Translate

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 3 أبريل 2023

ج1 سلسلة القصص لمحمد صالح المنجد قصة هرقل والإسلام


ج1 سلسلة القصص لمحمد صالح المنجد

قصة هرقل والإسلام

في هذا الدرس شرح لحديث ورد في البخاري، جاء فيه بيان لكيفية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم هرقل للإسلام، وصلت رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، فبحث عن رجلٍ من قريش، فوجد أبا سفيان ثم طلبه وسأله عدة أسئلة استنتج من خلالها حقيقة نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

كما تحدث الشيخ عن الروايات الأخرى للحديث وبعض الفوائد التي يستفيدها المرء من هذا الحديث.

(1/1)

قصة هرقل مع أبي سفيان

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فنحمد الله سبحانه وتعالى أن بلغنا هذه العشر الأواخر من شهر رمضان، ونسأله سبحانه أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته فيها.

ونتحدث -يا أيها الإخوة- في هذه الليلة -إن شاء الله- عن قصة عظيمة من القصص التي حدثت على عهد النبي عليه الصلاة والسلام.

وهذه القصة هي قصة رسالة النبي عليه الصلاة والسلام لـ هرقل ودعوته إلى الإسلام.

(1/2)

هرقل يسأل وأبو سفيان يجيب

روى البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن عبد الله بن عباس: (أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش؛ وكانوا تِجَاراً بـ الشام في المدة التي كان رسول الله عليه الصلاة والسلام مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش) هرقل جاءته رسالة النبي عليه الصلاة والسلام فأراد أناساً من قوم النبي عليه الصلاة والسلام؛ ليسأل عن حاله، فعُثِر على أبي سفيان وكان مشركاً مع بعضٍ من كفار قريش؛ وقد كانوا تُجَّاراً بـ الشام، فأُتِي بهم إلى هرقل.

قال: (فأتوه وهم بـ إيلياء، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسباً.

فقال: أدنوه مني، وقرِّبوا أصحابَه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائلٌ هذا عن هذا الرجل، فإن كَذَبني فكذِّبوه) سأسأل صاحبكم الذي يجلس أمامكم وهو أبو سفيان عن صاحبكم، الذي هو النبي عليه الصلاة والسلام، فإن كَذَب في الإجابة فبيِّنوا لي أنه قد كَذَب.

(يقول أبو سفيان: فوالله لولا الحياء من أن يأثِروا عليَّ كذباً لكذبت عنه.

ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب.

قال: فهل قال هذا القول منكم أحدٌ قط قبلَه؟ قلت: لا.

قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا.

قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم.

قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون.

قال: فهل يرتد أحدٌ منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا.

قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا.

قال: فهل يغدِر؟ قلت: لا.

ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعلٌ فيها -نحن الآن في مرحلة صلح الحديبية في هدنة معه لا ندري ماذا يفعل فيها؟ - قال أبو سفيان: ولم تُمْكِني كلمةٌ أُدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة) أي: ما استطعت أن أدخل دسيسة في الجواب إلا في هذا الموضع.

(قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم.

قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال -يعني: تناوب في الانتصار، مرة لنا ومرة له- ينال منا وننال منه.

قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصدق، والعفاف والصلة).

(1/3)

هرقل يبين حقيقة نبوة المصطفى من إجابات أبي سفيان

(فقال للترجمان - هرقل يقول للترجمان الذي يترجم من لغة إلى أخرى-: قل له - لـ أبي سفيان -: سألتك عن نسبه؟ فذكرتَ أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها.

وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ -يعني: من قبل- فذكرتَ أن لا، فقلت: لو كان أحدٌ قال هذا القول قبله لقلتُ رجلٌ يتأسى بقول قيل قبله) أي: مقلد، لكن ما أحد قال هذا الكلام قبله.

(وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرتَ أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك، قلت: رجلٌ يطلب ملك أبيه) سبب هذه الدعوة أنه يطالب بملك أبيه، لكن ليس من آبائه من ملك.

(وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرتَ أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله) يعني: هرقل متأكد من أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق.

(وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرتَ أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل) هرقل يعرف أن أتباع الرسل هم الضعفاء.

(وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم -يعني: يبدأ غريباً ثم ينتشر-.

وسألتك: أيرتد أحدٌ سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.

وسألتك: هل يغدِر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدِر.

وسألتك: بِمَ يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقاً فسيَمْلِك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارجٌ، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخْلُص إليه لتجشَّمتُ لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه).

(1/4)

نص رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لهرقل

دعا هرقل بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم.

سلام على من اتبع الهدى.

أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام -يعني: دعوة الإسلام؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله- أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين -وهم الفلاحون الذين كانوا من رعايا هرقل - و {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].

قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصخب -أي: الأصوات المختلطة المرتفعة- وارتفعت الأصوات، وأُخْرِجنا.

فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمِرَ أمْرُ ابن أبي كبشة -لقد عَظُم أمر محمد صلى الله عليه وسلم- إنه يخافه ملك بني الأصفر - أبو سفيان يقول: هرقل؛ هذا ملك الروم يخاف محمداً! صلى الله عليه وسلم (فما زلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإسلام).

(وكان ابن الناظور أو ابن الناطور صاحب إيلياء وهرقل سُقُفَّاً على نصارى الشام) ابن الناطور وهرقل كانا من علماء النصارى بالدين، وكانا زميلين في الدين النصراني.

(وكان ابن الناطور -صاحب إيلياء وهرقل - سُقُفَّاً على نصارى الشام يحدِّث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوماً خبيث النفس، فقال بعض بطارقته -يعني: الرجال الكبار عنده-: قد استنكرنا هيئتك.

قال ابن الناطور: وكان هرقل حزَّاءً ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرتُ في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟) أي: لما سألوه: ما بالك مهموماً؟ قال: رأيت ملك الختان قد ظهر، انظروا من يختتن في العالم في الناس؟! من يختتن؟! (قالوا: ليس يختتن إلا اليهود، فلا يهمك شأنهم، واكتب إلى المدن في ملكك فيقتلوا مَن فيها مِن اليهود.

فبينما هم على أمرهم أُتِي هرقل برجلٍ أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ -الرسول هذا الذي جاء برسالة من محمد صلى الله عليه وسلم انظروا هل هو مختتن أم لا؟ - فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن.

وسأله عن العرب.

فقال: هم يختتنون.

فقال هرقل: هذا مُلْك هذه الأمة قد ظهر.

ثم كتب هرقل إلى صاحب له بـ رومية، وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص فلم يرِم حمصاً حتى أتاه كتاب من صاحبه -الذي في رومية - يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بـ حمص -بناء كالقصر أمر بأن يُدخلوا إليه- ثم أمر بأبوابها فغلِّقت، ثم اطَّلع - هرقل اطَّلع على كل الكبراء الذين أدخلوا- فقال: يا معشر الروم! هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصةَ حُمُر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غُلِّقت -اضطربوا وتدافعوا إلى الأبواب- فلما رأى هرقل نفرتهم وأَيِس من الإيمان قال: ردوهم عليَّ، وقال: إني قلت مقالتي آنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل).

هذه القصة التي رواها البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، وكذلك رواها مسلم رحمه الله، والحديث عند الترمذي وأبي داود وأحمد في سياقات مختلفة.

(1/5)

هرقل يرسل رسولاً إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم

وهناك رواية ساقها الإمام أحمد رحمه الله فيها مزيد من التوضيح لبعض الظروف التي حصلت في الخطاب النبوي إلى هرقل، يقول فيه سعيد بن أبي راشد مولى لآل معاوية: (قدمت إلى الشام فقيل لي: في هذه الكنيسة رسول قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فدخلنا الكنيسة فإذا أنا بشيخ كبير، فقلت له: أنت رسول قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.

قلت: حدثني عن ذلك، قال: إنه لما غزا تبوك كتب إلى قيصر كتاباً وبعث به مع رجل يقال له: دحية بن خليفة الكلبي، فلما قرأ كتابه -لما قرأ هرقل كتاب النبي عليه الصلاة والسلام ورسالته- وضعه معه على سريره، وبعث إلى بطارقته) إلى رجال الكنيسة، ومفردها: بطريق (ورءوس أصحابه) عظماء القوم، قادة الجيوش، الأمراء، وقادة الألوية (فقال: إن هذا الرجل قد بعث إليكم رسولاً، وكتب إليكم كتاباً يخيركم إحدى ثلاث: - إما أن تتبعوه على دينه.

- أو تقروا له بخَراجٍ يجري له عليكم ويقركم على هيئتكم في بلادكم.

- أو أن تلقوا إليه بالحرب.

قال: فنخروا نخرةً) النخير: هو صوت الأنف، والمراد الغضب والفوران المعبر عن النفور (فنخروا نخرةً حتى خرج بعضهم من برانسهم) والبرنس: هو الثوب الذي يلتصق به غطاء الرأس، مثل: لباس المغاربة اليوم (حتى خرج بعضهم من برانسهم، وقالوا: لا نتبعه على دينه ونَدَع ديننا ودين آبائنا، ولا نقر له بخراج يجري له علينا، ولكن نُلقي إليه الحرب.

