Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 3 أبريل 2023

الصيام وفلسفته للشيخ محمد الغزالي وأهلا رمضان وقلوب جديدة ووقاحة الادب لمحمود شاكر

فلسفة الصوم محمد الغزالي  

(ت 1416هـ - 1996 م)

الصيام عبادة مستغربة أو منكورة في جوِّ الحضارة المادية التي تسود العالم. إنَّها حضارة تؤمن بالجسد، ولا تؤمن بالروح، وتؤمن بالحياة العاجلة، ولا تكترث باليوم الآخر! ومن ثمَّ فهي تكره عبادةً تُقيِّد الشهوات ولو إلى حين، وتؤدِّب هذا البدن المدلَّل، وتلزمه مثلاً أعلى.

إنَّ الأفراد والجماعات في العالم المعاصر تسعى راغبة لتكثير الدخل، ورفع مستوى المعيشة، ولا يعنيها أن تجعل من ذلك وسيلة لحياة أزكى!

وتسارع إلى تبرئة الدين من حبِّ الفقر، وخصومة الجسم، فالغنى سرُّ العافية، والجسم القوي نعم العون على أداء الواجب والنهوض بالأعباء، وإنما نتساءل: هل يتعامل الناس مع أجسامهم على أسلوب معقول يحترم الحقائق وحدها؟

يقول علماء التغذية: إنَّ للطعام وظيفتين، الأولى: إمداد الجسم بالحرارة التي تعينه على الحركة، والتقلُّب على ظهر الأرض، والأخرى: تجديد ما يستهلك من خلاياه، وإقداره على النموِّ في مراحل الطفولة والشباب.

حسناً، هل نأكل لسدِّ هاتين الحاجتين وحسب، إنَّ أولئك العلماء يقولون: يحتاج الجسم إلى مقدار كذا وكذا من (السُّعر الحراري) كي يعيش، والواقع أنَّه إذا كان المطلوب مائة سُعر، فإنَّ الآكل لا يتناول أقل من 300 سعر، وقد يبلغ الألف!!

الطعام وقود، لابدَّ منه للآلة البشرية، والفرق بين الآلات المصنوعة والإنسان الحي واضح. فخزان السيارة مصنوع من الصلب؛ ليسع مقداراً معيناً من النفط يستحيل أن يزيد عليه، أما المعدة فمصنوعة من نسيج قابل للامتداد والانتفاخ يسع أضعاف ما يحتاج المرء إليه.

الرغبة القاتلة:

وخزان السيارة يمدُّها بالوقود إلى آخر قطرة فيه إلى أن يجيء مدد آخر.

أمَّا المعدة فهي تسدُّ الحاجة ثم يتحوَّل الزائد إلى شحوم تبطن الجوف، وتُضاعف الوزن، وذاك ما تعجِز السيارة عنه، إنَّها لا تقدر على أخذ (فائض)، ولو افترضنا فإنها لا تقدر على تحويله إلى لدائن تضاف إلى الهيكل النحيف، فيكبر، أو إلى الإطارات الأربعة فتسمن!!

الإنسان كائن عجيب، يتطلَّع أبداً إلى أكثر مما يكفي، وقد يقاتل من أجل هذه الزيادة الضارة، ولا يرى حرجاً أن تكون بدانة في جسمه، فذاك عنده أفضل من أن تكون نماء في جسد طفل فقير، أو وقوداً في جسد عامل يجب أن يتحرك ويعرق!!

كان لي صديق يكثر من التدخين، نظرت له يوماً في أسف، ثم سمعني وأنا أدعو الله له أن يعافيه من هذا البلاء، فقال- رحمه الله، فقد أدركته الوفاة – (اللهم لا تستجب ولا تحرمني من لذة "السيجارة").

ولم أكن أعرف أن للتدخين عند أصحابه هذه اللذة، فسكتُّ، وقد عقدت لساني دهشة.

إن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يعرف ما يضرُّه، ويقبل عليه برغبة... إنها الرغبة القاتلة!!

على أن النفس التي تشتهي ما يؤذى يمكن أن تتأدَّب، وتقف عند حدود معقولة، كما قال الشاعر قديماً:

والنفسُ راغبةٌ إذا رغَّبتها

وإذا تُرَدُّ إلى قليلٍ تَقنعُ

عندما نصوم حقًّا:

وهنا يجيء أدب الصيام: إنَّه يردُّ النفس إلى القليل الكافي، ويصدُّها عن الكثير المؤذى! ذاك يوم نصوم حقًّا، ولا يكون الامتناع المؤقت وسيلة إلى التهام مقادير أكبر، كما يفعل سواد الناس!!

لعلَّ أهم ثمرات الصوم إيتاء القدرة على الحياة مع الحرمان في صورة ما.

كنت أرمق النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسأل أهل بيته في الصباح، أثمَّ ما يفطر به؟ فيقال: لا! فينوي الصيام، ويستقبل يومه كأنَّ شيئًا لم يحدث...

ويذهب فيلقى الوفود ببشاشة، ويبتُّ في القضايا، وليس في صفاء نفسه غيمة واحدة، وينتظر بثقة تامة رزق ربه دونما ريبة، ولسان حاله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح : 5 ، 6].

إنها لعظمة نفسية جديرة بالإكبار أن يواجه المرء البأساء والضراء مكتمل الرشد، باسم الثغر. والأفراد والجماعات تقدر على ذلك لو شاءت!

وأعتقد أن من أسباب غلب العرب في الفتوح الأولى قلة الشهوات التي يخضعون لها، أو قلة العادات التي تعجز عن العمل إن لم تتوافر.

يضع الواحد منهم تمرات في جيبه، وينطلق إلى الميدان، أما جنود فارس والروم فإنَّ العربات المشحونة بالأطعمة كانت وراءهم، وإلَّا توقَّفوا.

