Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 3 أبريل 2023

تَـفْسِـــيْــرُ آيَــــاتِ الصِّـــيَامِ (من سورة البقرة)

تَـفْسِـــيْــرُ آيَــــاتِ الصِّـــيَامِ

(من سورة البقرة) 

دراسة بيانية - فقهية كتبه سامي وديع عبد الفتاح القدومي 

(كتب ودراسات سامي القدومي)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي علّم القرآن ، وجعل تعليمه نعمة مقدمةً على خلق الإنسان ، ومقدمةً على تعليمه البيان ) الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)( (الرحمن).

والصلاة والسلام على رسول الله الهادي إلى سبيل الإيمان ، وعلى آله وصحبه وأهل القرآن ، اللهمَّ أدخلنا في زمرتهم يا رحيم يا رحمن !

أما بعد :

فلما أحبَّ النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - عبدَ الله بن عباس المحبة البالغة ، والتي دفعته إلى أن ضمَّه إلى صدره ، دعا له ببالغ الدعاء وأعظمه ، وطلب له كمال الخير وأكمله ، فقال : اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ (البخاري : 73).

وتعليم الكتاب لا ينحصر في حفظه فقط ، بل فهمه في أعلى المقامات ، لأن الغاية من إنزاله وإرساله هو اتباع الخلق ، ولا يكون ذلك إلا بعد الفهم والعلم .

وعلم تفسير القرآن أجلس ابن عباس - وهو ما زال فتى - مجالس الشيوخ الكبار من أصحاب الرأي والمشورة ، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِمَ تُدْخِلُ هَذَا الْفَتَى مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ فَقَالَ إِنَّهُ مِمَّنْ قَدْ عَلِمْتُمْ قَالَ فَدَعَاهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ وَدَعَانِي مَعَهُمْ قَالَ وَمَا رُئِيتُهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلَّا لِيُرِيَهُمْ مِنِّي فَقَالَ مَا تَقُولُونَ فِي ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا ) حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا نَدْرِي أَوْ لَمْ يَقُلْ بَعْضُهُمْ شَيْئًا فَقَالَ لِي يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَكَذَاكَ تَقُولُ قُلْتُ لَا قَالَ فَمَا تَقُولُ قُلْتُ هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ اللَّهُ لَهُ ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ ) وَالْفَتْحُ فَتْحُ مَكَّةَ فَذَاكَ عَلَامَةُ أَجَلِكَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا قَالَ عُمَرُ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَعْلَمُ ( البخاري : 3956 )

وبيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن خير الناس وأفضلهم فقال : إِنَّ أَفْضَلَكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ ( البخاري : 4640 )

فأيُّ فضل بعد هذا الفضل ، وأيُّ خير بعد هذا الخير ، تعلُّم القرآن خير التعلُّم ، ومتعلِّم القرآن خير المتعلِّمين ، وتعليمه خير التعليم ، ومعلِّمه خير المعلِّمين ، وخيرٌ من الناس الباقين .

والاشتغال بتفسير القرآن خير الاشتغال ؛ لأن الاشتغال يأخذ حكمه بناء على قيمة العلم المشتغل به ، فكلما دنا دنا ، وكلما علا علا ، والاشتغال بالقرآن خير الاشتغال ، لأن القرآن خير الحديث ، فهو كلام الله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ (مسلم : 1435)

ولا بد لقارئ القرآن من التدبر في الآيات ، والتفكّر في المعاني ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُوْنَ القُرْآنَ ) (النساء : 82) ولا يكون ذلك دون معرفة التفسير .

وهذه الرسالة هي الإصدار الثاني من سلسلة الريحان في تفسير القرآن ، وقد كان الإصدار الأول هو تفسير سورة النحل بواقع (438) صفحة ، وتم نشره – ولله الحمد - في كتاب بعنوان (التفسير البياني لما في سورة النحل من دقائق المعاني) . وأسأل الله – سبحانه وتعالى – أن ييسر الأمور وأن يتقبّل منا . آمين !

تَفْسِيْرُ آيَاتِ الصِّيَامِ مِن سُوْرَةِ البَقَرَةِ

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة : 183)

المعنى الإجمالي :

هذا خطاب من الله – سبحانه وتعالى – للمؤمنين يُخبرهم بأنه أوجب عليهم صيام شهر رمضان كما أوجبه على الأمم السابقة ، ليكون مدرسة يتعلّم فيها المؤمنون التقوى .

المعنى التفصيلي :

- ترتبط الآية بما قبلها من الآيات ، وهذا الارتباط يظهر حين النظر في السياق ليتضح لنا أن السياق سياق بيانٍ لفرائضَ كتبها الله – سبحانه وتعالى - على المؤمنين ، فكان القصاص وبعده الوصية ثم الصيام .

- حرف النداء (يا) يُنادى به القريب والبعيد ، ولكن اختلف العلماء فيه من حيث الأصل ، هل هو للقريب أم للبعيد ؟

فمنهم من ذهب إلى أنه مشترك بين النداء للبعيد والقريب . وأما سيبويه والزمخشري وابن مالك وابن عقيل وغيرهم فقد ذهبوا إلى أنه للبعيد ومن في حكمه كالساهي والنائم .

انظر (شرح ابن عقيل 2/15) (توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك 2/1051) و(البلاغة فنونها وأفنانها ، ص 163)

والقول بأن حرف النداء (يا) للبعيد ومن في حكمه هو الأرجح ؛ لما جاء في (توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك 2/1051) " وأخبر سيبويه روايةً عن العرب أن الهمزة للقريب المصغي ، وأن ما سواها للبعيد مسافة أو حكماً.

وعلى مذهب سيبويه اعتمد الناظم {ابن مالك} فقال :

وللمُنادَى النَّاءِ أو كالنَّاءِ "يا                   وأَيْ ، وآ"  كذا "أَيَا" ثم "هَيَا"

والهمز للداني ....

فالنائي: هو البعيد مسافة ، وكالنائي : هو البعيد حكماً كالساهي . والداني : هو القريب ، ولا حاجة إلى ذكر سائر المذاهب ؛ لأن قائليها لم يعتمدوا إلا على الرأي ، والرواية لا تُعارَض بالرأي"

- إذن ؛ حرف النداء "يا" هو في أصل استعماله للبعيد أو من في حكمه ، وقد جاء الخطاب بـ (يَا) في القرآن أكثر من ثلاثمئة مرة ، ولذا فلا بد من الانتباه إلى دلالات هذا النداء عند تفسير الآيات التي تتضمنه .

- ولا بد من السؤال هنا : ما هي دلالة النداء بـ (يَا) في هذه الآية ؟

والجواب عن هذا أن المؤمنين قريبون من الله تعالى ، وإنزالهم منزلة البعيد في النداء كان لقرع الأسماع لإيقاظ القلوب ؛ لتعلم أن أمر الخطاب عظيم ، وأنه يستحق الانتباه ؛ لأنه ليس كأي خطاب .

- (أَيُّهَا) : (أيُّ) : منادى مبني على الضم في محل نصب . و(ها) حرف تنبيه ، أي : لتنبيه السامع للإصغاء وعدم التشاغل بشيء آخر .

- جاء الخطاب بـ (الَّذِينَ آمَنُوا) وليس "المؤمنون" ؛ لما للتعبير بالاسم الموصول (الَّذِينَ) من الدلالة على تعظيم المؤمنين ؛ لأن التعبير بالاسم الموصول في سياق التعظيم زيادة في التعظيم ، وفي سياق التحقير زيادة في التحقير .

- جاء الخطاب بـ (آمَنُوا) وليس "أسلموا" ؛ لأن الإيمان هو الدافع الحقيقي لاستسلام هذه الجوارح لأمر الله تعالى ، فالصيام اسستسلام لأمر الله تعالى باجتناب الأكل والشرب والجماع وغير ذلك من الأمور ، رغم حاجة النفس البشرية إلى هذه الأشياء ، سواء كانت الحاجة ضرورية أو دون ذلك ، مع الأخذ بعين الاعتبار بأن الحاجات الترفيهية عند الإنسان هي أيضاً مما يصعب الامتناع عنها طوعاً مع القدرة عليها ، فالأمر عظيم وبحاجة إلى قلوب مؤمنة حتى تقدر على ضبط هذه الجوارح وفق أمر الله تعالى .

- خطاب المؤمنين في القرآن بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أسلوب قرآني في الخطاب ؛ لأنه قد جاء نداء المؤمنين في القرآن في تسعٍ وثمانين موضع بهذا النداء المحبَّب الذي يهز الوجدان الإيماني عند المؤمنين عندما يقرع أسماعهم ، نعم .. هناك من يُناديني .. أنا من الذين آمنوا .. ما الأمر ؟ .. ما الخطب ؟ .. ما المطلوب ؟ .. أنه الله جل - في علاه - يناديني بأن أمتثل أمره ... وهنا يهتز وجدان المؤمن بالسمع والطاعة استجابة للنداء العظيم .

وفي هذا لفتة دعوية إلى من يخاطبون الناس بأن يخاطبوهم بما يثير الدافعية عندهم ، وبما يحرك إيمانهم ، فإذا ذكَّر الداعيةُ العلماءَ بوجوب تحمُّل واجبهم في الدعوة وقول الحق ، خاطبهم بـ "حماة الإسلام" أو ما شابه هذا ، وإذا ذكَّر طلابَ العلم الشرعي خاطبهم بـ "طلاب الحق" أو "علماء المستقبل" ، أو ما شابهه ، وإذا ذكَّر الجنودَ خاطبهم بـ "جند الله" أو ما شابه هذا .

- ضُمِّن (كُتِبَ) معنى : فُرِض ، والمناسبة بين الكتابة والفرض أن فرض الصوم مكتوب في اللوح المحفوظ ، فجاء الخطاب بالكتابة ليدل على أن الأمر مفروض قبل خلق الخلق وأنه ثابت ولازم .

- قد تأتي (كتب) بمعناها المعروف كقوله تعالى (... وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ...) (التوبة : 120)

و قد تأتي (كتب) في القرآن بمعانٍ أذكر منها على سبيل المثال :

(... فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ...) (البقرة : 187) أي : ما قدَّر الله – سبحانه وتعالى - من الولد أو ما أجاز لكم من جماع الزوجات .

(... قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ...) (آل عمران : 154) أي : قدِّر عليهم القتل .

(... اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ...) (النساء : 127) أي : ما فرض الله لهن من صداقهن .

(... أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ...) (المجادلة : 22) أي : أثبت قي قلوبهم الإيمان .

- (كُتِبَ) بُني الفعل لما لم يسمَّ فاعله ؛ لإبراز الأمر المكتوب والتركيز عليه ، والذي هنا هو الصيام .

وأما الآيات التي ذُكر فيها الفاعل – وهو الله جل جلاله – فكان للتركيز على الفاعل لا المفعول ، والهدف من هذا التركيز يختلف من آية لآية وفق مضمونها ومقصدها .

أذكر لك – بارك الله فيك - من الآيات التي ذُكر فيها الفاعل – وهو الله جل جلاله –  لتتذوق معي الفرق بين بناء الفعل لما لم يسمَّ فاعله وبين ذكر الفاعل جل جلاله :

(... فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ...) (البقرة : 187) للتذكير بأن الولد من ذكر أو أنثى إنما هو بإرادة الله تعالى ، وأما ابتغاؤكم للولد فليس موجباً لوجوده لولا إرادة الله تعالى ، وإن كان معنى (مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) من الأمور المباحة ، فيكون للامتنان على المؤمنين بأن الله تعالى هو من أباح لكم هذه الملذات .

(يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) (المائدة :21) فهو هدية ربانية ، ولا قيمة لادّعاء غيركم أنها لهم ؛ لأن الذي أعطاكم هذه الأرض هو الله تعالى وهو المالك الحقيقي لهذه الأرض .

(كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنعام : 54) ذكر اسم "الرب" لما يتضمنه من معاني العناية والرعاية ، هذا أولاً ، وثانياً : للتركيز على أن الله بذاته هو من أراد .

(قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة :51) أي التسليم لأمر الله تعالى ونفي الحول والقوة عن غيره .

(كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة : 21) جزماً وقطعاً بأن نصر الله على الكفار محقق فهو من قضى بذلك لا أحد غيره ، وهو بالغ أمره جل في علاه .

(وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ) (الحشر : 3) قد أُخرج اليهود من ديارهم بناء على إرادة الله ، وفي هذا تزكية للمؤمنين بأنهم جند الله ينفذون أمره ، وبأن اليهود مغضوب عليهم ؛ لأن جلاءهم كان من الله تعالى وليس ظلماً عليهم من أحد .

- فُرض صيام رمضان بعد هجرة النبي – صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة المنورة ؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصومه ، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه ، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء ، فمن شاء صامه ومن شاء تركه . (صحيح البخاري ج2/ص704)

- (عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) قُدِّم الجار والمجرور (عَلَيْكُمُ) لأن المفروض عليهم هم المحور الأساسي في الموضوع .

- (الصِّيَامُ) وهو مصدر سماعي للفعل : صام ، يُقال : صام الرجل صوماً وصياماً . وما جاء في القرآن بشأن الصيام عن الطعام وغيره جاء بصيغة : صيام وليس صوم . والصيام لغة هو : الإمساك ، فكل ممسك عن الطعام أو الكلام أو المشي يسمَّى لغة : صائماً . وتأمل قوله تعالى (...فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) (مريم : 26) فصوم مريم كان بامتناعها عن الكلام .

وأما معناه الشرعي فهو : الامتناع - بنيّة - عن الطعام والشراب والجماع وغيرها من المفطِّرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس .

- (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وليس عليكم فقط . وفي هذا تشجيع وتحفيز للمسلمين للقيام بهذا الركن العظيم ، وفيه أيضاً بيان عظيم ثمار الصيام ، فلِعِظَمِه جعله الله تعالى سنة جارية على الأمم ليتربّوا فيه ويجنوا من ثماره .

- اختُلف في تعيين (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) .

قيل : اليهود والنصارى .

وقيل : النصارى .

ولكن ليس في هذا حديث صحيح مرفوع أو في حكم المرفوع يعين من هم الذين من قبلنا ، وحمله على العموم هو الأصل .

وقد جاء ذكر الذين من قبلنا على العموم واقرأ قوله تعالى :

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ...) (البقرة : 21)

(يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ...) (النساء : 26)

وقوله جل في علاه (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ...) (إبراهيم : 9) .

إذن ؛ فلا بد من دليل من القرآن أو السنة الصحيحة على صحة تعيين الذين من قبلنا ، وإذ لا دليل فالحمل على العموم هو الأصل .

وزد على هذا أننا على ملة إبراهيم عليه السلام قال تعالى (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل : 123) ؛ فقد أوحى الله – سبحانه وتعالى – إلى نبيه محمد – صلى الله عليه وسلم – أن يتبع إبراهيم – عليه السلام – المستقيم على دين الحق ، ونحن أولى بإبراهيم عليه السلام (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)) (آل عمران) وقد يقول قائل : ليس شرطاً أن تطابق شريعتنا شريعة إبراهيم عليه السلام وإن كنا على ملته .

فأقول : هذا صحيح ، ولكنني أتكلّم على أصول الشرائع وليس التفاصيل .

وقد يقول قائل : إن ملة إبراهيم هي التوحيد .

فأقول له : الملة هي الدين ، والتوحيد جزء منه ، وأصل "الملة" من أمللت الكتاب ، أي : ما أوحى الله لأنبيائه من الشرائع . والفرق بين الدين والملة : أن الدين يطلق باعتبار الطاعة والجزاء ، ولكن الملة باعتبار الشرائع الهادية إلى الطاعة ، وهذا نابع من أصل كل كلمة ، وهناك فروق من جهة الاستعمال اللغوي ، وما ذُكر كافٍ في بيان المعنى .

إذن ؛ فملة إبراهيم هي الشرائع الهادية إلى الطاعة ، والصوم من أصول هذه الشرائع الهادية إلى الطاعة . وهذا الذي قلته وإن كان لا يجزم به جزماً ، ولكن يصبح الاستدلال به قوياً بانضمامه إلى ما ذُكر آنفاً من الأدلة على عموم (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) .

- اختلف العلماء في هذا التشبيه  (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) :

فقيل : إن التشبيه عائد إلى أصل إيجاب الصيام . ومعنى كلامهم أن الصيام مفروض على الأمم السابقة ، ولكن لا يشترط أن يكون صيامهم كصيامنا على وجه التفصيل .

وقيل : إن التشبيه عائد إلى حال الصيام ، أي إلى كيفيته ومقداره وأحكامه . ومعنى كلامهم أن كيفية صيامنا هي نفس كيفية صيام السابقين على وجه التفصيل .

والصحيح أن القدر المتفق عليه هو أن التشبيه عائد إلى أصل إيجاب الصيام ؛ لأنه لا يشترط أن يكون التشبيه من كل الوجوه إلا بدليل يدل على هذا الخصوص .

- وفي هذا لفتة دعوية في منهج دعوة الناس إلى الطاعات عن طريق الاعتبار بقصص السابقين العابدين الصابرين ؛ ليكونوا قدوة تهوِّن على السالكين الطريق ، ولكي يغذُّوا السير كما سار الأولون ، كما في هذه الآية ؛ حيث دعا الله – تعالى - المؤمنين إلى الصيام محفِّزاً لهم عن طريق بيان أن الصيام عبادة قد أداها السابقون ، فبإمكانكم أن تأدوها كما أدوها .

- (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي أن الله سبحانه فرض علينا الصيام ليكون مدرسة لنا حتى نتعلَّم فيها التقوى .

قيل في "لعل" عدة أقوال :

فمنهم من قال : هي مجاز لا حقيقة ؛ لأن الرجاء لا يجوز على الله تعالى .

وقيل : هي بمعنى "كي" .

وقيل : "لعل" لا تكون بمعنى "كي" .

وقيل : هي على بابها في الرجاء ، ولكن الرجاء في حيز البشر .