فقال: قد كان ذاك، ولكني كرهتُ أن أفتات دونكم بأمرٍ.

قال عباد: فقلت لـ ابن خثيم: أو ليس كان قارب وهمَّ بالإسلام فيما بَلَغَنا) يعني: هرقل، ما كاد يسلم؟ (قال: بلى.

لولا أنه رأى منهم، فقال: أُبغوني رجلاً من العرب أكتب معه إليه جواب كتابه) أي: التمسوا لي رسولاً أكتب معه جواب كتابه.

(قال: فأتيت وأنا شاب فانطُلق بي إليه فكتب جوابه وقال لي: مهما نسيت من شيء فاحفظ عني ثلاث خلال) يقول هرقل لرسوله: إذا ذهبت إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- أعطه كتابي ورسالتي، وإذا نسيتَ فلا تنسَ هذه الأشياء: (انظر إذا هو قرأ كتابي هل يذكر الليل والنهار؟ وهل يذكر كتابه إليَّ؟ وانظر! هل ترى في ظهره عَلَماً؟).

(1/6)

رسول هرقل يقابل رسول الله

(قال - رسول هرقل -: فأقبلت حتى أتيته وهو بـ تبوك في حلقة من أصحابه محتبين فسألت فأُخبرت به، فدفعت إليه الكتاب -رسالة هرقل - فدعا معاوية -وكان من كتاب الوحي، ممن يعرفون القراءة، وقد أسلم رضي الله عنه- فقرأ عليه الكتاب، فلما أتى على قوله: دعوتَني إلى جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟) هرقل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم سؤالاً: دعوتَني إلى جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا جاء الليل فأين النهار؟) يعني: هذا رد على الشبهة، يقول: إذا جاء الليل فأين النهار؟ أين يذهب النهار؟ (قال: فقال: إني قد كتبت إلى النجاشي فخرَّقه فخرَّقه الله مخرّق المُلك.

قال عبَّاد: فقلت لـ ابن خثيم: أليس قد أسلم النجاشي ونعاه رسول الله عليه الصلاة والسلام بـ المدينة إلى أصحابه فصلى عليه؟ قال: بلى.

ذاك فلان بن فلان، وهذا فلان بن فلان، قد ذكره ابن خثيم جميعاً ونسيتهما) يعني: أن كلمة النجاشي لقب ملك الحبشة، كل مَن ملَك الحبشة يقال له: نجاشي، كل مَن ملَك الروم يقال له قيصر، كل مَن ملَك الفرس يقال له: كسرى، كل مَن ملَك اليمن يقال له: تُبَّع، كل مَن ملَك مصر يقال له: فرعون، كل مَن ملَك الإسكندرية يقال له: المقوقس، كل مَن ملَك الترك يقال له: خاقان، فكلمة ملك بالحبشية: نجاشي، بالمصرية: فرعون، بالإسكندرانية: مقوقس، بالتركية: خاقان، بالفارسية: كسرى، بالرومية: قيصر، لكن القياصرة لهم أسماء مختلفة، الفراعنة لهم أسماء مختلفة، والنجاشي هكذا أيضاً.

فيقول له: النجاشي الذي أرسلت إليه الرسالة غير النجاشي الذي أسلم، ملكٌ آخر من ملوك الحبشة، هذا المقصود.

قيصر ملك الروم الذي أرسلت إليه الرسالة ما اسمه؟ اسمه هرقل، وهو الذي نحن بصدده.

كسرى أنوشروان، له اسم، كسرى هذا لقب، معناه: مَلِك، مَلِك الفرس.

(وكتبتُ إلى كسرى كتاباً فمزَّقه فمزق الله ملكه -أو كما قال عليه الصلاة والسلام- وكتبتُ إلى قيصر كتاباً فأجابني فيه، فلم تزل الناس يخشون منهم بأساً ما كان في العيش خيرٌ) يقول: الحبشة لن تقوم لهم قائمة، ولن يوجد فيهم مُلكٌ قائم، وسيمزقهم الله لأنهم مزقوا الرسالة، ويقول: دولة فارس لن تقوم فيها مملكة لفارس ولن يحكموها ولن يدوم لهم الحكم، والله سيمزق ملك فارس كما أنهم مزقوا الرسالة، لكن يقول: هرقل ما مزق الرسالة، فسيبقى في الروم قوة.

والناظر في الواقع يرى هذا جيداً، بعد كسرى تمزقت مملكة فارس، ما عاد هناك مِن مَلِك، كلها ثورات وحروب.

وكذلك الحبشة لم يعد لها شأن، وصاروا أناساً متخلفين.

والروم؟ اليوم أوروبا ما زال لهم قوة إلى الآن، والحروب الصليبية لا زالت موجودة إلى الآن.

قال: (وكتبت إلى قيصر كتاباً فأجابني فيه، فلم تزل الناس يخشون منهم بأساً ما كان في العيش خيرٌ، ثم قال لي: مَن أين أنت؟ قلت: من تنوخ -رسول هرقل تنوخي- قال: يا أخا تنوخ! هل لك في الإسلام؟ قلت: لا.

إني أقبلتُ من قِبَل قوم وأنا فيهم على ديني ولست مستبدِلاً بدينهم حتى أرجع إليهم، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تبسم، فلما قضيت حاجتي قمتُ، فلما وليت دعاني، فقال: يا أخا تنوخ! هلمَّ فامضِ للذي أُمِرْتَ به -صاحبك أمرك بثلاثة أشياء، وأنت وجدت اثنتين، والثالثة ما أخذت خَبَرها، ما هي الثالثة؟ علامة الظهر- قال: هلمَّ فامضِ للذي أُمِرْتَ به، قال: وكنت قد نسيتُها فاستدرت من وراء الحلقة، ويلقى بردة كانت على ظهره -أو يلقيها عن ظهره- فرأيت غضروف كتفه مثل المحجم الضخم) المحجم: المشرط الذي يشق به موضع الحجامة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بين كتفه مجموعة عظام مثل هيئة بيضة الحمامة، خاتم النبوة، مستدير، بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم، كان جميلاً موقعه، جميلاً شكله، وليس بعاهة ولا تشويه.

هذه الرواية التي رواها الإمام أحمد في سندها رجل مقبول، فذكر نحو حديث عبَّاد بن عبَّاد؛ وحديث عبَّاد أتم وأحسن، وزاد فقال: (فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاه إلى الإسلام، فأبى أن يسلم وتلا هذه الآية: ((إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)) [القصص:56] ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك رسول قوم، وإن لك حقاً -يعني: لا بد أن نكرمك ونضيفك-ولكن جئتنا ونحن مُرْمِلون -يعني: نفذ زادنا في تبوك - فقال عثمان بن عفان: أنا أكسوه حلة صَفُورية -ثوب من قطعتين- وقال رجل من الأنصار: عليَّ ضيافته، يعني: أنا أتكفل بضيافة هذا الرسول).

وقد أورده الحافظ ابن كثير في تاريخه وعزاه إلى الإمام أحمد، ثم قال: هذا حديث غريب وإسناده لا بأس به، تفرد به الإمام أحمد رحمه الله.

وأورده الهيثمي وقال: رواه عبد الله بن أحمد وأبو يعلى ورجال أبي يعلى ثقات، ورجال عبد الله بن أحمد كذلك.

وهناك قصة أخرى تبين أشياء أخرى من التفاصيل رواها الحاكم في المستدرك، وذكرها ابن كثير رحمه الله في تفسيره تحت قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف:157] الآية.

(1/7)

رواية أخرى عند البيهقي في دعوة هرقل للإسلام

يقول: عن هشام بن العاص الأموي قال: [بُعِثْتُ أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام، فخرجنا حتى قدمنا الغوطه -يعني: غوطة دمشق - فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني] والغساسنة عرب، لكن ولاؤهم للروم، وكان الروم قد وضعوا الغساسنة على حدود الجزيرة بينهم وبين العرب، حتى لا يدخل العرب بغاراتهم في بلاد الروم، والغساسنة يكفُون الروم العرب على الحدود، والروم لا يطمعون في أرضهم؛ لأنها صحراء قاحلة.

(1/8)

هشام بن العاص يطلب مقابلة هرقل

يقول: [قدمنا الغوطة -يعني: غوطة دمشق - فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني فدخلنا عليه فإذا هو على سرير اللهو، فأرسل إلينا برسوله نكلمه، فقلنا: والله لا نكلم رسولاً وإنما بعثنا إلى الملك فإن أذن لنا كلمناه، وإلا لن نكلم الرسول، فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك.

قال: فأذن لنا -من هو الذي أذن؟ جبلة بن الأيهم ملك غسان- فقال: تكلموا.