شريعة الصوم فوق هذا

وتجتاح الناس بين الحين والحين أزمات حادة، تقشعرُّ منها البلاد، ويجفُّ الزرع والضرع، ما عساهم يفعلون؟ إنهم يصبرون مرغمين، أو يصومون كارهين، وملء أفئدتهم السخط والضيق. وشريعة الصوم شيء فوق هذا، إنها حرمان الواجد، ابتغاء ما عند الله! إنها تحملٌ للمرء منه مندوحة- لو شاء- ولكنه يُخرس صياح بطنه، ويُرجئ إجابة رغبته، مدَّخِراً أجر صبره عند ربه، كيما يلقاه راحة ورضا في يوم عصيب.. {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ } [هود : 103].

وربط التعب بأجر الآخرة هو ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)))!

إن كلمتي (إيماناً واحتساباً) تعنيان جهداً لا يُستعجل أجره، ولا يُطلب اليوم ثمنه؛ لأنَّ باذله قرَّر حين بذله أن يُجعل ضمن مدخراته عند ربه.. نازلاً عند قوله: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} [النبأ : 39]!!

وسوف يجد الصائم مفطرين لا يعرفون للشهر حرمة، ولا لصيامه حكمة، إذا اشتهوا طعاماً أكلوا، وإذا شاقهم شراب أكرعوا.. ماذا يجدون يوم اللقاء؟

إنهم سوف يجدون أصحاب المدَّخرات في أفق آخر، مفعم بالنعمة والمتاع، ويحدثنا القرآن الكريم عمن أضاعوا مستقبلهم فيقول: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأعراف : 50 ، 51].

--------

أثر الصوم في النفوس

محمد البشير الإبراهيمي

نشر عام (1948)

الإسلام دين تربية للملكات والفضائل والكمالات، وهو يعتبر المسلم تلميذًا ملازمًا في مدرسة الحياة، دائمًا فيها، دائبًا عليها؛ يتلقَّى فيها ما تقتضيه طبيعته من نقصٍ وكمالٍ، وما تقتضيه طبيعتها من خيرٍ وشرٍّ، ومن ثمَّ فهو يأخذه أخذ المربِّي في مزيج من الرفق والعنف، بامتحانات دورية متكررة، لا يخرج من امتحان منها إلا ليدخل في امتحان؛ وفي هذه الامتحانات من الفوائد للمسلم ما لا يوجد عُشره ولا مِعْشاره في الامتحانات المدرسية المعروفة.

وامتحانات الإسلام متجلِّية في هذه الشعائر المفروضة على المسلم، وما فيها من تكاليف دقيقة، يراها الخليُّ الفارغ أنواعًا من التعبدات تُتلقَّى بالتسليم، ويراها المستبصر المتدبِّر ضروبًا من التربية شُرعت للتزكية والتعليم، وما يريد الله ليضيِّق بها على المسلم، ولا ليجعل عليه في الدين حرجًا، ولكن يريد ليطهره بها، وينمِّي ملكات الخير والرحمة فيه، وليقوِّي إرادته وعزيمته في الإقدام على الخير، والإقلاع عن الشر، ويروِّضه على الفضائل الشاقة، كالصبر، والثبات، والحزم، والعزم، والنظام، وليحرره من تعبُّد الشهوات له وملكها لعنانه، وما زالت الشهوات الحيوانية موبقًا للآدمي، منذ أكل أبواه من الشجرة، حكمة من الله في تعليق سعادة الإنسان وشقائه بكسبه، ليحيا عن بيِّنةٍ، ويهلك عن بيِّنةٍ.

في كل فريضة من فرائض الإسلام امتحان لإيمان المسلم، ولعقله، وإرادته، ودع عنك الأركان الخمسة، فالامتحان فيها واضح المعنى بيِّن الأثر؛ وجاوِزْها إلى أُمَّهات الفضائل التي هي واجبات تكميلية، لا يكمل إيمان المؤمن إلا بها، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدق في القول والعمل، والصبر في مواطنه، والشجاعة في ميدانها، والبذل في سبله، فكلُّ واحدة، أو في كلِّ واحدة منها امتحان تكميلي للإيمان، تعلو فيه قِيَمٌ، وتهبط قِيَمٌ، وفي التوحيد امتحان لليقين، واليقين أساس السعادة، وفي الصلاة امتحان للإرادة، والإرادة أصل النجاح، وفي الحج امتحان للهمم بالسير في الأرض، وهو منبعُ العلم، وفي الصوم امتحان للصبر، والصبر رائد النصر، ونحن نريد من الامتحان هنا معناه العصري الشائع.

غير أنَّ الصوم أعسرها امتحانًا؛ لأنَّه مقاومة عنيفة لسلطان الشهوات الجسمية، ومقاوم الشهوات في نفسه أو في غيره قلَّما ينتصر؛ فإن انتصر فقلَّما يقف به الانتصار عند حدِّ الاعتدال، بل كثيرًا ما يجاوزه إلى أنواع من الشذوذ والتنطع، تأباها الفطرة والعقل، وهذه الروح المقاومة في الصوم هي التي راعتها الأديان والنِّحل، فجعلت الصوم إحدى عبادتها، تروض عليه النفوس المطمئنة، وتروض به النفوس الجامحة، ولكن الصوم في الإسلام يزيد عليها جميعًا في صوره ومدته، وفي تأثيره وشدته، فمدته شهر قمري متتابع الأيام، وصورته الكاملة فطم عن شهوات البطن والفرج واللسان والأذن، وكل ما نقص من أجزاء ذلك الفطام فهو نقص في حقيقة الصوم، كما جاءت بذلك الآثار الصحيحة عن صاحب الشريعة، وكما تقتضيه الحكمة الجامعة من معنى الصوم، فلا يتوهمنَّ المسلم أنَّ الصوم هو ما عليه العامة اليوم من إمساك تقليدي عن بعض الشهوات في النهار، يعقبه انهماك في جميع الشهوات بالليل، فإن الذي تشاهده من آثار هذا الصوم العرفي إجاعة البطن، وإظماء الكبد، وفتور الأعضاء، وانقباض الأسارير، وبذاءة اللسان، وسرعة الانفعال، واتخاذ الصوم شفيعًا فيما لا يحب الله من الجهر بالسوء من القول، وعذرًا فيما تبدر به البوادر من اللجاج والخصام والأيمان الفاجرة!! كلا، إنَّ الصوم لا يكمل، ولا تتمُّ حقيقته، ولا تظهر حكمته ولا آثاره إلا بالفطام عن جميع الشهوات الموزَّعة على الجوارح، وللأذن شهوات في الاستماع، وللعين شهوات في امتداد النظر وتسريحه على الجوارح كلِّها، وإنَّ له لضراوة بتلك الشهوات لا يستطيع حبسه عنها إلا الموفَّقون من أصحاب العزائم القوية، وأنَّ تلك الضراوة هي التي هوَّنت خطبه حتى على الخواص، فلم يعتبروا صوم اللسان من شروط الصوم، وأعانهم على ذلك التهوين تقصير الفقهاء في تعريف الصوم، وقصرهم إياه على الإمساك عن الشهوتين، وافتتانهم بالتفريعات المفروضة، وغفلتهم عما جاء في السنة المطهرة من بيان لحقيقة الصوم وصفات الصائم.