وخلاصة القول : أن الله تعالى فرض علينا الصيام ليكون لنا مدرسة نتعلَّم فيها التقوى. فتأمل رعاك الله .

- من الأسئلة التي تطرح في هذا المقام : أين يكمن السرُّ في كون الصيام محفِّزاً على التقوى؟

قيل : لأنه يُخمد الشهوات بسبب ضعف البدن ؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم : من استطاع الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء . (صحيح البخاري ج2/ص673)

وقيل : لأن الشياطين تصفّد في رمضان ؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال : إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين . (صحيح مسلم ج2/ص758)

والصحيح أن كل هذا وغيره من الأجواء الإيمانية والاستعداد النفسي تُعد من الأسباب المحفِّزة على التقوى . جعلنا الله من أهلها .

ولذا فإن الصائم يُعالج هذه النفس البشرية ويدرِّبها على الالتزام والتقوى ، وانظر - بارك الله فيك – كيف يرشدنا النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى اغتنام فرصة الصيام كي يكون مدرسة في كبح جماح الشهوة الإنسانية وضبطها وفق شرع الله تعالى ، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – أنه قال : الصيام جنة ، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل : إني امرؤ صائم . (صحيح البخاري ج2/ص673)

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه . (صحيح البخاري ج2/ص673)

وأما من قال من المفسرين : إن معنى (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) هو : لتتقوا فيه أكل الطعام وشرب الشراب وجماع النساء .

أقول : إن تفسير الآية بهذا فيه بُعد رغم جلالة قائله ، لأن تحصيل التقوى إنما هو هدف العبادة كلها ؛ قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة : 21)

 

(أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة : 184)

المفردات :

- عِدَّةٌ : على وزن "فِعلة" من العدد . بمعنى : معدودة .

- أُخَرَ : جمع أخرى ، وأخرى تأنيث آخَر .

المعنى الإجمالي :

بعد أن بينت الآية السابقة أن الله – تعالى – فرض على المؤمنين الصيام ، تبين هذه الآية أن هذا الصيام إنما هو في أيام معدودة ، وأن المريض والمسافر معذوران ، وأن عليهما صيام القضاء ، وتبين الآية حكماً آخر وهو : الحرية في اختيار الصيام أو الإفطار ، فمن شاء صام ومن شاء أفطر ، ولكن على من أفطر دفع فدية عن كل يوم أفطره ، ومقدارها : طعام مسكين ، ومن زاد فله الأجر عند الله تعالى ، ولكن الصيام خير من دفع الكفارة بدل الصيام .

وحكم حرية اختيار الصيام أو الإفطار منسوخ بالآية التالية (...فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ...) (البقرة : 185)

المعنى التفصيلي :

- (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) أي : كُتب عليكم الصيام أياماً معدودات ، ولـ (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) معنيان : الأول : أنها أيام قليلة ، والثاني : أنها أيام مقدّرات بعدد معلوم مضبوط .

والمعنى الأول فيه تحفيز وتنشيط للمؤمنين ؛ لأن الصيام لا يكون على مدار السنة وإنما هو أيام معدودة .

ووصف الأيام بأنهن معدودات يدل على التقليل ، واقرأ قوله تعالى (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ...) (البقرة : 203) وهذه الأيام هي أيام التشريق .

وقال تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (آل عمران : 24)

وقال جل في علاه (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) (يوسف : 20)

أما المعنى الثاني وهو أنها أيام مقدّرات بعدد معلوم مضبوط . فهذه الأيام هي أيام شهر رمضان ؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت : كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصومه ، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه ، فلما فرض رمضان ترك يوم عاشوراء ، فمن شاء صامه ومن شاء تركه . (صحيح البخاري ج2/ص704)

وما قيل في تعيين هذه الأيام بغير شهر رمضان فهو غير صحيح .

- ما الصوم الذي كان مفروضاً على المسلمين قبل أن يفرض صوم رمضان ؟

الصوم الذي كان مفروضاً على المسلمين قبل أن يفرض صوم رمضان هو صوم يوم عاشوراء لحديث البخاري المذكور آنفاً .

وأما ما جاء من أنه قد فرض على النبي - صلى الله عليه وسلم – والمؤمنين صيام ثلاثة أيام من كل شهر قبل أن يفرض صيام شهر رمضان فإنه لا يصح .

- (مَعْدُودَاتٍ) جمع معدودة ، ومعدودة مؤنث معدود . وهي نعت للأيام .

ولا تشترط المطابقة في جمع غير العاقل ، فنقول : جبال شاهقة وجبال شاهقات ، وخيل سابقة وخيل سابقات ، وأيام معدودة وأيام معدودات .

قال تعالى (فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)) (الغاشية) فهي سرر مرفوعات ، وأكواب موضوعات ، ونمارق مصفوفات ، وهكذا ... . وكلا الاستعمالين فصيح .

- لكن ما الفرق بين "معدودة" و"معدودات" من حيث الكثرة والقلة ؟

قيل : إن معدودة أكثر من معدودات .

وقيل : معدودات أكثر من معدودة .

وقيل : لا فرق بينهما إنما هو تفنّنٌّ في البلاغة .

وهذا راجع إلى دلالة جمع المؤنث السالم ، فمن العلماء من رأى أن دلالته لا تتجاوز العشرة – في الغالب – ولا تنقص عن الثلاثة .

والصحيح أن هذا خاضع للقرينة ، فقوله تعالى (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ...) (البقرة : 203) يدل على القلة ؛ لأن الأيام هنا هي أيام التشريق وهي ثلاثة أيام ، وأما قوله تعالى في شأن فرض صيام شهر رمضان (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) وهي ثلاثون يوماً وهي أكثر من عشرة ، وكذلك قوله تعالى (...وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) (سبأ : 37) فإنه يدل على الكثرة ، لأن غرفات الجنة ليست قليلة . انظر (النحو الوافي1/ 138)

ويبقى السؤال قائماً : لماذا جاء قوله تعالى (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) وليس "معدودة" ؟

وللجواب عن هذا فإنني تتبعت كلمة "معدودات" و"معدودة" في القرآن فوجدت ما يلي :

كلمة "معدودات" تدل على أن العدد قليل ولكنه مضبوط العدد ، وتأمل معي – بارك الله فيك – الآيات الكريمة :

(أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ...) (البقرة : 184) وهذه الأيام المعدودات هي : شهر رمضان .

(وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ...) (البقرة : 203) وهذه الأيام المعدودة هي أيام التشريق الثلاثة .

أما كلمة "معدودة" فإنما تدل على مطلق التقليل دون ضبط العدد ، وتأمل معي – بارك الله فيك – الآيات الكريمة :

(وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (هود : 8) أي مدة من الزمن قليلة .

(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) (يوسف :20) أي : بدراهم قليلة .

وفي الآيتين فإن مقدار الزمن والدراهم غير معلوم على وجه الضبط .

أما قوله تعالى (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ...) (البقرة :80) وقوله تعالى (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ...) (آل عمران : 24) فإنه يصلح أن نطبق عليه ما لاحظناه في الآيات السابقة ؛ لأن اليهود – كما جاء عنهم في الآثار – أنهم حددوا مدة عذابهم بالمدة التي اتخذوا فيها العجل ، فيحمل "معدودات" على إرادتهم بيان المدة ، و"معدودة" على إرادتهم بيان مطلق التقليل .

أما ما جاء عن السلف الصالح من تفسير "معدودة" بالمدة التي اتخذ فيها اليهود العجل ، فإنما هو لبيان هذه المدة القليلة ، ولم يكن تفسيرهم من  باب التفريق بين معنى "معدودات" و"معدودة" . فتأمل حفظك الله !

وهذا التفسير إنما هو اجتهادي بناء على ما سبق من سبر الآيات ، وهو ظنيّ يُستأنس به ، وليس حجة ، وهذا القول مع ظنيَّته كباقي ما قيل في التفريق بين آية سورة البقرة وآية سورة آل عمران . والله أعلم بالصواب .

- (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أي من كان منكم مريضاً في رمضان أو كان مسافراً فأفطر فعليه صيام عدد ما أفطر من الأيام يصومها بعد رمضان .

- (مَرِيضًا) المرض بمفهومه العام ليس بحاجة إلى تعريف ، إنما الذي يحتاج إلى بيان إنما هو تبيين مقدار المرض الموجب للفطر أو المبيح .

فالمرض الذي يؤدي بصاحبه إلى الهلاك يجب على صاحبه الفطر لإنقاذ نفسه . أما إن أوقع الصوم صاحبه في المشقة والحرج فقط فهذا يباح له الفطر .

أما المرض الذي لا يوقع صاحبه في المشقة أو الحرج ، أو لا علاقة بينه وبين الصيام ، فلا يجوز لصاحبه الفطر وهذا مذهب الجمهور . ومن قال بجواز الفطر ، فيُقال له : بأي حق يفطر صاحبه ؟! أقول هذا لأن بعض العلماء يرى الفطر بمجرد المرض ولو كان خفيفاً لا يُتعب الصائم ولا يوقعه في الحرج.

ولا فرق بين أن يكون المرض قبل طلوع الفجر فلا ينوي المسلم الصيام ، وبين أن ينوي الصيام فيحصل المرض خلال اليوم فيفطر ؛ لأن سبب إباحة الإفطار موجود ، ويصدق على صاحبه أنه مريض مرضاً يُباح به الفطر .

انظر (المبسوط للسرخسي ج3/ص137) (نهاية الزين ج1/ص189) (حاشية الدسوقي ج1/ص535) (الكافي في فقه ابن حنبل ج1/ص345) (الموسوعة الفقهية الكويتية : مادة "صوم") (تفسير القرطبي ج2/ص276- 277)

- (عَلَى سَفَرٍ) ولم يأت النص باسم الفاعل : "مسافراً " ؛ لأن المرض قهري ، فجاء النص "مَرِيضاً " ، ولكن السفر اختياري ؛ ولذا جاء حرف الاستعلاء "على" : (عَلَى سَفَرٍ) .

- (عَلَى سَفَرٍ) ولم يأت النص "مسافراً " باسم الفاعل ؛ لأنه لا يجوز للمسافر أن يُفطر إلا إذا شرع في السفر ولا يكفي عزمه . وهذا رأي الجمهور

ولكن مما يُعارض هذا القول هو ما رواه (الترمذي ج3/ص163) عن محمد بن كعب أنه قال : أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفراً وقد رحلت له راحلته ولبس ثياب السفر ، فدعا بطعام فأكل ، فقلت له : سُنّة ؟ قال : سُنّة . ثم ركب .

وهذا حديث صحيح ساق له الترمذي سندين ، أما الأول ففيه ضعف ، وأما الثاني فهو صحيح ، وهو من رواية محمد بن جعفر . ولكن الترمذي لم يذكر نص رواية محمد بن جعفر ، ولكن رواها بالمعنى بقوله : حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا محمد بن جعفر قال حدثني زيد بن أسلم قال حدثني محمد بن المنكدر عن محمد بن كعب قال أتيت أنس بن مالك في رمضان فذكر نحوه .

أي : نحو نص رواية عبد الله بن جعفر الضعيفة . وهذا جائز ومقبول ، ولكن شكك بعض الباحثين بأن رواية الترمذي للمعنى قد تكون غير دقيقة ، وهذا اعتراض ضعيف ، ولكن لبيان نص رواية محمد بن جعفر فعلينا الرجوع إلى (سنن الدارقطني ج2/ص187)

: حدثنا أبو بكر النيسابوري ثنا إسماعيل بن إسحاق بن سهل بمصر قال حدثنا ابن أبي مريم ثنا محمد بن جعفر أخبرني زيد بن أسلم أخبرني ابن المنكدر عن محمد بن كعب أنه قال : أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد السفر وقد رحلت دابته ولبس ثياب السفر وقد تقارب غروب الشمس فدعا بطعام فأكل منه ثم ركب . فقلت له : سنة . قال : نعم .

و أبو بكر النيسابوري هو : الحافظ العلامة : أبو بكر عبد الله بن محمد بن زياد النيسابوري . قال عنه الدارقطني : ما رأيت أحداً أحفظ من أبي بكر النيسابوري .(سير أعلام النبلاء ج15/ص 66) . وإسماعيل بن إسحاق قال عنه ابن أبي حاتم : صدوق (الجرح والتعديل ج 6 / ص189) . والباقون هم ثقات من رجال الصحيحين .

- وقد حسّن الترمذي الحديث ، وقال عقب الحديث : وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث وقالوا : للمسافر أن يفطر في بيته قبل أن يخرج ، وليس له أن يقصر الصلاة حتى يخرج من جدار المدينة أو القرية ، وهو قول إسحاق بن إبراهيم الحنظلي .

وممن صحح الحديث محمد بن عبد الواحد المقدسي وابن القطان وغيرهما . انظر (بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام ج5/ ص375) (الأحاديث المختارة ج7/ص172)

- وقول أنس بن مالك عن أمر أنه سنة ، يعني : سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وإلا فأي سنة هذه التي يقصدها الصحابة وهي أشهر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل ويكتفون بقولهم "السنة" واثقين أن كل سامع يعلم سنة من هي ، إن الأمر لا يتجه إلا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو الظاهر إلا أن يصرف صارف أقوى – أقول : أقوى - من دلالة هذا الظاهر بأنها فهم من الصحابي وأنّ قصدَه بقوله "السنة" هو : اجتهاده الذي فهمه من السنة ، وإنما أطلق على اجتهاده أنه من السنة ظناً منه أن هذا هو أمر السنة .

وبناء على هذا تفهم السنة في حديث أنس بأنها سنة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنها المقصودة عند الإطلاق .

- لا تعارض بين الآية والحديث ولو سلمنا أن معنى (عَلَى سَفَرٍ) أنه الشروع بالسفر ؛ لأن من السنة ما هي زيادة على حكم القرآن ، ومن السنة ما هي مقررة لما في القرآن ، ومنها مبيّنة ومفسِّرة . وهذا الحديث يضيف حكماً جديداً وهو : يجوز لمن عقد النية على السفر وجهز نفسه أن يُفطر قبل الشروع فيه ؛ لأنه في حكم المسافر .

- (عَلَى سَفَرٍ) قال بعض المفسرين : أي مستمرين على السفر ، وفيه إشارة إلى أن من سافر في أثناء اليوم - أي بعد الفجر - لم يجز له أن يفطر .

والاستدلال بالآية على هذا ضعيف ؛ لأن من سافر خلال اليوم يصدق عليه أنه على سفر .

وممن ذهب إلى عدم جواز الإفطار لمن سافر خلال النهار : الحنفية والمالكية ، وهو قول الشافعي ورواية عن أحمد . انظر (المبسوط للسرخسي ج3/ص137) (مواهب الجليل ج2/ص445) (الأم ج2/ص102) (المحرر في الفقه ج1/ص229)

وممن رأى الجواز : أحمد في رواية عنه  ، وغير واحد من الشافعية ، مع أن المعتمد عند الشافعية هو عدم الجواز . انظر (المجموع ج6/ص260) (روضة الطالبين ج2/ص369) (الشرح الممتع على زاد المستقنع ج6/ ص345)

والراجح الجواز ؛ فعن محمد بن كعب أنه قال : أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفراً وقد رحلت له راحلته ولبس ثياب السفر ، فدعا بطعام فأكل ، فقلت له : سُنّة ؟ قال : سُنّة . ثم ركب . وهو حديث صحيح تقدم الكلام عنه آنفاً .

- (عَلَى سَفَرٍ) ما هي مسافة السفر التي يُباح بها الإفطار ؟

ذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن المسافة هي أربعة بُرُد ؛ وذهب الحنفية إلى أنها مسيرة ثلاثة أيام .

وذهب الظاهرية إلى أنها البروز عن مكان الإقامة مسافة ميل أو أكثر ؛ لأن الميل عندهم هو أقل ما يطلق عليه سفر . وانظر (المحلى ج3/ ص213) .

والظاهر أن الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور من أن المسافة التي يُباح بها الفطر هي أربعة بُرُد .

ولن أطيل نقل الأقوال والاستدلالات ، وإنما أناقش ما كان فيها قوياً .

استدل الجمهور بما جاء عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يا أهل مكة ، لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة بُرُد من مكة إلى عسفان . (سنن الدارقطني ج1/ص387) وهذا حديث ضعيف ؛ ضعفه ابن حجر (فتح الباري ج2/ص566) وابن الملقن (خلاصة البدر المنير ج1/ص202)

واستدل من قال بالقصر والفطر بالمسافة القصيرة بما روى مسلم في صحيحه (ج1/ص481) :

عن يحيى بن يزيد الهنائي قال سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - شعبة الشاك - صلى ركعتين .

وروى أحمد بن حنبل في ( مسنده ج3/ص129) بسند حسن عن يحيى بن يزيد الهنائي قال : سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة قال : كنت أخرج إلى الكوفة فأصلي ركعتين حتى أرجع وقال أنس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - شعبة الشاك - صلى ركعتين . ورواه البيهقي (السنن الكبرى ج3/ص146) من طريق محمد بن جعفر به .

وفي هذه الرواية زيادة (كنت أخرج إلى الكوفة فأصلي ركعتين حتى أرجع) إذن يحيى بن يزيد يقصر صلاته في السفر ، وهو قد سأل أنس عن (قصر الصلاة) وهذا سؤال غير محدد .

فهل يعني : ما هي المسافة التي أقصر فيها الصلاة ؟

أم يعني : ما هي المسافة التي أبتدئ فيها بالقصر ؟

ولا ترجيح لأحدهما في هذه الرواية ؛ فلا يؤخذ من هذا الحديث أن السفر الذي يُقصر فيه ما كان في ثلاثة أميال أو فراسخ ؛ لأنه لم يصح حديث صريح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – يدعّم أحد الاحتمالين : هل المقصود المسافة التي تُقصر فيها الصلاة أم المسافة التي يُبتدأ فيها بالقصر ؟

وما جاء عن الصحابة غير متفق عليه عندهم ، وأذكر طرفاً من اختلاف الصحابة حول مسافة القصر ، بل قد اختلفت الرواية عن نفس الصحابي ، وأضرب ابن عمر - رضي الله عنه – مثلاً :

فعن محارب بن دثار قال : سمعت ابن عمر يقول : إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر . (مصنف ابن أبي شيبة ج2/ص202) وهذا سند صحيح .