فكلمه هشام بن العاص ودعاه إلى الإسلام فإذا عليه ثياب سود؛ فقال له هشام: وما هذه التي عليك؟ قال: لبستها وحلفت ألا أنزعها حتى أخرجكم من الشام.

قلنا: ومجلسك هذا -والله- لنأخذنه منك ولنأخذن مُلك الملِك الأعظم -يقول هذا المسلم للغساني: سنأخذ مُلكك وملك الملك الأعظم الذي هو قيصر، إن شاء الله أخبرنا بذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

قال: لستم بهم، بل هم قوم يصومون بالنهار ويقومون بالليل، فكيف صومكم؟ فأخبرناه، فمُلئ وجهه سواداً.

فقال: قوموا، وبعث معنا رسولاً إلى الملك، فخرجنا حتى إذا كنا قريباً من المدينة، قال لنا الذي معنا: إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك، فإن شئتم حملناكم على براذين وبغال.

قلنا: والله لا ندخل إلا عليها، فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون ذلك، فأمرهم أن ندخل على رواحلنا فدخلنا عليها متقلدين سيوفنا حتى انتهينا إلى غرفة اللهو، فأنخنا في أصلها وهو ينظر إلينا، فقلنا: لا إله إلا الله والله أكبر، فالله يعلم لقد انتفضت الغرفة حتى صارت كأنها عذق تصفقه الرياح.

قال: فأرسل إلينا ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم، وأرسل إلينا أن ادخلوا، فدخلنا عليه وهو على فراش اللهو وعنده بطارقة من الروم وكل شيء في مجلسه أحمر وما حوله حمرة وعليهم ثياب من الحمرة.

فدنونا منه فضحك، فقال: ما عليكم لو جئتموني بتحيتكم فيما بينكم -لماذا لم تسلموا عليَّ؟ - وإذا عنده رجل فصيح بالعربية كثير الكلام.

فقلنا: إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك، وتحيتك التي تحيَّا بها لا يحل لنا أن نحييك بها.

قال: كيف تحيتكم فيما بينكم؟ قلنا: السلام عليك.

قال: فكيف تحيون مَلِكَكم؟ قلنا: بها.

قال: كيف يرد عليكم؟ قلنا: بها -يعني: وعليكم السلام-.

قال: فما أعظم كلامكم؟ قلنا: لا إله إلا الله والله أكبر، فلما تكلمنا بها والله يعلم لقد انتفضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها.

قال: فهذه الكلمة التي قلتموها حيث انتفضت الغرفة، أكُلَّما قلتموها في بيوتكم انتفضت عليكم غرفكم؟ قلنا: لا، ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك.

قال: لوددت أنكم كلما قلتم انتفض كل شيء عليكم، وأني قد خرجت من نصف ملكي.

قلنا: لِمَ؟ قال: لأنه كان أيسر لشأنها، وأجدر ألا تكون من أمر النبوة، وأن تكون من حِيَل الناس.

ثم سألَنَا عما أراد، فأخبرناه.

ثم قال: كيف صلاتكم وصومكم؟ فأخبرناه.

فقال: قوموا، فأمر لنا بمنزل حسن، ونُزُل كثير فأقمنا ثلاثاً].

(1/9)

هرقل يري هشام بن العاص وصاحبه صور الأنبياء

قال هشام بن العاص: [فأرسل إلينا هرقل ليلاً فدخلنا عليه فاستعاد قولنا فأعدناه، ثم دعا بشيء كهيئة الرضعة العظيمة مذهَّبَة، فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح بيتاً فاستخرج حريرة سوداء فنشرناها، فإذا فيها صورة حمراء، وفيها رجلٌ ضخم العينين، عظيم الإليتين، لم أر مثل طول عنقه، وإذا ليست له لحية، وإذا له ظفيرتان أحسن ما خلق الله.

فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا.

قال: هذا آدم عليه السلام، وإذا هو أكثر الناس شعراً -أي: الروم رسموا الأنبياء بناءً على معلومات عندهم-.

ثم فتح باباً آخر فاستخرج منه حريرة سوداء، وإذا فيها صورة بيضاء، وإذا له شعر كشعر القَطط، أحمر العينين، ضخم الهامة، حسن الهيئة.

فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا.

قال: هذا نوح عليه السلام.

ثم فتح باباً آخر فاستخرج حريرة سوداء، وإذا فيها رجل شديد البياض، حسن العينين، صلت الجبين، طويل الخد، أبيض اللحية كأنه يبتسم، فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا: لا.

قال: هذا إبراهيم عليه السلام.

ثم فتح باباً آخر، فإذا فيه صورة بيضاء، وإذا -والله- رسول الله صلى الله عليه وسلم -الرسمة- فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: نعم.

هذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: وبَكيْنا، قال: والله أعلم أنه قام قائماً ثم جلس، وقال: والله إنه لهو.

قلنا: نعم.

إنه لهو كأنك تنظر إليه.

فأمسك ساعةً ينظر إليها، ثم قال: أما إنه كان آخر البيوت ولكني عجَّلته لكم؛ لأنظر ما عندكم -الصورة هذه كانت في آخر شيء، يعني: هو آخر نبي-.

ثم فتح باباً واستخرج صوراً، وأخبرهم عنها.

ثم قال -في نهاية القصة-: أما والله إن نفسي طابت للخروج من مُلكي، وأني كنت عبداً لأشركم حتى أموت، ثم أجازنا فأحسن جائزتنا وسَرَّحنا.

فلما أتينا أبا بكر الصديق رضي الله عنه فحدَّثناه بما أرانا، وبما قال لنا، وما أجازنا، قال: فبكى أبو بكر وقال: مسكين، لو أراد الله به خيراً لفعل، ثم قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم -يعني: النصارى- واليهود يجيدون نعت محمد صلى الله عليه وسلم عندهم].

الحديث أخرجه البيهقي عن الحاكم رحمه الله في كتاب: دلائل النبوة.

وقال ابن كثير: إسناده لا بأس به.

على أية حال: على فرض صحة هذه القصة فإنها تبيِّن لنا أيضاً شيئاً آخر، لكن الرواية الأساسية هي رواية الإمام البخاري رحمه الله التي تبين أن هرقل فعلاً قارب أن يُسلم، بل هو أوشك على الإسلام، بل هو دعا قومه إلى الإسلام، لكن لما رآهم نفروا وخشي أن يزول ملكه تراجع، وقال بدهائه للروم: كنت أختبر ثباتكم على دينكم.

(1/10)

شرح رواية البخاري في دعوة هرقل للإسلام وفوائد من ذلك

رواية البخاري رحمه الله هي عن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية لما أتى به هرقل ملك الروم في الركب، وهم أولو الإبل العشرة فما فوقها وكانوا تُجَّاراً، والقصة حصلت في مدة صلح الحديبية وكانت في سنة (6) للهجرة، ومدة الصلح عشر سنين؛ لكن قريشاً نقضوا العهد، فالنبي عليه الصلاة والسلام غزاهم سنة (8) للهجرة، يعني بعد الصلح بسنتين، وفَتَحَ مكة، وهذا بعد أن غدروا.

فلما وصلت رسالة النبي عليه الصلاة والسلام لـ هرقل، طلب بعضَ قريش ليسألهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدهم رسولُه ببعض الشام في غزة.

يقول أبو سفيان: كنا قوماً تُجَّاراً وكانت الحرب قد حصبتنا -هذا يدل على أن الحرب أثرت على قريش اقتصادياً- فلما كانت الهدنة - يعني: صلح الحديبية - خرجت تاجراً إلى الشام مع رهط من قريش، فوالله ما عَلِمْتُ بـ مكة امرأة ولا رجلاً إلا وقد حملني بضاعة، فقال هرقل لصاحب شرطته: قَلِّبِ الشام ظهراً لبطنٍ حتى تأتيني برجل من قوم هذا أسأله عن شأنه، يقول أبو سفيان: فوالله إني لفي أصحابي بـ غزة إذ هجم علينا فساقنا جميعاً.

وإيلياء هي: بيت المقدس، وقيل: معناها: بيت الله، وإيلياء: هي التي سار إليها هرقل لما كشف الله عنه جنود فارس، وقد كان مكان ملك هرقل في حمص، فسار من حمص إلى إيلياء -إلى بيت المقدس - مشياً شكراً لله تعالى، وكان سبب ذلك القصة التي جاءت من طرق متعاضدة كما قال ابن حجر رحمه الله وملخصها: أن كسرى أغزى جيشه بلاد هرقل فخربوا كثيراً من بلاده، وكان النصر في البداية للفرس على الروم، ثم استبطأ كسرى أميره فأراد قتله وتولية غيره، فاطَّلع أميرُه على ذلك فباطن هرقل واصطلح معه على كسرى وانهزم عنه بجنود فارس، فكان سبب عودة الكفة في الرجحان للروم انشقاقٌ حصل في الفرس.

فلما حصل ذلك مشى هرقل إلى بيت المقدس شكراً لله تعالى على ذلك.