صوم رمضان محكٌّ للإرادات، وقمع للشهوات الجسمية، ورمز للتعبُّد في صورته العليا، ورياضة شاقة على هجر اللذائذ والطيِّبات، وتدريب منظم على حمل المكروه من جوع وعطش وسكوت، ودرس مفيد في سياسة المرء لنفسه، وتحكُّمه في أهوائها، وضبطه بالجدِّ لنوازع الهزل واللغو والعبث فيها، وتربية عملية لخلق الرحمة بالعاجز المعدم، فلولا الصوم لما ذاق الأغنياء الواجدون ألم الجوع ولما تصوروا ما يفعله الجوع بالجائعين وفي الإدراكات النفسية جوانب لا يغني فيها السماع عن الوجدان، ومنها هذا؛ فلو أنَّ جائعًا ظلَّ وبات على الطوى خمسًا، ووقف خمسًا أخرى يصوِّر للأغنياء البِطان ما فعل الجوع بأمعائه وأعصابه، وكان حاله أبلغ في التعبير من مقاله، لما بلغ في التأثير فيهم ما تبلغه جوعةٌ واحدةٌ في نفس غنيٍّ مترفٍ.

لذلك كان نبيُّنا إمام الأنبياء، وسيد الحكماء، أجود ما يكون في رمضان.

ورمضان نفحة إلهية تهُبُّ على العالم الأرضي في كلِّ عام قمري مرة، وصفحة سماوية تتجلَّى على أهل هذه الأرض، فتجلو لهم من صفات الله عطفه وبرَّه، ومن لطائف الإسلام حكمته وسرَّه، فلينظر المسلمون أين حظُّهم من تلك النفحة، وأين مكانهم في تلك الصفحة.

ورمضان "مستشفى" زماني يجد فيه كلُّ مريض دواء دائه، يستشفي فيه مرضى البخل بالإحسان، ومرضى البطنة والنعيم بالجوع، والعطش، ومرضى الجوع والخصاصة بالشبع والكفاية.

ورمضان جبَّار الشهور، في الدهور، مرهوب الصولة والدولة، لا يقبل التساهل ولا التجاهل، ومن غرائب شؤونه أن معظم صائميه من الأغفال، وأن معظم جنده من الأطفال، يستعجلون صومه وهم صغار، ويستقصرون أيامه وهي طوال، فإذا انتهك حرمته منتهك بثُّوا حوله الأرصاد، وكانوا له بالمرصاد، ورشقوه ونضحوه، و(بهدلوه) وفضحوه، لا ينجو منهم مختفٍ ولا مختبئ في حان، ولا ماكر يغشُّ، ولا آوٍ إلى عشٍّ، ولا متستر بحشٍّ، ولا من يغير الشكل، لأجل الأكل، ولا من يتنكر بحجاب الوجه، ولا بسفور الرأس، ولا برطانة اللسان، كأنما لكل شيء في خياشيمهم رائحة، حتى الهيئات والكلمات، وهم قوم جريحهم جُبار الجرح، وقتيلهم هدر الدم.

سبحان من ضيَّق إحصاره وصيَّر الأطفال أنصاره

وحرَّك الرِّيحين بُشرَى به رُخاءه الهينَ وإعصاره

ورمضان مع ذلك كله مجلى أوصاف للوُصَّاف: حرم أهل المجون مما يرجون، وحبس لهم من مطايا اللهو ما يُزجون، وأحال –لغمِّهم- أيام الدجون، كالليالي الجون، فترحوا لتجلِّيه، وفرحوا بتولِّيه، ونظموا ونثروا، وقالوا فيه فأكثروا، وأطلَّ على الشعراء بالغارة الشعواء، فهاموا وجُنُّوا، وقالوا فافتنُّوا، قال إمامهم الحكمي: إنَّ أفضل يوم عنده أول شوال، وقال الغالون منهم والقالون ما هو أشبه بهم، ولو لم يكن لآخرهم (شوقي) إلا: (رمضان ولى).. لكفته ضلَّة، ودخنًا في اليقين وعلَّة، والرجل جديد، وله في العروبة باع مديد، وفي الإسلام رأي سديد، وفي الدفاع عنه لسان حديد، ونحن نعرفه، فلا نَفْرقه.

أما المعتدلون المراءون فمنهم القائل:

شهر الصيام مبارك ما لم يكن في شهر آب

خفت العذاب فصمته فوقعت في عين العذاب

ومنهم القائل:

يا أخا الحارث بن عمرو بن بكر أشهورًا نصوم أم أعواما؟!

طال هذا الشهر المبارك حتى قد خشينا بأن يكون لزاما

أما الوصف العبقري، والوادي الذي طم على القَريِّ، فهو قول الحديث الموحى: ((الصوم لي وأنا أجزي به)) وحديث الصادق: ((لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)) وحديث الصحيح (للصائم فرحتان)) وقول الكتاب المكنون: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة : 183]

====

استقبال شهر رمضان

أحمد محمد شاكر

نشر سنة 1361هـ

لقد أظلَّكم شهر رمضان؛ شهر الصيام، شهر العبادة، شهر سمو الروح ونقائها، ويوشك أن تصبحوا غدًا صائمين... فهل أعددتم العدة لاستقباله؛ فحاسبتم أنفسكم على ما أسلفتم من خير، تحمدون الله عليه، وتسألونه التوفيق إلي المزيد منه، أو شرٍّ تأسفون عليه، وتتوبون وتستغفرون الله منه، وتسألونه أن يحفظكم من العودة إليه.

