّل الله تعالى عليهم اعترافهم وشهادتهم بأنه سبحانه خالق السماوات والأرض، أراد سبحانه أنْ يُبيِّن لنا أن السماوات والأرض ظرف لما فيهما، وفيهما أشياء كثيرة، منها ما نعرفه، ومنها ما لا نعرفه، والمظروف دائماً أغلى من المظروف فيه، فما في (المحفظة) من نقود عادة أغلى من المحفظة ذاتها، وما في الخزانة من جواهر وأموال أو أوراق هامة أنفَسُ من الخزانة وأهمّ.

لذلك قلنا: إياك أنْ تجعل كتاب الله حافظة لشيء هام عندك؛ لأنه أغلى من أيِّ شيء فينبغي أنْ نحفظه، لا أنْ نحفظ فيه.

وكأن في الآية إشارة إلى أنهم كما اقرُّوا لله تعالى بخَلْق السماوات والأرض ينبغي أنْ يُقروا كذلك بأن له سبحانه ما فيهما، وهذه مسألة عقلية يهتدي إليها كل ذي فكر سليم، فما دامت السماوات والأرض لله، فله ما فيهما، وهَبْ أن لك قطعة أرض تمتلكها، ثم عثرتَ فيها على شيء ثمين، إنه في هذه الحالة يكون مِلكك شرعاً وعقلاً.

وينبغي للعاقل أنْ يتأمل هذه المسألة: لله تعالى ما في السماوات وما في الأرض، ومن هذه الأشياء الإنسان الذي كرَّمه الله، وجعله سيداً لجميع المخلوقات وأعلى منها، بدليل أنها مُسخَّرة لخدمته: الحيوان والنبات والجماد، فهل يصح أن يكون الخادم أعظم من سيده أو أطول عمراً منه؟

فعلى العاقل أن يتأمل هذه المسألة، وأن يستعرض أجناس الكون ويتساءل: أيكون الجماد الذي يخدمني أطول عمراً مني؟

إذن: لا بد أن لي حياة أخرى تكون أطول من حياة الشمس والقمر وسائر الجمادات التي تخدمني، وهذا لا يكون إلا في الآخرة حيث تنكدر الشمس، وتتلاشى كل هذه المخلوقات ويبقى الإنسان.

إذن: أنت محتاج لما في الأرض ولما في السماء من مخلوقات الله، وبه وحده سبحانه قوامها مع أنه سبحانه غنيٌّ عنها لا يستفيد منها بشيء، فالله سبحانه خلق ما هو غنيٌّ عنه؛ لذلك يقول: { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } [لقمان: 26] لأنه سبحانه بصفات الكمال خلق، فلم يزِدْه الخلق صفة كمال لم تكُنْ له، فهو مُحْيٍ قبل أنْ يوجد مَنْ يُحييه، مُعِزٌّ قبل أنْ يوجد من يعزه.

وقلنا: إنك لا تقول فلان شاعر لأنك رأيته يقول قصيده؛ بل لأنه شاعر قبل أن يقولها، ولولا أنه شاعر ما قال.

فمعنى { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ... } [لقمان: 26] أي: الغني المطلق؛ لأن له سبحانه كل هذه الملْك في السماوات والأرض، بل جاء في الحديث القدسي أن السماء والأرض بالنسبة لملْك الله تعالى كحلقة ألقاها مُلْقٍ في فلاة، فلا تظن أن مُلْك الله هو مجرد هذه المخلوقات التي نعلمها، رغم ما توصَّل إليه العلم من الهندسة وحساب المسافات الضوئية.

فالله سبحانه هو الغنيُّ الغِنَي المطلق؛ لأنه خلق هذا الخَلْق وهو غني عنه، ثم أعطاه لعبيده وجعله في خدمتهم، فكان من الواجب لهذا الخالق أن يكون محموداً } إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ { [لقمان: 26] وحميد فعيل بمعنى محمود، وهو أيضاً حامد كما جاء في قوله تعالى:{ فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }[البقرة: 158] لكن، شاكر لمن؟

قالوا: إذا كان العبد يشكر ربه، وقد علَّمه الله: أن الذي يحيِّيك بتحية ينبغي عليك أنْ تُحيِّيَه بأحسن منها، فربُّك يعاملك هذه المعاملة، فإنْ شكرْتَهُ يزدك، فهذه الزيادة شُكْر لك على شُكْرك لربك. أي: مكافأة لك.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ... {.

(/3420)

وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)

قوله تعالى { مِن شَجَرَةٍ.. } [لقمان: 27] مِنْ: هنا تفيد العموم أي: من بداية ما يُقال له شجرة، وفرق بين أنْ تقول: ما عندي مال، وما عندي من مال، فالأولى لا تمنع أن يكون عندك القليل من الله الذي لا يُعتدُّ به، أمّا (من مال) فقد نفيت جنس المال قليله وكثيره. وتقول: ما في الدار أحد. وربما يكون فيها طفل مثلاً أو امرأة، أمّا لو قلْتَ: ما في الدار من أحد، فهذا يعني خُلوها من كل ما يقال له أحد.

والشجرة: هي النبات الذي له ساق، وقد تشابكتْ أغصانها، ومن ذلك قوله تعالى:{ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ... }[النساء: 65]

أما النبات الذي ليس له ساق فهو العُشْب أو النجم الذي ينتشر على سطح الأرض، خاصة بعد سقوط الأمطار، وهذا لا تُؤخذ منه الأقلام، إنما من الشجرة ذات الغصون والفروع.

وقد ذكر القرآن الكريم هذين النوعين في كلام معجز، فقال سبحانه:{ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ }[الرحمن: 5-6] فالشمس والقمر{ بِحُسْبَانٍ }[الرحمن: 5] أي: حساب دقيق محكم؛ لأن بهما حساب الزمن،{ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ }[الرحمن: 6] أي: في خضوع لله تعالى.

وكلمة النجم هنا يصح أنْ تُضاف إلى الشمس والقمر، ويصح أنْ تضاف للشجر، فهو لفظ يستخدم في معنى، ويؤدي معنى آخر بضميمة ضميره.

وقد تنبه الشاعر إلى هذه المسألة، فقال:أُرَاعِي النجْمَ في سَيْرِى إليكُمُ ويرعَاهُ مِنَ البَيْدا جَوادِيفهو ينظر إلى نجم السماء ليهتدي به في سيره، ويرعى جواده نَجْم الأرض، ومن ذلك أيضاً كلمة العين، فتأتي بمعنى الذهب والفضة، وبمعنى الجاسوس، وبمعنى عين الماء، وبمعنى العين المبصرة.

ومعنى: { وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ.. } [لقمان: 27] أي: يُعينه ويساعده إنْ نفذ ماؤه. ولك هنا أن تسأل: لماذا جعل الإمداد للماء، ولم يجعله للشجر؟ قالوا: لأن القلم الواحد يكتب بحبر كثير لا حَصْر له، فالحبر مظنة الانتهاء، كما أن الشجر ينمو ويتجدد، أما ماء البحر فثابت لا يزيد.

واقرأ أيضاً في هذه المسألة:{ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً }[الكهف: 109]

والعدد سبعة هنا { سَبْعَةُ أَبْحُرٍ.. } [لقمان: 27] لا يُراد به العدد، إنما يراد به الكثرة كما في قوله تعالى:{ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ... }[الطلاق: 12] فهذه مجرتنا الشمسية، فما بالك بالسموات في المجرات الأخرى، وقد علمنا أن السماء هي كل ما علاك فأظلك.

إذن: يرد العدد سبعة على سبيل الكثرة، والعرب كانوا يعتبرون هذا العدد نهاية للعدد؛ لأن العدد معناه الأرقام التي تبين المعدود، فهناك فرق بين العدد والمعدود، ولما تبينّا هذا الفرق استطعنا أنْ نرد على المستشرقين في مسألة تعدد الزوجان، فالعدد يعني 1، 2، 3، 4، 5 أما المعدود، فما يميز هذه الأعداد.

والرسول صلى الله عليه وسلم حينما أراد أن يُنهي التعدد المطلق للزوجات لما أنزل الله عليه أن يأمر الناس أن مَنْ معه أكثر من أربع زوجات أنْ يُمسك أربعاً منهن ويفارق الباقيات.

وكان عند رسول الله في هذا الوقت تسع زوجات لم يشملهُنَّ هذا الحكم، فقالوا: لماذا استثنى الله محمداً من هذا الحكم؟ وكيف يكون عنده تسع، وعند امته أربع؟ ولم يفطنوا إلى مسألة العدد والمعدود: هل استثنى الله تعالى رسوله في العدد، أم في المعدود؟

نقول: استثناه في المعدود؛ لأنه تعالى خاطب نبيه في آية أخرى:{ لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ... }[الأحزاب: 52] ففرض على رسول الله أنْ يقتصر على هؤلاء، لا يزيد عليهن، ولا يتزوج بعدهن حتى لو مُتْنَ جميعاً.

إذن: لم يستثنه في العدد، وإلا لكان من حقِّه إذا ماتت واحدة من زوجاته أنْ يتزوج بأخرى، وإنْ مُتْن جميعاً يأتي بغيرهن.

ولك أن تقول: ولماذا جعل الله الاستثناء في المعدود لا في العدد؟ قالوا: لأن زوجات غير النبي صلى الله عليه وسلم إذا طلَّقها زوجها لها أن تتزوج بغيره، لكن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين ومحرمات عليهم، فإنْ طلَّق رسول الله إحدى زوجاته بقيت بلا زواج.

لذلك أُمِر رسول الله أنْ يمسك زوجاته التسع، شريطة ألاَّ يزيد عليهن، في حين يُباح لغيره أن يتزوج بأكثر من تسع، بشرط ألاَّ يبقى معه أكثر من أربع، وعليه، فهذا الحكم ضيَّق على رسول الله في هذه المسألة في حين وسَّع على أمته.

ونعلم أنَّ معظم زوجات النبي كُنَّ كبيرات في السِّن، وبعضهن كُنَّ لا إرْبة لهن في مسألة الرجل، لكنهن يحرصن على شرف الانتساب لرسول الله، وعلى شرف كَوْنهن أمهات المؤمنين؛ لذلك كانت الواحدة منهن تتنازل عن قَسمْها في البيتوتة لضرتها مكتفية بهذا الشرف.

إذن: التفريق بين العدد والمعدود خلَّصنا من إفك المستشرقين، ومن تحاملهم على رسول الله واتهامهم له بتعدد الزوجات، وأنه صلى الله عليه وسلم وسَّع على نفسه وضيَّق على أمته.

ومسألة العدد والمعدود هذه مسألة واسعة حيّرت حتى الدارسين للنحو، فلا إشكال في العدد واحد والعدد اثنان؛ لأننا نقول في المفرد المذكر: واحد والمؤنث: واحدة. وللمثنى المذكر: اثنان، وللمؤنث: اثنتان. فالعدد يوافق المعدود تذكيراً وتأنيثاً، لكن الخلاف يبدأ من العدد ثلاثة، حيث يذكَّر العدد مع المعدود المؤنث، ويُؤنَّث مع المعدود المذكَّر، فمن أين جاء هذا الاختلاف؟

قالوا: لاحظ أن التذكير هو الأصل؛ ولذلك احتاج التأنيث إلى علامة، أما المذكَّر وهو الأصل فلا يحتاج إلى علامة، تقول: قلم. وتقول: دواة. فاحتاجت إلى علامة للتأنيث فهي الفرع والمذكر هو الأصل.

وتعالَ إلى الأعداد من ثلاثة إلى عشرة، تقول: ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة...إلخ فالعدد نفسه مبنيٌّ على التاء، وليست هي تاء التأنيث، لأنها أعداد مجردة بلا معدود، فإذا أردنا تأنيث هذا العدد وبه تاء لا نضيف إليه تاءً أخرى، إنما نحذف التاء فيكون الحذف هو علامة التأنيث ويبقى العدد مع المذكر على الأصل بالتاء.

فما حكاية العدد سبعة بالذات؟ قالوا: إن العدد واحد هو الأصل في الأعداد؛ لأن العدَّ ينشأ من ضم واحد إلى آخر، فواحد هو الخامة التي تتكون منها الأعداد فتضم واحداً إلى واحد وتقول: اثنان وتضم إلى الاثنين واحداً، فيصير العدد ثلاثة..وهكذا.

ومعلوم أن أقلَّ الجمع ثلاثة، والعدد إما شفع وإما وتر، الشفع هو الذي يقبل القسمة على الاثنين، والوتر لا يقبل القسمة على الاثنين، والله تعالى يقول:{ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ }[الفجر: 3] فبدأ بالشفع وأوله الاثنان ثم الثلاثة، وهي أول الوتر، أما الواحد فقد تركناه لأنه كما قلنا الخامة التي يتكون منها جميع الأعداد.

وما دام الله تعالى قال:{ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ }[الفجر: 3] فالاثنان أول الشفع، والثلاثة أول الوتر، وأربعة ثاني الشفع، وخمسة ثاني الوتر، وستة ثالث الشفع، وسبعة ثالث الوتر.

وقلنا: إن الجمع أقلُّه ثلاثة، فاعتبرت العرب العدد سبعة أقصى الجمع وتراً وزوجاً، وانتهت عند هذا العدد، فإذا أرادوا العدَّ أكثر من ذلك أتوْا بواو يسمونها واو الثمانية، وقد سار القرآن الكريم في أحكام العدد هذه على ما سارت عليه العرب.

واقرأ إنْ شئت هذه الآيات:{ وَسِيقَ الَّذِينَ كَـفَرُواْ إِلَىا جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّىا إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا... }[الزمر: 71]

أما في الجنة فيقول سبحانه:{ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى الّجَنَّةِ زُمَراً حَتَّىا إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا... }[الزمر: 73]

فما الفرق بين الآيتين؟ ولماذا جاءت الواو في الثانية، ولم تُذْكر في الأولى؟

قالوا: لأن{ فُتِحَتْ... }[الزمر: 71] في الأولى جواب شرط، وهذا الجواب كانوا يُكذِّبونه وينكرونه. والشرط تأسيس{ حَتَّىا إِذَا جَآءُوهَا... }[الزمر: 71] ماذا حدث؟{ فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا... }[الزمر: 71] إنما هل كان المؤمنون المتقون الذين يذهبون إلى الجنة يُكذِّبون بهذا اليوم؟

إذن فـ:{ فُتِحَتْ... }[الزمر: 71] هنا لا تكون جواباً؛ لأنهم يعلمون يقيناً أنها ستفتح، أما الجواب فسيأتي في:{ وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَـالُواْ الْحَـمْدُ للَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ }[الزمر: 73-74]

ولما كانت أبواب النار سبعة لم يذكر الواو، أما في الجنة فذكر الواو، لأن أبوابها ثمانية.

كذلك اقرأ قول الله تعالى ولاحظ متى تستخدم الواو:{ عَسَىا رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً }[التحريم: 5]

تجد الواو قبل الثمانية، ذلك لأن العرب تعتبر السبعة منتهى العدد بما فيه من زوج وفرد.

وقوله تعالى: } وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ.. { [لقمان: 27] أي: يُجعل مِداداً لكلمات الله } مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ.

. { [لقمان: 27] كلمات الله هي السبب في إيجاد المقدورات العجيبة؛ لأن الله تعالى يقول:{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }[يس: 82] فكل مراد من شيء سببه كن.

وهنا عجيبة ينبغي أنْ نتأملها: فالله تعالى يقول للشيء وهو لم يُخْلق بعد (كن)، كأن كل الأشياء موجودة في الأزل ومكتوبة، تنتظر هذا الأمر (كن)، فتبرز إلى الوجود، كما يقول أهل المعرفة: أمور يبديها ولا يبتديها.

إذن: } كَلِمَاتُ اللَّهِ.. { [لقمان: 27] هي كن وكل مرادات الله في كونه، ما علمنا منه وما سنعلم، وما لم نعلم إلا حين تقوم الساعة.

ألم يَقُلْ في العجيب من أمر عيسى عليه السلام{ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىا مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ... }[النساء: 171] والمعنى أنه لم يُخلق بالطريق الطبيعي في خَلْق البشر من أب وأم، إنما خَلِق بهذه الكلمة (كن). لماذا؟

لأن الله تعالى يريد أنْ يثبت لنفسه طلاقة القدرة في الإيجادات وأنه سبحانه يخلق كما يشاء، فمرة يخلق بلا أب وبلا أم، كما خلق آدم عليه السلام، ومرة يخلق بأم دون أب كما خلق عيسى عليه السلام، ومرة يخلق بأب وأم، ويخلق بأب دون أم كما خلق حواء.

إذن: القسمة العقلية موجودة بكل وجوهها.

إذن: مع طلاقة القدرة لا اعتبارَ للأسباب، فأنت إنْ أردتَ أنْ تكوِّن مثلاً قطرة الماء، فعليك أن تأتي بالأكسوجين والأيدروجين بطريقة معينة ليخرج لك الماء وإلا فلا، أما الخالق - عز وجل - فيخلق بالأشياء وبدون شيء، لأن الأشياء بالنسبة لله تعالى ليست فاعلة بذاتها، وإنما هي فاعلة بمراد الله فيها.