وجاء في (لسان العرب ج8:ص169) في تعريف الساعة :

"الساعة في الأصل تطلق بمعنيين : أحدهما أن تكون عبارة عن جزء من أربعة وعشرين جزءاً هي مجموع اليوم والليلة . والثاني : أن تكون عبارة عن جزء قليل من النهار أو الليل . يقال : جلست عندك ساعة من النهار أي وقتاً قليلاً منه"

وعن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة في مسيره ذلك . قال مالك : وبين ذات النصب والمدينة أربعة برد . (موطأ مالك ج1/ص147) وسنده صحيح

وعن مالك عن نافع أنه كان يسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر الصلاة . (موطأ مالك ج1/ص148) وسنده صحيح .

والبريد يساوي تقريباً 19 كيلو متراً ، وهذه المسافة تقطع في المسير بما يقارب أربع ساعات ، ومع هذا فإن ابن عمر لا يقصر ، إذن هو يقصر في مسيرة تزيد عن أربع ساعات ، وهذا الوقت ليس جزءاً قليلاً من الوقت .

وروى الشافعي عن ابن عباس – بسند صحيح - أنه قال : تقصر الصلاة إلى عسفان وإلى الطائف وإلى جدة .

وهذا كله من مكة على أربعة برد ونحو من ذلك . (مسند الشافعي ج1/ص388).

وكل بريد أربعة فراسخ ، والفرسخ ثلاثة أميال هاشمية . الميل مقياس للطول قدر قديماً بأربعة آلاف ذراع، وهو الميل الهاشمي . ويقدر الآن بما يساوي 1609 متراً ، وعليه تكون المسافة المبيحة للقصر حوالي 77 كيلو متراً . انظر (الموسوعة الفقهية الكويتية ج25/ ص29)

وقال البخاري في صحيحه (صحيح البخاري ج1/ص368) : "وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخاً " . ووصله ابن المنذر في (الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف ج4/ ص347) :

وكان ابن عمر وابن عباس : "يصليان ويفطران في أربعة بُرُد فما فوق ذلك" وهذا سند صحيح . ورواه البيهقي في (السنن الكبرى ج3/ص137) عن الليث به .

ومن هذا تعلم الاختلاف الواقع عند الصحابة في تعيين مسافة القصر .

ونعود إلى ما قاله أنس عن قصر الصلاة : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - شعبة الشاك - صلى ركعتين . (مسلم ج1/ص481)

نلاحظ أن شعبة قد وقع في الشك فقال (ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ) ، ولا يجوز لنا عندئذ أن نبني الأحكام على هذا الشك . فنقول : نأخذ بـ (ثلاثة فراسخ) ؛ لأنه الأحوط ، ونبني على ذلك أن المقصود بالمسافة غاية السفر لا ابتداء القصر ، والصحيح أن رواية أنس وقع فيها الغموض في أمرين :

الأول : من جهة السؤال .

والثاني : من جهة شك الراوي .

وهذه الرواية المحتملة الغامضة لا يبنى عليها هذا الحكم العظيم ، بل لا بد أن يحمل المتشابه المحتمل الغامض على ما هو معروف من رواية أنس بن مالك ، والمعروف من رواية أنس هو : المسافة التي يبتدئ منها المسافر القصر لا غاية السفر ، وشكُّ شعبة في الأميال أو الفراسخ يُحمل على المعروف من رواية أنس ، والمعروف في ابتداء القصر هو ما يقارب ثلاثة أميال ؛ لما روى مسلم في صحيحه (ج1/ص480) عن أنس بن مالك أنه قال : صليت مع رسول الله  صلى الله عليه وسلم  الظهر بالمدينة أربعاً ، وصليت معه العصر بذي الحليفة ركعتين . وذو الحليفة – وهي المعروفة الآن بآبار علي – وتبعد منطقة ذو الحليفة عن آخر بنيان المدينة في زمن الرسول ثلاثة أميال تقريباً .

ولكن قد يقول قائل : إن ذو الحليفة تبعد عن مسجد النبي ستة أميال ؟

فيُقال له : المهم هو بُعد ذو الحليفة عن آخر بنيان المدينة وليس عن مسجد النبي ؛ لأن المقصود بخروج النبي – صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أميال ، إنما هو خروجه من المدينة ، ولا يكون خارجاً منها إلا بتجاوز بينانها ، وآخر بينانها في زمنه قرية قباء ، ومسجد قباء يبعد عن مسجد النبي ثلاثة أميال ، وتبعد منطقة ذو الحليفة عن مسجد النبي ستة أميال ، إذن ، تبعد منطقة ذو الحليفة عن آخر بنيان المدينة ثلاثة أميال .( انظر لمعرفة هذه الأبعاد : الموسوعة الفقهية الكويتية (36/ 312) ، (21/ 290) )

ويبقى السؤال : ما هي مسافة السفر التي تتغير بها الأحكام ؟

أقول : إنه – كما سبق آنفاً – لا يصح حديث مرفوع صريح بتحديد المسافة ، وإن الصحابة قد اختلفوا في ذلك ، ولذا فلا إجماع في المسألة ، ولكن من فقه الإمام البخاري أنه قال : "باب في كم يقصر الصلاة . وسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً وليلة سفراً . (صحيح البخاري ج1/ص368)

وروى في الباب عن أبي هريرة أنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة . (صحيح البخاري ج1/ص369) .

ووجه الدلالة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن سفر المرأة مطلقاً دون تحديد لمسافة فقال : لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم . (صحيح البخاري ج2/ص658) وأقلُّ ما جاء في تحديد هذه المسافة هو مسيرة يوم وليلة ، فيفهم من هذا أن هذا السفر الذي تتغير به الأحكام أقله يوم وليلة .

والمسافة التي تقطع – في زمنهم -  في اليوم والليلة قريبة من أربعة برد ؛ وهذا يكون بحساب سهل :

يقطع الإنسان بالمشي المعتدل ما يساوي تقريباً : أربعة كليومتراً  ، وبالمشي السريع ما يسوي خمسة كيلومتراً ، وبناء على ذلك لنقل أن سيرهم في الساعة بحدود خمسة كيلو متراً ، فإن سيرهم في ستة عشر ساعة يساوي تقريباً : ثمانين كيلو متراً ، ويبقى ثماني ساعات للنوم والأكل والراحة وقضاء الحاجة .

- (عَلَى سَفَرٍ) يشترط جمهور الفقهاء من شافعية وحنابلة والراجح عند المالكية أن لا يكون السفر سفر معصية ؛ لأن الرخصة إعانة ؛ والعاصي لا يُعان على معصيته . والمراد بسفر المعصية أن تكون المعصية هي الحاملة على السفر .

وذهب الحنفية وبعض المالكية إلى جواز أخذ العاصي بسفره كل رخص السفر ؛ وذلك لإطلاق النصوص الشرعية وعدم استثناء العاصي من الرخصة .

والظاهر ما ذهب إليه الجمهور من عدم جوازها للعاصي بسفره ؛ لأن قاطع الطريق والباغي على المسلمين وأمثالهم لا يُعان على معصيته بإباحة الإفطار له ليقوى على معصيته ، وهذا هو ما يتناسب والشريعة الإسلامية ؛ قال تعالى (... وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ...) (المائدة : 2) .

- (عَلَى سَفَرٍ) ما حكم الإفطار في السفر ؟

ذهب جمهور العلماء إلى أن الإفطار للمسافر رخصة . وذهب الظاهرية إلى وجوب الإفطار ، وقالوا : لا ينعقد الصوم في السفر .

والصحيح أنه رخصة ؛ فعن ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال :  كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر . فقال لرجل : انزل فاجدح لي . قال : يا رسول الله الشمس . قال : انزل فاجدح لي . قال : يا رسول الله الشمس . قال : انزل فاجدح لي . فنزل فجدح له فشرب ثم رمى بيده ها هنا ثم قال : إذا رأيتم الليل أقبل من ها هنا فقد أفطر الصائم . (صحيح البخاري ج2/ص685) والشاهد في هذا الحديث أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - كان صائماً في السفر .

وعن أنس بن مالك قال  : كنا نسافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم . (صحيح البخاري ج2/ص687) والشاهد في هذا الحديث أن من الصحابة من كان يصوم في السفر ومنهم من كان يفطر ، ورغم هذا لم يعب أحد على أحد ؛ لأن الأمر مشروع .

وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : سأل حمزة بن عمرو الأسلمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصيام في السفر . فقال : إن شئت فصم وإن شئت فأفطر . (صحيح مسلم ج2/ص789) وما بعد هذا البيان النبوي من بيان .

أما ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم : ليس من البر الصوم في السفر (صحيح البخاري ج2/ص687) . فهذا عند الحرج والمشقة ، وتأمَّل - بارك الله فيك – نص الحديث كاملاً :

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال :  كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلل عليه . فقال : ما هذا ؟ فقالوا : صائم . فقال : ليس من البر الصوم في السفر . (صحيح البخاري ج2/ص687) إذن فقد قاله النبي – صلى الله عليه وسلم – في حق من وجد الحرج بسبب صيامه .

وقريب منه ما جاء عن أنس رضي الله عنه قال : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثرنا ظلاً الذي يستظل بكسائه ، وأما الذين صاموا فلم يعملوا شيئاً ، وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب وامتهنوا وعالجوا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ذهب المفطرون اليوم بالأجر . (صحيح البخاري ج3/ص1058)

وكذلك ما روى مسلم في (صحيحه ج2/ص789) عن أبي سعيد الخدري أنه قال : سافرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة ونحن صيام قال : فنزلنا منزلاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم . فكانت رخصة فمنا من صام ومنا من أفطر ، ثم نزلنا منزلاً آخر فقال : إنكم مصبحو عدوكم والفطر أقوى لكم . فأفطروا وكانت عزمة فأفطرنا ، ثم قال : لقد رأيتنا نصوم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك في السفر .

والشاهد أنهم أُمروا بالفطر عند الحاجة إلى الفطر .

- ما الأفضل في السفر الصيام أم الإفطار ؟

فمذهب الحنفية والمالكية والشافعية ، وهو وجه عند الحنابلة ، أن الصوم أفضل ، إذا لم يجهده الصوم ولم يضعفه ؛ فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن رواحة . (صحيح مسلم ج2/ص790) فالرسول – صلى الله عليه وسلم - صائم رغم الحر ؛ لأن الحر لم يوقعه في الحرج.

ومذهب الحنابلة أن الفطر في السفر أفضل ؛ لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم : ليس من البر الصوم في السفر (صحيح البخاري ج2/ص687) وقد علمت آنفاً أن هذا الحديث جاء في شأن من أُصيب بالحرج بسبب صيامه في السفر .

وبعض العلماء رأى التخيير وعدم التفضيل ؛ لما جاء عن أنس بن مالك قال : كنا نسافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم . (صحيح البخاري ج2/ص687) . وهذا لا حجة فيه ؛ لأن التعييب لا يقع في ترك الأفضل ، ألا ترى أن التحليق في الحج خير من التقصير ؛ ورغم ذلك فالأمران شرعيان ولا يعيّب على فاعل أحدهما ؛ قال تعالى في وصف المعتمرين مع النبي صلى الله عليه وسلم (...مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ...) (الفتح : 27) وهذا الوصف جاء في سياق التكريم للمؤمنين .

واستدل القائلون بالتخيير بما جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : سأل حمزة بن عمرو الأسلمي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصيام في السفر . فقال : إن شئت فصم وإن شئت فأفطر . (صحيح مسلم ج2/ص789) . وهذا لا حجة فيه لأن هذا الحديث دليل على التخيير وجاء غيره يدل على التفضيل ، ولا تعارض بين دليل التخيير ودليل التفضيل .

والظاهر أن الصوم أفضل إلا لمن وقع في الحرج ؛ وذلك لما جاء عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن رواحة . (صحيح مسلم ج2/ص790)

والجمع بين الأحاديث على هذا الوجه هو الظاهر ؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما ، ولا يُصار إلى النسخ مع إمكان الجمع .

فالأفضل أن يصوم المسلم في السفر مؤدياً الفرض في وقته ، إلا أن يكون في ذلك حرج ومشقة ، فعندئذٍ فالفطر أولى وأفضل .

ما المدة التي تبقى فيها الرخصة للمسافر إذا مكث في مكان ؟

الظاهر أن المدة هي تسعة عشر يوماً سواء عقد العزم على الإقامة أم لا ، وإليك التفصيل:

فرّق الفقهاء بين أن ينوي الإقامة وبين أن ينتظر حاجة .

فإن لم ينوِ المسافر الإقامة وهو ينتظر حاجة ويقول : سأخرج غداً أو بعد غدٍ ، فيباح لهذا المسافر أن يفطر مهما كانت إقامته إن لم يُجمع نية إقامة . وهذا مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة ، أما الشافعية فقد ذهبوا إلى أن الإقامة ثمانية عشر يوماً – وقيل : أربعة أيام - تقطع حكم السفر ولو كانت الإقامة بدون نية . (مغني المحتاج ج1/ص266)

فإن نوى الإقامة أربعة أيام فأكثر أتم ، وهذا عند المالكية والشافعية والحنابلة على تفصيل ، أما عند الحنفية إذا نوى الإقامة خمسة عشر يوماً فأكثر أتم .

أما عند الظاهرية ، ففرقوا في الإقامة بين الصلاة والصيام بناء على الأصول الفقهية عندهم ، فقالوا : "فإن من أقام يوماً وليلة في خلال السفر لم يسافر فيهما ففرض عليه أن ينوي الصوم فيما يستأنف ، وكذلك إن نزل ونوى إقامة ليلة والغد ، ففرض عليه أن ينوي الصيام ويصوم" (المحلى ج3/ص216)

واعلم أخي أنه لم يأتِ حديث صحيح صريح ينص على مدة الإقامة التي تقطع أحكام السفر ، ولأجل هذا الأمر وقع الاجتهاد ، فمنهم من أخذ بأقوال بعض الصحابة ، ومنهم من استنبط من الأحاديث استنباطاً .

أما بالنسبة لما ورد عن الصحابة فليس هنالك اتفاق على مدة الإقامة ، وأقوى ما استدل به العلماء على تحديد هذه المدة هو ما جاء عن يحيى بن أبي إسحاق عن أنس أنه قال : خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة ، فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة . قلت : أقمتم بمكة شيئاً ؟ قال : أقمنا بها عشراً . (صحيح البخاري ج1/ص367) وفي (صحيح مسلم ج1/ص481) : خرجنا من المدينة إلى الحج .

"قال الأثرم وسمعت أبا عبد الله يذكر حديث أنس في الإجماع على الإقامة للمسافر ، فقال : هو كلام ليس يفقهه كل أحد ، وقوله : أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - عشراً يقصر الصلاة . فقال : قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - لصبح رابعة وخامسة وسادسة وسابعة ، ثم قال : وثامنة يوم التروية وتاسعة وعاشرة ، فإنما وجه حديث أنس أنه حسب مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة ومنى وإلا فلا وجه له عندي غير هذا " (المغني ج2/ص66) واعتمد الإمام أحمد على رواية جابر المشهورة في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي في الصحيحين وغيرهما من دواوين السنة .

والأصل فيمن أنزل متاعه في مكان أنه أقام فيه ، ولا يقصر أو يفطر إلا بدليل ، وهذا هو المنهج في تحديد مدة الإقامة التي تنقطع بها أحكام السفر ، فمن ذهب إلى أن نية الإقامة أربعاً فأكثر ؛ قال ما قال لأن أكثر ما ثبت عنده أربعة أيام ، ومن زاد فإنما زاد لأنه قد ثبت عنده الزيادة .

وقد جاء عن ابن عباس أنه قال : أقمنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر تسع عشرة نقصر الصلاة ، وقال ابن عباس : ونحن نقصر ما بيننا وبين تسع عشرة ، فإذا زدنا أتممنا . (صحيح البخاري ج4/ص1564) قيل في ردِّ دلالة الحديث : إن النبي – صلى الله عليه وسلم – أقام ولم يجمع إقامة . وأنت كما ترى أنه لا يوجد دلالة صريحة في الحديث على ما يقولون . ومما يؤيد جواز القصر في هذه المدة ولو أجمع الإقامة هو إطلاق ابن عباس لحكم القصر دون تفريق بين من نوى الإقامة أو لم ينوِ .

وإقامة النبي – صلى الله عليه وسلم – كانت عام الفتح ، وبوب البخاري لهذا بـ "باب مقام النبي  - صلى الله عليه وسلم - بمكة زمن الفتح" (صحيح البخاري ج4/ص1564) .

وقد اختلفت الروايات في تحديد مدة مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة زمن الفتح ، وأصحها : تسع عشرة .

قال البيهقي :

"وأصحها عندي - والله أعلم - رواية من روى تسع عشرة ، وهى الرواية التي أودعها محمد بن إسماعيل البخاري في الجامع الصحيح ، فأخذ من رواها ولم يختلف عليه على عبد الله بن المبارك وهو أحفظ من رواه عن عاصم الأحول . والله أعلم" (سنن البيهقي الكبرى ج3/ص151)

وأما ما روي عن جابر بن عبد الله قال أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة  (مصنف عبد الرزاق ج2/ص532) وعنه (مسند أحمد بن حنبل ج3/ص295) وعنه (سنن أبي داود ج2/ص11).

فإنه حديث صحيح الإسناد ولكنه معلول بتفرُّد معمر بإسناده ، ورواه علي بن المبارك وغيره عن يحيى عن ابن ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً ، وهذه مخالفة من معمر . وقد أعله الدارقطني وغيره بالإرسال . انظر (تلخيص الحبير ج2/ص45) ( سنن البيهقي الكبرى ج3/ص152)

وأما من صححه فإنما صححه لأجل ظاهر سنده ، وتعليله أرجح ؛ لأنه حكم على الحديث باعتبار أسانيده لا باعتبار سند واحد .