هكذا يُستقبل شهر رمضان، وأخشى أن يفهم كثير من الناس أن رمضان يُستقبل بالاحتفالات الرسمية، والاستعداد للتألُّق في المأكل والمشرب، والاستكثار من ألوان الطعام والشراب، والاستعداد لأصناف من اللهو واللعب في السهرات، ثم لا يفكرون فيما وراء ذلك!

أيُّها الناس: إنَّ الله شرع لكم الصيام تطهيرًا لأرواحكم، وحفظًا لها من طغيان الجسد وشهواته، ولم يشرعه لتقاسوا آلام الجوع والعطش فقط، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لم يَدَع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).

شرع الله لنا صيام نهار رمضان، وقيام ليله، فجعله شهر عبادة، بذكر الله وقراءة القرآن، والإكثار من الصلاة، وخاصة صلاة الليل، وجعل ثوابه أعظم الثواب.

وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلي سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلَّا الصوم؛ فإنَّه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلى . للصائم فرحتان : فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك)).

أيُّها السادة: إنِّي أرى في كثير مما اتخذنا من العادات في الصوم ما ينافي حقيقته، بل ما يحبط الأجر عليه، بل ما يزيد الإنسان به إثمًا. فَهِمنا أنَّ معنى قيام الليل، سهر الليل، فسرنا نسهر في القهوات والنوادي، لا نفكِّر إلا في اللهو واللعب، إلي ساعة متأخرة من الليل، ثم نأكل ما شاء الله أن نأكل، ثم نصبح مرهقين متعبين، قد ضاقت صدورنا، واضطربت أعصابنا، وساءت أخلاقنا، فلا يكاد اثنان يتحدثان، حتى ينفجر الغضب، وتثور الثائرة، وتتدفَّق الألفاظ النابية، إلي ما ترون من حال، كلُّكم تعرفونها، وقد تعتذرون لصاحبها بأنَّه صائم. ولا استثني من ذلك أحدًا إلا من عصم الله. فانظروا وتفكروا، وقارنوا هذه الحال الشاذة الشائعة في الصوم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم إني صائم)). وذلك أنَّ الصائم ينبغي أن يكون هادئ النفس، رضي الخلق، يضع نصب عينه أنَّ الصيام جُنَّة له من الآثم، جُنَّة له من سوء الخلق، جُنَّة له مِن المعاصي، جُنَّة له من فحش القول، جُنَّة له من قول الزور والعمل به.

والذي ينبغي لكم في هذا الشهر المبارك– إن سمعتم لنصحي– أن تتَّبعوا شريعتكم في الصيام ؛ فتقتصدوا في الطعام والشراب، عند الفطور وعند السحور، وأن تجعلوا سهركم، إن سهرتم، في قراءة القرآن وتدبُّره، ومن استطاع منكم أن يقوم الليل فليفعل ؛ وذلك أن يصلي في بيته أو مسجده ما شاء الله له أن يصلى. وهذه هي صلاة التراويح التى غُيِّرت عن أصلها، فصار المصلون ينقرونها سراعًا في وقت تصير بعد صلاة العشاء، صلاة لا تنفع ولا تقبل، وإنما الصلاة ما كانت في خشوع وطمأنينة، وكلما أخَّرها المصلِّى إلي ما بعد الثلث الأول من الليل كان أفضل. ثم ينام أحدكم ما شاء الله له أن ينام، ثم يقوم قبل الفجر فيطعم طعامًا خفيفًا للسحور، ثم يصلي الفجر، وإن شاء نام بعد ذلك، وإن شاء تصرَّف في شأنه وعمله.

أمَّا الذين يأكلون عند انقضاء سهرتهم، ثم ينامون إلي ما بعد طلوع الشمس- فإنهم يخالفون سنة الإسلام في السحور، وأخشى أن يذهب تركهم صلاة الفجر بثواب صيامهم، فلا هم صاموا ولا هم أفطروا. وليس لله حاجة في أن يدعوا طعامهم وشرابهم، إذ لم يطيعوا أمره ؛ ولم يأخذوا بسنة نبيه، وإذ أضاعوا صلاة الفجر عن وقتها عمدًا.

أيُّها السادة: إنَّ الأُمَم تُصهر الآن في النيران، عقابًا لها على ما كفرت بأنعم الله، ولعلَّ الله قد صان بلاد الإسلام من كثير مما يلاقي غيرها، لحكمة يعلمها؛ ومأثرة يدَّخرها لهم، أن يعود للإسلام مجده، وأن يعود المسلمون حكام الدنيا كما كانوا. ولكن هذا إذا كانوا مسلمين، وإذا تمسَّكوا بدينهم، وأقاموا شريعته، واهتدوا بهديه. والنُّذُر من بين أيديكم ومن خلفكم، فاعتبروا واخشوا ربكم، فقد ترى من تهافت المسلمين على المنكرات، ما نخشى أن يعمَّهم الله بالعقاب من أجله، وها أنتم أولاء ترون المجاهرين بالمعاصي، لا يخافون الله، ولا يستحيون من الناس، ولا يخشون عاقبة ما يصنعون.

وقد كان مما نرى من مجاهرتهم ربهم بالحرب؛ أن يجاهروا بالإفطار في رمضان في الطرقات، والأماكن العامة، وفي دواوين الحكومة، يزعمون أنهم يحتمون بما يدعونه الحرية الشخصية، وما هكذا كانت الحرية، وما هكذا تكون الأمم في تمسكها بمقوماتها وعاداتها وشعائر دينها. وكان هذا العمل يؤذي المسلمين الصادقين في شعورهم، ويحرج صدورهم .