ثم يقول سبحانه: } إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ { [لقمان: 27] والعزيز هو الذي يَغلب ويَقْهر ولا يُقهر، ولا يستدرك أحد على فعله حتى لو كان مخالفا لعقله هو، وتأمل معنى العزة، وكيف وردت في هذا الموقف من قوله تعالى لسيدنا عيسى عليه السلام.{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ }[المائدة: 116] إلى أن يقول:{ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }[المائدة: 118]

والمنطق العقلي يقتضي أن نقول في عرف البشر: فإنك أنت الغفور الرحيم، فالمقام مقام مغفرة، لكن عيسى عليه السلام يأتي بها، لا من ناحية الغفران والرحمة، وإنما من ناحية طلاقة القدرة والعزة التي لا يستدرك عليها أحد.{ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }[المائدة: 118] والمعنى: لو قال الناس لماذا غفرتَ لهم مع أنهم قالوا كذا وكذا؟ فالإجابة أنني أنا العزيز الذي أغلب ولا أُغلب، ولا يستدرك أحد على حكمي، إذن: ذيَّل الآية بالعزة لعزة الله تعالى في خَلْقه.

ثم يقول الحق سبحانه: } مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ... {.

(/3421)

مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)

الحق سبحانه وتعالى يؤكد دائماً على قضية البعث والقيامة، ويريد سبحانه أنْ ينصب للناس في حركة حياتهم موازين الجزاء؛ لأن كل عمل لا توجد فيه موازين للجزاء يعتبر عملاً باطلاً، ولا يمكن أنْ يستغنى عن الجزاء ثواباً وعقاباً إلا مَنْ كان معصوماً او مُسخَّراً، فالمعصوم قائم دائماً على فِعْل الخير، والمسخّر لا خيارَ له في أنْ يفعل أو لا يفعل.

إذن: إذا لم يتوفر مبدأ الجزاء ثواباً وعقاباً في غير هذين لا بُدَّ أنْ يوجد فساد، إذا لم يُثب المختار على الفعل، ويعاقب على الترك اضطربت حركة الحياة، حتى في المجتمعات التي لا تؤمن بإله وضعت لنفسها هذا القنون، قانون الثواب والعقاب.

والحق - سبحانه وتعالى - يعطينا مثالاً لهذا المبدأ في قوله تعالى من قصة ذي القرنين:{ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً }[الكهف: 84-85]

أراد الحق سبحانه أن يبين أن الرجل الممكّن في الأرض له مهمة، هذه المهمة هي شكر الله على التمكين ولا يكون إلا بإقامة ميزان العدالة في الكون{ حَتَّىا إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ... }[الكهف: 86] أي: في رأي العين، وإلا فهي لا تغرب أبداً، إنما تغرب عن جماعة في مكان، وتشرق على جماعة في مكان آخر.{ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً }[الكهف: 86]

ولا يُفوِّض إنسان في أنْ يُعذِّب أو يتخذ الحسنى إلا إذا كانت لديه مقاييس وميزان العدالة، وقد قال الله عنه:{ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً }[الكهف: 84] أي: نعمة وميزاناً لتوزيع هذه النعمة، فلم تقتصر نعمة الله عليه في أنه صاحب سلطان وجبروت، إنما عنده المقوِّمات الحياتية، وعنده ميزان العدالة الذي يضبط استطراق النِّعَم في الكون كله.

فالذي خُيِّر في أنْ يفعل أو لا يفعل أراد أنْ يبين منهجه في أنه لم يأخذ الاختيار وسيلة لتثبيت الأهواء؛ لذلك قال بعدها:{ قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىا رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً }[الكهف: 87] هذا هو العقاب{ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَىا وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً }[الكهف: 88] أي: بعد أنْ ينال ثوابه، نعطيه فوق ذلك حوافز تشجعه، ونقيم له حفلة تكريم لنغري غيره بأن يسلك مسلكه.

إذن: فقضية الثواب والعقاب أمر لازم، وإذا كان هذا في الأمور الحياتية الجزئية، فهو أَوْلى في أمور الدين والقيم التي تسيطر على كل موازين الحياة، لا بُدَّ من وقت للثواب وللعقاب، وإلا استشرى الظلم واغتال الناس، وقضى عليهم وأخذ منهم كل مُتع الحياة، فانتفع بذلك المفسد، وخاب كل مَن التزم بدين الله وقيم منهجه.

لذلك تجد الحق - تبارك وتعالى - يؤكد دائماًَ على مسألة البعث والقيامة والحساب، وترى أعداء الدين يحاولون أنْ يُشككوا في هذه القضية، وأنْ يُزحزحوا الناس عن الإيمان بها بطرق شتى.

فالفلاسفة لهم في ذلك دور، وللملاحدة دور، ولأهل الكتاب دور؛ لذلك تجد التوراة مثلاً تكاد تخلو من إشارة عن اليوم الآخر، وهذا أمر غريب لا يمكن تصوره في كتاب ودين سماوي ومنهج حياة.

وما ذلك إلا لأن أهل التوراة أرادوا أنْ يُزحزحوا الناس عن أمور عدة ليثبتوا لأنفسهم سلطة زمنية مادية، حتى إنهم طمعوا في أنْ يرتقوا بهذه السلطة حتى يصلوا إلى الله تعالى، كما حكى القرآن عنهم:{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىا نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً... }[البقرة: 55]

ولما أنزل الله عليهم المنَّ، وهو مادة حُلْوة كطعم القشدة جعلها تتساقط عليهم، وأنزل عليهم السلوى، وهي طيور مثل السمان تنزل عليهم جاهزة مُعدَّة للتناول رفضوا عطية الله لهم، وطعامه الذي أُعدَّ من أجلهم، وقالوا: بل نريد طعاماً نصنعه بأيدينا، وقالوا:{ لَن نَّصْبِرَ عَلَىا طَعَامٍ وَاحِدٍ... }[البقرة: 61]، فقال لهم:{ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ... }[البقرة:61]

وما دام الأمر بالنسبة لهؤلاء مادياً فلا بُدَّ أنْ يزحزح نفسه عن الآخرة وعن القيامة والحساب، لذلك راحوا يُشكِّكون فيها، أما الفلاسفة فقالوا: حين يبعث الله إنساناً بعد الموت وقد تحللتْ أعضاؤه وصارت تراباً، ثم غرست في هذا المكان شجرة فتغذتْ من هذا التراب، وأكل إنسان آخر من ثمارها وانتقلتْ إليه بعض خلايا وجزيئات الأول، فإذا كان هناك بعث أتُبعت هذه الجزئيات مع الأول أم مع الآخر؟ فإنْ كانت مع الأول فهي نقص في الآخر والعكس. هذه هي شبهة الفلاسفة.

وقد تخبَّط الفلاسفة هذا التخبُّط؛ لأنهم لم يفطنوا إلى شيء في الوجود يعطي قيماً للغيبيات، وقد أوضحنا هذه المسألة فقلنا لهم: لو أن إنساناً يزن مائة كيلو مثلاً أصيب بمرض أفقده أربعين كيلو من وزنه، فماذا يعني هذا النقص بالنسبة للشخص نفسه؟

هذه المسألة يتحكم فيها أمران: الغذاء والإخراج، ففي فترة النمو يكون الداخل للجسم أكثر من الخارج، أما في فترة الشيخوخة مثلاً فالخارج أكثر، فإنْ توازن الأمران كانت حالة من الثبات لا يزيد فيها الشخص ولا ينقص، وهي فترة الثبات.

فالشخص الذي نقص من وزنه أربعون كيلو، ثم شفاه الله وعادت إليه عافيته حتى زاد وزنه وعاد إلى حالته الطبيعية، فهل تغيَّر الشخص حال نقصان وزنه؟ وهل تغيَّر حال عودته إلى طبيعته؟ أم ظلت الشخصية والذاتية هي هي؟

إذن: المسألة في تكوين الجسم ليست ذرات وجزئيات، إنما هي شخصية معنوية خاصة وإنْ تكوَّنت من جزيئات المادة وهي الستة عشر عنصراً التي تكوِّن جسم الإنسان، والتي تبدأ بالأكسوجين وتنتهي بالمنجنيز، وهي نفس العناصر المكوِّنة لتربة الأرض التي نأكل منها، وهذه العناصر بنسب تختلف من شخص لآخر.

والحق سبحانه وتعالى يقول:{ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ }[ق: 4] يعني: نعرف ما نقص من كل إنسان: كذا في الحديد، وكذا من الأكسوجين، وكذا من الفسفور..إلخ.

إذن: حين يبعث الله الإنسان بعد الموت يبعث هذه الشخصية المعنوية بهذه الأجزاء المعروفة، فيأتي الشخص هو هو.

ومن القضايا التي أثاروها في مسألة البعث ولالتباسات التي يحاولونها يقولون: الله تعالى يخلق الإنسان في مدة تسعة أشهر، أو ستة أشهر، يمر خلالها بعدة مراحل: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاماً، ثم يكسو هذه العظام لحماً، هذا للإنسان الواحد، فكم تستغرق إعادة خَلْق البشر من لَدُن آدم عليه السلام حتى قيام الساعة؟

ونقول: لقد ذكرتم كيفية خَلْق سلالة الإنسان والتي تستغرق تسعة أو ستة أشهر، لكن لم تذكروا خَلْق الأصل، وهو آدم عليه السلام، وقد خلقه الله على هيئته وصورته التي كان عليها، فلم يكُنْ صغيراً وكبر، إنما خُلِق كبيراً مستوياً كاملاً، ثم نُفِخت فيه الروح.

ثم إن عناصر الفعل هي: الفعل، والفاعل، والمنفعل، يُضاف إليها الزمن الذي سيتم فيه الفعل، فأنا أريد أنْ أنقل هذه (الحملة) من هنا إلى هناك فنقلنا فعل، وأنا الفاعل، والجملة هي المنفعل ثم الزمن الذي يستغرقه الحدث، والزمن يعني توزيع جزئيات الحدث على جزيئات الزمن فإذا أردت أن تخيط ثوبا بطريقة يدوية فإنه يأخذ منك وقتاً طويلاً، فإن خِطَّه بالماكينة أخذ وقتاً أقلّ بكثير.

إذن: فزمن الفعل يتناسب مع قوة الفاعل، وتذكرون أنه في الماضي كانت الشوارع تضاء بمصابيح الزيت، وكان لكل منطقة عامل يصعد إلى سلم إلى كل فانوس ليشعله، أما الآن فتستطيع أن تنير مدينة بأكملها بضغط زر واحد. إذن: كلما زادتْ القوة قلَّ الزمن.

فتعال إذن إلى مسألة البعث والإعادة بعد الموت: أهي بقوتك أنت لتحسبها بما يناسب قوتك وقدرتك؟ إنها بقوة الله عز وجل، والله لا يعالج الأمور كما نفعل ولا يزاولها، إنما يفعل سبحانه بكُنْ. إذن: فالفعل بالنسبة لله تعالى لا يحتاج إلى زمن تُوزَّع فيه جزئيات الفعل على جزئيات الزمن.

ولمَ تستبعد هذا في حقَّ الله تعالى، وقد أعطاك ربك طرفاً منه رغم قدرتك المحدودة؟ ألستَ تجلس في مثل هذا المجلس فترانا جميعاً مرة واحدة في نظرة واحدة، كذلك تسمع الجميع دفعة واحدة؟ ألستَ تقوم بمجرد أن تريد أنْ تقوم، وتنفعل جوارحك لك بمجرد أنْ يخطر الفعل على بالك؟ أتفكر أنت في العضلات التي تحركتْ والإشارات التي تمتْ بداخلك لتقوم من مجلسك؟

وقد سبق أنْ أوضحنا هذه المسألة حين قارنَّا حركة الإنسان في سلاستها وطواعية الجوارح لمراد صاحبها بحركة الحفار مثلاً، فهو لا يؤدي حركة إلا بالضغط على زر خاص بها.

فإذا كنت أنت أيها العبد تنفعل لك جوارحك وأعضاؤك بمرادك في الأشياء، فهل تستبعد في حق الله أنْ يفعل بكلمة كُنْ؟ كيف وأنت ذاتك تفعل بدون أنْ تقولها؟ مجرد الإرادة منك تفعل ما تريد.

فإنْ قلتَ: كيف يفعل الحق سبحانه بكلمة كُنْ، وأنا أفعل بدون أنْ أقولها؟ نقول: نعم أنت تفعل بدون كُنْ؛ لأن الأشياء ليست منفعلة لك أنت، إنما هي مُسخَّرة بكُنْ الأولى حين قال الله لها كوني مُسخَّرة لإرادته، إذن: أنا أفعل بدون كُنْ؛ لأنها ليست في مقدوري أنا، فكأن كُنْ الأولى من الله تعالى هي كُنْ لنا جميعاً.

وبهذا الفهم استطعنا تفسير حادثة الإسراء والمعراج، واستطعنا الرد على منكريها، فالله يقول:{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىا بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىا الْمَسْجِدِ الأَقْصَى... }[الإسراء: 1]

فلما سمع الكفار بالحادثة أنكروها وقالوا: كيف ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً؟ نعم أنتم تضربون إليها أكباد الإبل شهراً؛ لأن فعلكم يحتاج إلى زمن ومزاولة نوزع فيها جزئيات الفعل على جزئيات الزمن، أمَّا محمد فلم يقُلْ سريتُ، فيكون في الفعل كأحدكم إنما قال: أُسرِي بي.

إذن: فهو محمول على قدرة أخرى، فالفعل لا يُنسب إليه إنما إلى حامله إلى الله، وقلنا: كلما زادتْ القوة قلَّ الزمن، فإذا كانت القوة قوة الحق - تبارك وتعالى - فلا زمن؛ لذلك يقول سبحانه في مسألة الخلق والإعادة: } مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ.. { [لقمان: 28]

فالأمر يسير على الله؛ لأن خَلْق النفس الواحدة وخَلْق جميع الأنفس يتم بكُنْ، فالمسألة لا تحتاج إلى تسعة أو ستة أشهر.

وضربنا مثلاً لتوضيح هذه المسألة بصناعة الزبادي مثلاً، فأنت تأتي باللبن وتضع عليه المادة المعروفة وتتركه في درجة حرارة معينة فيتحول تلقائياً إلى الزبادي الذي تريده، فهل جلستَ أمام كل علبة تُحوِّلها بنفسك، أم أنك عملت العملية المعروفة في هذه الصناعة، ثم تركت هذه المواد تتفاعل بذاتها؟

كذلك شاء الله تعالى أنْ يوجد الإنسان جنيناً في بطن أمه، وأن تجري عليه أمور النمو بطبيعتها، إذن: خَلْق الإنسان لا يقاس بالنسبة لله تعالى بالزمن، وقد حَلَّ لنا الإمام علي كرم الله وجهه هذه القضية حينما سُئِل: كيف يحاسب الله الناس جميعاً من لَدُن آدم عليه السلام إلى قيام الساعة في وقت واحد؟

فقال: يحاسبهم جميعاً في وقت واحد، كما أنه يرزقهم جميعاً في وقت واحد؛ لأنه سبحانه لا يشغله شأن عن شأن.

ثم يذيل الحق سبحانه هذه الآية بقوله تعالى: } إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ { [لقمان: 28] سميع بصير صيغة مبالغة من السمع والبصر، وقلنا: إنك وأنت العبد المخلوق تستطيع أن ترى هذا الجمع مرة واحدة في نظرة واحدة، وكذلك تسمعه، فما بالك بسمَعْ الله تعالى وبصره؟

ثم يقول الحق سبحانه: } أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ... {.

(/3422)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)

هذه آيات كونية واضحة مرئية للجميع: للمؤمن وللكافر، للطائع وللعاصي، فالحق سبحانه يوزع لنا الوقت بين ليل ونهار، لكنه ليس توزيعاً متساوياً (ميكانيكياً)، بحيث يكون كل منهما أربعاً وعشرين ساعة ثابتة على التقدير الجبري كما يقولون؛ لذلك نرى اليوم ينقص مثلاً عن الأربع وعشرين ساعة عدة دقائق تُضاف إلى زمن الليل أو العكس.

لذلك قالوا من أيام بطليموس: السنة 365 يوماً وخمس ساعات، وخمس وخمسون دقيقة، واثنتا عشرة ثانية بالدقة. بعدها انتهوا إلى أنَّ السنة 365 يوماً وربع يوم عن طريق الجبر، فكل ثلاث سنين نجبر الرابعة، ويقولون: سنة بسيطة، وسنة كبيسة أي: طويلة، فالتي تقبل القسمة على أربعة سنة كبيسة، لذلك نجد شهر فبراير في هذه السنة 29 يوماً، ذلك لنعوض اليوم.

وكلمة يوم تعني الليل والنهار، لكن القسمة بينهما ليست متساوية، فالحق - تبارك وتعالى - بصنعته الحكيمة أراد أنْ يُوزع الحرارة والبرودة على كل مناطق المعمورة، ويعطي لكل منطقة ما تحتاجه لتنبت أرضها، وتعطينا نحن مقومات حياتنا، بدليل أن من النباتات ما لا ينمو إلا في الصيف، ومنها ما لا ينمو إلا في الشتاء، كذلك في الاعتدال الربيعي والاعتدال الخريفي.