وقد رأى بعض الصحابة أنه يجوز للمسافر أن يأخذ بأحكام السفر ما لم يتخذ ذلك المكان مكان إقامة دائمة ؛ فعن ثُمامة بن شَرَاحيل قال : خرجت إلى ابن عمر فقلنا : ما صلاة المسافر ؟

فقال : ركعتين ركعتين إلا صلاة المغرب ثلاثاً . قلت : أرأيت إن كنا بذي المجاز ؟ قال : وما ذو المجاز؟ قلت : مكان نجتمع فيه ونبيع فيه ونمكث عشرين ليلة أو خمس عشرة ليلة .

قال : يا أيها الرجل ! كنت بأذربيجان - لا أدري قال أربعة أشهر أو شهرين - فرأيتهم يصلونها ركعتين ركعتين ورأيت نبي الله - صلى الله عليه وسلم - نصب عيني يصليهما ركعتين ركعتين ثم نزع هذه الآية  (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ...) (الأحزاب: 21) حتى فرغ من الآية (مسند أحمد بن حنبل ج2/ص83) وسنده حسن .

أما من قال : إن فتوى ابن عمر في حق من لم يجمع إقامة مستدلاً بما رواه عبد الرزاق في مصنفه (ج2/ص533) أن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة ، وكان يقول : إذا أزمعت إقامة فأتم .

فهذا كلام غير صحيح لأمرين :

الأول : هذه الرواية ضعيفة ؛ لأن شيخ عبد الرزاق ضعيف .

الثاني : سؤال ثُمامة بن شَرَاحيل لابن عمر عن الإقامة كان عن الإقامة بنيّة لقوله :

" قلت مكان نجتمع فيه ونبيع فيه ونمكث عشرين ليلة أو خمس عشرة ليلة"

فهم يمكثون مدة معلومة بنيّة ، ولكن هذه المدة هي اجتهاد من ابن عمر في موضع الاجتهاد ، وهذا لا حجة فيه ؛ لأن من الصحابة من يخالفه ، كما تقدَّم – على سبيل المثال – قول ابن عباس .

ولكن الظاهر في المسألة هو التقيُّد بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصح ما ورد هو تسعة عشر يوماً ، أو عشرين يوماً عند من يصحح حديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة . وقد تقدم الكلام عليه .

أما ما روي أن رسول الله أقام بخيبر أربعين ليلة يقصر الصلاة . (مصنف عبد الرزاق ج2/ص533) (سنن البيهقي الكبرى ج3/ص152) فهو حديث ضعيف ؛ فيه الحسن بن عمارة وهو متروك . (نصب الراية ج2/ص186) (الدراية في تخريج أحاديث الهداية ج1/ص212)

- (عِدَّةٌ) على وزن "فِعلة" من العدد . بمعنى : معدودة . نقول : الطِّحن ، وهو : المطحون ، ونقول : الذِّبح ، وهو المذبوح . وجمع "عِدَّة" : عِدَد .

أما "عُدَّة" – بضم العين – فهو : الاستعداد ، أو ما أعدَّه الناس . وجمع "العُدَّة" : عُدَد.

- (فَعِدَّةٌ) تقديره : فأفطر فعليه عِدَّة ، أو فالواجب عِدَّة . أو ما شابه هذا . وحُذِفَ هذا التقدير لأنه معلوم ؛ يقول ابن مالك في ألفيته :

وحذف ما يعـــــــلم جـــــــــائز كما ... تقول زيد بعد من عندكما

وفى جواب كيف زيد قل دَنِف ... فزيد استُغني عنه إذ عُرف

- (مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أُخَرَ : جمع أخرى ، وأخرى تأنيث آخَر .

- هل يجب تعجيل القضاء أم يستحب ؟

لم تحدد الأيام الأُخَر ؛ ولذا رأى الجمهور أن تعجيل القضاء مستحب ، فإن أخره حتى جاء رمضان الآخر أَثِم . (مواهب الجليل ج2/ص448) (الروض المربع ج1/ص435) (المهذب ج1/ص187) مستدلين بقول عائشة رضي الله عنها : كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان ؛ الشغل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو برسول الله  صلى الله عليه وسلم  (صحيح مسلم ج2/ص802)

وجاء أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : إن كانت إحدانا لتفطر في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى يأتي شعبان . (صحيح مسلم ج2/ص803)

ورأى الحنفية إلى أن تعجيل القضاء مستحب ، ولو أخّره حتى دخل رمضان الثاني فلا شيء عليه غير القضاء ؛ لأن وجوب القضاء على التراخي . (الهداية شرح البداية ج1/ص127)

والراجح ما ذهب إليه الجمهور من وجوب القضاء قبل أن يهل رمضان الثاني ؛ لأن التأخير لو جاز بعد رمضان الثاني لأخرته عائشة وغيرها ، والحرص على القضاء في شعبان قبل دخول رمضان ليس من عائشة فقط حتى يُقال : هذا حرص شخصي ، بل اجتمعت النساء على هذا الحرص (إن كانت إحدانا لتفطر ...) ، وهذا الاجتماع على هذا الموعد يدل على أنه آخر وقت التراخي . فتأمل حفظك الله !

- هل يجب فدية على من أخَّر القضاء عن رمضان الآخر بلا عذر ؟

ذهب الجمهور إلى وجوب الفدية مع القضاء . (القوانين الفقهية ج1/ص84) (المجموع ج6/ص385) (الروض المربع ج1/ص435)

واستدلوا بما روى الدارقطني في (سننه ج2/ص197) عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في رجل أفطر في شهر رمضان من مرض ثم صح ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر . قال : يصوم الذي أدركه ثم يصوم الشهر الذي أفطر فيه ويطعم مكان كل يوم مسكيناً .

والحديث ضعيف ؛ قال الدارقطني : إبراهيم بن نافع وابن وجيه ضعيفان

ولكن الحديث صح موقوفاً على أبي هريرة في رجل مرض في رمضان ثم صح ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر . قال : يصوم الذي أدركه ويطعم عن الأول لكل يوم مداً من حنطة لكل مسكين ، فإذا فرغ في هذا صام الذي فرط فيه . قال الدارقطني : إسناد صحيح موقوف (سنن الدارقطني ج2/ص196)

ورأى الحنفية إلى أن لا شيء عليه غير القضاء ؛ لأن وجوب القضاء على التراخي ، فهو لم يقع في محذور . (الهداية شرح البداية ج1/ص127)

والراجح عدم وجوب الفدية لأنه لا يصح فيها خبر واحد مرفوع أو في حكمه ، وما روي عن أبي هريرة وغيره إنما هي اجتهادات للصحابة وهي غير ملزِمة للاختلاف الواقع بينهم . وإن كانت الفدية لا تجب لأنه لم يصح فيها حديث إلا أن المؤخِّر للقضاء من غير عذر حتى دخول رمضان الثاني آثم عليه الاستغفار . وممن قال بهذا القول إبراهيم النخعي ، ذكر ذلك البخاري (صحيح البخاري ج2/ص688) بل رأى البخاري عدم وجوب الفدية لعدم الدليل ، فقال رحمه الله : "ولم يذكر الله الإطعام إنما قال (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)"  (صحيح البخاري ج2/ص688)

- هل يجب التتابع في القضاء ؟

لا يجب التتابع في القضاء ؛ لأنه لم يصح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – شيء في ذلك ، ولكن يستحب التتابع ؛ لأنه مبادرة وتعجيل للقضاء ، والتعجيل مستحب . (الروض المربع ج1/ص435) (المهذب ج1/ص187)

- (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) أي : وعلى الذين يستطيعون الصيام ولكن لا يريدون أن يصوموا – عليهم إطعام مسكين عن كل يوم ؛ لما روى البخاري في صحيحه (ج4/ص1638)

عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قرأ (... فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ...) قال : هي منسوخة .

ولكن روى البخاري في (صحيحه ج4/ص1638) عن ابن عباس : ليست بمنسوخة ، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً .

وهذا فهم من ابن عباس خالفه فيه غيره ؛ بل إن الواقع ينبئنا بالنسخ ؛ فقد روى البخاري في صحيحه (ج4/ص1638) عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع عن سلمة قال لما نزلت   (... وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ...) كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها

وروى مسلم (صحيحه ج2/ص802) نحوه عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه قال : كنا في رمضان على عهد رسول الله  صلى الله عليه وسلم  من شاء صام ومن شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين حتى أنزلت هذه الآية  (...فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ...)

وقيل : إن المعنى يكون بتقدير "لا" النافية ، أي : وعلى الذين لا يطيقونه ، واستدلوا بقراءة (يَطَّوَّقُونَهُ) وهي قراءة شاذة .

وقيل : إن معنى "يطيقونه" أي : يستطيعون الصيام ولكن مع المشقة والحرج ، مثل الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان الصيام .

وقال بعض العلماء : إن الإطاقة – أيضاً – تكون عند القدرة على الفعل ولكن مع وجود المشقة ، وهذا ما يفسر قوله تعالى ( ... وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة : 184) بعد إباحة الفطر للذين يطيقون الصيام ، أي : لا تعارض بين أن يكون معنى "يطيقونه" : يصومونه بمشقة ، وبين قوله تعالى ( ... وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة : 184) ، هكذا قالوا !!

وهذا غير صحيح ؛ لقوله تعالى (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) فكيف يُفضَّل الصيام مع الحرج والمشقة وهذا يتنافى مع يسر الإسلام برفع الحرج !

ولكن الصحيح أن هذا قد يكون مقبولاً لولا وجود النص الصحيح عن سلمة بن الأكوع واصفاً حالاً عاشها زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا ليس اجتهاداً من سلمة ، ولكنه وصف لحال وقعت ، فهو في حكم المرفوع ، وهذا أرجح من رأي ابن عباس القائل بأن الحكم باقٍ في الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان الصوم فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً ؛ لأن ما رواه سلمة في حكم المرفوع لأنه وصف حال ، وما قاله ابن عباس فهو اجتهاد ، وليس مرفوعاً أو في حكمه .

- ما حكم الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة إن لم يستطيعا الصيام ؟

إذا أفطر الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لأنهما لم يستطيعا الصيام فرأي الحنفية  والحنابلة والأصح عند الشافعية  أن عليهما الفدية . انظر (المبسوط للسرخسي ج3/ص100) (المغني ج3/ص38) (المهذب ج1/ص 178) .

واستدل الجمهور بـقوله تعالى : (... وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ...) وبما روى البخاري في (صحيحه ج4/ص1638) عن ابن عباس : ليست بمنسوخة ، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً . واستدلوا أيضاً بما رُوي في وجوب الفدية عن بعض الصحابة ، مع العلم أن المروي موقوف عليهم ولا يصح فيه شيء مرفوع .

وذهب المالكية في المشهور في المذهب (مواهب الجليل ج2/ص414) والشافعية في غير الراجح (المهذب ج1/ص 178) إلى عدم وجوب الإطعام ، ودليلهم أنه لا يوجد في الآية دليل على الفدية ؛ لأنها منسوخة ، وأما ما ورد عن بعض الصحابة فإنما هو اجتهاد وفهم منهم وليس عليه خبر صحيح .

والقول بعدم وجوب الإطعام هو الراجح ؛ لعدم وجود نص من كتاب أو سنة أو إجماع ؛ إنما هي اجتهادات لبعض الصحابة رضي الله عنهم .

- ما حكم الحامل والمرضع إذا لم تقدرا على الصيام ؟

ورأى ابن عباس أن المرضع أو الحامل ممن لا يطيق الصيام ، وأن عليها الفدية لا القضاء ؛ لما روى الدارقطني في (سننه ج2/ص206) عن سعيد بن جبير أن ابن عباس قال لأم ولد له حبلى أو ترضع : أنت من الذين لا يطيقون الصيام ، عليك الجزاء وليس عليك القضاء . وقال الدارقطني : إسناد صحيح .

وقد ذهب جمع من العلماء إلى التفريق بين خوف الحامل والمرضع على أنفسهما وبين خوفهما على ولديهما ، أما إذا خافتا على أنفسهما فيباح لهما الفطر وليس عليهما إلا القضاء وعلى هذا اتفاق العلماء ؛ تنزيلاً لهما منزلة المريض يقضي بعد شفائه . انظر (المبسوط للسرخسي ج3/ص99 ) (المغني ج3/ص37) (المجموع ج6/ص267)

ولكن وإن خافتا على ولديهما فللعلماء في هذا مذاهب :

فالحنفية يرون أن عليهما القضاء وليس عليهما فدية ؛ ولا دليل على وجوب الفدية (المبسوط للسرخسي ج3/ص99) وهذا هو المشهور من مذهب المالكية في حق الحامل (الفواكه الدواني ج1/ص309) ، أما المرضع فتجب الفدية في إحدى الروايتين عن مالك (القوانين الفقهية ج1/ص84)

أما الحنابلة فقد رأوا أن عليهما القضاء والفدية  . (المغني ج3/ص37)

وعند الشافعية " عليهما القضاء بدلا عن الصوم ، وفي الكفارة ثلاثة أوجه :

الأول وهو الصحيح عندهم : أن الحامل والمرضع إذا خافتا أفطرتا وأطعمتا كل يوم مسكيناً.

والثاني : أن الكفارة مستحبة غير واجبة وهو قول المزني لأنه إفطار بعذر فلم تجب فيه الكفارة كإفطار المريض .

والثالث : يجب على المرضع دون الحامل ؛ لأن الحامل أفطرت لمعنى فيها فهي كالمريض ، والمرضع أفطرت لمنفصل عنها فوجب عليها الكفارة . (المجموع ج6/ص267)

والظاهر ما ذهب إليه الحنفية من أن الحامل والمرضع إن خافتا على أنفسهما أو على ولديهما أن عليهما القضاء فقط دون الفدية ؛ لأنهما احتاجتا إلى الإفطار لعجزٍ وقع عندهما مثل المريض ؛ والخوف على الجنين ناشئ عن الحمل ، والخوف على الرضيع ناشئ عن الإرضاع ، والحمل والإرضاع من لوازم تكوين النساء ، فلهن أرحام تحمل وأثداء ترضع ، ولذا فأي عجز يصيب الواحدة منهن بسبب ما كتبه الله عليهن فهو عذر يبيح لهن الإفطار والقضاء ، كما في المرض والحيض .

- (فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) و (فِدْيَةٌ) مبتدأ مؤخر ، و(طَعَامُ) بدل من (فِدْيَةٌ) . وقرأ نافع وغيره على الإضافة (فِدْيَةُ طَعَامِ) .

- (فِدْيَةٌ) وهي ما يقدمه الإنسان ليحمي به نفسه أو غيره ، وهي هنا ما يدفعه المسلم من المال ليحمي نفسه من النقص الواقع في أداء الصيام .

- (طَعَامِ مِسْكِينٍ) قد يكون المعنى : إطعام مسكين . على أن (طَعَامِ) اسم مصدر ، واسم المصدر هو ما دلَّ على معنى المصدر ، ولكن نقص عن حروف فعله ، مثل : "العطاء" اسم مصدر من الفعل "أعطى" والمصدر "إعطاءً" . وقد يكون (طَعَامِ) بمعنى "مطعوم" .

- (مِسْكِينٍ) مضاف إليه . فإذا كان الإطعام اسم مصدر كانت الإضافة إلى المفعول ، وإن كان الإطعام بمعنى المطعوم كانت الإضافة بمعنى اللام التي تفيد التمليك ، أي : طعام لمسكين . فالطعام حق للمسكين على من أفطر .

- (مِسْكِينٍ) وقرأ نافع وغيره (مَسَاكِينَ) ، ويكون المعنى على الإفراد : على الذين يطيقونه طعام مسكين عن كل يوم .

ويكون المعنى على الجمع : وعلى الذين يطيقونه طعام مساكين على ما أفطروا من الأيام.

-  (مِسْكِينٍ) وأصل معناه من سكن ؛ لأن المسكين قليل التقلّب في الأرض لضعفه وحاجته ، وعكسه الغني يذهب ويجيء ويسافر ويزور ويُزار ويشهد المجالس والمحافل .

- أيُّهما أشد حاجة الفقير أم المسكين ؟

ذهب بعض أهل اللغة إلى أن المسكين أشد حاجة من الفقير ، بل وأوَّل قوله تعالى (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ...) (الكهف : 79) بأنه جعلهم مساكين بعد ذهاب السفينة، أو لأن سفينتهم غير معتد بها في جنب ما كان لهم من المسكنة .

وقيل : العكس ، وقيل : هما سواء ، وقيل : المسكين الذي يسأل والفقير لا يسأل . وقيل : " الفقير ": الذي يعطى بفقره فقط ، و " المسكين ": الذي يكون عليه مع فقره خضوع وذل السؤال . وقيل غير ذلك .

والظاهر أن المسكين أحسن حالاً من الفقير ؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس (صحيح البخاري ج2/ص538) فالمسكين لا يفطن له فيتصدق عليه ؛ لأن معه من المال ما يستره فلا يعرف الناس حاله ، فيلبس لباساً جيداً ويظهر بمظهر مقبول ، ولا ترده اللقمة واللقمتان لأن عنده من المال ما يسيِّر حياته ولكن المال لا يكفيه .

ولقوله تعالى (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ...) (الكهف : 79) فهم يمتلكون سفينة ولكن الدخل لا يكفيهم ، إما لكثرة عددهم بالنسبة لنتاج السفينة ، أو لأي شيء آخر ليس المقصود تعيينه ، ولكن المهم أنهم مساكين رغم سفينتهم ؛ وذلك لأن المال لا يكفيهم .

ومما يُستدل به على أن الفقير أشد حاجة من المسكين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: " اللهم إني أعوذ بك من الكفر، والفقر، وعذاب القبر " رواه أحمد في (مسنده ج34/ص 17) وهذا حديث صحيح . بينما كان يدعو بأن يكون مسكيناً ؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين . رواه الترمذي في (سننه ج4/ص577) وغيره . وهذا حديث صحيح .