وقد وفق الله الرجل الصالح: الزعيم الجليل، صاحب المقام الرفيع مصطفي النحاس ، فأصدر بالأمس القريب كتابًا عظيمًا في هذا الشأن؛ حفظ على المسلمين كرامتهم وصان لهم شعورهم، ورفع الحرج عن قلوبهم. فأمر أن لا يجاهر مفطر بفطره؛ مسلمًا كان أو غير مسلم، احترامًا لحق الأمة في الاستمساك بشعائرها وتقاليدها. فكان عمله عمل رجل يعرف ما يريد، ويعرف كيف يضع الأمور مواضعها ، مستعينًا متوكلًا عليه.

============================

قلوب جديدة

محمود محمد شاكر

تأتي النائبة من وراء الغيب مسرعة متوهجة تتوقَّد، ثم تنغمس في الدم فتسمع الحياة نشيشها فيه، وتضطرب الروح، وتتفرَّق النفس، ويتألَّم القلب، وتتبعثر الإرادة، ويحار العقل، ويكون مع ذلك كلِّه أمل ممض نافذ يجعل الحي يستشعر معاني الموت، وهو لا يزال حيًّا بعدُ، فالمصيبة بطبيعتها توجد في الحياة حركة سريعة طائرة مخبولة تخرج الحياة كلها عن دستورها ونظامها بعنف وقسوة، فيعقب هذه الموجة المتلاطمة السريعة فترة خاملة بليدة تنقل الحي من جوٍّ إلى جوٍّ حتى يتسنَّى له أن يستقرَّ ويهدأ، فإذا لم يقرِّر لنفسه هذا النظام الذي تتطلَّبه المصائب لم يزل في موج واضطراب، وفزع وحيرة، وتتضاعف المصيبة الواحدة حتى تكون– من جراء عواقبها عليه– مصائب عدة.

وقد تنزل المصيبة بالرجل فينفتر لها ويتبلَّد عليها، ويستنيم في بعض أحزانها، ولكنَّه لا يلبث حتى يشعر أنَّ في دَمِه أصواتًا تتداعى فيه، كما يتداعى الجند إذا تفرَّق على ضربة عدوِّه في الميدان، يجتمع المتفرِّق، ويتألَّف الشاذُّ، وتتضامُّ القوى، ويعود الأمر على أشُدِّه كأحصن ما كان. فإذا تداعى الدم، وزأر القلب، واهتزَّت الروح، وأصاخت النفس، وارتدَّت العواطف المنهزمة إلى مواقعها وحصونها من إنسانها، وجد الرجل كأنَّ قلبًا جديدًا قد انتفض في صدره، فنفض المصيبة وأعوانها نفضة الطلِّ عن غصن مورق.

والشعوب كالرجال، وأمرها كأمرها، والشعب إذا ابتُلي ببلاء مصبوب عليه بمصائبه ونواكبه، يستطيع أن يستردَّ ما يضيع من قوَّته في تيار المصيبة، وأن يستعيد شبابه الثائر مرة أخرى، ولكن الفرق بينهما هو فرق ما بين الواحد إذا استقلَّ، والجمع إذا تعاون، فشرط الاستقلال الإرادة والنفاذ بها، وشرط التعاون المشاركة بين الأفراد المستقلين بالإرادة والعزم، والحرص على اجتناب التخالف، واطِّراح الفرقة، ونبذ الهوى، والعناد على الهوى.

وأمر الشعب هو أغمض الأمرين، وأشدهما، وأحقهما بالرعاية والنظر والتدبير، فإنَّ مصائب الشعوب قلَّما تكون فتراتها إلا جيلًا أو أكثر، يقع في خلاله من النقص والتدمير والضعف، وذهاب النشاط الحافز، وطغيان الجهل المستبدِّ، واضطراب أمر الجماعة ونظامها، إلى ما وراء ذلك، يكون تحطيمًا كاملًا لأكثر الإنسانية الشعبية، وإذا تحطَّمت إنسانية الشعب في المصيبة أردفت وراءها مصائب، إذ يقع النسل إلى الحياة؛ لتقتله الحياة بفتورها وبلادتها وقلة احتفالها، ويتبدَّد ذلك النور الإلهي الذي يأتي مع المولود من وراء الغيب، ويبدأ يمشي في الحياة المظلمة بالبصر المكفوف عن النفاذ في أسوار المستقبل.

وعلاج الشعوب في هذه الحالات لا يتأتَّى ولا يمكن ولا يكون، إلا بعلاج الأفراد أنفسهم، وأخذهم بالجدِّ في تدبير الحياة والاستعداد لها، وتحمُّل المشقَّات العظيمة في سبيل إيجاد الفرد الذي يستطيع أن يجعل في صدره قلبًا جديدًا أبدًا بعد كلِّ نازلة أو مصيبة، والقلب الجديد المتجدِّد هو سرُّ الشعلة الذاهبة دائمًا إلى المساء سامية طامحة، مطالبة بحقِّها في السموِّ، عالمة بواجبها في إضاءة الظلمات المتكاثفة من حولها بنور جديد.

أما استكانة الأفراد، وإخلادهم للراحة، واستمتاعهم باللذة، وإغماضهم في طلب المنفعة الفردية المستأثرة، ونفضهم عن أنفسهم تكاليف النظر الاجتماعي الشعبي، ودبيبهم إلى الغايات بالخطو المسترق من أسماع الشعب، لا يبالون أن يكون هلاك غيرهم من أُمَّتهم في بعض ما يجتلبون به قليلًا من أسباب الحياة لأنفسهم- فذلك كلُّه جريمة بعيدة الأثر في قتل الروح المعنوية للشعوب، وفي إيجاد المثل الأسوأ للنسل، بل هو سرقة صحيحة الشرط الذي يُوجب عقابها، فالشعب كلٌّ كامل، فكلُّ جزء منه انتفع بشيء كان من حقِّ الجميع أن ينتفع به على تقدير حقِّ الانتفاع، فذلك استبداد بحقِّ الغير، واستلاب منه لما يوجب الاجتماع أن يكون على صورة بعينها، ولغرض بذاته، وفي تسليمه بقدرتنا، وفي موضع هو له.

وليست السرقة في الحقيقة إلا هذا الضرب من الاستلاب، فسارق الشعب يخون الشعب، ويخون نفسه، ويمنع غيره من الانتفاع بحقِّ الحياة التي أُوجدوا فيها جميعًا؛ ليعملوا لها جميعًا متعاونين متظافرين.