لذلك، عرفنا أخيراً أن الخالق سبحانه جعل لمحور الأرض ميلاً بمقدار 23.5 درجة عن مستوى مدارها فهي إذن غير مستوية، ففي فصل الشتاء يكون القسم الكبير منها مواجهاً لليل، والآخر مواجهاً للنهار، فتجد ليل الشتاء أطول من ليل الصيف وأبرد منه، ويبلغ ليل الشتاء أقصى ما يمكن من الطول وهو 12 ساعة فهي شهر كيهك، حتى أن الفلاحين يقولون في كيهك (كياك صباحك مساك قوم من نومك حضر عشاك).

ومقابل ذلك في فصل الصيف، فكأن ميل محور الأرض سرٌّ من أسرار هندسة هذا الكون، ففي الحادي والعشرين من حزيران (يونيو) يبدأ الانقلاب الصيفي، وفي الثالث والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) يبدأ الانقلاب الشتوي، ثم الاعتدال الربيعي في الحادي والعشرين من آذار (مارس)، والاعتدال الخريفي في الثاني والعشرين من أيلول (سبتمبر). وفي الاستواء الربيعي والاستواء الخريفي تجد أن الليل مساو للنهار، وجوّهما معتدل لا حر ولا برد.

فقول الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الْلَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الْلَّيْلِ.. } [لقمان: 29] يعني: لا تظن أن الليل والنهار قسمة متساوية؛ لأن الله تعالى بحكمته يُدخل جزءاً من الليل في النهار، أو جزءاً من النهار في الليل، فيزيد في أحدهما، وينقص من الآخر لحكمة أرادها سبحانه وتعالى لصالح الإنسان، وإمداداً له بمقوِّمات حياته، لتعلم أن ما يطرأ على الليل أو النهار من تغيير الأشياء لها مناط في الحكمة الإلهية العليا.

وحين نُقسِّم اليوم إلى ليل ونهار - وهي قسمة كما قلنا ليست رتيبة ولا متساوية - فإن لليل مهمة في الحياة وللنهار مهمة، كما بيِّن لنا سبحانه:{ وَجَعَلْنَا الَّيلَ لِبَاساً *وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً }[النبأ: 10-11]

معنى اللباس أن تسكن فيه وتكِنّ وتستر نفسك؛ لذلك عرفنا فيما بعد أن الضوء أثناء النوم أمر غيرَ صحي، وفهمنا قول رسول الله: " أطفئوا المصابيح إذا رقدتم ".

والحق سبحانه يوضح لنا هذه المسألة في قوله تعالى:{ وَالضُّحَىا * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىا }[الضحى: 1-2] ويقول:{ وَالْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىا * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىا }[الليل: 1-2] ليبين لك أن لكل منهما مهمة في حركة حياتك، فالنهار للحركة، والليل للسكون، وعليك ألا تخلط بين هاتين المهمتين دون داع، وقد استثنينا من هذه القاعدة مَنْ تحتم عليهم طبيعة عملهم أنْ يعملوا بالليل ويرتاحوا بالنهار.

والخالق عز وجل في حركة الليل والنهار أسراراً وعجائب ينبغي أن نتنبه إليها بمعطيات العلم، ومن حكمة الخالق سبحانه أنْ جعل لكل سر في الكون ميلاداً يولد فيه، ونثر أسرار كونه على خَلْقه ولم يُظهرها لجيل واحد، وإلا لو كشف القرآن كل أسراره للأمة الأمية التي عاصرتْ نزوله لانصرفتْ عن الدعوة الجديدة بتكذيب هذه القضايا التي لم تصدقها العقول حتى في العصر الحديث ورغم تقدم العلوم، فمثلاً لما قال العلماء بكروية الأرض ودورانها حول الشمس لم نصدق هذه الحقائق حتى جاءتنا الصور الفضائية التي تؤكد ذلك.

وقلنا: إن ميلاد سِرٍّ من أسرار الكون قد يصادف بحثاً من البشر، فيأتي السر ويظهر على أنه نتيجة لهذا البحث، وإلا أظهره الله للناس بالمصادفة رحمة بهم وتفضُّلاً عليهم؛ لذلك نجد أن معظم الاكتشافات جاءت صدفة، لم يَسْعَ إليها البشر، ولم يذهبوا إليها بمقدمات.

والقرآن الكريم حين يتحدث عن الليل والنهار يقول كلاماً عاماً يفهمه كل معاصر لمرحلة من مراحل التقدم العلمي:{ وَجَعَلْنَا الَّيلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ... }[الإسراء: 12]

ويقول:{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ الَّيلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً }[الفرقان: 62] ومعنى خلفه يعني: يخالف أحدهما الآخر ويأتي بعده، وهذا صحيح الآن، فنحن نرى الليل يخلف النهار، والنهار يخلف الليل، لكن كيف نتصور هذه المسألة في بَدْء الخَلْق؟

لو أن البداية كانت بخَلْق الأرض مواجهة للشمس، فالنهار إذن أولاً ليس خِلْفة لشيء قبله، ثم تغيب الشمس فينشأ الليل ليكون خِلْفة للنهار، وفي المقابل إن وجدت الأرض غير مقابلة للشمس، فالليل هو الأول ليس خِلْفة لشيء قبله.

إذن: لا يحل لنا هذه المسألة إلا قوله تعالى:{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ الَّيلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً... }[الفرقان: 62] أي: من بداية الخَلْق وهما خِلْفة، وهذا لا يتأتى ولا يسوغ إلا إذا كانت الأرض مكوَّرة، بحيث يكون الجزء المقابل للشمس منها مكوِّناً للنهار، والجزء الآخر لليل في وقت واحد، فلما تحركت الأرض في دورانها صار كل منها خِلْفة للآخر، إذن: معطيات القرآن يهضمها العقل، ولا يعارضها أبداً.

تذكرون في الثلاثينيات وبالتحديد عام 1928 فسروا السماوات السبع بأنها الكواكب السبعة السيارة التي تدور حول الشمس، ذلك ليقربوا العلم للناس، ويشاء الله - سبحانه وتعالى - أن يكتشفوا بعدها (نبتون) ثم (بلوتو) فصاروا تسعة كواكب، وأظهر الله لهم فساد هذا التأويل.

وفي الكون عجائب كثيرة نعرفها حتى عن طريق الكفار، وكأن الله سخَّر حتى الكافر ليُثبت إيمان المؤمن، فإذا كنا قد عرفنا اليوم عندنا على الأرض، وأنه ليل ونهار يُكوِّنان أربعاً وعشرين ساعة، فماذا يعني اليوم بالنسبة للكواكب الأخرى؟

لما عرفوا أفلاك الكواكب الأخرى التي تدور حول الشمس وجدوا أقربها للشمس عطارد، ثم الزهرة، ثم الأرض، ثم المريخ، ثم المشتري، ثم زحل، ثم نبتون، ثم بلوتو، وهو أبعد الكواكب عن الشمس.

ومن عجائب اليوم في هذه الكواكب أن يوم الزهرة مثلاً 244 يوماً بيومنا نحن، أما العام فيساوي 225 يوماً بيومنا، فكأن يوم الزهرة أطول من عامها، كيف؟ قالوا: لأن المدار مختلف عن مدار الأرض، فاليوم نتيجة دورة الكوكب حول نفسه، والعام نتيجة دورة الكوكب حول الشمس.

وقوله تعالى: } وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ... { [لقمان: 29] ولك أن تلحظ دقة الأداء القرآني في الانتقال من الفعل المضارع } يُولِجُ... { [لقمان: 29] إلى الماضي } سَخَّرَ... { [لقمان: 29] ففي الكلام عن حركة الليل والنهار قال } يُولِجُ... { [لقمان: 29] ولما تكلم عن الشمس والقمر قال: } سَخَّرَ... { [لقمان: 29] لماذا؟

قالوا: لأن التسخير تم مرة واحدة، ثم استقر على ذلك، أما إيلاج الليل في النهار، وإيلاج النهار في الليل فأمر مستمر يتكرر كل يوم، فناسبه المضارع الدالّ على التكرار.

وقوله تعالى: } كُلٌّ يَجْرِي إِلَىا أَجَلٍ مُّسَمًّى... { [لقمان: 29] أي: إلى غاية محدودة؛ لذلك نسمي العمر النهائي: الأجل. والمراد بالأجل المسمى يوم القيامة، فكأن الخالق سبحانه ضمن لنا استمرار الشمس والقمر إلى قيام الساعة، فاطمئنوا.

ثم أيُّ عظمة هذه في كوكب مضيء ينير العالم كله منذ خلقه الله وإلى قيام الساعة، دون صيانة ودون قطعة غيار؛ ذلك لأنه مبني على التسخير القهري الذي يمنع الاختيار، فليس للشمس أنْ تمتنع عن الشروق وكذلك القمر، ومن العظمة في الألوهية هذه الرحمانية الرحيمة التي تحتضن الجميع المؤمن بها والكافر.

وفي هذه الآية ورد التعبير بلفظ } إِلَىا أَجَلٍ مُّسَمًّى... { [لقمان: 29] وفي مواضع أخرى ورد بلفظ{ لأَجَلٍ مُّسَمًّـى... }[الرعد: 2] باللام بدلاً من إلى، وكذلك في سورتي فاطر (13) والزمر (5)، ولكل من الحرفين معنى } إِلَىا أَجَلٍ... { [لقمان: 39] تعطينا الصورة لمشية الشمس والقمر قبل وصولهما الأجل، إنما{ لأَجَلٍ مُّسَمًّى... }[فاطر: 13] أي: الوصول المباشر للأجل.

وكما أن لليل مهمة وللنهار مهمة، كذلك للشمس مهمة، وللقمر مهمة بيَّنها الله في قوله:

{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً... }[يونس: 5].

وفي موضع آخر قال سبحانه:{ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً }[الفرقان: 61] فالضياء للشمس فيه نور وحرارة، على خلاف نور القمر الذي يناسب حالماً لا حرارة فيه.

ومن عجائب أمر القمر أننا كُنَّا نحسبه قطعة من اللؤلؤ مضيئة في السماء، حتى إن الشعراء درجوا على تشبيه المحبوبة بالقمر، ولو عرفوا حقيقة القمر التي عرفناها نحن اليوم ما صحَّ منهم هذا التشبيه، فقد أطلعنا العلم أن القمر ما هو إلا حجارة وجسم معتم لا يضيء بذاته، إنما يعكس فقط ضوء الشمس؛ لذلك لما شبَّه أحد الشعراء محبوبته بالقمر أنكرتْ عليه هذا التشبه:شبَّهْتُها بالبدْرِ فَاسْتضْحكتْ وقابَلَتْ قَوْلِي بالنُّكْرأي: تكلفت الضحك.وَسفَّهَتْ قوْلي وقَالَتْ متَى سَمُجْتُ حتى صِرْتُ كالبدْرِولك أن تسأل فمن أين عرفت سماجة البدر، وأنه حجارة لا جمالَ فيها؟ تجيب هي حين تقول:البَدْرُ لاَ يرنُو بعيْن كَما أَرْنُو ولاَ يَبْسِمُ عن ثَغْرولاَ يُميط المرْطَ عن نَاهدٍ ولا يشدُّ العقد في نَحْرمَنْ قَاسَ بالبَدْر صَفائي فَلا زَالَ أَسِيراً في يَدِي هَجْريإذن: فحقيقة القمر التي عرفناها أخيراً آية من آيات الله الظاهرة والباطنة في الكون أطلعنا الله عليها بسلطان العلم، فلما تيسَّر للبشر الصعود إلى سطحه عرفنا أنه جسم مُعْتم، وصخور لا تنير بذاتها، إنما تعكس أشعة الشمس، فتصل إلينا هادئة حالمة، وكأن القمر كما يقولون: (يصنع من الفسيخ شربات).

ومن حكمة الخالق سبحانه في خَلْق الشمس والقمر أن تكون الشمس ميزاناً لمعرفة اليوم، والقمر لمعرفة الشهر، وهو الأصل في التكليفات، لأن له شكلاً مميزاً في أول الشهر على خلاف الشمس؛ لذلك يقول سبحانه:{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ... }[يونس: 5].

وتتجلى عظمة التكليف الإلهي وارتباطه بالقمر في فريضة الحج مثلاً، بحيث يتنقل موعد الحج على مدار العام كله، فمرة يأتي في الصيف، وأخرى في الشتاء.. إلخ مما يُيسِّر للحجاج ما يناسب كلاً منهم من الجو الملائم، ويقطع الأعذار في التخلف عن أداء هذه الفريضة.

إذن: بالتوقيت القمري يأتي الحج في كل أوقات السنة؛ لذلك قال البعض: إن ليلة القدر دائرة في العام كله إذا ما قارنا التوقيت الشمسي بالتوقيت القمري، فإنِ اتفقنا على أن ليلة القدر في السابع والعشرين من رمضان، فإنها ستوافق أول يناير مثلاً، وفي العام التالي توافق الثاني، ثم الثالث وهكذا.. وهذا من رحمة الله تعالى بعبادة..

ثم يقول سبحانه: } وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ { [لقمان: 29] وما دام أنه سبحانه خبير بما تعملون، فهو الذي يهييء لكم صلاح العمل بخبرته وحكمته وقدرته وقيوميته؛ لذلك شرع لكم الأعمال التي تنظم حركة حياتكم وحركة عبادتكم؛ لذلك نجد رمضان مثلاً يدخل بالليل فنقول هذه الليلة من رمضان، أما يوم عرفة فيدخل بيومه لأنه يوم مجموع له الناس.

وقوله: } وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ { [لقمان: 29] معطوفة على } أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ... { [لقمان: 29] فالتقدير: وألم تر أن الله بما تعملون خبير.

ثم يقول الحق سبحانه: } ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ... {.

(/3423)

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)

قوله تعالى: { ذَلِكَ.. } [لقمان: 30] إشارة إلى ما تقدم ذِكْره من دخول الليل في النهار، ودخول النهار في الليل، وتسخير الشمس والقمر، ذلك كله { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ.. } [لقمان: 30] فكل ما تقدم نشأ عن صفة من صفات الله وهو الحق، والحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير، فكأن ناموس الكون بكل أفلاكه وبكل المخلوقات فيه له نظام ثابت لا يتغير؛ لأن الذي خلقه وأبدعه حق { بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ.. } [لقمان: 30]

وما دام الله تعالى هو (الحق) فما يدَّعونه من الشركاء هم الباطل { وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ.. } [لقمان: 30]، فلا يوجد في الشيء الواحد حَقَّان، فإنْ كان أحدهما هو الحق فغيره هو الباطل، فالحق واحد ومقابله الباطل. وأيُّ باطل أفظع من عبادتهم للأصنام واتخاذها آلهة وشركاء مع الله عز وجل؟

كيف وهي حجارة صوَّروها بأيديهم وأقاموها ليعبدوها من دون الله، والحجارة جماد من جمادات الأرض، والجماد هو العبد الأول لكل المخلوقات، عبد للنبات، وعبد للحيوان، وعبد للإنسان؛ لأنه مُسخّر لخدمة هؤلاء جميعاً.

فكيف بك وأنت الإنسان الذي كرَّمك ربك وجعل لك عقلاً مفكراً تتدنى بنفسك وترضى لها أنْ تعبد أدنى أجناس الوجود، وتتخذها شريكاً مع الله، وأنت ترى الريح إذا اشتدتْ أطاحتْ باللات أو بالعزى، وألقتْه على الأرض، وربما كُسرت ذراعه، فاحتاج لمن يصلح هذا الإله، إذن { وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ.. } [لقمان: 30]

لذلك؛ قلنا في الحروب التي تنشب بين الناس: إنها لا تنشب بين حقين؛ لأن الحقيقة لا يوجد فيها حقَّان، إنما هو حق واحد، والآخر لا بُدَّ أن يكون باطلاً، أو تنشأ بين باطلين، أما نشأتها بين حق وباطل فإنها في الغالب لا تطول؛ لأن الباطل زهوق.

والعاقبة لا بُدَّ أنْ تكون للحق ولو بعد حين، أما الباطل فإنه زَهُوق، إنما تطول المعركة إنْ نشبت بين باطلين، فليس أحد الطرفين فيها أهلاً لنصرة الله، فتظل الحروب بينهما حتى يتهالكا، وتنتهي مكاسب طغيان كل منهما، ولا يردهما إلا مذلَّة اللجوء إلى التصالح بعد أنْ فقدا كل شيء.

لذلك نرى هذه الظاهرة أيضاً في توزيع التركات والمواريث بين المستحقين لها، حيث ينشب بينهم الخلاف والطعن واللجوء إلى القضاء والمحامين حتى يستنفد هذا كله جزءاً كبيراً من هذه التركة، حتى إذا ما صَفَتْ مما كان بها من أموال جُمعتْ بالباطل ترى الأطراف يميلون إلى الاتفاق والتصالح وتقسم ما بقي.

واقرأ إنْ شئت حديث رسول الله صلى الله عليهم وسلم: " مَنْ أصاب مالاً من مهاوش أذهبه الله في نهابر " ومعنى: مهاوش يعني التهويش أو كما نقول (بيهبش) من هنا ومن هنا، وطبيعي أن يُذهِب الله هذا المال في الباطل وما لا فائدة منه.