المهم: أُدخل سفيان ومن معه على هرقل، قال: (فأدخلنا عليه فإذا هو جالس في مجلس ملكه وعليه التاج، وعنده بطارقته والقسيسون والرهبان، ودعا بالترجمان.

فقال: أيكم أقرب نسباً لهذا الرجل الذي -خرج بأرض العرب- يزعم أنه نبي؟ يقول أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسباً) فـ أبو سفيان يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف؛ وعبد مناف هو الأب الرابع للنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك لـ أبي سفيان، فيجتمعان في عبد مناف.

(1/11)

الإسلام دين عالمي

منها: دعوة كل العالم إلى الإسلام وأن الإسلام دعوة عالمية ليست خاصة بالعرب:- الإسلام دعوة عالمية ليست خاصة بـ الجزيرة، فالإسلام للعالمَين، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى من الجزيرة أرسل الرسائل خارج الجزيرة، وبدأت أولى خطوات الجهاد للروم في عهد النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة تبوك، والتحضير لغزو الممالك الأخرى خارج الجزيرة بدأ من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وجيش أسامة بن زيد كان مجهزاً لهذا الغرض.

المهم: أن الإسلام دعوة لكل العالم وليس مختصاً بفئة دون أخرى، والنبي عليه الصلاة والسلام أرسل رسائل دعوة للروم وللفرس ولغيرهم.

(1/12)

ذكاء هرقل في معرفة صدق أبي سفيان

فائدة ثانية: مِن فِعْل هرقل لما جاء بـ أبي سفيان ومعه أقاربه وضعهم وراءه، قال: (إن كذب فكذِّبوه): إن ما أخبر الصدق قولوا بالحقيقة، ولا شك أن القريب أحرى بالاطلاع على الأمور الظاهرة والباطنة من غيره، ثم إنه لا يقدح في نسب قريبه.

لماذا جعلهم وراءه؟ لماذا جعل قوم أبي سفيان وراء أبي سفيان، وليس أمامه؟ لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب، يعني: يكذبوه دون أن ينظروا في وجهه، يقول أبو سفيان: (فوالله لولا الحياء من أن يأثِروا -ينقلوا- عليَّ الكذب لكذبت عليه) وهذا دليل على أن الكذب في الجاهلية كان عيباً كبيراً، وربما كان أبو سفيان يضمن أنهم لو كانوا وراءه لن يكذبوه؛ لأنهم مشتركون في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ما الذي منع أبا سفيان من الكذب؟ حتى لا يُنقَل عن سيد قريش إذا رجعوا أنه كَذَب؛ وهذا عيب كبير.

قال أبو سفيان: (فوالله ما رأيت من رجل قط كان أدهى من ذلك الأقلف) يعني: هرقل، والأقلف: غير المختون.

سأله عن النسب؛ وهذا يدل على أن هرقل يعلم بأن الأنبياء تُبعث في أنساب قومها، حتى لا يطعن أحد في نسب النبي، فيكون معروفاً لدى كل القوم نسب القبيلة التي يُبعث فيهم.

(1/13)

المؤمن لا يرتد عن دينه سخطاً عليه

وكذلك في الحديث: أن الإنسان إذا آمن لا يرتد عن دينه ساخطاً على الدين وإنما يرتد لأسباب أخرى، وهذا في الإسلام، أما في غير الإسلام فإنه يرتد عن الدين سخطاً على الدين، يعني: ربما الواحد يكون الشخص نصرانياً، فيخرج من النصرانية ساخطاً عليها، وآخر يهوديٌ يخرج من اليهودية ساخطاً على اليهودية؛ لأن ما فيها باطل؛ لكن لا يوجد شخص مسلم يدخل الإسلام ويعرفه ويفقهه تماماً، ثم يخرج من الإسلام؛ لأن هناك أخطاء في الإسلام، أو هناك نقاط ضعف في الإسلام، لا يمكن؛ لكن ربما يخرج من الإسلام لأمور دنيوية، ولذلك قال هرقل: هل هناك أحد من المسلمين ارتد عن دينه سخطةً لدينه؟ -يعني: ساخطاً على دينه- لا يوجد، لذلك قال أبو سفيان: لا.

ففي الإسلام قد يرتد الشخص إما لأنه حديث عهد بالإسلام ولم يفقه الإسلام؛ وإما لأنه لا يريد دفع الزكاة، وإما لأنه أُغْرِي بمال، فـ عبيد الله بن جحش الذي ارتد في الحبشة، وكان من مهاجري الحبشة وارتد في الحبشة، إنما ارتد لحظ في نفسه، وليس لأجل ضعف في الدين الإسلامي، وهذه نقطة مهمة، وهي أنه لا يوجد أحدٌ يدخل في الدين -والحمد لله- ويفقهه جيداً فيتركه ساخطاً عليه، وهذا ربما يقع في أديان أخرى، أما في الإسلام فإنه لا يقع، لكن ربما يعني لهوىً؛ كمال، أو أغروه بمنصب مثلاً؛ فهذا يُمْكِن.

(1/14)

تعامل هرقل مع الدسيسة في كلام أبي سفيان

كذلك نقطة مهمة: هرقل عندما قال أبو سفيان: لكن نحن الآن في مدة لا ندري ماذا يصنع فيها محمد صلى الله عليه وسلم، وأدخل هذه الدسيسة يقول أبو سفيان: (فوالله ما التفت إليها مني): هرقل عاقل وذكي، أخذ إجابات أبي سفيان بالنص، والدسيسة التي أدخلها أبو سفيان في الكلام قال: لكن الآن نحن في هدنة لا ندري ماذا يصنع فيها، هذه الدسيسة الوحيدة التي استطاع أن يُدخلها، ومع ذلك هرقل ما التفت إليها.

(1/15)

الغنى والجهل سببان في الصد عن سبيل الله

كذلك في هذا الحديث: أن أتباع الرسل أكثر ما يكونون من الفقراء، لماذا؟ لأن العظماء والأغنياء يصرفهم غناهم وعظمتهم عن الحق؛ لأن الإسلام سيزيل شيئاً من مزاياهم، أو من ميزاتهم، فالآن هرقل لو دخل في الدين سيصبح مسلماً عادياً، يعني: مُلْكُه سيزول، وسيتنازل عن ملكه.

أبو جهل مثلاً: إذا أسلم فإنه سيقلِّد النبي عليه الصلاة والسلام زمام الأمور.

ما الذي منع عبد الله بن أبي من الإسلام، وصار منافقاً؟ كانوا يريدون أن يتوجوه ملكاً على المدينة، فلما جاء الإسلام شرق به وغص، ما هضم القضية، لماذا؟ لأن المنصب الذي كان سيعيَّن فيه حُرِم منه بسبب دخول الدين الجديد إلى المدينة.

إذاً: من أسباب صد كثير من العظماء والأغنياء عن الدين والحق الغنى والجهل، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) يعني: المال والجاه يفسدان دين الإنسان أكثر من إفساد الذئب الجائع للغنم؛ وهذه مسألة مهمة.

(1/16)

الإيمان إذا وقر في القلب فإن صاحبه لا يرتد

كذلك في هذا الحديث: أن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب فإن صاحبه لا ينحرف: ولذلك كثير من المنتكسين ما خالطت بشاشة الإيمان قلوبَهم، أو أنها لم تلازمهم هذه البشاشة وتبقى معهم، ولذلك انتكس.

(1/17)

الخوف على النفس يمنع من اتباع الحق

كذلك في هذا الحديث: أن الخوف على النفس قد يمنع الشخص من اتباع الحق:- هرقل يقول: (والله إني لأعلم أنه نبي مرسل، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته) ولو أن هرقل تفطن إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أسلم تسلم) لكان ما أصابه شيء؛ لكن مع ذكائه ما تفطن لقوله عليه الصلاة والسلام: (أسلم تسلم) مع أنه قال: (لو أني كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم لغسلتُ عن قدميه -يعني: مبالغة في العبودية والخدمة له- وقال: لو علمت أنه هو لمشيت إليه حتى أقبِّل رأسه وأغسل قدميه) وكان وقعُ الرسالة على هرقل كبيراً يقول: (ولقد رأيت جبهته تتحادر عرقاً من كرب الصحيفة) أي: عندما قُرِئ عليه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم.

ومما يقوي أن هرقل آثَرَ مُلكه على الإيمان واستمر على الضلال: أنه حارب المسلمين في غزوة مؤتة سنة (8) هـ بعد هذه القصة بأقل من سنتين، فإن المسلمين نزلوا في معان؛ معان: معروفة في أرض الشام، ونزل هرقل في مائة ألف من المشركين وحدثت غزوة مؤتة.

(1/18)

الاختصار في الدعوة إلى الله

وكذلك فإن في هذا الحديث: أن الإنسان عليه أن يختصر في الدعوة بأسلوب حسن واضح: فإن الرسالة كانت مختصرَة غاية الاختصار: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل.