وعدم شعور السارق الـمُغْمِض [الماضي] في سرقته، المستطيل بها، المصرِّ عليها- دليل قائم أبدًا على انعدام إحساس القلب فيه، وإذا عدم القلب إحساسه- أي: حركته في الحياة- رقَّ وتخرَّق وبلي، وأخذه المحق من كلِّ وجه، فلا يمكن أن يعدَّ في القلوب، ولا أن يجري عليه حكم القلب الحيِّ في قبوله للتجدد والحياة المستأنفة من أولها مشرقة، كميلاد الفجر مع كلِّ صباح.

وإذا ابتُلي الشعب، ثم أخرج منه هذا البلاء رجالًا كان من صفتهم ما ذكرنا؛ من الاستكانة، واللهو، والعبث، واهتبال اللذات على مدِّها وتطويحها- كان هؤلاء بلاء آخر على الشعب ومستقبل الشعب، وكانوا فوق ما وصفنا جثثًا مطروحة على طريق الشعب، تعتاقه عن مسيره إلى الغاية التي تنبغي له أن يسير إليها، وإذن فهو بين اثنين: إما أن يطأ الشعب على جثث الشعب، وإما أن ينتظر حتى يمتهد لأجياله طريقًا آخر، يكون فيه السير حثيثًا، لا تقوم في سبيله عقبات كهذه. وكلا الأمرين تعويق، وتخذيل، وإضاعة، وبلاء من البلاء.

ومن ذلك، فإنَّ الحياة تأبى إلا أن تجعل لأحيائها أساليب كثيرة منها ينفذون، فاليأس- من أن يكون في هذه الجثث صلاح بعدُ- أمرٌ لا تكاد تقبله الحياة إلا بعد طول التجربة والامتحان، ولم يبقَ إلا الأمل في أن يكون إصلاح هذه الجثث وبعثها، وإيجاد قلوب جديدة في جثمانها، أمرًا مقاربًا ممكنًا مستطاعًا يجب العمل له، والحرص عليه، والاحتيال في تصريفه احتيالًا صحيحًا مدبرًا، يفضى بنا إلى الغاية منه.

وقد تسهَّل في هذا العصر خاصة ما لم يكن في العصور الخالية، فالطريق إلى إسماع الناس، ودعوتهم، وتنبيههم- صارت أقرب وأسرع، فالطباعة، والصحافة، والمذياع، وسائر أساليب الدعوة- تمكِّن لصاحب الصوت أن يبلغ بصوته حيث أراد إلى من شاء على الوجه الذي يحب.

ولكن نشأت مع هذه الأشياء عوائق بقدرها جعلت الدعوة بهذه الطرق أقل أثرًا مما يُراد منها أو يُرجى فيها، ولم يكن وجودها في الحقيقة إلا طريقًا جديدًا لإفساد الأساليب الصحيحة في الدعوة للإصلاح الكامل، الذي يراد به تجديد القلوب، أي تجديد حياة الشعب تجديدًا نفسيًّا عميقًا ثابتًا.

ومع هذا فما أحسب أنَّ الأمر قد أحبط إلا من ناحية واحدة، هي فقدان الصوت المستجاب في كلِّ قلب. فإذا وُجد هذا الصوت للعالم، فقد يتغيَّر كلُّ شيء، ويصبح تجديد القلوب أمرًا سهلًا على صاحبه، ومالك أمره، والقائم عليه. وإذا أتت ساعة خلاص العالم من فتنة الحضارات المتجبـِّرة الطاغية المتوحِّشة، فقد يكون عمل العامل في تجديد قلوب البشر، هو الفتح الصحيح للتاريخ الجديد للعالم، ويمضي عصر، ويأتي عصر، ويومئذ يقف لفظ واحد في التاريخ؛ ليدلَّ على نوع الحضارة التي نعيش فيها، فيسمَّى هذا العصر (عصر القلوب المتحجرة).

قلوب جديدة: هذه هي غرض الحضارة الجديدة التي يتمخَّض عنها العالم اليوم، فإذا عرفنا الغرض فما يصعب علينا أن يقوم كلُّ أحد منَّا بالتجربة بعد التجربة؛ لإيجاد قلب جديد في صدره مكان قلبه المتحجِّر.

إنَّ الشباب لا يضيع مع طول العمر، ولكنَّه يضيع مع طول العبث، والحياة لا تفنى مع شدة الجهد، ولكنها تفنى في شدة الغفلة، والعقل لا يكلُّ مع طول الفكر، ولكنَّه يكلُّ مع طول الاستخفاف بالفكر، وشباب الشعوب وجهودها وأفكارها هو الحضارة كلها، وأصل الحضارة في القلب الشابِّ العامل المفكِّر الذي لا يسكن، ولا ييأس، ولا يقسو حتى يتحجر.

فهل يستطيع العالم أن يبدأ التجربة على الانفراد، فإذا جاء الداعي للحقِّ بالحقِّ، وجد أعوانه لإنشاء القلوب الجديدة في كلِّ مكان في الأرض؟!

----------------

وقاحة الأدب

(أدباء الطابور الخامس)

محمود محمد شاكر

نشره عام 1359هـ

نحن لا نشك في حقيقتين ظاهرتين متمايزتين متحزبتين بطبيعة الفطرة الإنسانية الاجتماعية:

فالحقيقة الأولى: هي مطالب الفرد لنفسه، ورغباتُه، وأمانيه، وأحلامُه.

والحقيقة الأخرى: هي مطالب الجماعة المكونة من الأفراد، على اختلاف نزعاتهم في أنفسهم، وخاصتهم.

وكل عمل فردي لا يكاد يفلت أثره في الجماعة ، وتوجيهه في الحياة الاجتماعية عامة إلى جهة بعينها، وخاصة إذا كان مردُّ أعمال الأفراد إلى قاعدة عامة، تطلق لهم من الحرية ما يجعل أعمال الفرد استقلالًا على طريقة المصلحة الفردية، التي لا تحترم قيود الجماعة.