وسبق أن أعطينا مثلاً لمصارف المال الحرام بالأب يرجع إلى بيته، فيجد ابنه مريضاً حرارته مرتفعة، فيسرع به إلى الطبيب ويصيبه الرعب، ويتراءى له شبح المرض، فينفق على ابنه المئات، أما الذي يعيش على الكفاف ويعرق في كسب عيشه بالحلال فيكفيه في مثل هذه الحالة قرص أسبرين وكوب ليمون، فالأول أصاب ماله من مهاوش، والآخر أصابه من الحلال.

فقول الله تعالى: } ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ.. { [لقمان: 30] يعني: أن الحق هو الظاهر وهو الغالب، فإنْ قلتَ كيف ونحن نرى الباطل قد يعلو على الحق ويظهر عليه؟ ونقول: نعم، قد يعلو الباطل لكن إلى حين، وهو في هذه الحالة يكون جندياً من جنود الحق، كيف؟ حينما يعلو الباطل وتكون له صَوْلَة لا بُدَّ أن يعض الناس ويؤذيهم ويذيقهم ويلاته، فيلتفتون إلى الحق ويبحثون عنه ويتشوقون إليه.

إذن: لولا الباطل ما عرفنا ميزة الحق، ومثال ذلك الألم الذي يصيب النفس الإنسانية فينبهها إلى المرض، ويظهر لها علتها، فتطلب الدواء، فالألم جندي من جنود الشفاء، وقلنا سابقاً: إن الكفر جندي من جنود الإيمان.

لذلك لا تحزن إنْ رأيتَ الباطل عالياً، فذلك في صالح الحق، واقرأ قول ربك عز وجل:{ أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا... }[الرعد: 17] يعني: يأخذ كل وادٍ على قدره وسِعَته من الماء{ فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً... }[الرعد: 17] وهو القش والفتات الذي يحمله الماء{ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ... }[الرعد: 17] أي: مثلاً لكل منهما.{ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً... }[الرعد: 17] يعني: مطروداً مُبْعداً من الجفوة{ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ }[الرعد: 17]

وبعد أن بيَّن الحق سبحانه وتعالى أنه } الْحَقُّ.. { [لقمان: 30] وأن غيره من آلهة المشركين هم الباطل ذكر لنفسه سبحانه صفتين أخريين } وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ { [لقمان: 30] العلي الكبير يقولها الله تعالى، ويقولها رسوله صلى الله عليه وسلم، ونقولها نحن؛ لأن الله قالها؛ ولأن النبي الصادق أخبرنا بها، لكن المسألة أن يشهد بها مَنْ كفر بالله.

لذلك يعلمنا ربنا - تبارك وتعالى - أن نحمد الله حينما يشهد الكافر لله رغم كفره به، كما ورد في الآيات السابقة:{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }[لقمان: 25]

فهذه الشهادة منهم تستحق من المؤمن أن يقول: الحمد لله؛ لأنها شهادة ممَّنْ كفر بالله وكذَّب رسوله وحاربه، وأيضاً تنظر إلى هذا الكافر الذي تأبَّى على منهج الله وكذَّب رسوله حين يصيبه مرض مثلاً، أيستطيع أنْ يتأبى على المرض كما تأبَّى على الله؟ هذا الذي أَلِف التمرد على الله: أيتمرد إنْ جاءه الموت.

واقرأ قوله تعالى:{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ... }[الإسراء: 76] أي: لا يجدون أمامهم ساعة الكرب والهلاك إلا الله؛ لأن الإنسان في هذه الحالة لا يخدع نفسه ولا يكذب عليها، بالله أرأيتم إنساناً أحاطتْ به الأمواج، وأشرف على الهلاك يدعو يقول: يا هبل؟ إذن: الله هو العلي وهو الكبير، وغيره شرك وباطل.

وسبق أن ضربنا مثلاً للإنسان، وأنه لا يغشُّ نفسه، ولا يخدعها خاصة إذا نزلتْ به ضائقة بالحلاق أو حكيم الصحة كما يطلقون عليه، فهو يداوي أهل القرية ويسخر من طبيب الوحدة الصحية، ويتهمه بعدم الخبره لكن حين مرض ولده وأحسَّ بالخطر أخذ الولد وتسلَّل به في ظلام الليل، وذهب إلى الطبيب.

فلله وحده العلو، ولله وحده الكبرياء، بدليل أن الكافر حين تضطره أمور الحياة وتُلجئه إلى ضرورة لا مخرجَ منها لا يقول إلا: يالله يا رب.

فالله هو العليُّ بشهادة مَنْ كفر به، ثم أردف صفة (العلى) بصفة (الكبير)؛ لأن العلى يجوز أنه علا بطغيان وعدم استحقاق للعلو، لكن الحق سبحانه هو العلي، وهو الكبير الذي يستحق هذا العلو.

ثم يلفتنا الحق سبحانه إلى آية أخرى من آياته في الكون: } أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ... {.

(/3424)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)

بعد أن ذكر الحق سبحانه بعض الآيات الكونية البعيدة عنا أراد سبحانه أنْ يعطينا نموذجاً آخر للآيات التي بيْن أيدينا في الأرض فقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ.. } [لقمان: 31] ألم تر: يعني ألم تعلم { أَنَّ الْفُلْكَ.. } [لقمان: 31] أي: السفن.

وربما أن سيدنا رسول الله لم يَرَ هذه السفن في البحار، ولم تكن قد ظهرت السفن العملاقة التي نراها اليوم كالأعلام، كما في قوله سبحانه:{ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ }[الرحمن: 24]

ومتى وُجِدت البوارج العالية التي تشبه الجبال والمكوَّنة من عدة أدوار. لم توجد إلا حديثاً، إذن: فهذا مظهر من مظاهر إعجاز القرآن، ومن ذلك قوله تعالى:{ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَـانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ }[الزخرف: 33]

ومَنْ يبحث في القرآن يجد فيه الكثير من هذه الآيات التي تثبت صِدْق القرآن وصِدْق رسول الله في البلاغ عن الله.

وذكرنا قصة المرأة التي أسلمت لما قرأت التاريخ الإسلامي، وقرأت في سيرة رسول الله أن المؤمنين به كانوا يجعلون عليه حراسة دائمة يتبادلونها حماية له من أعدائه، وفجأة صرف رسول الله هؤلاء الحرس من حوله وقال لهم لقد أنزل الله عليَّ{ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ... }[المائدة: 67] فوقفت المرأة عند هذه الآية وقالت: والله لو أن هذا الرجل كان يخدع الناس جميعاً ما خدع نفسه في حياته.

وقلنا في معنى { أَلَمْ تَرَ.. } [لقمان: 31] أنها بمعنى ألم تعلم، لأن إعلام الله لك أوثق من رؤية عينيك.

وكلمة { تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ.. } [لقمان: 31] الجري: حركة تودع فيها مكاناً إلى مكان آخر، هذا التوديع إما أن تمشي الهُوَيْنَا أو تجري. لكن ما هي نعمة الله في جريها؟ أولاً كانت أول سفينة من الخشب المربوط إلى بعضه بالحبال والدُّسُر، وكان الغاطس منها في الماء حوالي شبر واحد يزيح من الماء بحجم وزن السفينة، فإذا ما وضعت عليها ثقلاً فإنها تغطس بمقدار هذا الثقل، حتى إذا ما زاد وزن الماء المزاح عن وزن السفينة وحمولتها فإنها تغرق.

وهذه الفكرة هي التي تُستخدم في الغواصات، فبالوزن يتم التحكم في حركة الغواصة تحت الماء. والآن نرى السفن العملاقة والتي تُصنع من الحديد، والعجيب أن هذا الحديد الصلب يحمله الماء السائل الليِّن ويجري به، ثم تأتي الريح فتدفع السفن إلى حيث تريد، حتى وإنْ كانت تسير عكس جريان الماء، ويتمكن ربان السفينة من التحكم في حركتها باستخدام بعض الآلات البسيطة وبتوجيه الشراع بطريقة معينة فتسير السفينة حسب ما أراد حتى لو كان اتجاهها عكس اتجاه الريح، ويسمون هذه الحركة (تسفيح).

لذلك يقول سبحانه عن حركة السفن:{ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَىا ظَهْرِهِ... }[الشورى: 33]

وكأن الحق سبحانه يريد أن يُبيِّن لنا أن أقل الأشياء كثافة بقوة الحق له يحمل أكثر الأشياء كثافة، وانظر إنْ شئتَ إلى جرارات النقل الثقيل، هذه الجرارات العملاقة التي تحمل عدة أطنان من الحديد مثلاً على أي شيء تسير وتتحرك؟ إنها تسير وتتحرك على الهواء المضغوط في عجلاتها، والذي يأخذ قوته من هذا الضغط، بحيث إذا زدتَ في ضغط هذه العجلات تقوي على نفسها فتنفجر.

وقوله تعالى: } لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ.. { [لقمان: 31] أي: من عجائبه في كونه في البحار، ففي الماضي كنا لا نرى من المخلوقات في الأعماق إلا السمك الذي يصطاده الصيادون، أما الآن ومع تطور علوم البحار وطرق التصوير تحت الماء أصبحنا نرى في أعماق البحار عجائب أكثر مما نراه على اليابسة.

ثم يقول تعالى: } إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ { [لقمان: 31] قوله تعالى: } لِّكُلِّ صَبَّارٍ.. { [لقمان: 31] توحي بأن آيات الله في كونه كثيرة، لكن على الإنسان أنْ يبذل جهداً في البحث عنها واكتشافها، وعليه أن يكون صبَّاراً على مشقة البحث والغوص تحت الماء، فإذا ما رأينا ما في أعماق البحار من عجائب مخلوقات الله فقد وجب علينا الشكر } لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ { [لقمان: 31] والشكر لا يكون إلا عن نعمة جدَّت لم تكُنْ موجودة من قبل.

إذن: الحق - تبارك وتعالى - يريد منا أن نستقبل آياته في الكون استقبالَ بحث وتأمل ونظر، لا استقبال غفلة وإعراض، كما قال سبحانه:{ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ }[يوسف: 105]

وتقديم صبَّار على شكور دليل على أن الصبر على مشقات العمل والبحث والاستنباط والاكتشاف يُؤتى نعمة كبيرة تدعو الإنسان إلى شكرها.

ثم يقول الحق سبحانه: } وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ... {.

(/3425)

وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)

معنى { غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ.. } [لقمان: 32] يعني: غطاهم واحتواهم؛ لذلك قال: { كَالظُّلَلِ.. } [لقمان: 32] جمع ظُلَّة، وهي التي تعلو الإنسان وتظلله، ولا يكون الموج كذلك إلا إذا علا عن مستوى الإنسان، وخرج عن رتابة الماء وسجسجته. ومن ذلك قول الله تعالى:{ وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ... }[الأعراف: 171]

وأنت تشاهد هذه المظاهر إذا كنتَ في عرض البحر، فترى الموجة من بعيد أعلى منك، وأنها حتماً ستطمسك، حتى إذا ما وصلتْ إليك شاهدتَ فيها مظهراً من لطف الله بك، حيث تتلاشى وتمر من تحتك بسلام، وهذا شيء عجيب ونعمة تستوجب الشكر.

فالموج إذن شيء مخيف؛ لذلك لما غشيهم وأيقنوا الهلاك { دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.. } [لقمان: 32] دعوا الله رغم أنهم كافرون به، لكن المرء في مثل هذه الحال لا يخدع نفسه ولا يكذب عليها، فالأمر جد، فلم يدعوا اللات أو العزى، ولم يقُلْ أحد منهم يا هبل، إنما دعوا الله بإخلاص لله، فإنْ كانوا ملتفتين لدين آخر في عبادة الأصنام، ففي هذا الموقف لا بُدَّ أن يُخلصوا لله؛ لأنهم واثقون أن الأصنام لن تنفعهم، وأنها لا تملك لهم ضراً ولا نفعاً، ولن يكون النفع وكشف البلاء إلا من الله الحق.

فإنْ قُلْتَ: ما دام الأمر كذلك، فما الذي صرفهم عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام.

قلنا: إن التديُّن طبيعة في النفس البشرية، وهذه الطبيعة باقية في ذرات كل إنسان منذ خلق الله آدم، وأخذ من صُلْبه ذريته، وأشهدهم على أنفسهم{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ... }[الأعراف: 172] فشهدوا.

فكل واحد منا فيه ذرة شهدتْ هذا العهد، وهذه الذرة هي مصدر الإشراقات في نفس المؤمن، وعليه أنْ يحافظ عليها بأن يأخذ قانون صيانة هذه الذرة ممن خلقها، لا أنْ يطمس نورها بمخالفة قانون صيانته الذي وضعه له ربه - عز وجل - فيكون كمَنْ قال الله فيه:{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَىا }[طه: 124]

النبي صلى الله عليه وسلم يُوضح لنا هذه المسألة بقوله: " كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه، أو يُنصرِّانه أو، يُمجِّسانه ".

فالنفس الإنسانية بخير ما دام فيها الإشراقيات الإلهية الأولى التي شهدتْ أن الله هو الرب، لكن إذا تضبَّبت فلا بُدَّ أن تحدث الخيبة ويدخل الفساد.

إذن: التديُّن طَبْع في النفس، لكن التديُّن الحق له مطلوبات ومنهج بافعل كذا، ولا تفعل كذا، وهذا يريد أنْ يُرضي نفسه بأن يكون مُتديناً، لكن يريد أنْ يريح نفسه من مطلوبات هذا التدين، فماذا يفعل؟ يلجأ إلى عبادة إله لا مطلوبات له، وقد توفرت هذه في عبادة الأصنام.

لكن نقول لمن عبد الأصنام: لا بُدَّ أنْ يأتي عليك الوقت الذي لا تلتفت فيه إلى الأصنام، بل إلى الإله الحق الذي هربتْ من مطلوباته وانصرفت عن عبادته، لا بُدَّ أن تُلجئك الأحداث إلى أنْ تلوذ به؛ لذلك يقولون في المثل (اللي متحبش تشوف وجهه، يُحوجك الزمن لقفاه).

فأنتم أعرضتم عن الله وكفرتم به، فلما نزلت بكم الأحداث وأحاطت بكم الأمواج صِرْتم أرانب، فلماذا الآن تلجئون إلى الله؟ لماذا لم تستمروا على عنادكم وتكبُّرهم حتى على الله؟

ثم يقول تعالى: } فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ.. { [لقمان: 32] وكان ينبغي عليهم بعد أنْ نجاهم وأسعفهم، كان ينبغي عليهم أن يؤمنوا به، وأنْ يطيعوه، وأن تؤثر فيهم هذه الهزة التي زلزلتهم، إلا أنهم عادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والإعراض عن الله، وطاوع نفسه وشهوته.

هذه هي حال الكافر حينما يتعرض للابتلاء والتمحيص، فإنه ينتكس ولا يرعوى على خلاف المؤمن، فإنه إن تعرَّض لمثل هذا الاختبار يزداد إيماناً ويقيناً.

والمقتصد هو البين بين، تأخذه الأحداث والخطوب، فتردُّه إلى الله حال الكرب والشدة، لكنه إذا كشف عنه تردد وضعفتْ عنده هذه الروح، بدليل أن الله تعالى يذكر في مقابل المقتصد نوعاً آخر منهم غير مقتصد } وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ { [لقمان: 32]

فمنهم من بهت كفره حينما تنبه في الوازع الإيماني، لكنه لما نجا غرَّته الدنيا من جديد، ومنهم الجاحد الختَّار أي: الغادر.

ولك أنْ تلحظ المقابلة بين صبَّار وختَّار، وبين شكور وكفور.

ثم يخاطب الحق سبحانه الناس، فيقول: } ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ... {.

(/3426)

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)

خطاب الحق سبحانه لعباده بيأيها الناس يدل على أنه تعالى يريد أنْ يُسعدهم جميعاً في الآخرة، وسبق أنْ ذكرنا الحديث القدسي الذي تقول فيه الأرض: يارب ائذن لي أنْ أخسف بابن آدم، وقالت البحار: نغرقه...إلخ، فكان الرد من الخالق عز وجل " دعوني وخلقي، فلو خلقتموهم لرحمتموهم، إنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم ".

وقوله تعالى: { اتَّقُواْ رَبَّكُمْ.. } [لقمان: 33] التقوى أنْ تجعل بينك وبين ما يضرك وقاية تقيك وتحميك؛ لذلك يقول تعالى في آية أخرى{ وَاتَّقُواْ النَّارَ... }[آل عمران: 131] وهما بمعنى واحد؛ لأن معنى اتقوا الله: اجعلوا بينكم وبين صفات جلال ربكم وانتقامه وجبروته وقاية، وكذلك في: اتقوا النار.

فالخطاب هنا عام للناس جميعاً مؤمنهم وكافرهم، فالله تعالى يريد أن يُدخلهم جميعاً حيِّز الإيمان والطاعة، ويريد أنْ يعطيهم ويمنّ عليهم ويعينهم، وكأنه سبحانه يقول لهم: لا أريد لكم نِعَم الدنيا فحسب، إنما أريد أنْ أعطيكم أيضاً نعيم الآخرة.

وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، كان رحيماً حتى بالكافرين والمعاندين له، كما ذكرنا في قصة اليهودي الذي اتهموه ظلماً بسرقة درع أحد المسلمين، وقد عزَّ على المسلمين أنْ يُرمى واحد منهم بالسرقة، فجعلوها عند اليهودي، وعرضوا الأمر على سيدنا رسول الله، فأداره في رأسه: كيف يتصرف فيه؟

فأسعفه الله، وأنزل عليه:{ إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ... }[النساء: 105] لا بين المؤمنين فحسب{ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً }[النساء: 105] أي: لا تخاصم لصالح الخائن، وإن كان مسلماً، فالناس جميعاً سواء أمام مسئولية الإيمان.

وفَرْق بين: اتقوا ربكم واتقوا الله؛ لأن عطاء الربوبية غير عطاء الألوهية، عطاء الربوبية إيجاد من عَدَم، وإمداد من عُدْم، وتربية للمؤمن وللكافر، أما عطاء الألوهية فطاعة وعبادة وتنفيذ للأوامر، فاختار هنا الرب الذي خلق وربَّى، وكأنه سبحانه يقول للناس جميعاً: من الواجب عليكم أن تجعلوا تقوى الله شكراً لنعمته عليكم، وإنْ كنتم قد كفرتُم بها.

ولا تنتهي المسألة عند تقوى الرب في الدنيا، إنما { وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ.. } [لقمان: 33] أي: خافوا يوماً تُرجعون فيه إلى ربكم، وكلمة (يوم) تأتي ظرفاً، وتأتي اسماً مُتصرِّفاً، فهي ظرف إذا كان هناك حدث سيحدث في هذا اليوم كما تقول: خِفْت شدة الملاحظة يوم الامتحان، فالخوف من الحدث، لا من اليوم نفسه، أمَّا لو قلت خفت يوم الامتحان، فالخوف من كل شيء في هذا اليوم، أي من اليوم نفسه.

فالمعنى هنا { وَاخْشَوْاْ يَوْماً.. } [لقمان: 33] لأن اليوم نفسه مخيف بصرف النظر عن الجزاء فيه، وفي هذا اليوم { لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ.. } [لقمان: 33] خصَّ هنا الوالد والولد؛ لأنه سبحانه نصح الجميع، ثم خصَّ الوالدين في الوصية المعروفة

{ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ... }[لقمان: 14]

ثم ذكر حيثيات هذه الوصية وقال:{ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ... }[لقمان: 14] فجعل لهما فضلاً ومَيْزة ومنزلة عند الله، حتى أصبحا مظنة النفع حتى يوم القيامة، فأراد سبحانه أنْ يُبينَّ لنا أن نفع الوالد لولده ينقطع في الآخرة، فكلٌّ منهما مشغول بنفسه، فلا ينفع الإنسان حتى أقرب الناس إليه.

وفي سورة البقرة:{ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً... }[البقرة: 48] أي: مطلق النفس، لا مجرد الوالد والولد، إنما عامة الناس لا ينفع أحد منهم أحداً أيّاً كان.

والآية بهذا اللفظ وردت في موضعين: اتفقا في الصدر، واختلفا في العَجُز، وهي تتحدث عن نَفْسين: الأولى هي النفس الجازية أي: التي تتحمل الجزاء، والأخرى هي النفس المجزَّية التي تستحق العقوبة.

فالآية التي نظرت إلى النفس المجزَّى عنها، جاء عَجُزها{ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ... }[البقرة: 123]

ومعنى: عَدْل أي فدية، فالنفس المجزيّ عنها أول مرحلة عندها لتدفع عن نفسها العذاب أن تعرض الفدية، فلا يقبل منها فدية، لكنها لا تيأس، بل تبحث عَمَّنْ يشفع لها من أصحاب الجاه والمنزلة يتوسط لها عند الله، وهذه أيضاً لا تنفع.

أما النفس الجازية، فأول ما تعرض تعرض الشفاعة، فإنْ لم تُقبل عرضت العدل والفدية؛ لذلك جاء عَجز الآية الأخرى الذي اعتبر النفس الجازية بتقديم الشفاعة على العدل. إذن: ذَيْل الآية الأولى عائد على النفس المجزىَّ عنها، وذيل الآية الثانية يعود على النفس الجازية.

وهنا } لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ.. { [لقمان: 33] لأن الوالد مظنّة الحنان على الولد، وحين يرى الوالد ولده يُعذَّب يريد أنْ يفديه، فقدَّم هنا (الوالد) ثم قال: } وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً.. { [لقمان: 33] فقدم المولود، وكان مقتضى الكلام أنْ نقول: ولا يجزي ولده عن والده، فلماذا عدل عن ولد إلى مولود؟

الكلام هنا كلام رب، وفرْق كبير بين ولد ومولود؛ لأن المسلمين الأوائل كان لهم آباء ماتوا على الكفر، فظنوا أن وصية الله بالوالدين تبيح لهم أنْ يجزوا عنهم يوم القيامة، فأنزل الله هذه الآية تبين لهؤلاء ألاَّ يطمعوا في أنْ يدفعوا شيئاً عن آبائهم الذين ماتوا على الكفر.

لذلك لم يقل هنا ولد، إنما مولود، لأن المولود هو المباشر للوالد، والولد يقال للجد وإنْ علا فهو ولده، والجد وإنْ علا والده، فإذا كانت الشفاعة لا تُقبل من المولود لوالده المباشر له، فهي من باب أَوْلَى لا تُقبل للجدِّ؛ لذلك عَدل عن ولد إلى مولود، فالمسألة كلام رب حكيم، لا مجرد رَصْف كلام.

لكن، متى يجزي الوالد عن الولد، والمولود عن والده؟ قالوا: الولد ضعيف بالنسبة لوالده يحتاج منه العطف والرعاية، فإذا رأى الوالد ولده يتألم سارع إلى أنْ يشفع له ويدفع عنه الألم، أما الولد فلا يدفع عن أبيه الألم لأنه كبير، إنما يدفع عنه الإهانة، فالوالد يشفع في الإيلام، والولد يشفع في الإهانة، فكل منهما مقام.

ثم يقول سبحانه: } إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ.. { [لقمان: 33] عرفنا أن الوعد: إخبار بشيء يسر لم يَأْت وقته، وضده الوعيد، وهو إخبار بشيء يؤذي لم يأْتِ وقته بعد، لكن ما فائدة كل منهما؟

فائدة الوعد أنْ تستعدَّ له، وتأخذ في أسبابه، فهو يشجعك على العمل والسعي الذي يُحقِّق لك هذا الوعد كأنْ تَعِد ولدك مثلاً بجائزة إنْ نجح في الامتحان، وعلى العكس من ذلك الوعيد؛ لأنه يُخوِّفك من عاقبته فتحترس، وتأخذ بأسباب النجاة منه.

إذن: الوعد حق، وكذلك الوعيد حق، لكنه خصَّ الوعد لأنه يجلب للنفس ما تحب، أمّا الوعيد فقد يمنعها من شهوة تحبها، ووضحنا هذه المسألة بأن الحق - سبحانه وتعالى - يتكلم في النعم أن منها نِعَم إيجاب، ونِعَم سلب.

واقرأ في ذلك قول ربك:{ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }[الرحمن: 35-36]

فإذا كانت الجنة وما فيها نعماً تستحق الشكر، ويمتنّ الله بها علينا، فأيُّ نعمة في الشواظ والنار والعذاب؟ قالوا: هي نعمة من حيث هي تحذير وتخويف من العذاب لتبتعد عن أسبابه، وتنجو منه قبل أنْ تقع فيه، نعمة لأن الله لم يأخذنا على غِرَّة، ونبهنا إلى الخطر قبل أنْ نقع فيه.

ووَعْد الله حقٌّ؛ لأنه وعد ممَّنْ يملك الوفاء بما وعد، وإنفاذ ما وعد به، أما غير الله سبحانه فلا يملك أسباب الوفاء، فوعده لا يُوصَف بأنه حق؛ لذلك قال سبحانه في سورة الكهف:{ وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ... }[الكهف: 23-24]

فأنت وإنْ كنتَ صادقاً فيما وعدتَ به إلا أنك لا تضمن البقاء إلى أنْ تفي بما وعدتَ، فإنْ بقيت فقد تتغير الأسباب فتحول بينك وبين الوفاء، وأنت لا تملك سبباً واحداً من هذه الأسباب.

إذن: تأدب ودَع الأمر لمَنْ يملك كل أسباب إنفاذ الوعد، وقُلْ سأفعل كذا إن شاء الله، حتى إذا لم تنفذ يكون لك حجة فتقول: أردتُ لكن الله لم يشأ.

وكأن ربنا - عز وجل - يريد أنْ يداري كذبنا ويستره علينا، يريد ألاَّ يفضحنا به، وأخرجنا من هذه المسئولية بترك المشيئة له سبحانه، وكأن قدر الله في الأشياء صيانة لعبيده من عبيده. لذلك كثيراً ما نقول حينما لا نستطيع الوفاء: هذا قدر الله، وماذا أفعل أنا، والأمر لا يُقضى في الأرض حتى يُقضى في السماء.

وما دمنا قد آمنا بقدر الله والحكمة منه، فلا تغضب مني إنْ لم أفِ لك وأنت كذلك، والعاقل يعلم تماماً حين يقضي أمراً لأحد أن قضاء الأمر جاء معه لا به، فالقدر قضاء، ووافق قضاؤه قضاء الله للأمر، فكأن الله كرَّمه بأنْ يقضي الأمر على يديه، لذلك قلنا: إن الطبيب المؤمن يقول: جاء الشفاء معي لا بي، وأن الطبيب يعالج والله يشفي، إذن: لا يُوصَف الوعد بأنه حقٌّ إلا وعد الله عز وجل.

وما دام وعد الله حقاً فعليك أنْ تفعل ما وعدك عليه بالخير وتجتنب ما توعَّدك عليه بشرٍّ، وألاَّ تغرك الحياة } فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا.. { [لقمان: 33] أي: بزينتها وزُخْرفها، فهي سراب خادع ليس وراءه شيء، واقرأ قول الله تعالى:{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ }[المؤمنون: 115]

والحق سبحانه يضرب لنا مثلاً للدنيا، لا ليُنفِّرنا منها، وإنما لنحتاط في الإقبال عليها، وإلا فحبُّ الحياة أمر مطلوب من حيث هي مجال للعمل للآخرة ومضمار للتسابق إليها.

يقول تعالى في هذا المثل:{ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... }[الكهف: 45] فسماها دنيا، وليس هناك وصف أبلغ في تحقيرها من أنها دنيا{ كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ... }[الكهف: 45] نعم، كذلك الدنيا تزدهي، لكن سرعان ما تزول، تبدأ ابتداءً مقنعاً مغْرياً، وتنتهي انتهاءً مؤسفاً.

وقوله تعالى: } وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ { [لقمان: 33] والغَرور بالفتح الذي يغرُّك في شيء ما، والغرور يوضحه لنا الشاعر الجاهلي وهو يخاطب محبوبته فيقول:أَفَاطِمُ مَهْلاً بَعْضَ هَذَا التدَلُّل وإنْ كنت قَدْ أَزْمعتِ صَرْمي فأَجْمِلِيأغرَّك مني أنَ حبَّكِ قَاتِلي وأَنَّكِ مَهْما تأْمُري القَلْبَ يفعَلِفمعنى غرَّك: أدخل فيك الغرور، بحيث تُقبل على الأشياء، وتتصرف فيها في كنف هذا الغرور وعلى ضوئه.

والغَرُور بالفتح هو الشيطان، وله في غروره طرق وألوان، فغرور للطائعين وغرور للعاصين، فلكل منهما مدخل خاص، فيغرّ العاصي بالمعصية، ويوسوس له بأن الله غفور رحيم، وقد عصا أبوه فغفر الله له. لذلك أحد الصالحين سمع قول الله تعالى:{ ياأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ }[الانفطار: 6-7] فأجاب هو: غرَّني كرمه، لأنه خلقني وسوَّاني في أحسن صورة، وعاملني بكرم ودلَّّلني، حتى أصابني الغرور بذلك، ولو أنه عز وجل قسا علينا ما اغتررنا.

وكان لأحدهم دَيْن خمسة صاغ فضة عند آخر، فردَّها إليه، فلما نظر فيها الدائن وجدها ممسوحة فأعادها إليه، فقال المدين: والله لو كنت كريماً لقبلتها دون أنْ تنظر فيها.

فأخذ الواعظ هذه الواقعة وأراد أنْ يعظ بها الدائن، وكان يصلي صلاةً لا خشوعَ فيها، فقال له: إن صلاتك هذه لا تعجبني،فهي نَقْر لا خشوع فيها، أرأيت لو أن لك دَيْنا فأعطاك صاحب الدين نقوداً ممسوحة قديمة أكنت تقبلها؟ فقال الرجل: والله لو كنتُ كريماً أقبلها ولا أردها.

ثم يقول الحق سبحانه مختتماً سورة لقمان: } إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ... {.

(/3427)

إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)

بعد أن حذرنا ربنا - تبارك وتعالى - من الغرور في الحياة الدنيا يُذكِّرنا أن بعد هذه الحياة حياة أخرى، وقيامه وساعة { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ.. } [لقمان: 34] والساعة لا تعني القيامة فحسب، إنما لكل منا ساعته، لأنه مَنْ مات فقد قامت قيامته.

لماذا؟ لأنه انقطع عمله، ولا يمكنه تدارك ما فاته من الإيمان أو العمل الصالح، فكأن قيامته قامت بموته.

وقلنا: إن عمر الدنيا بالنسبة لك هو مقدار عمرك فيها، وإنْ كان عمر الدنيا على الحقيقة من لَدُن آدم - عليه السلام - إلى قيام الساعة، لكن ماذا استفدتَ أنت من عمر غيرك؟

إذن: لا ينبغي أن تقول: إن الدنيا طويلة؛ لأن عمرك فيها قصير، ثم إنك لا تعلمه، ولا تستطيع أنْ تتحكم فيه، وكما أبهم الله الساعة أبهم الأجل؛ لأن في إبهامه أنفع البيان، فلما أبهم الله الأجل جعل النفس البشرية تترقبه في كل لحظة، فكل لحظة تمر عليك يمكن أن يأتيك فيها الموت.

وهكذا أشاع الموت في كل الزمن، وما دام الأمر كذلك فلا بُدَّ أن ينتبه الإنسان ويخشى أن يموت وهو على معصية، فالإبهام هنا هو عَيْن البيان.

وقلنا: إن الذين ماتوا من لَدُن آدم عليه السلام يلبثون في قبورهم طوال هذه المدة، فإذا ما قامت القيامة{ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا }[النازعات: 46] لماذا؟ قالوا: لأن قياس الزمن إنما يتأتى بالأحداث، فحيث لا توجد أحداث لا يوجد زمن.

ومثَّلْنا لذلك بأهل الكهف الذين مكثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً، ومع ذلك لما سأل بعضهم بعضاً{ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ... }[الكهف: 19]

لماذا؟ لأن النوم يخلو من الأحداث، فلا يشعر النائم فيه بالزمن، كما أنهم لما رأى بعضهم بعضاً بعد هذه الفترة رآه على حالته التي نام عليها لم يتأثر بمرور هذه المدة، ولم تتغير هيئته، فأقصى ما يمكن تصوُّره أن يقول: لبثنا يوماً أو بعض يوم.

وكذلك الحال في قصة العُزير الذي قال الله عنه:{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىا قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىا عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىا يُحْيِـي هَـاذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ... }[البقرة: 259]؛ لأن هذه هي أطول مدة يمكن أن ينامها الإنسان.

ثم أخبره ربه{ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ... }[البقرة: 259] ويريد الحق سبحانه أن يُدلِّل على صدق الرجل في قوله يوماً أو بعض يوم، وعلى صدقه تعالى في قوله مائة عام، فيقول سبحانه:{ فَانْظُرْ إِلَىا طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ... }[البقرة: 259] أي: لم يتغير.

وهذا دليل على صِدْقه في يوم أو بعض يوم

{ وَانْظُرْ إِلَىا حِمَارِكَ... }[البقرة: 259]

وهذا دل على صدق الحق - تبارك وتعالى - في قوله{ مائَةَ عَامٍ... }[البقرة: 259] فكلا القولين صادق؛ لأن الله تعالى هو القابض الباسط، يقبض الزمن في حق قوم، ويبسطه في حق آخرين.