وقد يقوم ذكر الفقير مقام المسكين إن قُيّد بصفة المساكين ؛ فقد قال تعالى (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ...) ووصفهم بصفة المساكين (... يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة : 273) فهم فقراء ولكن عندهم ما يصلحون به حالهم الظاهري من الملابس وغير ذلك حتى يستطيعوا إخفاء الفقر .

وقد يُفيد "المسكين" معنى "الفقير" إذا قُيّد بقيد يدل على ذلك ؛ فقد قال تعالى (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) (البلد : 16) فهو مسكين ولكن وصف بصفة أنه شديد الحاجة .

ولكن ما يفيده الاسم المقيّد بوصف قد لا يفيده الاسم عند إطلاقه ، وذلك كما في وصف الفقراء بصفة المساكين أو المساكين بصفة الفقراء ؛ كما يُقال من أصح في جسمه الشاب أم الشيخ ؟

فالجواب : الشاب . ولكن قد يكون الشيخ أصح إذا وقع الوصف بقولنا : هذا شاب سقيم وهذا شيخ صحيح . وما أفاده الكلام مع الوصف لا يعني أن مطلق الشيوخ أصح من الشباب ؛ كما لا يعني وصف الفقراء بالتعفف ووصف المسكين بالمتربة أن الفقير أحسن حالاً من المسكين . فتأمل .

وقد يقوم "الفقير" في المعنى مكان "المسكين" والفقير معاً والعكس ؛ قال تعالى (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحشر : 8) ففي هذه الآية قام "الفقير" في المعنى مكان "المسكين" والفقير معاً . وفي قوله تعالى (وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (الحاقة : 34) قام "المسكين" في المعنى مكان "الفقير" والمسكين معاً ، وكقوله تعالى (...فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ...) (البقرة : 184) .

ولكن إذا اجتمعا في الذكر افترقا في المعنى كقوله تعالى (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ...) (التوبة :60) ، ففي هذه الآية يُحمل الفقير على الأسوأ حالاً ، ويحمل المسكين على الأحسن حالاً منه ؛ لما سبق آنفاً .

فــ "الفقير" و"المسكين" إن اجتمعا في الذكر تفرقا في المعنى ، وإن تفرقا في الذكر اجتمعا في المعنى ، ما لم يكن هناك وصف أو قيد .

- (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ) أي : التطوع (خَيْرٌ لَهُ) قيل : فمن تطوع فصام مع الفدية فهو خير . وقيل : فمن تطوع بزيادة كمية الطعام للمسكين فهو خير . وقيل : فمن تطوع بأن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم فهو خير .

والقولان الأخيران مقبولان ، ولكن القول الأول غير مقبول ؛ لأن سياق الكلام عن الإطعام ، وقوله تعالى (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) متفرِّع عن حكم الإطعام (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) ، وعلى هذا يكون المعنى : على من يختار الإفطار إطعام مسكين ، فمن زاد في الإطعام فهو خير له ، ولكن صيام رمضان خير من الإطعام .

- (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) وهذا هو أسلوب الشرط : (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا) جوابه (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) ، ولأسلوب الشرط أثر عظيم في تهييج النفس إلى الفعل ، وهو من أساليب الحض والحث ، وهو مستعمل في أساليب كلامنا اليومية .

- (تَطَوَّعَ) أي من الطاعة والانقياد ، ولكن وزن (تَطَوَّعَ) هو تفعَّل ، وهو يدل على تكلَّف الطاعة ، وفي هذا دلالة على أن الزيادة في الطاعة تحتاج إلى عزم لما فيها من معاني التكلَّف ، ولأجل أن التطوع - بعد أداء الفرائض - فيه مشقة على النفس ؛ فقد جعل الله سبحانه وتعالى التطوع من الأسباب الموجبة لمحبة العبد ورفع درجته من أصحاب اليمين إلى درجة المقرَّبين ؛ فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله قال : من عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب ، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن ؛ يكره الموت وأنا أكره مساءته . (صحيح البخاري ج5/ص2384)

- (خَيْرٌ لَهُ) (خَيْرٌ) اسم تفضيل ، ولكن حُذفت منه الهمزة "أَخْيَر" ؛ لكثرة الاستعمال ، ويجوز – في غير القرآن - إثباتها على الأصل ، وذلك قليل .

- (خَيْرٌ لَهُ) الكلام مفهوم من دون (لَهُ) ، ولكن للجار والمجرور (لَهُ) دلالة في تأكيد أن النفع إنما هو للمتطوِّع ، وهذا التأكيد فيه زيادة في الحض على التطوع ، أي : إن تطوعت خيراً فإنما هو لك أنت وحدك ، فأنت المستفيد ، فتطوع حتى تكسب الخير .

ولكن ، أليس المسكين مستفيداً ، فلماذا جاء النص بأن الزيادة في الإطعام خير للمتطوع ، ولم يُذكر أنها خير للمسكين أيضاً ؟

نعم ، إن المسكين مستفيد أيضاً ، ولكنها فائدة محدودة ضئيلة ، لقيمات يأكلهن اليوم ثم يصبح جائعاً يريد أخرى ، وأضف إلى ذلك أن الكلام في الحض على التطوع ، وهذا يُناسبه ذكر ما يخص المتطوِّع لا المسكين .

- (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) قاعدة تدفع المؤمنين إلى الزيادة في الخير ، ولكن الخير يكون في مشروعيته ، وأما الزيادة غير المشروعة فليست خيراً ، ألا ترى أنه لا يجوز زيادة ركعات صلاة الظهر – مثلاً – عن أربع ركعات بحجة أن هذا من باب التطوع بالخير ، أو أن نضيف الصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم -  إلى الأذان ، وذلك بمناداة المؤذن بها مع الأذان .

- (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) وصيامكم خير لكم من الفدية والتطوع . وهذا من الأدلة على رجحان نسخ الفدية زيادة على ما ذُكر آنفاً من الأخبار الصحيحة ، لأن الأمر في ديننا إذا ضاق اتسع ، وإذا عسُر الأمر يُسِّر ، فكيف نقول لمن لا يقدرون على الصوم (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) ، إنما هو حكم منسوخ كان في أول الإسلام .

وبهذا تعلم أن ما روي عن ابن عباس من قوله في الآية : ليست بمنسوخة ، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً . (صحيح البخاري ج4/ص1638) أنه قول مرجوح وهذا الفهم من ابن عباس خالفه فيه غيره ؛ بل إن الواقع ينبئنا بالنسخ ؛ لما روى البخاري في صحيحه (ج4/ص1638) عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع عن سلمة قال لما نزلت   (... وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ...) كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها

وروى مسلم في (صحيح ج2/ص802) نحوه عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنه قال : كنا في رمضان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شاء صام ومن شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين حتى أنزلت هذه الآية  (...فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ...)

- وقد وقع في الآية التفاتان الأول من الخطاب (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا...أُخَرَ) إلى الغيبة (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ...خَيْرٌ لَهُ)  ثم الالتفات إلى الخطاب (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ...تَعْلَمُونَ) ، ولهذا الالتفات معنى دقيق ، وهذا المعنى هو رفع شأن الصيام مع التقليل من شأن الفدية ، وتأمل معي – بارك الله فيك – في الأسلوب ، ففي البداية كان الخطاب للمؤمنين ، ولأسلوب الخطاب دلالاته من التحفيز والاعتناء والتقدير ، ثم جاء الالتفات إلى الغيبة في شأن الذين لا يريدون الصيام ويريدون الفدية ؛ تقليلاً لشأنهم كأنهم مهمَّشون - ولا أقول مهمَّشون بل كأنهم – ثم رجع الأسلوب إلى الخطاب اعتناء بأمر الصيام (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ)

- (وَأَنْ تَصُومُوا) جاء التعبير بالمصدر المؤول ولم يأت "وصيامكم" ؛ لما للمصدر المؤول من ارتباط وثيق مع الفعل ، والسياق حض على الفعل مع الإعلام بفضل الصيام ، وبما أنه حض على الفعل فالمصدر المؤول له دلالة على الفعل أكثر من المصدر .

- (خَيْرٌ لَكُمْ) الكلام مفهوم دون الجار والمجرور (لَكُمْ) ، ولكن لـ (لَكُمْ) دلالة سبق الكلام عنها عند الكلام عن (لَهُ) في قوله تعالى (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) .

- (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) خيرية الصيام وفضله عند الله تعالى . وجواب الشرط دل عليه ما سبق ، وتقديره : فافعلوا الأفضل وصوموا. وحُذف جواب الشرط لظهوره وعدم خفائه .

- (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جاء استعمال حرف الشرط (إن) الذي يدل على عدم تحقق ما بعده ، وهذا بخلاف (إذا) الذي يدل على تحقق ما بعده ، وهذا على وجه العموم . وقد يقوم حرف (إن) مقام (إذا) والعكس ، وهذا إنما يكون لفائدة بلاغية .

ويُطرح سؤال في هذا المقام : لماذا استُعمل حرف الشرط (إن) الذي يدل على عدم تحقق ما بعده مع أن الخطاب للمؤمنين ؟

قيل : جيء في الشرط بـ (إن) ؛ لأن علمهم بفوائد الصيام الدنيوية والأخروية وغيرها من الفوائد من شأنه ألا يكون محققاً لخفائه .

ولكن هناك وجه آخر ، ألا ترى معي – حفظك الله ورعاك – أن هذا من أساليب التحفيز ؟ ومَثَل هذا الأسلوب كمثل من يخطب في جماعة ليحثهم على أمر ، فإن كان الأمر سهلاً ميسوراً يقوم به كل المخاطَبين ، قال لهم الخطيب : كما يعلم الجميع أن الشهادتين من أركان الإسلام . بينما إن كان الأمر شديداً  كفض نزاع وقت الفتنة ، فإن الخطيب يقول : الفتنة شر وعلينا اجتنابها ، فإن علم أحد منكم هذا فعليه أن يلزم بيته .

علماً بأن كل المخاطَبين يعلمون أن أمر الفتنة شر وأن علينا اجتنابها ، ولكن التزام هذا الأمر في ذلك الوقت صعب ، فخوطب الجمع على أن هذا العلم غير متحقق عندهم ؛ وذلك لتحفيزهم على الأمر الشديد .

ونعود إلى الآية (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ، فالصيام كان اختيارياً ، واختيار الصيام في بيئة صحراوية قاسية أمر صعب ، أضف إلى هذا أنه أول صيام على مدار شهر كامل يقوم به هؤلاء المكلَّفون ، ولذا كانت مخاطبتهم على أن العلم غير متحقق عندهم ؛ وذلك تحفيزاً لهم .

ولكن هذه الصعوبة تزول عن هذه القلوب المؤمنة عند فرض الصيام (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة : 185) وأنت ترى أن أسلوب الآية أشد من الآية السابقة ، لأنها تفرض الصيام فرضاً ، وفي فرض الصيام تسهيل لالتزامه ؛ لأن الأمر عندما يُفرض يكون الالتزام به أسهل منه عندما كان اختيارياً ، وهذه هي طبيعة النفس البشرية ؛ لأنها تشحذ الهمة على قدر الأمر ، فكم ممن يؤدي صيام رمضان بجد ونشاط وصبر لا يستطيع أن يصوم ثلاثة أيام تطوعاً ؛ لأن شهر رمضان فرض لا مفر منه أما الأيام الثلاثة فهي مستحبة وليست بلازمة .

- (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وليس "إن تعلموا" ؛ لما لـ "كان" من دلالة على وجود الأمر ، وهنا أُكِّد على وجود العلم مرتين : مرة بذكر (كُنْتُمْ) ، ومرة بذكر (تَعْلَمُونَ) وهذا للتحفيز والحث ، أي : إن كان عندكم العلم موجوداً وجوداً حقيقياً .... والتأكيد في سياق الحض والحث إنما هو زيادة في الحض والحث.

(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (185)

المفردات :

- بَيِّنَاتٍ : جمع بيّنة ، وهي الحجة الواضحة .

- عِدَّةٌ : على وزن "فِعلة" من العدد . بمعنى : معدودة .

- أُخَرَ : جمع أخرى ، وأخرى تأنيث آخَر .

المعنى الإجمالي :

شهر رمضان شهر معظَّم ؛ ففيه أنزل الله تعالى القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا القرآن كتاب هداية للناس ، وفيه حجج وبراهين دالة على الهداية ، وحجج وبراهين مفرقة بين الحق والباطل ، وعلى من يكون حياً ويعلم بالشهر المعظَّم أن يصومه كله ، ولكن إن كان أحدكم مريضاً أو مسافراً فليفطر وليقض مكان ما أفطر .

والله – جل في علاه – شرع ما شرع من الصيام والرخص لأنه يريد بنا اليسر لا العسر ، ولأنه يريد أن نكمل عدد أيام الصيام بالقضاء إن أفطرنا ، ويريد أن نكبِّره شكراً على هدايته لنا حين نتم صيام الشهر ، ولأجل أن نكون له من الشاكرين الطائعين ، لأجل هذا شرع سبحانه وتعالى ما شرع من أحكام الصيام والرخص .

المعنى التفصيلي :

- (شَهْرُ) سمي بهذا من الشهرة وهي الظهور ، فهو مدة ظاهرة مشهورة بين الناس للعلامات الدالة عليها كما هو الحال هنا في هذا الشهر القمري ؛ فإن الهلال دليل على أوله وكذلك دليل على آخره .

- (رَمَضَانَ) هو من الرَّمَض، أي: شدة حرارة الشمس . ولكن لماذا سُمي هذا الشهر بهذا الاسم ؟

الجواب عن هذا أنه قد صادف تسمية الشهر - أوّل ما سُمي عند العرب – شهراً شديد الحرارة ، وهذا احتمال ، أو قد يكون الاسم ارتجالياً بمعنى أنه ليس بينه وبين المـُسمَّى علاقة ، فمدينة الزرقاء في الأردن ليس زرقاء ، وإنما هو اسمها فقط ، وهذا هو الأرجح – والله أعلم – لأن معظم شهور السنة في الجزيرة العربية حارة ، فهي أكثر من شهر .

- ويجوز أن نقول : صمت شهر رمضان . أو : صمت رمضان . بدون ذكر "شهر" ، ولا كراهة في ذلك ، والحديث الوارد في النهي عن ذلك ضعيف ، وهذا هو الحديث :

عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقولوا رمضان ، فإن رمضان اسم من أسماء الله ، ولكن قولوا شهر رمضان (سنن البيهقي الكبرى ج4/ص201) وفيه أبو معشر وهو ضعيف.

وقد بوب البخاري : باب : هل يقال رمضان أو شهر رمضان . واستدل البخاري على جواز ذلك بما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة . (صحيح البخاري ج2/ص671) . والشاهد : جاء رمضان . وليس : شهر رمضان .

قال النووي : "فيه دليل للمذهب الصحيح المختار الذي ذهب إليه البخاري والمحققون أنه يجوز أن يقال رمضان من غير ذكر الشهر بلا كراهة .

وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب :

قالت طائفة : لا يقال رمضان على انفراده بحال ، وإنما يقال : شهر رمضان . هذا قول أصحاب مالك ، وزعم هؤلاء أن رمضان اسم من أسماء الله تعالى فلا يطلق على غيره إلا بقيد .

وقال أكثر أصحابنا ... : إن كان هناك قرينة تصرفه إلى الشهر فلا كراهة وإلا فيكره . قالوا : فيقال : صمنا رمضان ، قمنا رمضان ، ورمضان ... وأشباه ذلك ولا كراهة في هذا كله ، وإنما يكره أن يقال : جاء رمضان ودخل وحضر رمضان وأحب رمضان ونحو ذلك .

والمذهب الثالث مذهب البخاري والمحققين أنه لا كراهة في إطلاق رمضان بقرينة وبغير قرينة . وهذا المذهب هو الصواب" (شرح النووي على صحيح مسلم ج7/ص187)

- (الَّذِي) الاسم الموصول هنا جاء تعظيماً لشهر رمضان ؛ وليس معناه مجرد التعريف ؛ لأن الكلام يستقيم معناه دون الاسم الموصول "شهر رمضان أُنزل فيه القرآن" أو " أُنزل القرآن في شهر رمضان" ، ولكن في ذكر الاسم الموصول دلالة على تعظيم شهر رمضان وفق ما يقتضيه السياق .

- (أُنْزِلَ) بُني الفعل لما لم يسمَّ فاعله للتركيز على حادثة النزول لا على من أَنزله ؛ وذلك لتوضيح صورة التعريف بهذا الشهر ، أما في قوله تعالى في قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) (الدخان : 3) (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر : 1) فإن الفاعل - جل في علاه - قد ذُكر تعظيماً لهذه الليلة قبل التعريف بها ؛ لأن المهم في ليلة القدر بيان عظيم مكانتها قبل التعريف بها ؛ لأنها مجهولة الوقت على التحديد ، وإنما تعظَّم ليجتهد الناس في التماسها وتتبعها .

- ولكن ما الفرق بين "أنزل" "نزّل" ؟

قيل : العدول عن تعدية الفعل بالهمزة "أنزل" إلى تعديته بالتضعيف"نزّل" ؛ لتَقوية معنى الفعل ، قال تعالى (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) (آل عمران : 3) فقوله تعالى (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ) أهمّ من (وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) للدلالة على أن نزول القرآن عظيم ، وأنه أعظم من التوراة والإنجيل .

وقيل : العدول عن تعدية الفعل بالهمزة "أنزل" إلى تعديته بالتضعيف "نزّل" ؛ للدلالة على نزوله منجماً ، قال تعالى (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) (آل عمران : 3) فالقرآن نزل منجماً ، بينما التوراة والإنجيل نزلا دفعة واحدة .