وقيود الجماعة عندنا هي المصلحة، التي لا ترقى بها هذه الجماعة المختلفة قوة وضعفاً، ولؤماً وكرماً، وعقلاً وسفاهة، وحكمة وضلالاً.

وأخطر الأشياء في حياة الجماعات والشعوب هي القواعد العامة، التي يأتي من تفسيرها وتوجيهها سيل طامٌّ متدفق من تيارات الأفكار المتنازعة، التي تتنابذ ولا تتعاون.

فلذلك نحن نعدُّ المبادئ العامة، التي تسيِّرها أعمال الأفراد، مستقلة عن الفكرة الاجتماعية الرحيمة، التي تخاف سوء المغبة في جسم الجماعة- هي الأصل الذي يجب أن يُمحَّص ويُحقَّق ويُضبَط؛ حتى لا تتنازع عليه الأهواء، أو الشهوات، ودناءات الأخلاق الفردية المستأثرة، والتي تعيش بلذاتها قبل حقائق لذاتها؛ فإن طغيان الوحشيَّة الفرديَّة يُفضي بالعالم إلى فوضى في الجماعة، لا تقاومها حسناتُ المجتمع، أو مصالحه، أو حقيقة حياته.

فأنت ترى من ذلك أن أهمَّ ما يجب علينا أن نتوجَّه إليه، هو ضبط النِّسبة بين حاجة الفرد المستقل، باعتباره فرداً من جماعة مستقلة أيضاً.

تريد هذه الجماعة أن تجتنب أكبر قسط، بل أعظم كارثة من بلاء التشقُّق الاجتماعي، الذي يأتي من وراء القانون، الذي يضبط دولة الجماعة، ويقوم على حياطتها؛ طلباً لإسعادها والترفيه عنها، ووقايتها من التدهور الأدبي، والعقلي، والسياسي، والاجتماعي.

وقد كان من بلاء المدنية الأوربية الفاجرة أن انفجرت في الأخلاق الفردية انفجاراً بعد انفجار، حتى صارت مِزَقُ الأخلاق نثراً متطايراً، لا يجمعه جامع يكون للجماعة- من صعلوكها إلى مليكها- جِماعاً، ومِلاكاً، واستحصاداً، يمسح عن آلام البشرية تلك الدموع الغزيرة التي تجري تحت ظلام تلك الأثرة، والبغي، والاستبداد، والشهوات المظلمة في نفوس مظلمة مثلها.

وأنشأت هذه الطريقة الدنيا من الشهوات المستحكمة الغالبة مبادئ، يتخذها الأفراد شعاراً، ثم جعلت تتخذها بعض الجماعات رمزاً لحياتها، ولكنها مع ذلك لا تعدُّها نظاماً لجماعة، بل تبديداً لنظام الجماعة، أو لما ينبغي أن يكون عليه نظام الجماعة.

فمن هذا البلاء ما يقوم في عقول بعض المتأدِّبين من حرية الإنتاج الأدبي على أيِّ صورة من الصور، أي أن يدور الأديب بإنتاجه حول شهواته الخاصة، التي يبثُّها أدباً في أُمَّته، ويدَّعي مع ذلك أن هذه الحرية الشخصية في نظرته إلى الحياة، وأعماله في الحياة، وتصوير هذه النظرات والأعمال- عمل أدبيٌّ حرٌّ يكفل له الناس الانتشار والذيوع، وأن يدخل على الأحرار في بيوتهم، وعلى العقائل في خدورهنَّ الطاهرة وعفافهنَّ النبيل، وأنَّه يُنزل على الأُمَّهات، والزوجات، والعذارَى وحياً جديداً من الفن، الذي تضمن له فَنِّيَّتُه حرية التغلغل في حصون الأُمَّة المقاتلة عن الذراري والأبناء، وكيان الشعب المولود للمستقبل.

ولا يبالي هؤلاء أن يكون في داخل هذه الحصون الشعبيَّة الهائلة معنًى جديدٌ، يخذل القوى العاملة على إنشاء الحياة الاجتماعية إنشاء يضمن لها البقاء، والاستمرار، والتفوق، والسمو بالشعب إلى القوة الحاكمة، التي تدفع عن أرض الوطن بلاء الاستعباد؛ فإنَّ الرجل إذا استعبدته الشهوة، فهو يدور أبداً في تصريفها مستعبداً ذليلاً، لا يدفع عن نفسه إذا ما أُوتي من هذه الحاسة المتلينة، الخاضعة بطبيعتها إلى سلطان اللذة، غير متورِّعة عن التدلِّي إلى الحضيض، وغير حافلة إلا بالساعة الحاضرة العمياء المظلمة ظاهراً أو باطناً.

وإذا أفسد الأدب أول ما يفسد هذه الحصون، فقد أمدَّ الشعب بهلاكه، وأدخل عليه هذه النوازع المحطِّمة، وبثَّ فيه سراياه وأعوانه، من (الطابور الخامس) الذي يعمل على إيجاد حركة ارتداد تشقُّق وحَيْرة ووجل.

فإذا تمَّ لهذا الطابور الخامس تمامه، استولى على الأُمَّة فمحقها بالفزع، والتسليم، والرضا بالخضوع، والذُّل، قبل أن يمحقها العدو بالآلة، والسلاح، والجيش الغازي.

وفي هذه الأُمم التي لا تملك من سلطان القوة ما تُسوِّغ به السيطرة على ميادينها في صراع الأُمم إذا تصارعت، أي في هذه الأُمم الشرقيَّة، وأخص الأمة العربية- يعيش هذا الطابور الخامس من الأدباء، ويرى أنَّه قد أجاد المذهب، والمسلك، واتَّخذ لأُمَّته أهدى السبيلين، وخير المنزلتين.

وعقيدة هذا الطابور الخامس أنَّ حرية الفنِّ يجب أن لا تتقيَّد بمصلحة الجماعة ، أي أن يكون إنتاج هذا الطابور على ما يثور في أنفس أفراده، من النزعات المستكلبة، والنزغات المنفجرة في أعصابه بروح الشهوات.