وهذه الآية جمعتْ خمسة أمور استأثر الله تعالى بعلمها: } إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.. { [لقمان: 34]

فهل هذه هي كل الغيبيات في الكون؟ نقول: في الكون غيبيات كثيرة لا نعرفها، فلا بُدَّ أن هذه الخمس هي المسئول عنها، وجاء الجواب على قدر السؤال، بالله لو هَبَّتْ الريح، وحملتْ معها بعض الرمال، أنعرف أين ذهبت هذه الذرات؟ وفي أي ناحية، أنعرف ورق الشجر كم تساقط منها؟

هذه كلها غيبيات لا يعلمها أيضاً إلا الله، أما نحن فلا نعلم حتى عدد النِّعَم التي أنعم الله بها علينا{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا... }[إبراهيم: 34]

إذن: فهذه نماذج لما استأثر الله بعلمه؛ لأن الله تعالى قال:{ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }[لقمان: 27]

فلله تعالى في كونه أسرار لا تُحصى، أجَّل الله ميلادها؛ لنعلم أننا في كل يوم نجهل ما عند الله، وكل يوم يطلع علينا العلماء والباحثون بجديد من أسرار الكون - هذا ونحن لا نزال في الدنيا، فما بالنا في الآخرة، وفي الجنة إن شاء الله؟

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال: " فيها ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ".

والإنسان يكتسب المعلومات، إما برؤية العين، أو بسماع الأذن، ومعلوم أن رقعة السمع أوسع من البصر؛ لأنك لا ترى إلا ما تراه عيناك، لكن تسمع لمرائي الآخرين، ثم أنت تسمع وترى موجوداً، لكن هناك ما لا يخطر على قلب بشر يعني: أشياء غيبية لم تطرأ على بال أحد، وفي ذلك يقول سبحانه:{ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }[السجدة: 17]

وقد ورد في أسباب نزول مفاتح الغيب هذه، أن رجلاً من محارب، اسمه الحارث بن عمرو بن حارثة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله: أريد أنْ أعرف متى الساعة، وقد بذرْت بذري، وأنتظر المطر فمتى ينزل؟ وامرأتي حامل، وأريد أن تلد ذكراً، وقد أعددت لليوم عُدَّته، فماذا أُعِد لغد؟ وقد عرفت موقع حياتي، فكيف أعرف موقع مماتي؟

هذه خمس مسائل مخصوصة جاء بها الجواب من عند الله تعالى } إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.

. { [لقمان: 34].

وعجيب أنْ نرى من خَلْق الله مَنْ يحاول أن يستدرك على مقولة الله في هذه الغيبيات الخمس، كالذين حاولوا أنْ يتنبأوا بموعد قيام الساعة، وقد كذبوا جميعاً، ولو قُدِّر لهم الإيمان بالله، والعلم كما قاله الله في قيام الساعة ما تجرأ منهم أحد على هذه المسألة.

وقلنا: إن الحق سبحانه أخفى موعد الساعة لكي نستشعرها دائماً، وفي كل وقت، حتى الذين لا يؤمنون بها ويشكُّون فيها، وإذا ما استشعرها الناس عملوا لها، واستعدوا لأهوالها، كما أخفى الله عن الإنسان ساعة موته ومكان أجله، وجعل الموت يدور على العباد على غير قاعدة.

فمنهم مَنْ يموت بعد دقائق من مولده، ومنهم مَنْ يعمر مئات السنين، كما أنه سبحانه لم يجعل للموت مقدمات من مرض أو غيره، فكم من مريض يُعافى، وصحيح يموت، كما يقولون: كيف مريضكم؟ قال: سليمنا مات، وصدق القائل:فلا تَحْسَب السُّقْم كأْسَ الممات وإنْ كَان سُقْماً شَديد الأثَرفرُبَّ عليل تَرَاهُ اسْتفَاق ورُبّ سِلَيم تَرَاه اسْتتركذلك الموت لا يرتبط بالسِّن:كم بُودرت غادة كعَابٌ وغُودِرَتْ أمُّها العَجُوزُيجوُزُ أنْ تبطئ المنَايَا والخُلْدُ في الدَّهْرلا لا يَجُوزُإذن: أخفى الله القيامة وأخفى الموت؛ لنظل على ذُكْر له نتوقعه في كل لحظة، فنعمل له، ولنتوقع دائماً أننا سنلقى الله، فنعد للأمر عُدته؛ لأن مَنْ مات فقد قامت قيامته؛ لأنه انقطع عمله، ففي إبهام موعد القيامة وساعة الموت عَيْن البيان لكل منهما، فالإبهام أشاعه في كل وقت.

وقوله: } وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ.. { [لقمان: 34] وهذا أيضاً، ومع تقدُّم العلوم حاول البعض التنبؤ به بناء على حسابات دقيقة لسرعة الرياح ودرجة الحرارة..إلخ، وربما صَحَّتْ حساباتهم، لكن فاتهم أن الله أقداراً في الكون تحدث ولا تدخل في حساباتهم، فكثيراً ما نُفَاجأ بتغيُّر درجة الحرارة أو اتجاه الريح، فتنقلب كل حساباتنا.

لذلك من عجائب الخَلْق أنك كلما اقتربتَ من الشمس وهي مصدر الحرارة تقِلُّ درجة الحرارة، وكلما ابتعدت عنها زادت درجة الحرارة، إذن: المسألة ليست روتينية، إنما هي قدرة لله سبحانه، والله يجمع لك الأسباب ليثبت لك طلاقة قدرته التي تقول للشيء: كُنْ فيكون.

ألسنا نُؤمر في الحج بأن نُقبِّل حجراً ونرمي آخر، وكل منهما إيمان وطاعة، هذا يُباس وهذا يُداس، هذا يُقبَّل وهذا يقنبل، لماذا؟ لأن الله تعالى يريد منا الالتزام بأمره، وانصياع النفس المؤمنة للرب الذي أحيا، والرب الذي كلَّف.

وقوله تعالى: } وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ.. { [لقمان: 34] هذه أيضاً من مفاتح الغيب، وستظل كذلك مهما تقدمت العلوم، ومها ادَّعى الخَلْق أنهم يعلمون ما في الأرحام، والذي أحدث إشكالاً في هذه المسألة الآن الأجهزة الحديثة التي استطاعوا بها رؤية الجنين، وتحديد نوعه أذكر أم أنثى، فهذه الخطوة العلمية أحدثتْ بلبلة عند بعض الناس، فتوهموا أن الأطباء يعلمون ما في الأرحام، وبناءً عليه ظنوا أن هذه المسألة لم تَعُدْ من مفاتح الغيب التي استأثر الله بها.

ونقول: أنتم بسلطان العلم علمتم ما في الأرحام بعد أن تكوَّن ووضحتْ معالمه، واكتملتْ خِلْقته، أما الخالق - عز وجل - فيعلم ما في الأرحام قبل أنْ تحمل الأم به، ألم يُبشِّر الله تعالى نبيه زكريا عليه السلام بولده يحيى قبل أن تحمل فيه أمه؟ ونحن لا نعلم هذا الغيب بذواتنا، إنما بما علّمنا الله، فالطبيب الذي يُخبرك بنوع الجنين لا يعلم الغيب، إنما مُعلَّم غيب.

والله - تبارك وتعالى - يكشف لبعض الخلق بعض الغيبيات، ومن ذلك ما كان من الصِّدِّيق أبي بكر - رضي الله عنه - حين أوصى ابنته عائشة - رضي الله عنها - قبل أن يموت وقال لها: يا عائشة إنما هما أخواك وأختاك، فتعجبت عائشة حيث لم يكن لها من الإخوة سوى محمد وعبد الرحمن، ومن الأخوات أسماء، لكن كان الصِّديق في هذا الوقت متزوجاً من بنت خارجة، وكانت حاملاً وبعد موته ولدتْ له بنتاً، فهل تقول: إن الصِّدِّيق كان يعلم الغيب؟ لا، إنما أُعِلم من الله. إذن: الممنوع هنا العلم الذاتي أن تعلم بذاتك.

ثم إن الطبيب يعلم الآن نوع الجنين، إما من صورة الأشعة أو التحاليل الي يُجريها على عينة الجنين، وهذا لا يُعتبر علماً للغيب، و (الشطارة) أن تجلس المرأة الحامل أمامك وتقول لها: أنت إنْ شاء الله ستلدين كذا أو كذا، وهذا لا يحدث أبداً.

ثم يقول سبحانه: } وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً.. { [لقمان: 34] الإنسان يعمل، إما لدنياه، وإما لأُخْراه، فالمعنى إما تكسب من الخير المادي لذاتك لتعيش، وإن كان من مسألة التكليف، فالنفس إما تعمل الخير أو الشر، الحسنة أو السيئة، والإنسان في حياته عُرضَة للتغيُّر.

لذلك يقال في الأثر: " يا ابن آدم، لا تسألني عن رزق غدٍ، كما لو أطالبك بعمل غد ".

وقوله تعالى: } وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.. { [لقمان: 34] وهذه المسألة حدث فيها إشكال؛ " لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الأنصار أنه سيموت بالمدينة حينما وزع الغنائم على الناس جميعاً ما عدا الأنصار؛ لذلك غضبوا ووجدوا في أنفسهم شيئاً؛ لأن رسول الله حرمهم، لكن سيدنا رسول الله جمعهم وتلطَّف معهم في الحديث واعترف لهم بالفضل فقال: والله لو قلتم أني جئت مطروداً فآويتموني فأنتم صادقون، وفقيراً فأغنيتموني فأنتم صادقون.. لكن الأ تحبون أن يرجع الناس بالشاه والبعير، وترجعون أنتم برسول الله " ، وقال في مناسبة أخرى " المحيا محياكم، والممات مماتكم ".

إذن: نُبِّئ رسول الله أنه سيموت بالمدينة، والله يقول: } وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.

. { [لقمان: 34] نقول: الأرض منها عام ومنها خاصّ، فأرض المدينة شيء عام، نعم سيموت بالمدينة، لكن في أيِّ بقعة منها، وفي أي حجرة من حجرات زوجاته، إذن: إذا علمتَ الأرض العامة، فإن الأرض الخاصة ما زالت مجهولة لا يعلمها أحد.

يُروى أن أبا جعفر المنصور الخليفة العباسي كان يحب الحياة ويحرص عليها، ويخاف الموت، وكان يستشير في ذلك المنجِّمين والعرافين، فأراد الله أنْ يقطع عليه هذه المسألة، فأراه في المنام أن يداً تخرج من البحر وتمتد إليه، وهي مُفرَّجة الأصابع هكذا، فأمر بإحضار مَنْ يُعبِّر له هذه الرؤيا، فكان المتفائل منهم، أو الذي يبغي نفاقه يقول له: هي خمس سنوات وآخرون قالوا: خمسة أشهر، أو خمسة أيام أو دقائق.

إلى أن انتهى الأمر عند أبي حنيفة رضي الله عنه فقال له: إنما يريد الله أن يقول لك: هي خمسة لا يعلمها إلا الله، وهي: } إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ.. { [لقمان: 34]

وما دامت هذه المسائل كلها مجهولة لا يعلمها أحد، فمن المناسب أن يكون ختام الآية } إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ { [لقمان: 34]

إذن: الحق سبحانه يريد أنْ يُريح خَلْقه من الفكر في هذه المسائل الخمس، وكل ما يجب أن نعلمه أن المقادير تجري بأمر الله لحكمة أرادها الله، وأنها إلى أجل مسمى، وأن العلم بها لا يُقدِّم ولا يُؤخِّر، بالله ماذا يحدث لو علمت ميعاد موتك؟ لا شيء أكثر من أنك ستعيش نَكِداً حزيناً طول الوقت لا تجد للحياة لذة.

لذلك أخفى الله عنَّّا هذه المسألة لنُقبِل على الله بثقتنا في مجريات قدر الله فينا.

(/3428)

الم (1)

هذه من الحروف المقطَّعة المبنية على الوقف، على خلاف آيات القرآن التي بُنِيتْ كما قُلْنا على الوصل من أول القرآن إلى آخره، بل على وصل آخره بأوله؛ لذلك لا ينبغي أن تقرأ القرآن على الوصل، ما دام نَفَسُكَ يساعدك، ولا تقف إلا إذا انقطع النفَس، فتقف وتُسكِّن الحرف الذي وقفتَ عليه.

وقد قال علماء القراءات: وليس في القرآن مِنْ وقف وجب؛ لأنه بُني على الوصل، فلا تقف إلا إذا ضاق نَفَسُك؛ لذلك جعلوا في القرآن مواضع للوقف، وتُرسم في المصحف (صِلى، قِلى، ج)، لكن الأصل الوصل.

وقلنا: إن أوضح مثال على الوصل في القرآن أن كلمة الناس في آخر سورة الناس، وهي آخر القرآن لم تأْتِ ساكنة، إنما متحركة بالكسر (الناسِ)؛ لأن الله تعالى قدَّر حلَّكَ في الناس فجعلك ترحل إلى بسم الله الرحمن الرحيم في أول الفاتحة، فلا تقطع الصلة بين آخر القرآن وأوله، وسمَّيْنا قارئ القرآن لذلك (الحالّ المرتحل).

وهنا تأتي { الـم } [السجدة: 1] بعد مفاتح الغيب الخمسة التي سبقتْ في آخر سورة لقمان، وكأنها مُلْحقة بها، فهي سِرٌّ استأثر الله تعالى بعلمه، ونحن في تفسيرنا لها نحوم حولها؛ لذَلك كل مَنْ فسَّر الحروف المقطَّعة في بدايات السور لا بُدَّ أن يقول بعدها: والله أعلم بمراده؛ لأن تفسيراتنا كلها اجتهادات تحوم حول المعنى المراد؛ لذلك نحن لا نقول هذه الكلمة في كل آيات القرآن، إنما في هذه الآيات والحروف بالذات.

وكيف بنا حين يجمعنا الله تعالى إنْ شاء الله في مقعد صِدْق عند مليك مقتدر، كيف بنا حين نسمع هذا القرآن مباشرة من الله عز وجل؟ لا شكَّ أننا سنسمع كلاماً كثيراً غير الذي سمعناه، ومعاني كثيرة غير التي توصَّلنا إليها في اجتهاداتنا، وعندها سنعرف مرادات الله تعالى في هذه الحروف، وسنعرف كم قَصُرَتْ عقولنا عن فهمها، وكم كنا أغبياء في فَهْمنا لمرادات ربنا.

وقوله تعالى { الـم } [السجدة: 1] عادةً يأتي بعد هذه الحروف المقطعة أمر يخصُّ الكتاب العزيز.

وهنا يقول سبحانه: { تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ... }.

(/3429)

تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)

مادة (نزل) وردتْ في القرآن بلفظ: نزل، ونزَّل، وأنزل، أنزل تدل على التعدية، يعني: أن الله تعالى عدَّى القرآن من اللوح المحفوظ، إلى أنْ يباشر مهمته في السماء الدنيا، وهذا الإنزال من الله تعالى.

أما نزَّل فالتنزيل مهمة الملائكة؛ لذلك يقول تعالى في الإنزال:{ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر }[القدر: 1] أي: من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم تتنزَّل به الملائكة مُنجَّماً حسب الأحداث، وفي ذلك يقول تعالى:{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ }[الشعراء: 193]

ويقول سبحانه:{ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ... }[الإسراء: 105] فقد كان محفوظاً عندنا في اللوح المحفوظ{ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ }[الواقعة: 193] ثم نزل به الروح الأمين جبريل.

وما دام{ نَزَلَ بِهِ... }[الشعراء: 193] فهذا يعني أن القرآن نزل معه، فقوله:{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ }[الشعراء: 193] تساوي تماماً{ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ... }[الإسراء: 105]. فالنزول يُنسَب مرة إلى القرآن، ومرَّة إلى الروح الأمين.

ومادة نزل وما يُشتق منها من إنزال وتنزيل تفيد كلها أنه جاء من جهة العلو إلى جهة أسفل منه، كأنك تتلقّى من جهة أعلى منك وأرفع، وما دُمْتَ تتلقى من جهة أعلى منك، فإيَّاك أنْ يضل بك الفكر لناحية أخرى.

لذلك يقول تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم في أمر التكليف:{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ... }[الأنعام: 151] فنحن نفهم أن تعالوا بمعنى تعالَ. أي: أقبل، لكنها تحمل مع هذا المعنى معنى العلو: أقبل دانياً إلى متعالٍ، تعالَ من أوضاعك الرضية إلى عُلُو ربك في الملأ الأعلى.

تعالَ يعني: لا تأخذ من نفسك ولا من مُسَاوٍ لك، إنما ارتفع وخُذْ من الأعلى، ارتفع عن مستوى الأرض وعقولهم وأفكارهم، وخُذْ من الذي شرَّع لك؛ لأنه لا بُدَّ أن تكون عنده أمور ومواصفات آمن لك وأسلم؛ لأن علمه أوسع، فلا يُشَرِّع لك اليوم ما ينقضه غداً.

ثم إنَّ شرعه لك يستوعب كل نواحي حياتك وأقضيتها، وهذه المواصفات لا تكون إلا في الحق - تبارك وتعالى - وهو سبحانه أرحم بك من الوالدة بولدها، فلا يُشرِّع لك إلا ما يُصلحك، ثم هو سبحانه ليس له غرض أو مصلحة ذاتية من وراء هذا التشريع، كما نرى في تشريعات البشر للبشر.

وقد رأينا الرأسماليين حينما شرّعوا قانوناً جاء يخدمهم، وليكونوا هم أول المنتفعين به؛ لذلك سرعان ما تهاوى؛ لأن شرط المشرِّع الحق ألاَّ ينتفع هو بما يُشرِّع، وعليه فلا مشرِّع حقٍّ إلا الله.