أدعوك بدعاية الإسلام) يعني: دعوة الإسلام وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

(أسلم تسلم) وهذا في غاية البلاغة.

(يؤتك الله أجرك مرتين): لماذا؟ لأنك تكون آمنت بالنبي الأول، وآمنت بالنبي المبعوث، وكذلك يكون لك الأجر مرتين؛ لأن بإسلامك يمكن أن يسلم أعدادٌ من قومك فتنال مثل أجرهم أيضاً.

(1/19)

فائدة فيمن تجري عليه أحكام أهل الكتاب

وأخذ العلماء من الحديث: أن كل من دخل في دين النصرانية يُجْرَى عليه أحكام أهل الكتاب ولو كان أصلاً ليس من بني إسرائيل: يعني: البوذي الهندوسي إذا تنصَّر هل نأكل ذبيحته؟ نعم.

إذا دخل في الدين، يُجرى عليه حكم أهل الكتاب.

وقال بعض العلماء: الكتابي هو من كان أبواه كتابيين، فهذا الذي تؤكل ذبيحته.

فأهل الكتاب لهم أحكام خاصة مع كفرهم تمييزاً لهم عن بقية المشركين ممن لا أساس لدينهم أصلاً.

وكذلك فإن في قوله: (فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين) وهم الزُّرَّاع والفلاحون الذين كانوا في مملكته، وفيه أن الأصاغر والضعفاء أتباع الأكابر والأقوياء: ويقول لـ هرقل: إذا أصدرت على الكفر فإن كل هؤلاء الضعفاء المقلدين لك في مملكتك من الزُّرَّاع والفلاحين إثمهم عليك، تكسب مثل إثمهم، قال: (فإن عليك إثم الأريسيين).

ففيها: أن من كان سبباً في إضلال غيره فإنه يتحمل مثل إثمه: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13].

{وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25].

{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البقرة:166].

بعض العلماء قالوا: إن في هذا الحديث دليل على جواز قراءة الجنب للآية والآيتين، وبإرسال بعض القرآن إلى الكفار: فإذا لم يقصد الجنب التلاوة جاز؛ كأن يقول الجنب مثلاً: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] وقصد الدعاء فلا حرج، فالجنب لا يجوز له أن يقرأ القرآن عند جمهور العلماء؛ إلا إذا قاله ليس على سبيل التلاوة وإنما على سبيل الدعاء أو الذكر، كأن قال: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف:13] لو ركب دابةً، أو دعا بدعاء هو جزء من آية أو آية.

(1/20)

حصول التأييد للنبي صلى الله عليه وسلم بأشياء كثيرة

كذلك في هذا الحديث: أن التأييد للنبي صلى الله عليه وسلم حصل بعدة أشياء:- حتى من جهة الجن، وحتى من جهة الكهان، وحتى من جهة المنجمين.

يعني: الآن الكهانة والتنجيم ليس فيها علم المستقبل، ولا علاقة للنجوم بالأحداث الأرضية.

ما معنى قول هرقل لما نظر في النجم قال: (هذا ملك هذه الأمة)، أو: (هذا مَلِك الختان) مَلِكُ الختان، أهل الختان، هذا ملكهم؟ أراد البخاري رحمه الله أن يبين أن الإشارات للنبي صلى الله عليه وسلم جاءت من كل طريق، وعلى لسان كل فريق؛ من الكاهن والمنجم، الإنسي والجني، تعاضدت كلها، مع أن علم النجوم والاستدلال بالنجوم على الأحداث الأرضية باطل، والكهنة لا يعلمون الغيب؛ لكن اجتمعت كل الأدلة في وقت المبعث على هذا، يعني: عرفوا النبي عليه الصلاة والسلام بالطرق الصحيحة وبالطرق الباطلة، عرفوا أنه سيخرج، وإلا هرقل كان حزَّاءً ينظر في النجوم ويتكهن، والكهان يستندون إلى إلقاء الشياطين، يعني: ما يلقيه الشيطان في نفس هذا الكاهن، وبعضهم يسترقون الخبر من السماء ويأتونه بالخبر، فطرق الحق وطرق الباطل كلها اجتمعت على خروج وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم.

كان قوم هرقل يظنون أن الختان في اليهود فقط، ولذلك قالوا لـ هرقل: لا تقلق، إذا كنت تخشى من المختونين، المختونون هم اليهود، اكتب إلى كل المدن التي فيها يهود في مملكتك يذبحونهم وتنتهي القضية، لا يُهِمَّنَّك شأنهم، ما كانوا يعرفون أن الختان في المسلمين، ما كانت وصلت الأخبار، ثم وصلت الأخبار بعد ذلك وعُرف عن طريق هذا الرسول الذي جاءهم بالرسالة أن المسلمين يختتنون.

ثم إن ضغاطر -وهو من عظماء الروم- لما بلغه مبعث النبي صلى الله عليه وسلم أظهر إسلامه وألقى ثيابه وخرج على الروم فدعاهم إلى الإسلام وشهد شهادة الحق فقاموا إليه فضربوه حتى قتلوه، ولذلك هرقل خاف أن يلقى نفس المصير، فلم يسلم ثم ركب رأسه بعد ذلك وحارب المسلمين في موقعة مؤتة، فحصل أن بعض عظماء الروم قد أسلموا فعلاً، ولأن قيصر قرأ الكتاب وطواه ثم رفعه، فستكون لدولته بقية، وأما كسرى فلأنه مزق الخطاب، النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليه أن يُمَزَّق ملكه، فلن تكون لهم بقية.

قال السهيلي: أنه بلغه أن هرقل وضع الكتاب في قصبة من ذهب تعظيماً له، وأنهم لم يزالوا يتوارثونه حتى كان عند ملك الفرنج الذي تغلب على طليطلة، ثم كان عند سِبْطِه، قال: فحدثني بعض أصحابنا أن عبد الملك بن سعد - أحد قواد المسلمين- اجتمع بذلك الملك، فأخرج له الكتاب، فلما رآه استعبره، وسأله أن يمكنه من تقبيله فامتنع -امتنع النصراني أن يترك المسلم يقبل الكتاب- فيقال: إن الرسالة -رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل - بقيت عندهم.

(1/21)

بيان حقيقة قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)

والقصة تبين حلقة من حلقات الدعوة التي كانت موجودة عند النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف أنه نفذ قول الله تعالى وأمره بالدعوة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].

وفيها فوائد كثيرة، ذكر بعضها الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح.

فنكتفي بهذا القدر.

ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من المنقادين إلى الحق الحريصين على اتباعه.

والله أعلم.

(1/22)

الأسئلة

(1/23)

حكم كشف الطبيبة على رحم الصائمة

السؤال

هل الكشف على الرحم يضر بالصيام؟

الجواب

لا.

كشف الطبيبة لا يضر بالصيام.

(1/24)

حكم خلع الجلباب عند النساء

السؤال

ما حكم خلع المرأة للجلباب عند النساء؟

الجواب

إذا كانت تأمن من نظر الرجال فلا بأس، وإذا كانت لا تأمن فلا يجوز، وفي خلعه وعيدٌ شديد يُحمَل على مَن خَلَعَتْه وهي لا تأمن من نظر الرجال.

(1/25)

حكم ترك المكان الذي وقعت فيه المعصية

السؤال

هذا يتحدث عن معصية ابتلي بها ولا يستطيع أن ينساها، وترك مكانه من بلده إلى هذا البلد هرباً منها.

الجواب

هذا جزء من التوبة، جزءٌ من التوبة تركُ البلد إلى بلدٍ آخر؛ لأن الرجل الذي قتل مائة نفس، ماذا قال له العالم؟ اذهب إلى بلدة كذا وكذا فإن فيها أناساً يعبدون الله فاعبد الله معهم.

فالخروج من البلد الذي حصلت فيه المعصية أو المعاصي، أو فيه من يزين المعصية أو يعين عليها فإن هذا من تمام التوبة.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

(1/26)

قصة إسلام أبي ذر

الباحث عن الحقيقة، رجل ذو صرامة وشجاعة، يسمع الكلام بنفسه، ويتقصى الحقائق بنفسه، ليس إمعة أينما ذهب الناس ذهب معهم، بل يتحمل الأذى في سبيل دعوته، وهو ذو فطنة في أمره، والباحث عن الحق يصل.

(2/1)

أبو ذر قبل إسلامه

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فحديثنا في هذه الليلة -أيها الإخوة- عن إسلام صحابي جليل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ألا وهو: أبو ذر الغِفاري رضي الله تعالى عنه.

يقول ابن عباس >كما روى البخاري في صحيحه: لما بلغ أبا ذرٍ مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني.

فانطلق الأخ حتى قدمه وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاماً ما هو بالشعر، فقال: ما شفيتني مما أردته.

فتزود وحمل شنةً له فيها ماء حتى قدم مكة، فأتى المسجد فالتمس النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل فرآه عليٌ فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه ولم يسأل واحدٌ منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح ثم احتمل قربته، وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أمسى فعاد إلى مضجعه، فمر به عليٌ فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله، فأقامه فذهب به معه، ولا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان اليوم الثالث فعاد علي على مثل ذلك فأقام معه ثم قال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدنني فعلت؟ ففعل، فأخبره قال: فإنه حقٌ وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي ففعل.

فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري) قال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم.

فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

ثم قام القوم فضربوه حتى أوجعوه، وأتى العباس فأكب عليه وقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار وأن طريق تجاركم إلى الشام، فأنقذه منهم.

ثم عاد من الغد لمثلها فضربوه وثاروا عليه فأكب العباس عليه.

هذا الصحابي الجليل: جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار، وغفار من كنانة، فهو أبو ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه.

هذا الصحابي روى قصة إسلامه ابن عباس، قال لأصحابه يوماً: ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ قلنا: بلى.

قال: قال أبو ذر: كنت رجلاً من غفار -أي: ابن عباس سمع قصة إسلام أبي ذر من أبي ذر.

وقد وردت قصة مشابهة تبين بتفصيلٍ أكثر، كيف بدأت رحلة البحث عن الحق عند أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، وهذه القصة رواها مسلم رحمه الله في صحيحه: خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلون الشهر الحرام فخرجت أنا وأخي أُنيس وأمّنا، فنزلنا على خالٍ لنا، فحسدنا قومه فقالوا له: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أُنيس.

أي: اتهموه في عرضه بزوجته مع هذا الرجل الذي هو ابن أخته، فذكر ذلك لنا.

أي: قال: أنت تذهب إلى زوجتي في غيابي وتدخل عليها، فقلنا له: أما ما مضى لنا من معروفك فقد كدرته -نحن ناس ضيوف نزلنا عليك جئت أنت الآن وسمعت كلاماً من الخارج أن صاحبنا وأخانا هذا يدخل على زوجتك في غيابك، ما عدنا نريد البقاء عندك- أما ما مضى لنا من معروفك فقد كدرته -أي: كدرته بهذا الاتهام- فتحملنا عليه وجلس يبكي -أي: كأنه ندم على الاتهام الباطل- فانطلقنا نحو مكة فنافر أخي أُنيس رجلاً إلى الكاهن، فخير أُنيساً فأتانا بصرمتها ومثلها معها -أي: حصل رهان بينهما عند الكاهن وطلع الحظ والنصيب لأخي أبي ذر، وجاء بطعام زيادة، قال أبو ذر: وقد صليت يابن أخي قبل أن ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين.

قلت: لمن تصلي؟ -لمن كنت تصلي في الجاهلية قبل أن ترى النبي عليه الصلاة والسلام- قال: لله، قال: فأين توجهت؟ -أي: لا إسلام ولا معرفة بالقبلة ولا بالكعبة فأين تتوجه؟ - قال: حيث يوجهني ربي، قال: فقال لي أُنيس: إن لي حاجةً بـ مكة، فانطلق ثم جاء فقال: ما صنعت؟ قال: لقيت رجلاً بـ مكة على دينك يزعم أن الله أرسله، قلت: فما يقول الناس -أي: جماعته وقبيلته الذين حوله ماذا يقولون عنه؟ - قال: يقولون: شاعرٌ، كاهن، ساحر -وكان أُنيس شاعراً- ولقد سمعت كلام الكهنة فما هو بقولهم -يقول لـ أبي ذر: والله سمعت كلام الكهان، وسمعت كلامه ليس بكاهن- ووضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم عليها، والله إنه لصادق.

فلعل أبا ذرٍ رضي الله عنه كان أراد من أخيه أن يأتيه بتفاصيل من كلامه وأخباره، فأرسل أخاه إلى مكة لكن أخاه ما جاء له إلا بشيءٍ مجمل، ما جاء بالتفاصيل الذي تشبع أبا ذر، فلذلك انطلق الأخ الآخر، أرسل أخاً آخر إلى مكة، حتى يأتيه بأخبارٍ أخرى، ولكن الذي رجع به هو أيضاً قوله: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاماً ما هو بالشعر، أيضاً لم يشفِ غليل أبي ذر.

قرر أبو ذر رضي الله عنه أن يذهب بنفسه، ذهب إلى مكة، لكنه يعرف أن قوم محمد عليه الصلاة والسلام يعادونه فكيف يسألهم عنه ويقول: دلوني على محمد؟ يمكن أن يضربوه أو يضللوه، ولذلك من ذكاء أبي ذر رضي الله عنه أنه دخل مكة دون أن يسأل عن النبي عليه الصلاة والسلام مطلقاً، مع أنه جاء لهذه الحاجة الوحيدة.

أبو ذر كان رجلاً سليم الفطرة يبحث عن الحق، أرسل أخاه مرة أو مرتين وما جاء بأخبار كافية، ذهب هو بنفسه لاستقصاء الأخبار، وكان رضي الله عنه فطناً، ففكر أنه لو سألهم عن النبي عليه الصلاة والسلام إما أن يؤذوه، أو يؤذوا النبي عليه الصلاة والسلام بسبب من يقصده من خارج مكة، أو أنهم لا يدلون أبا ذر على مكان النبي عليه الصلاة والسلام ويضللونه، أو يمنعونه من الاجتماع به ويحولون بينه وبينه.

(2/2)

قدوم أبي ذر وإسلامه عند النبي صلى الله عليه وسلم

جاء أبو ذر إلى مكة ودخل الحرم فرآه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، اكتشف بفطنته -مع أنه كان صغير في السن ذلك الوقت- أن رجلاً غريباً جاء إلى الحرم.

والقصة هذه حدثت بعد البعثة بأكثر من سنتين، لأن عمر علي رضي الله عنه في ذلك الوقت تقريباً اثنتا عشرة سنة، يعني علي رضي الله عنه يمارس الدعوة ويكتشف الغرباء الذين جاءوا للسؤال عن النبي عليه الصلاة والسلام وعمره اثنا عشرة سنة، يمارس الدعوة وعمره اثنتا عشرة سنة.

فلما رآه علي رضي الله عنه وعرف أنه غريب؛ جاءه فقال: كأن الرجل غريب؟ قلت: نعم.

فلما رآه تبعه أي: انطلق علي إلى المنزل وانطلق أبو ذر معه، ولكن ما أحد فاتح الآخر بالمطلوب، حتى الآن مرحلة الحذر، أبو ذر ما سأل علياً أين محمد عليه الصلاة والسلام؟ ولا علي سأل الرجل قال: لماذا جئت؟ كل واحد مازال عنده شيءٌ من الحذر حتى علي رضي الله عنه كان يخشى أيضاً على النبي صلى الله عليه وسلم، في النهاية قال علي لـ أبي ذر: أما نال للرجل وفي رواية: أما آن للرجل -ما حان الوقت- أن يعرف منزله؟ فلعل علياً رضي الله عنه أراد أن يقول له: ما آن لك أن توضح مقصودك؟ أما جاء الوقت الذي تبين لي فيه ما هو القصد من مجيئك إلى مكة؟ يقول أبو ذر: قلت: لا.

في البداية، فلما كان اليوم الثالث عاد علي إلى الكلمة، ما آن للرجل أن يعلم منزله وأن يعلم مقصده، أما آن لك أن توضح لي لماذا جئت إلى مكة؟ فـ أبو ذر رضي الله عنه أخذ عليه العهد والميثاق إن أخبره عن السبب الذي حمله على المجيئ إلى مكة أن يرشده إلى السبب أو إلى المقصد الذي جاء من أجله، فأعطاه علي رضي الله عنه العهد والميثاق، فأخبره أنه يريد أن يرى ويقابل النبي صلى الله عليه وسلم.

فـ علي رضي الله عنه حتى لا يؤذي أبا ذر أو النبي عليه الصلاة والسلام؛ بسبب أنه أتى من الخارج، ومعنى ذلك أن الدعوة فيها اتساع حتى أنها خرجت خارج مكة، وهذه مصيبة بالنسبة لكفار قريش أن تخرج الدعوة خارج مكة، ويصبح لها أنصار في القبائل.

فيقول لـ أبي ذر: اتبعني أنت وإذا رأيت شيئاً يريبني سأقوم كأني أصلح نعلي، فتعرف أن الوضع فيه خطر فنتوقف عن إكمال المشوار، ودخل في النهاية ومشى وراءه ودخل معه على النبي صلى الله عليه وسلم فدل علي رضي الله عنه أبا ذر على النبي صلى الله عليه وسلم.

تفاصيل اللقاء وردت في رواية عبد الله بن الصامت قال: قلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، يقول أبو ذر: فكنت أول من حياه بالسلام، قال: من أين أنت؟ قلت: من بني غفار، قال: فوضع يده على جبهته، فقلت: كره أن انتميت إلى غفار، لماذا وضع يده على جبهته؟ وسأله عن مكوثه في مكة كيف كان يطعم؟ وأخبره أبو ذر رضي الله عنه أنه جلس في مكة ثلاثين يوماً قبل أن يراه حتى فطن إليه علي رضي الله عنه وأتى به.