أقول : قد يكون هذين القولين مقبولين في تفسير (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) ، وكذلك في تفسير قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ...) (النساء : 136) ؛ وذلك لورود (نزّل) و(أنزل) في آية واحدة ، أو سياق واحد ، بينما لا يكون مقبولاً في كل آيات القرآن ؛ لقوله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) (الفرقان : 32) فالكفار طلبوا أن ينزل القرآن جملة واحدة بفعل مضعَّف (نُزِّلَ) ، وهذا يردُّ أن التضعيف لتقوية المعنى تعظيماً للقرآن ؛ لأن الكفار لا يعظِّمون القرآن ، ويردُّ على أن التضعيف يعني نزول القرآن منجماً ؛ لأنهم طلبوا نزوله جملة واحدة (لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً)  .

وقال تعالى (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (الزخرف : 31) فـ (نُزِّلَ) ليس لتقوية المعنى تعظيماً للقرآن .

ولو كانت التعدية بالتضعيف أقوى من التعدية بالهمزة ، لكان الإنزال في قوله تعالى (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) (الشعراء : 198) أقوى منه في قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) (الدخان : 3) (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر : 1) ، وهذا غير صحيح ؛ لأن السياق في سورتي (الدخان) و(القدر) لتعظيم القرآن .

وقد استعرضتُ كل آيات القرآن التي ورد فيها الفعل "نزل" معدّى بالهمزة والتضعيف ، ولكني لم أحصل على نتيجة يطمئن إليها القلب .

- (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) أي : أُنزل القرآن إلى السماء الدنيا جملة واحدة في ليلة القدر ثم نزل مفرَّقاً على النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا هو الراجح الصحيح ؛ لما روي عن عكرمة عن ابن عباس - بسند صحيح - أنه قال : أنزل القرآن جملة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر . (سنن النسائي الكبرى ج6/ص421)

وروى النسائي أيضاً (السنن الكبرى ج6/ص519) بسند صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : نزل القرآن جملة واحدة في ليلة القدر ، وكان الله عز وجل ينزل على رسول الله – صلى الله عليه وسلم - بعضه في أثر بعض .

وقول ابن عباس في حكم المرفوع ؛ لأن ما أخبر به ابن عباس لا يعلم إلا بوحي ؛ لأنه غيب . وأما من قال : إن ابن عباس يأخذ عن الإسرائيليات . فنقول له على وجه الاختصار والسرعة : وما علاقة الإسرائيليات بنزول القرآن ؟!! إنما هو شأن إسلامي خالص ، وإنما تتعلق الإسرائيليات في شؤون أخرى من أخبار ما سلف من الأزمان والأقوام والأحداث .

وقيل : ابتدأ نزوله على النبي – صلى الله عليه وسلم – ولم يكتمل ، أي : نزوله في ليلة القدر كان في غار حراء . وهذا القول ضعيف لما علمت آنفاً .

- (هُدًى لِلنَّاسِ) فالقرآن ليس لأمة دون أمة ولا لزمن دون زمن ولا لعصر دون عصر ، إنما هو لكل الناس أينما كانوا ومتى كانوا ؛ وقد يُقصد بالناس أناس مخصوصون بزمن كما في قوله تعالى (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ ...(4) (آل عمران) فالتوراة والإنجيل ليسا لكل الناس ، بل هما هداية في زمن معين ، بينما رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي للناس كافة ؛ قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (سبأ : 28) .

وقد يقول قائل جاء في سورة البقرة (... هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)) وهنا (هُدًى لِلنَّاسِ) علماً بأن أكثر الناس ليسوا متقين ، فما التوفيق بين الآيتين ؟

والجواب عن هذا أنه ليس بين الآيتين تعارض ، فآية سورة البقرة (... هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)) إنما هي هداية التوفيق والالتزام والقبول ، وهي لا تكون إلا للمؤمنين ، ومثلها قوله تعالى (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص : 56)  ، وأما الهداية في قوله تعالى (هُدًى لِلنَّاسِ) فهي هداية الدلالة والتبليغ الإرشاد ومثله قوله تعالى (...وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى : 52)

- (وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى) وفي القرآن أيضاً نوع خاص من الهدى ، وهو الحجج والبراهين على صدق ما جاء به القرآن وصدق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم . و(من) في قوله تعالى (مِنَ الْهُدَى) لبيان جنس هذه البيّنات ، والبيّنات جمع بيِّنة ، وهي : الدلالة الواضحة ، من بان الشيء إذا ظهر وانكشف .

- (وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (وَبَيِّنَاتٍ) معطوفة على الحال (هُدًى) ، فالقرآن فيه نوعان من الهداية ، هداية عامة بما فيها من الإرشادات والأحكام والأخبار ، ونوع آخر : بينات وأدلة وحجج وبراهين .

و(الْفُرْقَانِ) معطوف على (الْهُدَى) ، أي أن الحجج والبراهين الواردة في القرآن على نوعين : الأول: هدى وإرشاد لطريق الحق ، والنوع الثاني : فرقان يفرِّق بين الحق والباطل بتمييز الحق والهدى عن الباطل والضلال .

فيتلخص مما سبق أن ما نزل به القرآن نوعان :

1- هدى  2- بينات .

والبينات نوعان :

1- هدى 2- فرقان .

ولا بد للسائر إلى الله - تعالى - من هذه الأمور الثلاثة : هداية ترشده إلى طريق الحق ، ليعرف طريقه ، وحجج وبراهين على الهدى ، ليثبت على ما هو عليه ، وفرقان يحذِّر السائر إلى الله من مزالق الوقوع في الباطل عن طريق التفريق بين الحق والباطل حين يُحتاج إلى التفريق .

ولأضرب مثلاً على هذا : من (الهداية) ما جاء به القرآن من وحدانية الله سبحانه وتعالى وصفاته وكماله والإرشاد إلى عبادته وحده ، ومن (بيّنات الهداية) تلك الحجج والبراهين الدالة على أنه الخالق الواحد .... وأنه يجب على الخلق عبادته وحده ، ومن (بيّنات الفرقان) تلك الحجج والبراهين الدالة على أن كل ما عُبد من دون الله باطل ، وأن الذبح والنذر لغير الله شرك وباطل يجب الحذر منه .

- على الدعاة أن لا يهتموا ببيان الهداية فقط ، بل لا بد أن يهتموا ببيان الحجج والبراهين المتعلقة بالهداية والمتعلقة بالفرقان ، وبهذا يكتمل الأسلوب وفق رسالة القرآن .

- (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) هذا نسخ لجواز إفطار المقيم الصحيح إذا دفع الفدية بوجوب الصوم عليه . وسبق الكلام في تفسير الآية السابقة .

- (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) وليس "شهده" ؛ علماً بأن الضمير كافٍ في الدلالة ، ولكن أُقيم الظاهر موضع الضمير تعظيماً للشهر .

- (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) فهم بعض العلماء من قوله تعالى (شَهِدَ) أي : أن من شهد دخول شهر رمضان مقيماً ثم سافر فلا يجوز له الإفطار لأنه لم يشهد الشهر مسافراً .

وهذا فهم بعيد بل غير صحيح ؛ فقد جاء في (صحيح البخاري ج2/ص686) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ الكديد أفطر فأفطر الناس .

والشاهد في هذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – صام رمضان وخرج خلال الشهر ثم أفطر .

ولكن ما معنى "شهد الشهر" ؟

معناه : أي كان حيّاً عالماً بدخوله ؛ كما نقول : فلان شهد الأمر . أي : كان حاضراً عالماً بما حصل .

- (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) سبق الكلام في تفسيرها . وأُعيد ذكر هذه الأحكام لئلا يتوهم أحد أنها أحكام منسوخة .

- (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) جاءت دون (منكم) بينما جاء في الآية السابقة (منكم) : (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) فلماذا هذا الفرق ؟

الجواب عن هذا : لم يسبق في الآية السابقة ذكر (منكم) ؛ ولذا جاء ذكره ، بينما في هذه الآية سبق ذكر الجار والمجرور (منكم) فأغنى عن الإعادة . وتأمل بارك الله فيك في الآيتين (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ...) (البقرة :184) ،(... فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ...) (البقرة : 185) .

- (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وكل هذا تعليل لكل ما سبق من فرض الصيام وشرع الرخص .

- (يُرِيدُ اللَّهُ) وإرادة الله – جل في علاه – نوعان : إرادة كونية ، وإرادة شرعية . فأما الإرادة الكونية فهي لا بد أن تقع ، كقوله تعالى (... وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) (الرعد : 11) وقوله (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (النحل :40)

وأما الإرادة الشرعية فكقوله تعالى في هذه الآية (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وقوله تعالى (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ ...) (النساء : 27) ، وهذه الإرادة ليست ملزمة لنا لأنها بمعنى المحبة والرضا ، فالله يريد بنا اليسر بما شرع لنا ، وأما الذين يرفضون شرع الله فإنهم خسروا هذا اليسر ، وكذلك يريد الله أن يتوب علينا ، ولكن من استكبر خسر هذا العرض الرابح.

- (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) القسم الأول (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) لا يغني عن القسم الثاني (وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ؛ لأن إرادة اليسر في أمور لا يلزم منها عدم إرادة العسر في أمور أخرى ، وجاء القسم الثاني لنفي أي إرادة للعسر في شريعة الإسلام .

وهذا التعبير أقوى من "لا يريد بكم إلا اليسر" لأن عدم إرادة العسر في هذا القصر جاء من المفهوم ، ولكن عدم إرادة العسر في قوله تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) جاءت من المنطوق ، والمنطوق أصرح وأقوى من المفهوم .

وأعيد لفظ الإرادة والضمير تأكيداً على تأكيد ، وإلا لكفى في الدلالة على المعنى "يريد الله بكم اليسر لا العسر"

- (يُرِيدُ اللَّهُ) والفعل المضارع يدل على أن إرادة الله اليسر بنا ماضية لم تنقطع .

- (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) وهذا تعليل لما شرع الله - سبحانه وتعالى - من الرخصة بإفطار المريض والمسافر وبما شرع من القضاء ؛ وإنما هذا ليكمل المسلم صيام عدد الأيام المطلوبة منه في رمضان ، والعِدَّة على وزن فِعْلة ، وهي بمعنى : المعدودة . نقول : الطِّحن ، وهو : المطحون ، ونقول : الذِّبح ، وهو المذبوح .

- (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) وليس "ولتكملوا الشهر" ؛ لأن العدّة هي عدد الأيام ، وإكمالها يكون بالأداء والقضاء ، وأما "ولتكملوا الشهر" فإنه بالأداء لا القضاء .

- قرأ جمهور القراء بالتخفيف (وَلِتُكْمِلُوا) ، وقرأ يعقوب وأبو بكر بالتشديد (ولتُكمِّلوا) من "كمَّل" .

- (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) هذا هو التكبير في عيد الفطر بعد الانتهاء من الصيام ، وهذا التكبير ضُمِّن معنى الحمد والشكر ؛ بـدلالة "على" ، فهو تكبير وهو شكر وحمد لله على ما هدانا إليه من صيام رمضان ، ولما أكرمنا به من الخير العميم والطريق المستقيم والذي بالسير عليه نفوز بجنات ربنا جنات الخلد وديار النعيم .

إنه رمضان شهر الخير والبركة والنور ، وكان حقاً علينا أن نكبِّر الله شكراً وحمداً على هدايته لنا لهذا الفوز العظيم ، فكم من محروم لم يصم ، وكم من أصم عن الهداية لم يسمع به ، هو وحده - جل في علاه - له الفضل والحمد أن نوَّر أبصارنا وشرح قلوبنا وشدَّ عزائمنا على صيام شهره العظيم .

- (مَا هَدَاكُمْ) (ما) مصدرية ، أي : على هدايته إياكم . ويحتمل أن تكون موصولة بمعنى الذي ، أي : على الذي هداكموه .

وفي نهاية الأمر فإن المعنى : على الهداية التي أنتم فيها .

- (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ) أي تقولوا : الله أكبر . أي : ليس في الوجود من هو أعظم من الله ، فله سبحانه العظمة المطلقة ، وهو العظيم الذي يستحق العبادة ، فهو عظيم في ذاته عظيم في أفعاله ، سبحانه جل في علاه ، ومن عظمته أن هدانا إلى دين الحق وشرع لنا الصيام وشرع لنا الرخص وأعد لنا الجنة رحمة بنا .

الله أكبر الله أكبر .... نداء حي يهزُّ وجدان كل مسلم ، إنه أنشودة العيد ، تنتشر فيه صراخات الأطفال بالتكبير كعطر تضوَّع في ساعات الصباح تضوعاً يستوي في شمه كل الحاضرين.

الله أكبر الله أكبر ... نداء يدفعنا لنغذَّ السير في طريق الحق لا نخشى فيه لومة لائم ، فهو الأكبر وليس في الوجود أكبر منه ، وكل من يخوِّفونا به من دونه ، إنما هو ذليل صاغر حقير.

- (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ) هذا دليل على مشروعية التكبير في عيد الفطر ، وفيما يلي بعض أحكام التكبير في عيد الفطر ، ويُشاركه التكبير في عيد الأضحى بأحكام ويختلف عنه بأخرى ، ولن أتكلم عن أحكام التكبير في عيد الأضحى ؛ لأن موضوع الآية إنما هو التكبير في عيد الفطر ، بدليل (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) .

وجماهير العلماء على أن التكبير في عيد الفطر سنة ، وأما وقت التكبير فهو من الخروج إلى الصلاة إلى أن يخرج الإمام ، ويستدل على ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يكبر يوم الفطر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلى ، ولكن المرفوع إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – ضعيف ؛ لأن الطريق الأولى فيها متروكان ، والثانية مرسلة ، والثالثة فيها ضعيف الحفظ وقد رفع الموقوف .

وهناك آثار واردة عن الصحابة في هذا المعنى ، أي أنهم كانوا يكبرون يوم الفطر حين يخرجون من بيوتهم إلى أن يأتوا المصلى ، وغاية ما يدل عليه الحديث المرفوع الضعيف ، وكذلك الآثار الموقوفة على الصحابة هو : بيان الحال عند الخروج إلى صلاة عيد الفطر لا نفي التكبير في الليل ، لأن بيان الحال عند الخروج إلى الصلاة لا ينفي وقوع التكبير في الليل ؛ ولذا فإن القول الثاني في هذه المسألة معتبر ، والمسألة فيها سعة . والقول الثاني هو :

أن التكبير في عيد الفطر من غروب الشمس إلى خروج الإمام ، وهذا إذا تم الشهر ثلاثين يوماً ، أما إذا لم يتم ، فيكون التكبير عند رؤية الهلال .

"قال الشافعي رحمه الله تعالى : قال الله تبارك وتعالى في شهر رمضان   (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) قال فسمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول : لتكملوا العدة : عدة صوم شهر رمضان ، وتكبروا الله عند إكماله على ما هداكم ، وإكماله مغيب الشمس من آخر يوم من أيام شهر رمضان .

قال الشافعي : وما أشبه ما قال بما قال والله تعالى أعلم  .

قال الشافعي : فإذا رأوا هلال شوال أحببت أن يكبر الناس جماعة وفرادى في المسجد والأسواق والطرق والمنازل ، ومسافرين ومقيمين في كل حال ، وأين كانوا ، وأن يُظهِروا التكبير ، ولا يزالون يكبرون حتى يغدوا إلى المصلى وبعد الغدو حتى يخرج الإمام للصلاة ثم يَدَعُوا التكبير" (الأم ج1/ص231)

وقد ذهب الحنابلة – أيضاً – إلى هذا . انظر (الإنصاف للمرداوي ج2/ص434) (المبدع ج2/ص191)  (المغني ج2/ص111)

ويشرع التكبير للنساء أيضاً ؛ فعن أم عطية قالت : كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد حتى نخرج البكر من خدرها حتى نخرج الحيض فيكن خلف الناس فيكبرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته (صحيح البخاري ج1/ص330)

ولم يصح عن النبي – صلى الله عليه وسلم – نص في تعيين ألفاظ التكبير ، ووردت بعض الصيغ عن بعض الصحابة ، فعن عكرمة عن ابن عباس أنه كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق لا يكبر في المغرب الله أكبر كبيراً ، الله أكبر كبيراً ، الله أكبر وأجل ، الله أكبر ولله الحمد (مصنف ابن أبي شيبة ج1/ص489) وسنده صحيح ،

وعن أبي الأحوص عن عبد الله أنه كان يكبر أيام التشريق الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد . (مصنف ابن أبي شيبة ج1/ص490) وسنده صحيح ، والذي تراه أنه لم تتفق كلمتهم على صيغة واحدة ؛ والذي يدل على أن في الأمر سعة ، ، إنما هو التكبير بغض النظر عن الصيغة ، وما جاء عن الصحابة أحب .

- (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) شرع لنا سبحانه ما شرع لعلنا نشكره على رحمته وفضله ، جل في علاه ، فهو يستحق أن يُشكر ، وشكر الله يكون بعبادته ؛ قال تعالى (...اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ : 13) وعن عائشة - رضي الله عنها - أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه . فقالت عائشة : لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال : أفلا أحب أن أكون عبدا شكوراً ( صحيح البخاري ج4/ص1830)

- وجاء الترتيب في قوله تعالى (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) على هذا النحو ليكون المعنى : إنما شرع الله ما شرع من أحكام الصيام والرخص لإرادة اليسر بكم ، وبهذا اليسر تكملون عدة رمضان ، وبعد صيامه تكبرون الله على ما أولاكم من هدى ونعمة ، وبعد هذا تداومون على شكر الله وطاعته في كل ميادين الطاعة والخير .

(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (186)

وهذه الآية ليست ضمن أحكام الصيام ولكنها جاءت خلال آيات الصيام للصلة الكبرى بين رمضان والدعاء ، فرمضان شهر الدعاء والقرب من الله تعالى ، والصيام عبادة ذات مميزات خاصة ؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله : كل عمل بن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به . (صحيح البخاري ج2/ص673)

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (187)

المفردات :

- الرَّفَثُ : كناية عن الجماع .

- تَخْتَانُونَ : تخونون أنفسكم بالوقوع في المخالفة .