فالأدباء، والشعراء خاصة، يرون أنَّ أدبهم وشعرهم لابد أن ينطوي على تلك المعاني النفسيَّة النازلة، التي تستولغ في دماء الناس، وأعراضهم المذبوحة بالآلات الحديدة الماضية، التي لا تقاوم بالشهوات الغريزيَّة المجنونة، التي تُضيء لأعينهم سراج اللذة المحرمة، تحت جناح الليل، بين الأخلاق المتهالكة في حانات الفجور، تستنقع بأحلامها وهذيانها في كأس تفوح نشوة، وتسيل عربدة، ثم ماذا؟

ثم يأتي هؤلاء فيدفعون إلى المجتمع نتاجاً مركباً من جميع هذه الرذائل المنهوكة المخمورة، ثم تتغلغل هذه المساخط كلُّها في بيوت الشعب في أوهام الزوجات البريئات، في عيون الفتيات الجاهلات، في أحلام العذارى المتأملات في هدأة الحياة، ينتظرن من وراء النفس والعقل تحقيق أحلام الفطرة الغالبة على كل حيٍّ في هذه الأرض.

ثم يكون ماذا؟ ثم يكون هذا التفكُّك والتَّخاذل بين الأوصال الشعبيَّة، التي يجب أن تتماسك، وأن تجعل من تماسكها وارتباطها قوَّة، وأن تنفث فيها رُوح الجماعة رُوحاً سامية طامحة راغبة جادَّة، تريد أن ترتفع بالجميع فوق شهوات الجميع؛ لتحقق للكيان الاجتماعي كله سيادة تامَّة على الأسباب، التي يصير بها الشعب قوة عاملة على إيجاد السعادة للشعب، وسلالة الشعب في مستقبل أيامه وأعوامه.

فأدباء الطابور الخامس الذين اتخذوا لأنفسهم شعاراً من حرية الفن، وحرية الأدب، وحرية التعبير عن ثورة النفس المشتهية المستكلبة، هم أعدى أعداء هذا الشعب المسكين، وهم البلاء الماحق، وهم الذلُّ الحاضر، والقيد الرَّبوض، وهم سفالة الإنسانية؛ إذ كانت الإنسانية لا تستطيع إلَّا أن تنزل بهم إلى الحضيض الأوهد من الخضوع لسلطان الشهوة، وهم الهلاك المحقَّق؛ لأنهم سبب التفرقة؛ إذ كان بناء أدبهم على الاستقلال الفردي المحض الذي لا يُقَدِّرُ للجماعة معنى الجماعة، بل يأتيها بكلِّ أسباب التمزيق، والتعاند، والخلاف بين القوى إذا تحررت فانطلقت، فاتخذت كلَّ قوة سبيلاً مناقضاً لاتجاه صاحبتها، فتصبح قوى الشعب كلُّها في نزاع دائم، لا خير فيه، بل فيه كلُّ الشرِّ، وكلُّ البلاء، وكلُّ المحق.

إن أحداً من الناس لا يستطيع أن يفرغ دمه من معاني الشيطان - لا يستطيع أن ينقي أعصابه من وراثة الغرائز الإنسانية القديمة، الآتية مع الإنسان، من الخطيئة الأولى لآدم، صلوات الله عليه.

وإن أحداً لا يُعطَى التحكُّم في تصريف القدر على الوهم والأحلام، ولكن الإنسان أُعطي العقل، وأُعطي مع العقل الإرادة، وأعطي مع الإرادة طبيعة التعاون، وأُعطي مع هذه الطبيعة نظام الجماعة، فأعطي مع نظام الجماعة حقيقتين عظيمتين:

فالحقيقة الأولى: هي قدرة الفرد في بعض حياته على الحياء وعلى التضحية ، وبذلك يستطيع أن يضع تحت أعين الجماعة قدوة حسنة، ومثلاً أعلى، ينبل، ويسمو، ويترفع، ويضيء في الأجواء البعيدة بروح الجمال والحقِّ.

والحقيقة الأخرى: هي سرعة استجابة الجماعة للمثل الأعلى بالاقتناع من ناحية، والتقليد من ناحية أخرى ، وبجميع ذلك تستطيع الجماعة أن تجعل نظامها سامياً أبداً، عظيماً دائماً، متماسكاً على مرِّ الزمن.

فأدباء الطابور الخامس- هم كسائر الناس- يستطيعون أن يستخدموا العقل، والإرادة، وطبيعة التعاون، ونظام الجماعة؛ لإيجاد المثل الأعلى للشعب، باذلين من أنفسهم تضحية واحدة، هي أن يستحوا قليلاً من الناس، ومن أنفسهم، وأن يجعلوا مصلحة هذا الشعب المسكين نصب أعينهم، وعلى مدِّ أفكارهم، وأن يكونوا عاملين على إيجاد القوة في بناء الأُمَّة، وإصلاح أفرادها، لا أن يكونوا خبلاً خابلاً وفساداً، ونزولاً بالإنسانية السامية إلى الحضيض المظلم، الذي تعيش فيه أرواح الشرِّ المهلكة، تلك الأرواح التي لا تريد من معنى الحرية إلا استعباد الآخرين للشهوات.

أما نحن فعلينا أن نحارب هذا الطابور الخامس قبل أن نحارب أعداءنا من غيرنا؛ لأنَّ هذا هو العدو الحقيقي الذي يخذل قوانا، ويفسد استحكامنا، ويحطِّم قواعدنا الحربية التي بنتها الأجيال من قديمنا الأول.

هذا الطابور الخامس هو من رسل المدنية الخَرِبة التي تهدَّمت، ولا تزال تتهدَّم، وستتهدَّم في ميادين القتال إلى هذا اليوم؛ فلنعمل جميعاً على أن نكون من الفرق الواقية من دسائس الطابور الخامس.

--------------------------------

اختيار موقع الدرر السنية : www.dorar.net

المصدر: كتاب (جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر)، الناشر: مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط1، 2003م، (2/861).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب المختصر في أصول الحديث-الشريف الجرجاني

كتاب : المختصر في أصول الحديث-الشريف الجرجاني بسم اللَّه الرحمن الرحيم الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله أجمعين ...