لذلك رأينا حتى غير المؤمنين بالله من الكافرين أو المشركين بعد أنْ تعضَّهم الأحداث، وتخفق قوانينهم في حَلَّ مشاكلهم يلجئون إلى حلول لها من قوانين الإسلام.

ولما سُئلنا في سان فرانسيسكو عن قوله تعالى:{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىا وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }

[التوبة: 33] وفي موضع آخر{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }[الصف: 8]

قالوا لنا: هذا يعني أن الإسلام ظاهر على الأديان منذ أربعة عشر قرناً من الزمان، فما بالنا نرى الآن أكثر أهل الأرض من غير المسلمين؟

فقلت في الرد عليهم: والله لو فهمتُم أسرار اللغة، وتأملتُم هذه الآية لوجدتم أن الرَّد فيها، فواحدة تقول:{ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ }[الصف: 8]، والأخرى تقول{ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }[التوبة: 33]

إذن: فالكفر والشرك موجودان مع وجود الإسلام، وليس معنى الظهور هنا أن يطمس هؤلاء، أو أنْ يُقْضَى عليهم قضاء مبرماً، إنما يظهر عليهم بحيث يُضطرون إليه، ويلجئون إلى أحكامه، رغم عدم إيمانهم به، وهذا أبلغ في الظهور، أنْ تأخذ بما في القرآن وأنت غير مؤمن به؛ لأنك لا تجد حلاً لقضاياك إلا فيه.

وأوضح مثال على ذلك أنهم هاجموا شرع الله في مسألة الطلاق، وفي مسألة تعدُّد الزوجات، واتهموا الإسلام بالوحشية..إلخ، ثم تضطرهم أقضية الحياة ومشاكلها أنْ يشرِّعوا الطلاق، وأنْ يأخذوا به على مرأى ومَسْمع من الفاتيكان، فماذا جرى؟ فنقول لهم: هل أسلمتم وآمنتم؟ لا، إنما لجأنا إليه؛ لأن فيه الحل لهذه المشاكل التي أحاطتْ بنا.

فهذه إذن شهادة العدو لدين الله، وهذا هو أعظم الإظهار للإسلام على هذه الأديان؛ لأنهم أسلموا، لقالوا عنهم: أخذوا بهذا الشرع لأنهم لو أسلموا، إنما ها هم يأخذون به وهم به كافرون مشركون.

ومعنى } لاَ رَيْبَ فِيهِ.. { [السجدة: 2] أي: لا شكَّ فيه، وقلنا: إن النسب في القضايا. أي نسبة شيء لشيء إما مجزوم بها أو غير مجزوم بها، فلو قُلْنا: الأرض كروية هذه قضية جزم بها الآن، ونستطيع التدليل على صحتها دليلاً حسياً، فهذه قضية واقعة ومجزوم بصحتها، وعليها دليل في الكون.

فإنْ كانت القضية غَيْرَ مجزوم بها، فهي بين ثلاث حالات: إما فيها شكّ، أو ظنّ، أو وهم: الشك أنْ تتساوى الكِفَّتان: الإثبات والنفي، والظن أن تغلب جانب الإثبات فلا تجزم به إنما ترجِّحه، فإنْ غلَّبْتَ الأخرى وجعلتها هي الراجحة، فهذا توهم.

وهنا قال سبحانه } لاَ رَيْبَ فِيهِ.. { [السجدة: 2] لا شكَّ فيه، فنفى الشكَّ، وهو تساوي النفي والإثبات، وما دام قد نفى التساوي، فهذا يعني أنه أراد أنْ يثبت الأعلى. أي: أنه حقٌّ لا يرقى إليه الشك.

وجملة } لاَ رَيْبَ فِيهِ.. { [السجدة: 2] جملة اعتراضية بين } الْكِتَابِ.. { [السجدة: 2]، وبين } مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ { [السجدة: 2] وما دام أنه من } مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ { [السجدة: 2] فلا بُدَّ أنه حقٌّ لا ريب فيه.

ثم يقول الحق سبحانه: } أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ... {.

(/3430)

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)

عجيب أنْ يقابلَ العربُ كلامَ الله بهذا الاتهام، وهم أمة فصاحة وبلاغة وبيان، وقد بلغوا في هذا شأناً عظيماً، حتى جعلوا للكلام معارض وأسواقاً، كما نقيم الآن المعارض لمنتجاتنا، ولا يُعرض في المعارض هذه إلا السلع الجيدة محلّ الفخر، فقبل الإسلام كان في عكاظ وذي المجاز مضمار للقول وللأداء البياني بين الأدباء والشعراء.

فعجيبٌ منهم ألاَّ يميزوا كلام الله عن كلام البشر، خاصة وقد تحدَّاهم وتحدَّى فصاحتهم وبلاغتهم أنْ تأتي بآية واحدة من مثله، ومعلوم أن التحدي يكون للقوي لا للضعيف، فتحدَّى القرآن للعرب يُحسَبُ لهم، وهو اعتراف بمكانتهم ومكانة لغتهم، فهو - إذن - شهادة لهم، ويكفيهم أن الله تعالى أدخلهم معه في مجال التحدي.

ولما عجزوا عن الإتيان بمثله راحوا يتهمونه ويتهمون رسول الله، فمرة يقولون: شاعر، ومرة: ساحر، وأخرى يقولون: مجنون، ومرة يقولون: بل يُعلِّمه ذلك أحد الأعاجم..إلخ، وهذا كله إفلاس في الحجة، فهم يريدون أنْ يُكذِّبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما القرآن في حدِّ ذاته، فلا يَخْفى عليهم أنه كلام الله، وأن البشر لا يقولون مثل هذا الكلام، بدليل أن الوليد بن المغيرة لما سمعه قال: " والله، إن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغْدِق، وأنه يعلو ولا يُعلى عليه ".

لذلك لما لم يجدوا في القرآن مطعناً اعترفوا بأنه من عند الله، لكن كان اعتراضهم أنْ ينزل على هذا الرجل بالذات:{ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـاذَا الْقُرْآنُ عَلَىا رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف: 31] فكانوا ينتظرون أنْ يُنزَّل القرآن على عظيم من عظمائهم او مِلَك من الملوك، لكن أنْ ينزل على محمد هذا اليتيم الفقير، فهذا لا يُرضيهم، وقد ردَّ القرآن عليهم:{ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ... }[الزخرف: 32]

يعني: إذا كنا قد قسمنا بينهم أمور الدنيا وما يتفاضلون به من عرضها، فهل نترك لهم أمور الآخرة يُقسمونها على هواهم وأمزجتهم؟ والرسالة رحمة من الله يختصُّ بها مَنْ يشاء من عباده{ واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ... }[الأنعام: 124]

وهذا يعني أنهم انتهوا إلى أن القرآن مُعْجِز، وأنه من عند الله لا غُبَار عليه، والذي قرأه منهم، وأيقن أنه حق قال:{ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـاذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }[الأنفال: 32]

وهذا كلام لا يقول به عاقل، وقد دلَّ على غبائهم وحُمْقهم، وكان الأَوْلَى بهم أنْ يقولوا: اللهم إنْ كان هذا هو الحق من عندك فاهْدِنا إليه.

وقد ردَّ القرآن على كل افتراءاتهم على رسول الله، وفنَّدها جميعاً، وأظهر بطلانها، لما قالوا عن رسول الله إنه مجنون ردَّ الله عليهم:

{ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَىا خُلُقٍ عَظِيمٍ }[القلم: 1-4]

والمجنون لا يكون أبداً على خلق عظيم؛ لأنه محكوم بالغريزة لا يختار بين البدائل والتصرفات كالحيوان، ولا ينشأ عن ذلك خُلق كريم.

أما الإنسان السَّويُّ فإنه يختار بين البدائل المتعددة، فلو اعتدى عليه إنسان فقد يردُّ عليه. بمثل هذا الاعتداء، وقد يفكر في المثلية، وأن اعتداءه قد يزيد فيميل إلى التسامح، واحد يكظم غيظه وآخر يزيل كل أثر للغيظ، ويبغي الأجر على ذلك من الله، عملاً بقوله تعالى:{ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ... }[النور: 22] وكأن الله يشجعنا على عمل الخير.

لذلك لما سُئل الحسن البصري: كيف يطلب الله منَّا أنْ نُحسن إلى مَنْ أساء إلينا؟ قال: هذه مَرَاق في مجال الفضائل، وقد أباح الله لك أنْ تردَّ الإساءة بمثلها{ وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا... }[الشورى: 40] لكن بترك الباب مفتوحاً أمام أريحية النفس المؤمنة{ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ... }[الشورى: 40]

ثم إذا حسبنا هذه المسألة بمقاييس العقل، فإن الخَلْق كلهم عيال الله، وهم عنده سبحانه سواء، فماذا لو اعتدى أحد عيالك على الآخر؟ لا شكَّ أنك ستكون في جانب المظلوم، فتأخذه في حضنك وترعاه وتعطف عليه، وكذلك الحق - تبارك وتعالى - يكون في جانب عبده إذا ظلم. وقد قال أحدهم: ألاَ أُحسن إلى مَنْ جعل الله في جانبي؟

من هنا يقولون: أنت لا تكسب كثيراً من الأخيار، إنما كل كسب لك يأتي من الأشرار حين يسيئون إليك وتحسِن إليهم؛ لذلك يقولون: فلان هذا رجل طيب، لكن مَنْ يمشي معه لا يستفيد منه حسنة أبداً، لماذا؟ يقولون: لأنه خادم للجميع، وجعل خدَّه (مداساً) لمن معه، فلا يجعل أحد (يستفتح) منه بحسنة.

ورُوي عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تبسَّم في مجلس مع أصحابه، فقالوا: ما يُضحك يا رسول الله؟ فقال: " رأيتُ ربي، وقد أجلس بين يديه خَصْمين، فقال أحدهما: يا ربِّ إن هذا ظلمني فخُذْ لي حقِّي منه، فقال: كيف آخذ لك حقك منه؟ قال: أعطني من حسناته بقدر ما أساء إليّ، فقال: ليست له حسنات، فقال: فخُذْ من سيئاتي واطرح عليه، فقال أَوَيرضيك ألاَّ تكون لك سيئة؟ قال: إذن، يا رب كيف أقضي حقي منه؟ قال: انظر يمينك، فنظر الرجل يمينه، فوجد قصوراً وبساتين وجِنَاناً، مما لا عَيْنٌ رأت، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر، فقال: لمَنْ هذه يا ربِّ؟ قال: لمن يدفع ثمنها، فقال: وما ثمنها يا رب؟ قال: أنْ تأخذَ بيد أخيك إلى الجنة، فعجبتُ من رَبِّ يُصِلح بين عباده ".

هذا عن قولهم عن رسول الله: مجنون، أما قولهم: ساحر.

فالردُّ عليها ميسور، فإذا كان محمد ساحراً، سحر مَنْ آمن به، فلماذا لم يَسْحركم أنتم أيضاً؟ فكونكم سالمين من السحر دليل على أنه صلى الله عليه وسلم ليس ساحراً، بل هذا كذب وافتراء على رسول الله.

أما قولهم: شاعر، فهذا عجيب منهم، وهم أمة كلام وبلاغة، وهم أكثر خَلْق الله تمييزاً للشعر من النثر، وخير مَنْ يفرق بين الأساليب وطرق الأداء، وقد تولى الله تعالى الردَّ عليهم، فقال:{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ... }[يس: 69]

وفي سورة الحاقة، يقول سبحانه:{ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ }[الحاقة: 41-42]

فلما خابتْ كُلُّ هذه الحيل، وكذبتْ كل هذه الافتراءات قالوا: بل له شيطان يُعلِّمه، وكانوا يقولون ذلك للشاعر البليغ الذي لا يُشَقُّ له غبار في الفصاحة وحُسْن الأداء، حتى جعلوا لهؤلاء الجن مكاناً خاصاً بهم، فقالوا (وادي عبقر)، وهو مسكن هؤلاء الجن الذي يُلْهِمون البشر ويُعلِّمونهم.

والشعر كلام موزون مُقفَّى، وله بحور معروفة، فهل القرآن على هذه الشاكلة؟ لا، إنما هو افتراء على رسول الله، كافترائهم عليه هنا: } أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ.. { [السجدة: 3]

فقوله تعالى: } أَمْ يَقُولُونَ.. { [السجدة: 3] أم تعني أن لها مقابلاً: يعني: أيقولون كذا؟ أم يقولون: افتراه، فماذا هذا المقابل؟ المقابل } تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ { [السجدة: 2] فالمعنى: أيُصدِّقون بأن هذا الكتاب من عند رب العالمين، وأنه لا رَيْبَ فيه؟ أم يقولون افتراه محمد، فأَمْ هنا جاءت لتنقض ما يُفهَم من الكلام السابق عليها.

وقوله: } بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ.. { [السجدة: 3] نعرف أن (بل) تأتي للاستدراك، لكنها هنا ليست للاستدراك، إنما لإبطال قولهم: } افْتَرَاهُ.. { [السجدة: 3] كما لو قُلْت: زيد ليس عندي بل عمرو، فأفادتْ الإضراب عما قبلها، وإثبات الحكم لما بعدها، وهم يقولون افتراه والله يقول: } بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ.. { [السجدة: 3ٍ فكلامهم واتهامهم باطل، والقرآن هو الحق من عند الله.

وقُلْنا: إن } الْحَقُّ.. { [السجدة: 3] هو الشيء الثابت الذي لا يطرأ عليه التغيير؛ لذلك فالحقائق ثابتة لا تتغير أبداً، كيف؟ هَبْ أن حادثة وقعتْ نتج عنها مُدَّع ومُدَّعًى عليه وشهود، واجتمعوا جميعاً أمام القاضي، وقد يحدث أن يُغيِّر أحدهم أقواله، أو يشهد الشهود شهادة زور.

لكن خبرة القاضي ودُرْبته تكشف الحقائق وتُظهِر كذبهم حين يضرب أقوال بعضهم ببعض، ويسألهم ويحاورهم إلى أنْ يصل إلى الحقيقة؛ ذلك لأن الواقع شيء واحد، ولو أنهم يصفون واقعاً لا تفقوا فيه، ولباقة القاضي هي التي تُظهِر الباطل المتناقض وتُبِطله وتُحِقّ وتغلب الحق الذي لا يمكن أن يتناقض.

كالقاضي الذي اجتمع أمامه خَصمْان، يدَّعي أحدهما على الاخر أنه أخذ منه مالاً ولم يردّه إليه، فقال المدَّعَي عليه: بل رددته إليه في مكان كذا وكذا، فأنكر المدَّعى، فقال القاضي للمدَّعَى عليه: اذهب إلى هذا المكان، فلعل هذا المال وقع منك هناك، فذهب الرجل وأبطأ بعض الوقت، فقال القاضي للمدعى: لقد أبطأ صاحبك، فقال: أبطأ؛ لأن المكان بعيد، فوقع في الحقيقة التي كان ينكرها.

ثم يقول سبحانه: } لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ.. { [السجدة: 3] ومعلوم أنه سيدنا رسول الله جاء بشيراً ونذيراً، لكن خصَّ هنا النذير؛ لأنه جاء ليصلح معتقدات فاسدة، وإصلاح الفاسدلا بُدَّ أن يسبق ما يُبشر به، ولم يأْتِ ذكر البشارة هنا؛ لأنهم ما سمعوا للنذارة، وما استفادوا بها.

لكن قوله تعالى: } مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ.. { [السجدة: 3] تصطدم لفظياً بقوله تعالى:{ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ }[فاطر: 24] وقوله تعالى:{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىا نَبْعَثَ رَسُولاً }[الإسراء: 15] وليس بين هذه الآيات تناقض؛ لأن المعنى: ما أتاهم من نذير قريب، ولا مانع من وجود نذير بعيد، كما قال تعالى:{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىا فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ... }[المائدة: 19]

وإلا، فمن أين عرفوا أن الله تعالى خالق السموات والأرض، كما حكى القرآن عنهم:{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ... }[لقمان: 25] فهذا أثر من آثار الرسل السابقين، كما كان فيهم أناس متبعون لمنهج الدين الحق، والذين سماهم الله الحنفاء، وهم الذين لم يسجدوا لصنم، ولم ينحرفوا عن الفطرة السوية.

وقوله تعالى: } لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ { [السجدة: 3] لعل تفيد الرجاء، والرجاء من الله كأنه واقع متحقق؛ لأن الله تعالى يحب لعباده جميعاً أنْ يؤمنوا به؛ ليأخذوا جميل عطائه في الآخرة، كما أخذوا عطاءه في الدنيا، وهم جميعاً خَلْقه وصَنْعته، وسبق أن ذكرنا الحديث القدسي: "...دعوني وما خلقت، إنْ تابوا إليَّ فأنا حبيبهم، وإنْ لم يتوبوا إلىَّ فأنا طبيبهم.. ".

ثم ينقلنا الحق سبحانه إلى قضية من قضايا أصول الكون: } اللَّهُ الَّذِي... {.