وأنه سأله على أي شيء كان يعيش؟ فأخبره أن كان يشرب من زمزم فقط، وأنه استغنى بها عن الطعام والشراب ثلاثين يوماً وليلة، وأنه تكسرت عكن بطنه؛ لأن الإنسان إذا سمنت بطنه يكون له عكن تظهر من الجانبين ومن الخلف يقسمها العمود الفقري.

وقد قال أحد الصحابة: يا رسول الله! إذا فتح الله عليكم الطائف فعليك ببنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان.

أي: أنها سمينة بنت نعمة، قوية على العمل، وكانت هذه الصفات مرغوبة في المرأة في ذلك الوقت، لا يحبون النحيلة فإنها تقبل بأربع يعني: من الأمام من سمنها وامتلاء جسمها لها أربع عكن من الأمام وتدبر بثمان يعني: من الخلف إذا ولت الأربع التي من الأمام تكون أربع على الجنب الأيمن وأربع على الجنب الأيسر وفي الوسط العمود الفقري، هذا معنى تدبر بثمان.

فالشاهد أن السمن يؤدي إلى وجود العكن في البطن وهي الإنثناءات، فـ أبو ذر رضي الله عنه أنه جلس شهراً عند ماء زمزم واستغنى بها عن الطعام والشراب، حتى سمن وتكسرت عكن بطنه، صار له انثناءات، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ائذن لي يا رسول الله في طعامه الليلة، وأن أطعمه من زبيب الطائف.

فحصل أن أبا ذر جاء معه بزادٍ أولاً من قومه؛ فلما فرغ الزاد أقام بـ مكة عند ماء زمزم، ثم حصل التعرف على النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام أسمعه كلامه وأسمعه القرآن وأسلم أبو ذر رضي الله عنه.

ماذا قال له عليه الصلاة والسلام؟: (ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري).

قال: اكتم هذا الأمر وارجع إلى قومك فادعهم إلى الإسلام، فإذا بلغك ظهورنا على أعدائنا فأقبل، وفي رواية أنه قال له: (إني قد وجهت لي أرضٌ ذات نخلٍ -يعني: سأهاجر إلى أرض ذات نخل- فهل أنت مبلغ عني قومك عسى الله أن ينفعهم بك؟) فذهب أبو ذر رضي الله عنه وحصل أن أسلم معه أخوه أُنيس وأمهما وتوجهوا إلى غفار، فأسلم نصفهم بسبب دعوة أبي ذر الغفاري، عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: اخرج إلى قومك وقال: اكتم هذا الأمر رفض أبو ذر أن يكتمه وقال: لأصرخن بها -أي: كلمة التوحيد- بين ظهرانيهم.

أي: بين المشركين جهاراً، فكأنه فهم أن توجيه النبي عليه الصلاة والسلام له بأن يكتم الأمر هذا ليس على الوجوب، وإنما كأن النبي عليه الصلاة والسلام قال له هذا من إشفاقه عليه، فأراد أبو ذر أن يأخذ بالعزيمة وليس بالرخصة، وأن يعلن فأعلنها.

وكذلك فإنه لما قام وأعلن هذا، قامت قريش فقال بعضهم لبعض: قوموا إلى هذا الصابئ الذي غير دينه وانتقل إلى دين آخر، فضربوه حتى أوجعوه وقال: فضربت لأموت.

أي: حتى أوشكت على الموت، وفي رواية: أنه أغمي عليه فارتفع حتى صار كالنصب الأحمر.

أي: مثل التمثال الأحمر من كثرة الدماء التي سالت بسبب ضربه، فأنقذه؟ العباس رضي الله عنه، قال لهم: طريق تجارتكم يمر على بني غفار فإذا سمعوا أنكم ضربتم صاحبهم، نهبوا قوافلكم حتى تركوه، وفي اليوم الثاني فعل أيضاً كذلك، وفي هذا دلالة على قوته رضي الله عنه.

(2/3)

الفوائد المنتقاة من قصة إسلام أبي ذر

هذه القصة فيها عدد من الفوائد:- أولاً: أن الإنسان يجب عليه أن يبحث عن الحق، ولابد أن يكون هدف الإنسان دائماً البحث عن الحق، سواء في قضية كبيرة مثل الدين، أو في مسألة فقهية فرعية؛ لأن البحث عن الحق هو ديدن المؤمن، ولذلك ترى الكفار الذين يسلمون؛ عددٌ منهم يكونون من الباحثين عن الحق، يقارن بين الأديان ويسأل، ويكون أصلا ًهو يبحث عن الحق، فعندما يقع على دين الإسلام يلتزم به؛ لأنه يراه هو الحق؛ لأن هذا الدين موافق للفطرة.

ثانياً: أن الإنسان في سبيل بحثه عن الحق عليه أن يتحمل المشاق، أبو ذر رضي الله عنه أرسل أخاه أولاً وثانياً ثم ذهب بنفسه وتزود وتعرض لمشاق، وجلس غريباً في مكة ثلاثين يوماً ليس عنده طعام؛ من أجل البحث عن الحق، فالبحث عن الحق يجشم الإنسان المشاق.

ثالثاً: أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم حق يدخل القلب؛ ولذلك فإن أخا أبي ذر لما سمعه عرف أنه الحق وقال: أنا أعرف الكهانة وأعرف الشعر لا هو كاهن ولا شاعر مستحيل! رابعاً: أن الداعية إلى الحق يحرص أعداء الإسلام على تشويه سمعته، لا حظ معي لما سأل أبو ذر أخاه: ماذا يقولون عنه؟ ماذا قال؟ قال: يقولون: شاعر وكاهن وساحر، وقاموس الشتائم عندهم فيه إضافات وقالوا: به جنة، أي: فيه جني، وقالوا: مُعَلَّم، أي: واحد علمه.

ولذلك رد الله سبحانه وتعالى عليهم في القرآن عندما قالوا: محمد يختلف إلى نجار رومي بـ مكة؛ فيعلمه هذا القرآن ويخرج علينا يقوله.

كان هناك نجار رومي نصراني بـ مكة قالوا: إذاً عرفنا مصدر هذا القرآن وهذه السور، فهو يتردد على هذا النجار النصراني الرومي ويأخذ عنه السور، ثم يعلنوها لنا.

فقال الله في القرآن -رد عجيب مفحم- قال: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] قال: هذا النصراني الرومي الذي تتكلمون عنه في مكة أعجمي، رومي، وهذا القرآن لسان عربي مبين، كيف يكون اللسان العربي المبين من الرومي النصراني؟ ولذلك بهتوا؛ لأن السور كانت تنزل رداً على الكفار.

فإذاً: لا بد أن يتحمل الداعية إلى الله تشويه سمعته، والله سبحانه وتعالى قال: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً} [آل عمران:186] هذه سنة الله في ابتلاء أهل الحق لا بد أن تشوه سمعتهم، لابد أن يقال عنهم: فيهم جنون تطرف إرهاب فيهم وفيهم، لا بد أن يقال عنهم ما يشوه سمعتهم، وأعداء الإسلام يركزون على هذا لماذا؟ لكي ينفروا الناس من الدعاة إلى الله وأهل الخير والحق، والعلم، يقولون عنهم: متزمت رجعي متخلف يعيش في العقلية الأولى مجنون وهكذا من الألفاظ الكثيرة الموجودة في القاموس، التي يخرجون بها يومياً في وصف أهل الحق وأهل الدين وأهل الإسلام.

فلا تجد متمسكاً بالدين، إلا ولا بد أن يهاجم، وتشوه سمعته على وجه العموم وعلى وجه الخصوص، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الخلق تعرض لهذا، فما بالك بمن هو أقل منه؟! سبحان الله!! يقولون: عنه الصادق الأمين، وإذا اختلفوا في شيء رجعوا إليه، ومن عنده أمانة يخشى عليها وضعها عنده، يقولون: الصادق الأمين يُوحى إليه، يخرج على الصفا يا بني فلان يا بني فلان، ثم يجتمعون إليه، يقول: إني نذيرٌ لكم بين يدي عذابٍ شديد فيقولون له: كذاب، ساحر، مجنون، كاهن، بالأمس تقولون عنه: الصادق الأمين، اليوم فجأة انقلبت القضية وصار عندكم كذاباً ومجنوناً وساحراً وكاهناً ومُعَلَّماً وبه جنة وو إلخ.

إذاً: لا بد أن يُعلم أن الشخص الذي يسلك طريق الحق لا بد أن يؤذى؛ لأن هذه سنة الله تعالى في ابتلاء أهل الحق.

خامساً: أن الإنسان عليه أن يتقصى الحق بنفسه ولا يركن إلى الآخرين ليأتوه بالأخبار، لأن الأخبار قد تتعرض للتحريف أو للتغيير، أو أن الشخص الذي أرسلته لا يكون بتلك الحكمة فلذلك:

ما حك جلدك مثل ظفرك فتول أنت جميع أمرك

وبالذات في قضية معرفة حقيقة الدين، بعض الناس يعتمدون على الآخرين في جلب الفتاوى، وقد يكون الواسطة غير ضابط فيأتيه بفتوى خطأ، هذه فتوى ودين فعليه بأن يضبط الكلام بنفسه، ويطلب علو السند ويذهب هو بنفسه للسماع من الشيخ أو السؤال.