- تُبَاشِرُوهُنَّ : تتلذذوا بنسائكم من اللمس حتى الجماع ، وأصل المباشرة لمس بشرة الرجل بشرة المرأة

المعنى الإجمالي :

أحل الله – سبحانه وتعالى – الأكل والشرب وجماع الزوجات ليلة الصيام إلى طلوع الفجر ، حيث كان المباح من ذلك في ليلة الصيام إلى وقت العشاء أو النوم ، وكان التوقيت إلى الأسبق منهما ، وأباح الله – جل في علاه – جماع الزوجات ليلة الصيام إلى طلوع الفجر رحمة منه بنا ؛ لأن المخالطة والقرب من الزوجات – بطبيعة الحال – يوقع في الحرج ، ولأجل هذا الحرج وقع بعض المسلمين في المخالفة ، ولكن الله تاب عليهم وعفا عنهم .

وكذلك حرَّم الله – سبحانه وتعالى – على المعتكف في المسجد أن يقرب زوجته ، وحذَّرنا – جل وعلا – من الاقتراب من محارمه حتى لا نقع فيها ، وأخبرنا أنه بيَّن حدوده وأحكامه لعباده حتى يتقوه .

المعنى التفصيلي :

- عن البراء رضي الله عنه قال كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي ، وإن قيس بن صِرْمة الأنصاري كان صائماً فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها : أعندك طعام ؟ قالت : لا. ولكن أنطلق فأطلب لك ، وكان يومه يعمل فغلبته عيناه ، فجاءته امرأته ، فلما رأته قالت خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -  فنزلت هذه الآية ) (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) ففرحوا بها فرحاً شديداً ونزلت (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) (صحيح البخاري ج2/ص676)

- وفي هذا دليل على جواز نسخ السنة بالقرآن ؛ لأن المنع من الأكل بعد العشاء أو بعد النوم ولو كان قبل العشاء ، إنما تقرر بالسنة لا بالقرآن ، فجاء القرآن فنسخ هذا الحكم بجواز الأكل بعد العشاء إلى الفجر .

ووقوع نسخ السنة بالقرآن هو مذهب جماهير العلماء ، ولا ينافي نسخ السنة بالقرآن أن السنة مبينة للقرآن ، لأنه يجوز عقلاً أن تكون السنة مبينة للقرآن وأن ينسخ القرآن أحكاماً جاءت في السنة ، وأيضاً لا يلزم من هذا القول أن ينسخ القرآن كل حكم في السنة ، لأن النسخ لا يثبت هكذا بل لا بد أن يدل عليه كتاب أو سنة صحيحة .

وزد على عدم المانع العقلي من جواز نسخ السنة بالقرآن أن النسخ وقع فعلاً كما في هذه الآية ، وكما في قوله تعالى (...فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ...) (البقرة : 144) حيث نسخت الآية حكم التوجه إلى بيت المقدس في الصلاة ، وهو حكم ثابت في السنة .

- (أُحِلَّ لَكُمْ) وليس "أحل الله لكم" ؛ لأن السياق سياق تبليغ للمؤمنين بما شرع الله لهم ، وتأمل معي عندما يكون في السياق معنى آخر غير مجرد التبيلغ :

قال تعالى : (... وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة : 275) وهذا سياق رد على الكفار وتهديد لهم ؛ ولذا لم يُبنَ الفعل لما لم يسمَّ فاعله ، بل جاء التصريح بالفاعل بلفظ الجلالة "الله" تقريراً لحقيقة لعب الكفار بها ، وتهديداً لهم إذا استمروا عليها .

وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (المائدة : 87) وفي هذا تقرير لحقيقة أن التحليل إنما هو من عند الله تعالى ، ولذا فلا يحل لكم أن تحرموا ما أحل الله ، ولأجل هذا جاء التصريح بلفظ الجلالة (أَحَلَّ اللَّهُ) لأن الموضوع ليس موضوع تبيلغ وكفى .

وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التحريم : 1) فالتحليل لله ، ولا يجوز لأحد حتى ولو كان نبياً أن يحرِّم على نفسه شيئاً أحله الله له .

أما قوله تعالى (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ...) (المائدة : 4) فالسياق سياق تبليغ فقط ، هم يسألون عن الذي أُحلَّ لهم ، فيأتي الجواب على وفق السؤال (أُحِلَّ لَكُمُ) ؛ لأن الموضوع تبليغ فقط .

وسبق مثل هذا عند قوله تعالى (... كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ...) (البقرة : 183)

- (أُحِلَّ لَكُمْ) بينما جاء قوله تعالى (... وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ...) (البقرة : 275) بدون (لكم) ، وذلك لأن قوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ) تبليغ للمؤمنين بما أحله الله لهم ، وأما قوله تعالى (... وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ...) (البقرة : 275) فهو ردٌّ على الكفار الذين يجعلون الربا حلالاً مثل البيع ، ولو كانت الآية "وأحل الله لكم البيع " لكان الكلام خاصاً بالمؤمنين ولما كان صالحاً في الرد على الكافرين .

- (الرَّفَثُ) كناية عن الجماع ، وأصل الرفث : القبح . وكُني به – في هذا الموطن - عن الجماع بياناً من الله – جل في علاه – إلى الذين كانوا يختانون أنفسهم بأنهم أخطأوا بأن عصوا الله لأجل هذا الأمر ، وسمّاه تعالى بلفظٍ أصلُ معناه القُبْح .

وكذلك في قوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) (البقرة : 197) حيث جاء التعبير عن الجماع وما يتصل به بالرفث تنفيراً منه .

بينما جاء التعبير عنه بالحرث في قوله تعالى (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ...) (البقرة : 223) إشارة إلى الإنجاب ، كالفلاح الذين يحرث الأرض ويزرع البذرة . وكذلك في أكثر من آية جاء التعبير عنه بما يتناسب والسياق ، وأضرب مثلاً آخر : قوله تعالى (...فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ...) (النساء : 24) وجاء التعبير عن الجماع بالاستمتاع ليتضمن علة وجوب المهور .

- (الرَّفَثُ إِلَى) تضمن الرفث معنى الإفضاء لتعديه بإلى ، وفي هذا التضمين معنيان : القبح كناية عن الجماع الحاصل عن الإفضاء ، وتقبيح هذا الجماع لحصول المعصية بسبب الوقع فيه .

ولكن لماذا جاء (الرفث) نكرة في قوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ...) (البقرة : 197) بينما جاء (الرفث) معرَّفاً في قوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ...) ؟

جاء الرفث نكرة ليدل على العموم ، أي كل ما هو من أمور الجماع ودواعيه من الكلام والتقبيل واللمس محرَّم على المـُحرِم ، بينما في قوله تعالى (الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) جاء كناية عن الجماع ؛ لأن اللمس والتقبيل غير محرّمان على الصائم لا قبل ولا بعد ، بل ما كان محرَّماً فأحلّه الله هو الجماع ذاته . وعُدِّي (الرفث) بحرف الجر (إلى) ليتضمن الإفضاء ؛ لأنه موضوع النسخ .

- (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) فالزوجان متخالطان تخالط اللابس للباس ، ولكلمة اللباس دلالات :

الدلالة الأولى : يرشدنا القرآن إلى الأدب في التعبير ، فبدلاً من بيان صورة تثني الزوجين على بعضهما بهذه الصيغة أو أصرح جاء التعبير القرآني واختصر كل هذه الصور بكلمة "لباس" .

الدلالة الثاني : يرشدنا القرآن إلى أن الزواج سترة للزوجين ، فالزوجة تعفُّ زوجها ، والزوج كذلك يعفُّ زوجته ، كما أن اللباس يستر صاحبه .

الدلالة الثالثة : يرشدنا القرآن إلى ضرورة أن يراعي الخاطب التناسب بينه وبين المخطوبة ؛ لأنها لباس له وهو لباس لها ، ولا بد أن يتناسب اللباس واللابس .

-  (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) ولأن الرجل هو صاحب القرار في هذا الجماع قُدِّم ذكر حاجته في البداية (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ) ، وبعدها ذُكرت رغبة الزوجة ؛ لأن رغبتها ليست الرئيسة ؛ لأنها ليست صاحبة القرار ؛ ولذا خوطب الرجال بأسلوب الخطاب (وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) ، وخوطبت النساء بأسلوب الغيبة (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ) ، لأن قرار الجماع بيد الرجال ، وهم القوامون على النساء .

- (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ) ولم يأت النص "إنكم كنتم تختانون أنفسكم" دون (عَلِمَ اللَّهُ) ، لأن قوله تعالى (عَلِمَ اللَّهُ) يدل على عظيم ما حصل من الاختيان .

- (أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ) و(أن) للتأكيد ، و(كنتم) تدل على الوجود زيادة في تأكيد المعنى ، والفعل المضارع (تَخْتَانُونَ) مع (كُنْتُمْ) يدل على تكرر حدوث الأمر في الماضي ، أي لم يحدث مرة واحدة بل مرات ، نقول : خان الرجل صديقه . فقد تكون خيانة واحدة أو أكثر ، بينما قولنا : كان الرجل يخون صديقه . يدل على وقوع الخيانة في الماضي أكثر من مرة .

وقد يُعترض بأن "كان" لا تدل على التكرار مع الفعل المضارع بقول عائشة رضي الله عنها : كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَمَا يَرْمِي الْجَمْرَةَ، قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ إِلَى الْبَيْتِ . (مسند أحمد ط الرسالة (41/ 270) وسنده صحيح .

ووجه الشاهد أن عائشة تتكلَّم عن حجة الوداع ، وهي حجة واحدة ، فأين التكرار ؟!!

والجواب عن هذا : أن الحجة واحدة ، وهي حجة الوداع ، ولكن لا يُنكر تطييب عائشة للنبي – صلى الله عليه وسلم – في هذه الحجة أكثر من مرة  بعد رمي الجمار وقبل طواف الإفاضة ؛ لأن الوقت يتسع .

- (تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ) قيل : خان واختان بمعنى واحد ، وقيل : الاختيان أبلغ من الخيانة كالاكتساب من الكسب ، حيث إنَّ الزيادة في اللفظ تدل على الزيادة في المعنى . قال الراغب : "والاختيان: مراودة الخيانة، ولم يقل: تخونون أنفسكم؛ لأنه لم تكن منهم الخيانة، بل كان منهم الاختيان، فإن الاختيان تحرك شهوة الإنسان لتحري الخيانة، وذلك هو المشار إليه بقوله تعالى: (... إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ...) (يوسف : 53)" . (المفردات ، مادة : خون)

والظاهر أن خان واختان بمعنى واحد من جهة الخيانة ، ولكن الاختيان أبلغ من الخيانة كالاكتساب من الكسب ، حيث إنَّ الزيادة في اللفظ تدل على زيادةٍ في المعنى ، وأما ما قاله الراغب فهو منقوض بما روي عن البراء - رضي الله عنه – أنه لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ) (صحيح البخاري ج4/ص1639). أي : (وكان رجال يخونون أنفسهم) فجاء النص بإثبات أن بعضهم خان نفسه .

ومنقوض أيضاً بقوله تعالى (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) (البقرة : 107) أي : لا تدافع عن الذين يقعون في أكل أموال الناس وظلمهم . وهنا جاء معنى يختانون : يخونون .

- (تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ) وخيانة النفس تكون من جهة فعلهم للحرام مع معرفتهم به ، فكأنهم غدروا أنفسهم وأوقعوها المعصية ، وذلك كقوله تعالى (... وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (يونس : 44) فهم يظلمون أنفسهم بوقوعهم في الحرام .

- (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) أي خفف عنكم بإباحة ما كان محرماً من الأكل والجماع ، وهذا كقوله تعالى (...عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ...) (المزمل : 20) أي خفف عنكم .

وقيل : (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) أي بعد توبتكم  .

والأول أوضح ؛ لئلا يكون معنى (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) هو نفس (وَعَفَا عَنْكُمْ) ؛ لأن قبول التوبة هو التجاوز عن المعاقبة .

- (وَعَفَا عَنْكُمْ) أي تجاوز عنكم . وتجاوز الله – سبحانه - عن المؤمنين يكون بترك معاقبتهم . . وقيل : (وَعَفَا عَنْكُمْ) أي : أباح لكم ووسع عليكم . والأول : أظهر ، لأن "عفا عنكم" في القرآن جاء بمعنى التجاوز عن المعاقبة وليس التوسعة :

وذلك كقوله تعالى (...ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران : 152) وقوله تعالى (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (آل عمران : 155)

- (فَالْآنَ) أي بعد إباحة ذلك لكم (بَاشِرُوهُنَّ) أي تلذذوا بنسائكم من اللمس حتى الجماع ، وأصل المباشرة لمس بشرة الرجل بشرة المرأة ، وعُبِّر بذلك عن الجماع ؛ إرشاداً من القرآن إلى حسن الأدب في اللفظ .

والمباشرة هنا على وجه الدقة هي : الجماع ؛ لأن مباشرة اللمس والتقبيل مباحة للصائم في النهار ؛ فعن عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - كان يباشر وهو صائم (صحيح مسلم ج2/ص777) ، ولكن قد يضم معنى المباشرة - هنا - اللمس والتقبيل على فرض أن ذلك لم يكن جائزاً في النهار وقت نزول الآيات . فتأمل حفظك الله .

- (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ) أي اطلبوا بجماعكم وقضاء شهوتكم ما كتب الله لكم من الولد. وفي هذا إرشاد قرآني إلى مقصد النكاح ألا وهو طلب النسل ، وفي هذا إرشاد آخر وهو : أن لا نجعل لَهْوَنا واستمتاعنا من غير مقصد ، بل علينا أن نلتمس المقاصد وتحصيل المنفعة حتى وإن كنا نلهو ونستمتع .

وقيل : (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) أي : ما أباحه الله لكم من جماع الزوجات ، وهذا مرجوح لأمرين :

الأول : لئلا يحصل تكرار ؛ لأن معنى (...فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ...) : جامعوا زوجاتكم . فلا يكون ما بعدها نفس معناها .

الثاني : إن ابتغاء الولد يضم معنى الجماع ؛ لأنه لا ابتغاء للولد بدونه ، ولكن لا يلزم من ابتغاء الجماع ابتغاء الولد ، فيكون معنى ابتغاء الولد أشمل وأعم .

وقيل (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) أي : من الأكل والشرب ، وهذا ضعيف ؛ لما جاء بعد ذلك (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا)  .

- (مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) جاء التصريح بلفظ الجلالة "الله" ولم يأت (ما كُتب لكم) ؛ للتذكير بأن الولد من ذكر أو أنثى إنما هو بإرادة الله تعالى ، وأما ابتغاؤكم للولد فليس موجباً لوجوده لولا إرادة الله تعالى ، وإن كان معنى (مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) من الأمور المباحة ، فيكون للامتنان على المؤمنين بأن الله تعالى هو من أباح لكم هذه الملذات

- (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) عن سهل بن سعد قال : وأنزلت (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) ولم ينزل (مِنَ الْفَجْرِ) وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعده (مِنَ الْفَجْرِ) فعلموا أنما يعني الليل من النهار . (صحيح البخاري ج4/ص1640)

ولا بد أن يكون الفجر صادقاً وليس كاذباً ، فيكون الفجر الصادق هو الممتد عرضاً في جهة المشرق ، وليس الذي يكون قَبْله من الأعلى إلى الأسفل ؛ فعن عبد الله بن مسعود عن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال : لا يمنعن أحدكم أو أحداً منكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن أو ينادي بليل ليرجع قائمكم ولينبه نائمكم ، وليس أن يقول الفجر أو الصبح ، وقال بأصابعه ورفعها إلى فوق وطأطأ إلى أسفل حتى يقول هكذا ، وقال زهير بسبابتيه إحداهما فوق الأخرى ثم مدها عن يمينه وشماله . (صحيح البخاري ج1/ص224)

وعن سَمُرَةُ بنُ جُنْدُب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا وحكاه حماد بيديه قال يعني معترضاً . (صحيح مسلم ج2/ص770)

ولكن كيف يتأخَّر البيان عن وقت الحاجة ، أي : كيف يتأخر نزول (من الفجر) رغم الحاجة إليه في فهم الآية ؟!

البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة ، ولكنه فهمٌ أخطأ فيه بعض الصحابة ، ولكن السواد الأعظم من الصحابة لم يقع في هذا الخطأ ، إنما فهموا النص فهماً صحيحاً لأن البيان تام ، ولذا فقد عد النبي – صلى الله عليه وسلم – من أخطأ في فهم الآية قبل نزول (مِنَ الْفَجْرِ) بأنه عريض القفا ؛ فعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله : ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، أهما الخيطان ؟ قال : إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين . ثم قال : لا بل هو سواد الليل وبياض النهار (صحيح البخاري ج4/ص1640) وفي وصف النبي – صلى الله عليه وسلم - لعدي أنه عريض القفا دلالة على خطئه في الفهم ، وهذا يدل على أن البيان لم يتأخَّر عن وقت الحاجة .

- (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) يدل على أن من يطلع عليه الفجر وهو جنب فصومه صحيح ؛ لأن من يحل له الجماع حتى يتبين له الفجر ، فإنه لا بد أن يطلع عليه الفجر جنباً ؛ إذا قد يُجامع في آخر دقائق الليل قبل أذان الفجر .

فعن عائشة أن رجلاً قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو واقف على الباب : يا رسول الله إنى أصبح جنباً وأنا أريد الصيام . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنا أصبح جنباً وأنا أريد الصيام ثم اغتسل فأصوم . قال الرجل : إنك لست مثلنا ، إنك قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : والله إنى لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلم بما اتقي . (مسند أحمد بن حنبل ج6/ص245) وسنده صحيح .

- (مِنَ الْفَجْرِ) و (من) إما أن تكون بيانية ، أي : الخيط الأبيض الذي هو من الفجر ، أو تبعيضية ، أي : الخيط الأبيض الذي هو جزء من الفجر ؛ لأنه أوله ، أو ابتدائية ، أي : الخيط الأبيض الناتج عن الفجر .

- (الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) وليس "الخيط الأبيض من الفجر من الخيط الأسود من الليل) ، بل جاء ذكر الفجر ؛ لتعلِّق أحكام الإمساك به .