(/3431)

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)

يخبرنا الحق - تبارك وتعالى - أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما لخدمة الإنسان، وهو المكرَّم الأول في هذا الكون، وجميع الأجناس في خدمته حيواناً ونباتاً وجماداً، فهو سيد في هذا الكون، لكن هل أخذ هذا السيد سيادته بذاته وبفعله؟ لا إنما أخذها بفضل الله عليه، فكان عليه أولاً أنْ يشكر مَنْ أعطاه هذه السيادة على غيره.

وهذا السيد عمره ومروره في الحياة عبور، فعمره فيها يطول أو يقصر ينتهي إلى الموت، في حين أن الجمادات التي تخدمه عمرها أطول من عمره، وهي خادمة له، فكان لزاماً عليه أنْ يتأمل هذه المسألة: كيف يكون عمر الخادم أطول وأبقى من عمر السيد المخدوم؟

إذن: لا بد أن لي عمراً آخر أطول من هذا، عمراً يناسب تكريم الله لي، ويناسب سيادتي في هذا الكون، إنها الآخرة حيث تندثر هذه المخلوقات التي خدمتني في الدنيا وأبقى أنا، لا أعيش مع الأسباب، إنما مع المسبب سبحانه، فلا أحتاج إلى الأسباب التي خدمتني في الدنيا، إنما أجد كل ما أشتهيه بين يديَّ دون تعب ودون سَعْى، وهذه ارتقاءات لا تكون إلا لمَنْ يطيع المرقى المعطي.

لذلك، الحق - سبحانه وتعالى - يلفتنا ويقول: صحيح أنت أيها الإنسان سيد هذا الكون وكل مخلوقاتي في خدمتك، لكن خَلْقها أكبر من خَلْقك:{ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ... }[غافر: 57]

لماذا؟ لأن الناس أعماراً محددة، مهما طالت لا بُدَّ أن تنتهي إلى أجل، ثم إن هذه الأعمار لا تًسْلم لهم، إنما تنتابها الأغيار، فالغنيّ قد يفتقر، والصحيح قد يمرض، والقوي قد يضعف، أمّا الشمس والقمر والنجوم والكون كله فلا يتعرض لهذه الأغيار فما رأينا الشمس أو القمر أو النجوم أصابتها علة وانتهت كانتهاء الإنسان، ثم أنتَ لستَ مثلها في العظمة المستوعبة؛ لأن قصارى ما فيك أنك تخدم نفسك أو تخدم البيئة التي حولك، أمَّا هذه المخلوقات فتخدم الكون كله.

فإذا اقرَّ - حتى الكفار - بأن الله تعالى هو خالق السماء والأرض إذن: فهي دليل أول على وجود الحق تبارك وتعالى.

ومسألة خَلْق السماوات والأرض من الأشياء التي استأثر الله بعلمها وليس لأحد أنْ يقول: كيف خُلقت ولا حتى كيف خُلق الإنسان؛ لأن مسائل الخَلْق لم يشهدها أحد فيخبرنا بها؛ لذلك يقول تعالى:{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً }[الكهف: 51]

فسماهم الله مُضلِّين، والمضلّ هو الذي يجنح بك إلى طريق باطل، ويصرفك عن الحق، وقد رأينا فعلاً هؤلاء المضلِّين وسمعنا افتراءاتهم في مسألة خَلْق السماوات والأرض.

إذن: خَلْق السماوات والأرض مسألة لا تُوخَذ إلا ممَّنْ خلق؛ لذلك قَصَّ لنا ربنا - تبارك وتعالى - قصة خَلْق آدم، وقصَّ لنا قصة خلق السماوات والأرض، لكن الخَلْق حدث وفعل، والفعل يحتاج إلى زمن تعالج فيه الحدث وتزاوله، والإشكال هنا في قوله تعالى { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.

. { [السجدة: 4]. فهل الحدث بالنسبة لله تعالى يحتاج إلى زمن؟

الفِعْل من الإنسان يحتاج إلى علاج يستغرق زمناً، حيث نوزع جزيئات الفعل على جزئيات الزمن، أما في حقه تعالى فهو سبحانه يفعل بلا علاج للأمور، إنما يقول: للشيء كن فيكون، أما قوله تعالى: } فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.. { [السجدة: 4] فقد أوضحناها بمثال، ولله المثل الأعلى.

قلنا: أنت حين تصنع الزبادي مثلاً تأتي بالحليب، ثم تضع عليه خميرة زبادي سبق إعداده، ثم تتركه في درجة حرارة معينة سبع أو ثماني ساعات بعدها تجد الحليب قد تحوَّل إلى زبادي، فهل تقول: إن صناعة الزبادي استغرقت مني سبعاً أو ثماني ساعات؟ لا، إنها استغرقتْ مجرد إعداد المواد اللازمة، ثم أخذت هذه المواد تتفاعل بعضها ببعض،ـ إلى أن تحولت إلى المادة الجديدة.

كذلك الحق - تبارك وتعالى - خلق السماوات والأرض بأمره (كُنْ)، فتفاعلت هذه الأشياء مُكوِّنه السماوات والأرض.

ومسألة خلق السماوات والأرض في ستة أيام عُولجت في سبع سور من القرآن، أربع منها تكلمْن عن خلق السماوات والأرض ولم تتعرض لما بينهما، وثلاث تعرضتْ لخَلْق السماوات والأرض وما بينهما، ففي الأعراف مثلاً، وفي يونس، وهود، والحديد. تعرضت الآيات لخلق السماوات والأرض فقط.

وفي الفرقان والسجدة وق. فتكلَّمتْ عن البينية، فكأن السماوات والأرض ظرف خُلق أولاً، ثم خُلِق المظروف في الظرف، وهذا هو الترتيب المنطقي أنْ تُعِدَّ الظرف أولاً، ثم تضع فيه المظروف.

وقوله تعالى: } فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.. { [السجدة: 4] الله يخاطب بهذه الآيات العرب، واليوم له مدلول عند العرب مرتبط بحركة الشمس والقمر، فكيف يقول سبحانه } فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.. { [السجدة: 4] ولم تخلق بعد لا الشمس ولا القمر؟

نقول: المعنى خلقها في زمن يساوي ستة أيام بتقديرنا نحن الآن، وإلا فاليوم عند الله تعالى يختلف عن يومنا، ألم يقل سبحانه وتعالى:{ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ }[الحج: 47] أي: في الدنيا.

وقال عن اليوم في الآخرة:{ تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ }[المعارج: 4] فلله تعالى تقدير لليوم في الدنيا، ولليوم في الآخرة.

والحق سبحانه لم يُفصِّل لنا مسألة الخَلْق هذه إلا في سورة (فُصِّلَت) فهي التي فصَّلَتْ القول في خَلْق السماوات والأرض، وهذه من عجائب هذه السورة.

فقال تعالى:{ قُلْ أَئنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ... }[فصلت: 9-10] هذه ستة أيام.{ ثُمَّ اسْتَوَىا إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ... }

[فصلت: 11-12] وهكذا يصبح المجموع ثمانية أيام.

إذن: كيف نُوفِّق بين ستة أيام في الإجمال، وثمانية أيام في التفصيل؟ قالوا: الأعداد يُحمل مُجْملها على مفصَّلها؛ لأن المفصَّل تستطيع أن تضم بعضه إلى بعض، أما المجمل فهو النهاية.

وأَعْد معي قراءة الآيات:{ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا... }[فصلت: 9-10] وهذا كله من لوازم الأرض{ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ... }[فصلت: 10] أي: أن هذه اللوازم تابعة لما قبلها.

فالمعنى: في تتمة أربعة أيام، فاليومان الأولان داخلان في الأربعة، كما لو قلت: سِرْتُ من القاهرة إلى طنطا في ساعة، وإلى الأسكندرية في ساعتين، فالساعة الأولى محسوبة من هاتين الساعتين.

فالحق سبحانه خلق الأرض في يومين، وخلق ما يلزمها في تتمة الأربعة الأيام، فالزمن تتمة للزمن؛ لأن الحدث يُتمِّم الحدث، إذن: المحصلة النهائية ستة أيام، وليس هناك خلاف بين الآيات{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }[النساء: 82] ومن العجيب أن يأتي هذا التفصيل في (فَصِّلت).

وقوله تعالى: } ثُمَّ اسْتَوَىا عَلَى الْعَرْشِ.. { [السجدة: 4] الحق - سبحانه - تبارك وتعالى - يخاطب الخَلْق بما يُقرِّب الأشياء إلى أذهانهم؛ لأن الملوك أو أصحاب الولاية في الأرض لا يستقرون على كراسيهم إلا بعد أنْ يستتبَّ لهم الأمر.

فمعنى } اسْتَوَىا.. { [السجدة: 4] صعد وجلس واستقر، كل هذه المعاني تناسب الآية، لكن في إطار قول الحق سبحانه وتعالى{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ... }[الشورى: 11]

فكما أن لله تعالى وجوداً ليس كوجودك، وسَمْعاً ليس كسمعك، وفعلاً ليس كفِعْلك، فكذلك له سبحانه استواء، لكن ليس كاستوائك، وإذا دخلت حجرة الجلوس مثلاً عند شيخ البلد وعند العمدة والمحافظ ورئيس الجمهورية ستجد مستويات متباينة، كلٌّ على حسب ما يناسبه، فإذا كان البشر يتفاوتون في الشيء الواحد، فهل نُسوِّى بينا وبين الخالق عز وجل؟

فالمعنى إذن } ثُمَّ اسْتَوَىا عَلَى الْعَرْشِ.. { [السجدة: 4] استتبَّ له أمر الخَلْق، } مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ.. { [السجدة: 4] الوليُّ: مَنْ يليك، ويكون قريباً منك، وإليه تفزع في الأحداث، فهو ملجؤك الأول. والشفيع: الذي يشفع لك عند مَنْ يملك أمرك، فالوليُّ هو الذي ينصرك بنفسه، أمَّا الشفيع فهو يتوسط لك عند مَنْ ينصرك، فليس لك وليٌّ ولا شفيع من دون الله عز وجل.

لذلك يقول سبحانه:{ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ... }[الإسراء: 67] فلا أحد ينجيكم، ولا أحدَ يُسعفكم إلا الله } أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ { [السجدة: 4]

كأن هذه المسألة يجب أنْ تكون على بالك دائماً، فلا تغفل عن الله؛ لأنك ابْنُ أغيار، والأحداث تتناوبك، فلا يستقرّ بك حال، فأنت بين الغِنَى والفقر، والصحة والمرض، والقوة والضعف.

لذلك تذكَّر دائماً أنه لا وليَّ ولا نصير لك إى الله، وإذا استحضرتَ ذلك دائماً اطمأنَّ قلبك، ولم لا وأنت تستند إلى ولَّ وإلى نصير لا يخذلك أبداً، ولا يتخلى عنك لحظة، فإذا خالط هذا الشعورُ قلبَك أقبلتَ على الأحداث بجسارة، وإذا أقبلتَ على الحدث بجسارة لم يأخذ الحدث من قوتك شيئاً؛ لأن الذي يخاف الأحداث يُضعِف قوته الفاعلة.

فمثلاً صاحب العيال الذي يخاف الموت فيتركهم صغاراً لا عائلَ لهم لو راجع نفسه لقال لها: وَلِمَ الخوفُ على العيال من بعدي، فهل أنا خلقتهُم، أم لهم خالق يرعاهم ويجعل لهم من المجتمع الإيماني آباءً متعددين؟ لو قال لنفسه ذلك ما اهتم لأمرهم، وصَدَق الذي قال مادحاً: أنتَ طِرْتَ باليُتْم إلى حَدِّ الكَمالِ

وقال آخر:قَال ذُو الآبَاءِ لَيْتِى لاَ أبَا لِي ولَم لا؟ وقد كفل الإسلام للأيتام أنْ يعيشوا في ظل المجتمع المسلم أفضل مما يعيش مَنْ له أب وأم.

إذن: فالإنسان حينما يعلم أن له سنداً من ألوهية قادرة وربوبية لا تُسلمه يستقبل الحوادث بقوة، ويقين، ورضا، وإيمان بأنه لن يُسْلَم أبداً ما دام له إيمان برب، وكلمة رب هذه ستأتي على باله قَسْراً في وقت الشدة، حين يخذله الناس وتُعْييه الأسباب، فلا يجد إلا الله - حتى ولو كان كافراً لقال في الشدة: يارب.

وقوله تعالى: } مِّن دُونِهِ.. { [السجدة: 4] يعني: لا يوجد غيره، وإنْ وُجِد غَيْرٌ فبتحنين الله للغير عليك، فالخير أيّاً كان فمردُّه إلى الله.

ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: } يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَآءِ... {.

(/3432)

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)

في هذه الآية ردٌّ على الفلاسفة الذين قالوا بأن الله تعالى قادر وخالق، لكنه سبحانه زاول سلطانه في مُلْكه مرة واحدة، فخلق النواميس، وخلق القوانين، ثم تركها تعمل في إدارة هذا الكون، ونقول: لا بل هو سبحانه { يُدَبِّرُ الأَمْرَ.. } [السجدة: 5] أي: أمْر الخَلْق، وهو سبحانه قيُّوم عليه.

وإلا فما معنى{ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ... }[البقرة: 255] إن قُلْنا بصحة ما تقولون؟ بل هو سبحانه خلق الكون، ويُدبِّر شئونه على عينه عز وجل، والدليل على قيوميته تعالى على خَلْقه أنه خلق الأسباب على رتابة خاصة، فإذا أراد سبحانه خَرْق هذه الرتابة بشواذ تخرج عن القوانين المعروفة كما خرق لإبراهيم - عليه السلام - قانون الإحراق، وكما خرق لموسى - عليه السلام - قانون سيولة الماء، ومسألة خَرْق القوانين في الكون دليل على قيوميته تعالى، ودليل على أن أمر الخَلْق ما يزال في يده سبحانه.

ولو أن المسألة كما يقول الفلاسفة لكان الكون مثل المنبه حين تضبطه ثم تتركه ليعمل هو من تلقاء نفسه، ولو كان الأمر كذلك لانطفأتْ النار التي أُلقِي فيها إبراهيم عليه السلام مثلاً.

لذلك لما سُئِل أحد العارفين عن قوله تعالى:{ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ }[الرحمن: 29] ما شأن ربك الآن، وقد صحَّ أن القلم قد جفَّ؟ قال: أمور يبديها ولا يبتديها، يرفع أقواماً ويضع آخرين.

إذن: مسألة الخَلْق إبداء لا ابتداء، فأمور الخَلْق مُعدَّة جاهزة مُسْبقاً، تنتظر الأمر من الله لها بالظهور.

وقلنا هذا المعنى في تفسير قوله تعالى:{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }[يس: 82] فكلمة{ يَقُولَ لَهُ... }[يس: 82] تدل على أن هذا الشيء موجود بالفعل ينتظر أنْ يقول الله له: اظهر إلى حيِّز الوجود.

فالحق سبحانه { يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأَرْضِ.. } [السجدة: 5] ثم تعود إليه سبحانه النتائج { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ.. } [السجدة: 5] فالله سبحانه يرسل إلى الأرض، ثم يستقبل منها؛ لأن المدبِّرات أمراً من الملائكة لكل منهم عمله واختصاصه، وهذه المسألة نسميها في عالمنا عملية المتابعة عند البشر، فرئيس العمل يكلف مجموعة من موظفيه بالعمل، ثم لا يتركهم إنما يتابعهم ليستقيم العمل، بل ويحاسبهم كلاً بما يستحق.

والملائكة هي التي تعرج بالنتائج إليه سبحانه { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } [السجدة: 5] فالعود سيكون للملائكة، وخَطْو الملائكة ليس كخَطْوِك؛ لذلك الذي يعمله البشر في ألف سنة تعمله الملائكة في يوم.

ومثال ذلك ما قرأناه في قصة سليمان - عليه السلام - حين قال:{ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ }[النمل: 38]

وهذا الطلب من سليمان - عليه السلام - كان على ملأ من الإنس والجن، لكن لم يتكلم بشريٌّ، ولم يتصدَّ أحد منهم لهذا العمل، إنما تصدّى له عفريت، وليس جِنِّياً عادياً، والعفريت جنى ماهر له قدراته الخاصة، وإلا ففي الجن أيضاً من هو (لبخة) لا يجيد مثل هذه المهام، كما في الإنسان تماماً.

قال العفريت:{ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ... }[النمل: 39] وهذا يعني أنه سيتغرق وقتاً، ساعة أو ساعتين، أما الذي عنده علم من الكتاب فقال:{ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ... }[النمل: 40]

يعني: في طرفة عين لما عنده من العلم؛ لذلك لما رأى سليمانُ العرشَ مستقراً عنده في لمح البصر، قال:{ قَالَ هَـاذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ... }[النمل: 40]

إذن: الفعل يستغرق من الزمن على قدْر قوة الفاعل، فكلما زادتْ القوة قَلَّ الزمن، وقد أوضحنا هذه المسألة في كلامنا على الإسراء والمعراج.

ومعنى: } مِّمَّا تَعُدُّونَ { [السجدة: 5] أي: من سنينكم أنتم.

ثم يقول الحق سبحانه: } ذالِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ.. ==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب المختصر في أصول الحديث-الشريف الجرجاني

كتاب : المختصر في أصول الحديث-الشريف الجرجاني بسم اللَّه الرحمن الرحيم الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله أجمعين ...