- (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) وجاء العطف بـ (ثم) دلالة على علو مرتبة الصيام على ما كان في الليل من الأكل والشرب ، فكما أن (ثم) تستعمل في التراخي الزمني فإنها تستعمل في التراخي بين الحالتين ، والصيام أعظم من الإفطار ؛ لأن الصيام هو العبادة .

- (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) وحرف الجر (إلى) لانتهاء الغاية ، فالصيام ينتهي بمجرد دخول الليل ، ولذا فعلى المسلم أن يُسارع إلى الإفطار عند أول دخول الليل ، وذلك يكون بغروب الشمس ؛ فعن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر . (صحيح البخاري ج2/ص692)

وعن ابن أبي أوفى قال كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فصام حتى أمسى ، قال لرجل : انزل فاجدح لي . قال : لو انتظرت حتى تمسي . قال : انزل فاجدح لي ، إذا رأيت الليل قد أقبل من ها هنا فقد أفطر الصائم (صحيح البخاري ج2/ص692) ومعنى : اجدح : حرِّك السويق بالماء ، والسويق : دقيق الشعير ، ويكون من القمح وغيره .

وقد نهى النبي عن مواصلة الصوم بعد دخول الليل ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال في الصوم . (صحيح البخاري ج2/ص694)

- (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) يستنبط من قوله تعالى قاعدة فقهية : اليقين لا يزول بالشك . وتوضيح القاعدة يكون كالتالي : من أكل بعد طلوع الفجر ظاناً أن الفجر لم يطلع فلا شيء عليه لأن اليقين هو بقاء الليل فلا يزول بالشك ، ولذا جاء ربط التوقّف عن الأكل بالتبيّن (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ) ، ولكن من أكل قبل المغرب ظاناً أن الليل دخل فعليه قضاء ؛ لأن اليقين هو بقاء النهار فلا يزول بالشك ، ولذا جاء ربط الإفطار بدخول الليل (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) لا بتبيُّن دخوله كما في الإمساك عند الفجر (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ) . فتأمل حفظك الله ، فإن في هذا ترجيح للخلاف الفقهي في المسألة .

- (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) أي لا يجوز لمن اعتكف أن يجامع زوجته . ، وجاء هذا من باب التنبيه إلى أن جماع الزوجة في ليل رمضان مباح إلا في الاعتكاف فإنه محرَّم ؛ حتى لا يظنن ظان أن الإباحة شاملة لكل ليالي رمضان .

ولكن كيف يجامع زوجته وهو عاكف في المسجد ؟

والجواب عن هذا أنه يخرج من المسجد فيجامعها فيرجع ليتم اعتكافه .

وقد اتفق العلماء على أن الاعتكاف يفسد بالجماع ، وفي بطلانه بما دون الجماع كالتقبيل واللمس ونحو ذلك خلاف ، والصحيح أنه لا يجوز ، بل إنه يُبطل الاعتكاف ؛ لأن أصل " تُبَاشِرُوهُنَّ" هو مس بشرة الرجل بشرة المرأة ، ويكنى به عن الجماع ، والمباشرة تصدق على ما يقع بين الزوجين من اللمس إلى التقبيل إلى الضم .... إلى الجماع ؛ لأن كل ذلك مباشرة . وهذا القول هو قول الإمام مالك . انظر (الكافي لابن عبدالبر ج1/ص132)

أما اللمس دون تمتع فهو جائز ؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يباشرني وأنا حائض ، وكان يخرج رأسه من المسجد وهو معتكف فأغسله وأنا حائض (صحيح البخاري ج2/ص714) .

وأنت ترى أن عائشة – رضي الله عنها – فرَّقت بين المباشرة وبين غسل شعر النبي - عليه الصلاة والسلام - بقولها " يباشرني وأنا حائض" ولم تقل " وكان يخرج رأسه من المسجد وهو معتكف فيباشرني " لأن هذا اللمس دون شهوة ليس مباشرة .

وأما من قال : إن القبلة جائزة للمعتكف لأنها تجوز للصائم في نهار رمضان فجوازها للمعتكف أولى .

فيُقال له : إن الله – جل وعلا – يشرع ما يشاء كما يشاء ، فجعل – سبحانه – للاعتكاف أحكاماً ، وللصيام أحكاماً أخرى ، ألا ترى أن الصائم لو خرج من المسجد لا يبطل صيامه ، بينما العاكف في المسجد إن خرج منه دون حاجة شرعية يبطل اعتكافه . أي هما عبادتان مختلفتان لكلٍّ منهما خصوصية ، وقد ثبت جواز اللمس والتقبيل للصائم ؛ فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم -  كان يباشر وهو صائم (صحيح مسلم ج2/ص777) ، ولكن لم يثبت أن النبي – صلى الله عليه وسلم -  كان يقبل أن يفعل نحو ذلك وهو معتكف .

- (عَاكِفُونَ) أي ملازمون للمسجد طاعةً لله وطلباً لرضوانه . وأصله في اللغة من "عَكَف" أي : لازم المكان .

- (الْمَسَاجِدِ) أي جنس المساجد ، ولو جاز الاعتكاف في غير المساجد ؛ لجاء معنى النص "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون" دون ذكر المساجد ، وإنما دل ذكرها على أنه لا يجوز الاعتكاف في غيرها من البيوت وغيرها من الأماكن .

ونقل العلماء الاتفاق على أنه لا يجوز اعتكاف الرجال إلا في المساجد ، وذهب الجمهور إلى أن المرأة في ذلك كالرجل ، لأنه لا يوجد ما يفرِّق بين المرأة والرجل في ذلك ، والأصل أنهما في الأحكام سواء إلا ما قام الدليل على خلافه .

واختلف الفقهاء في المسجد الذي يُشرع فيه الاعتكاف :

قيل : في كل مسجد سواء كان مما تقام فيه الجمعة أو لا ، وسواء كان مهجوراً أو لا . وهذا هو المذهب عند الشافعية والمالكية . واشترط مالك أن تقام الجمعة في المسجد إذا كانت في أثناء فترة اعتكافه ( الثمر الداني شرح رسالة القيرواني ج1/ص315). ويبطل عند الشافعية الاعتكاف إذا خرج إلى الجمعة على المشهور من نصوص الشافعي (الإقناع للشربيني ج1/ص247).

ويجوز عند أن تعتكف المرأة في أي مسجد ولو لم يكن مسجد جماعة ؛ لأن صلاة الجمعة والجماعة لا تجب في حقها . (الروض المربع ج1/ص446) (الثمر الداني ج1/ص315) (الإقناع ج1/ص247)

وقيل : لا بد أن يكون مسجد جماعة ، حتى لا يَضطر المعتكف إلى قطع اعتكافه . وهذا مذهب الحنفية والحنابلة .( المبسوط للسرخسي ج3/ص115) ( الروض المربع ج1/ص446)

وقيل : لا يصح الاعتكاف إلا في أحد المساجد الثلاثة . لما روي عن حذيفة أنه قال لعبد الله بن مسعود : عُكُوفٌ بين دارك ودار أبي موسى لا تُغَيِّرُ ؟! وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومسجد بيت المقدس " قال: عبد الله لعلك نسيت وحفظوا ، وأخطأت وأصابوا . (شرح مشكل الآثار (7/ 201)

وقد ذكر الدكتور فضل حسن عباس – رحمه الله – أن مكالمة هاتفية وقعت بينه وبين الشيخ شعيب الأرناؤوط حول حديث حذيفة فكان رد الشيخ شعيب بأن الحديث ضعيف ؛ لأن رواية هشام بن عمار ضعيفة ، وهشام بن عمار ضعيف لا يقبل تفرده ، ورواية ابن عيينة جاءت مرفوعة وموقوفة على الشك وهذا اضطراب ، ويؤيد عدم صحة المرفوع أن أحداً من أهل العلم لم  يأخذ به ، وتخطئة ابن مسعود لحذيفة متجهة إلى الرواية . انظر (الإتحاف في أحكام الصيام والاعتكاف ص 210)

والقول الظاهر هو جواز الاعتكاف في المسجد الذي تقام فيه الصلوات ، واشتراط إقامة الجمعة فيه إن كانت في أثنائه هو الأولى . أما إذا كان المعتكف امرأة فإنها لا تجب عليها الجمعة ولا الجماعة فلا بأس باعتكافها في أي مسجد .

- ولكن ما المناسبة بين الاعتكاف وآيات الصيام ؟

قيل : المناسبة بينهما أنه لا يجوز اعتكاف بلا صيام .

وهذا غير صحيح ، والأحاديث في هذا ضعيفة . انظر (تنقيح التحقيق للذهبي ج1/ص 399- 402)

والصحيح جواز الاعتكاف دون صيام ؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال : كنت نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام ؟ قال : فأوف بنذرك (صحيح البخاري ج2/ص714)

والشاهد هنا هو جواز الاعتكاف دون صيام ؛ لأن الليل ليس موطناً للصوم ، ورغم ذلك صحَّ اعتكاف عمر رضي الله عنه . وهذا هو مذهب الشافعية ورواية عن أحمد . انظر (المجموع ج6/ص477) (تنقيح التحقيق للذهبي ج1/ص 399)

وإنما يجب الصوم على المعتكف إذا أوجبه على نفسه بالنذر ، فيكون حكمه مندرجاً تحت أحكام النذور .

ويبقى السؤال قائماً : ما المناسبة بين الاعتكاف وآيات الصيام ؟

والجواب عن هذا أن رمضان أهم موطن للاعتكاف ، ولذا جاء التنبيه على حرمة جماع الزوجة على المعتكف .

ومن الأدلة على أن رمضان أهم موطن للاعتكاف أن النبي – صلى الله عليه وسلم – كان يحرص على الاعتكاف في رمضان ؛ وذلك التماساً لليلة القدر ؛ فعن أبي سلمة قال انطلقت إلى أبي سعيد الخدري فقلت : ألا تخرج بنا إلى النخل نتحدث فخرج ؟ فقال قلت : حدثني ما سمعت من النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة القدر . قال : اعتكف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر الأول من رمضان واعتكفنا معه ، فأتاه جبريل فقال : إن الذي تطلب أمامك . فاعتكف العشر الأوسط فاعتكفنا معه ، فأتاه جبريل فقال : إن الذي تطلب أمامك . قام النبي - صلى الله عليه وسلم - خطيباً صبيحة عشرين من رمضان فقال من كان اعتكف مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فليرجع ؛ فإني أريت ليلة القدر وإني نسيتها ، وإنها في العشر الأواخر في وتر ، وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء .

وكان سقف المسجد جريد النخل وما نرى في السماء شيئاً ، فجاءت قزعة فأمطرنا فصلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأرنبته ؛ تصديق رؤياه (صحيح البخاري ج1/ص280)

- (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا) (تِلْكَ) اسم إشارة يدل على البُعد ، وهذه الحدود المبينة في الآية ليست بعيدة ، ولكن أُشير إليها باسم الإشارة الدال على البُعد تعظيماً لهذه الحدود .

وتعظيم أي حد يكون بقدر من حدَّه ، فإذا حدَّ الرجل الضعيف حدَّاً لم يكن له قيمة ، بينما إذا حدَّ أحد جبابرة الأرض حدَّاً ، قدَّره الناس وخافوا بطش هذا الجبار ، فكيف بالحدِّ الذي حدَّه الله – جل في علاه – القادر الجبار العظيم ؟!

فهو حدٌّ معظَّم أيما تعظيم ، ومخيف أيما إخافة . ولأجل تعظيم هذا الحد أُضيف الحدُّ لله (حُدُودُ اللَّهِ) ، فهي ليست حدود كأي حدود ، إنما هي (حُدُودُ اللَّهِ) حدود الله العظيم الذي يُعاقب من يعتداها بالعقاب الأليم والعذاب العظيم .

- (حُدُودُ اللَّهِ) والحدُّ هو : الفاصل بين أمرين ، والأمران هنا : الجائز والمحرَّم . ومن حدود الله في هذه الآية :

لا يجوز الأكل والشرب والرفث إلى النساء في رمضان إلا في الليل . وأحكام الإمساك مبنية على تبيّن طلوع الفجر ، ولا يجوز الإفطار قبل دخول الليل ، ويكون ذلك عند غياب الشمس ، ولا يجوز للمعتكف أن يستمتع بزوجته ...

- (فَلَا تَقْرَبُوهَا) جاء النهي عن قربها زيادة في التحذير منها ؛ لما سبق ووقع به بعضهم من أخطاء .

وأيضاً فإن الآية لم تتوعد المخالفين بالتعدي كما وقع في قوله تعالى (...تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة : 229) فجاء النص بالنهي عن التعدِّي ليبنى عليه ما بعده من توعُّد المتعدِّي ، ولا يُناسب ذلك قولنا في غير التنزيل " تلك حدود الله فلا تقربوها ومن يتعد حدود الله ..." ، ومثل هذا قوله تعالى (...وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ...) (الطلاق : 1) بينما قوله تعالى (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا) ناسبها ذكر التقوى ؛ لأن عدم قرب المعاصي هو حقيقة التقوى ، قال تعالى ( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) .

- (فَلَا تَقْرَبُوهَا) لئلا نكون كما قال عليه الصلاة والسلام : "كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه" (صحيح مسلم ج3/ص1219)

والنهي عن القرب إنما هو نهي عن الفعل وزيادة ، وتأمل قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة :90) ألا ترى أن النهي كان بصيغة (فَاجْتَنِبُوهُ) وهو عين معنى فلا تقربوه ، والمعنى ليس : لا تشربوا الخمر فقط ، بل (فَاجْتَنِبُوهُ)  ، ومن معاني الاجتناب : الابتعاد عن الجلوس على الموائد التي يدار عليها الخمر ، وهكذا .

- (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (كَذَلِكَ) كالذي مرَّ من بيان الأحكام الشرعية (يُبَيِّنُ اللَّهُ) كل (آيَاتِهِ لِلنَّاسِ) كلهم ، وذلك (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) .

- (يُبَيِّنُ اللَّهُ) ومن أحسن من الله بياناً ، ومن أحسن من الله توضيحاً وتعليماً ؟! ليعلم الذين يقولون : إن كثيراً من آيات الأحكام دلالاتها ظنية . ليعلموا أن الله – جل في علاه- هو من أراد هذا ، لأن الله أراد من هذه الأمة أن تبقى متصلة مع دينه ، تتعلّمه ، وتتفكّر فيه ، وتتأمل حِكَمَه ، وهو – سبحانه – من جعل دلالة بعض النصوص ظنية ، ولكن جعل لهذا الظن أُطُراً لا تخرج عنه وإلا كان شذوذاً ، جعلها دلالات ظنية ليرى فيها المجتهدون عبر تغيّر العصور والأحوال والدهور ، ليروا فيها ما يصلح شأنهم مما لا يتعارض من نصوص كتاب الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، الله أراد ، وإلا فإن الله الذي أسند البيان لنفسه قادر على إنزال نصوص لا يختلف اثنان في دلالتها ، بل إنه – سبحانه – أنزل آيات محكمات واضحات هن أم الكتاب .

- (آيَاتِهِ) وإضافة "الآيات" إلى الضمير العائد على رب العزة دالٌّ على العموم ، ودالٌّ على تعظيم الآيات ، لأن الإضافة إلى العظيم تعظيم ، وأي عظيم أعظم من الله ؟!!!

والآيات في هذه الآية هي آيات القرآن التي يجري عليها البيان ، قال تعالى (...وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال : 2)

- (لِلنَّاسِ) وما شأن كل الناس بحكم الرفث ليلة الصيام ، أليس في الناس مؤمن وكافر ، فما شأن الكافر بها ؟

نعم من الناس من هو مؤمن ومنهم من هو كافر ، وليس في ذلك غرابة ؛ لأن البيان المتعلِّق بالناس ليس هو أحكام هذه الآية فقط ، بل  معنى الآية : كهذا البيان يبين الله كل آياته لكل الناس . فالبيان إنما هو لكل الآيات ، حتى تحصل الهداية وبعدها يحصل التقوى .

- (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) تقدم الكلام على مثل هذا عند قوله تعالى (...كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة : 183).

- (يَتَّقُونَ) ولكن لماذا جاء في آيات أخرى (...كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (البقرة : 219) (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (البقرة : 242) (...كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران : 103) وغيرها من الآيات ؟

جاء في آيات (تَتَفَكَّرُونَ) (تَعْقِلُونَ) (تَهْتَدُونَ) وغير ذلك ؛ بناء على السياق ، فجاء مع كل آية ما يناسب سياقها ، وفي هذه الآية (...كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) جاء الكلام عن التقوى لما وقع من اختيان الأنفس .

- (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) إنها الحقيقة ، حقيقة تدق العقول الغافلة لتقول لها : توقفي ، فالعلم الشرعي ليس علماً نظرياً بحتاً ، إنما هو علم للتطبيق ، فالله يبين آياته للناس لا ليزدادوا معلومات ، ولا لتتوسع ثقافتهم ، بل (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ، فإن علماً لا ينفع صاحبه وبالٌ على صاحبه ، ومن سوء ما وقع فيه أنه أصبح عالماً لا يعمل بعلمه ، ولو كان جاهلاً لربما كان له العذر ، وتأمل قوله تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)) (الأعراف).

وتأمل قول نبينا عليه الصلاة والسلام " يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه ، فيجتمع أهل النار عليه فيقولون : أي فلان ما شأنك ؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ قال : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه " (صحيح البخاري ج3/ص1191)

والأقتاب هي : ما في هذا البطن ، واندلاقها هو خروجها بسرعة . فانظر إلى أين يوصل العلم بلا عمل.

أسأل الله الكريم العظيم الرحيم أن يرزقنا العلم والعمل ، إنه سميع مجيب .

........................................................

كتبه راجي عفو ربه

سامي وديع عبد الفتاح القدومي

الأردن

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب المختصر في أصول الحديث-الشريف الجرجاني

كتاب : المختصر في أصول الحديث-الشريف الجرجاني بسم اللَّه الرحمن الرحيم الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله أجمعين ...