أما أن تقول فلان عن فلان عن فلان، وهذا فلان عن فلان مثل ما قال أهل الحديث: إذا كان الرواة ممن يلحنون صار الحديث بالفارسية، أي: إذا صار الراوي لحاناً، لحان: أي: يخطئ بالكلام، صار الحديث بالفارسية؛ لأن كل واحد يحرف قليلاً، حتى يصل الكلام في آخر الأمر، كلاماً غريباً جداً، ولذلك تقصي الحقائق يكون من الشخص نفسه.

سادساً: فطنة أبي ذر رضي الله عنه في أنه لم يسأل عن النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة، وإنما انتظر ليتعرف عليه من بعيد، وتقدم ما في هذا من فائدة.

سابعاً: حرص علي رضي الله عنه على تسقط الأخبار والتقاط هؤلاء القادمين؛ لإيصالهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لدعوتهم إلى الله.

ثامناً: فطنة علي رضي الله عنه لما قال: إن شعرت بشيء أو أمر مريب قمت كأني أصلح نعلي أو أريق الماء حتى تعلم أنت أن هناك خطراً أو أن هناك شيئاً غير عادي؛ فنتوقف عما كنا بصدده.

وتاسعاً: أن الإنسان إذا أراد أن يستخرج الشيء المخبوء فإنه يُعرِض ولا يأتي بالصراحة، ربما تريب الشخص الآخر، ولذلك قال: أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ عرض تعريضاً لطيفاً حتى يستخرج به ما عند الآخر.

عاشراً: أن الإنسان إذا أراد أن يأخذ الشيء على وجه الحقيقة أخذ العهد والميثاق، فأنت إذا أردت أن تعرف الكلام على وجه الصحة لو قلت للآخر تعطيني العهد والميثاق وتعاهدني بالله أن تخبرني بالحقيقة، يكون هذا أقرب إلى معرفة الصدق؛ لأن الشخص الآخر قد يكون فيه شيءٌ من الانحراف، فيذكره عهد الله بالأمر ويغلُظ عليه الشيء ويثقل عليه عهد الله والميثاق؛ فيرجع، لكن لو قال له مباشرة: أعطني الحقيقة ربما لا يعطيه، لكن لو قال: أخذت عليك عهد الله وميثاقه أن تخبرني بالحقيقة يكون أقرب إلى معرفة الحقيقة.

الحادي عشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رفيقاً بأصحابه، أي: لما عرف أن أبا ذر جلس شهراً أظهر التأسف لحاله وأظهر التلطف به.

الثاني عشر: كرم الصديق، لأنه عرض وقال: يا رسول الله! أعطني إياه ضيفاً وأطعمه من زبيب الطائف، وكان طعاماً نفيساً بـ مكة آن ذاك.

الثالث عشر: أن إكرام الداخلين الجدد في الإسلام مما يثبتهم على الدين، مثلاً: موظف في الشركة معك أو أحد العمال أسلم حديثاً فينبغي أن تتخطفه نفوس المؤمنين، فكل واحد يعزمه من جهة يقول: تعال عندي وأنت تعال عندي وأنت المرة التي بعدها عندي، عندما يحس الشخص المسلم الجديد أن هناك إخوان صدق له وكل واحد يريد إكرامه من جهة يعظم الدين في نفسه، وتزداد رغبته فيه وتمسكه به.

ولذلك ينبغي أن نكرم المسلمين الجدد، إذا سمعنا بمسلم جديد من هؤلاء سواء فلبيني أو سرلانكي أو أمريكي أو من أي جنسية أسلم، نحاول أن نكرمه كل واحد يدعوه يوماً بالذات الآن في رمضان، كل واحد يدعوه يوماً وهذا موسم، الآن يقبلون على الإسلام؛ لأنهم يتأثرون بالصيام ويرون من أهل البيوت ومن بعض المسلمين من مظاهر الالتزام بالإسلام في شهر الصيام فيُسلم عدد أكبر من الكفار في شهر رمضان، وبالتجربة عدد المقبلين على الإسلام أكثر من غيره، الكفار لما يرون المسلمين في هذه العبادة وهذا الجو الإيماني تزداد رغبتهم في الإسلام ويدخلون فيه فواجبنا أن نكرمهم.

الرابع عشر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على توزيع الدعاة في الجزيرة، وألا يكون كل الدعاة متركزين في مكة؛ لأن من المصلحة أن ينتشر الدين في الجزيرة، وأن يكون هناك بُعد، وأن يكون هناك عمق إسلامي في القبائل، بنو غفار فيهم مسلمون.

الطفيل بن عمرو الدوسي يذهب إلى قومه بني دوس يدعوهم إلى الله، أتى بثمانين بيتاً من دوس أسلموا.

أبو ذر الغفاري ذهب يدعو غفاراً فأسلم نصف القوم.

ومن حكمة النبي عليه الصلاة والسلام أن ليس كل من جاء وأسلم بـ مكة من القبائل الأخرى يقول له: اجلس بـ مكة مكان الاضطهاد والمحنة، لا.

بل كان يقول: اذهب إلى قومك، وأنت اذهب إلى قومك، وفي هذا توزيع الدعاة وهذه سياسة من النبي عليه الصلاة والسلام في غاية الحكمة والحصافة صلى الله عليه وسلم حتى ينتشر الدين في الجزيرة ويعم.

وكذلك الآن لو جاءنا أناس هنا وأسلموا وحسن إسلامهم من الحكمة أن نقول: ارجعوا إلى قومكم؛ لأن الدين إنما ينتشر بالدعاة، ما الذي نشر الإسلام في أصقاع العالم؟ فلم تصل إليها جيوش المسلمين، إندونيسيا أكبر بلد فيه تعداد مسلمين في العالم أسلموا بسبب إرسال الدعاة المسلمين، أو التجار المسلمين الذين نشروا الإسلام في تلك البلدان، وأحد التجار المسلمين كان قد ذهب في الدعوة إلى الله في بلد ففتح دكاناً فيها، في قرية من قرى الهند فصار يداين الناس ويعاملهم بالحسنى والذي عنده ضائقة ييسر ويضع عن هذا ويؤجل هذا وهذا فقير يعطف عليه، فكسب شعبية بين الناس فبعد ذلك لما أحس أنهم قد أحبوه بدأ يدعوهم إلى الإسلام فأسلم على يديه عدد من الناس، فلما أراد عظيم تلك القرية أن يخرجه منها قام أهل البلد عليه وخلعوه، وصار هذا مكانه، فيمكن للإنسان بحكمته بالدعوة إلى الله أن يكون له مجال عظيم في التأثير في الخلق.

وإرسال أبي ذر إلى قومه من باب نشر الدعوة، وحتى لو قضي على الدعوة في مكة يكون هناك في الأرض مسلمون آخرون يقومون بالواجب ونشر الدين، وهذا من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم.

الخامس عشر: جرأة

(2/4)

الأسئلة

(2/5)

كيفية سجود التلاوة

السؤال

هل يجب أن تكون الأعضاء السبعة على الأرض في سجود التلاوة؟ حيث إن بعض الناس يمسك القرآن بيده ويسجد؟

الجواب

من الأخطاء إذا جاء بعض الناس يسجد سجود التلاوة يمسك المصحف بيد ويسجد باليد الثانية، مع أن الذي ينبغي أن يضع الكفين جميعاً على الأرض، ولو أعطى المصحف لشخص بجانبه أو وضعه في الرف ويسجد، أو يضعه على السجاد فلا مانع مادام السجاد نظيفاً والأرض نظيفة وما قصد إهانة المصحف، ما المانع من وضعه على الأرض وهو ما قصد الإهانة والمكان نظيف.

(2/6)

الدعاء على الظالم

السؤال

هل يجوز الدعاء على الظالم أثناء الصلاة؟

الجواب

نعم.

يجوز الدعاء عليه، لكن إذا أراد الأكثر أجراً والأفضل ألا يدعو عليه، يأخذ حقه كاملاً منه يوم القيامة.

السؤال: وإذا قال: اللهم اكفني فلاناً بن فلان؟ الجواب: نعم، لا بأس بذلك، والغلام ماذا قال؟ قال: اللهم اكفنيهم بما شئت.

(2/7)

قراءة القرآن أثناء الحديث

السؤال

هل يجوز قراءة القرآن أثناء الحديث؟

الجواب

الأولى ألا يكون ذلك، حتى لا يحصل تشويش ويقرأ الإنسان في بيته.

(2/8)

قطرة العين للصائم

السؤال

ماذا عن قطرة العين في الصوم؟

الجواب

ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنها لا تفطر.

(2/9)

حكم حلق اللحية

السؤال

نعمل مندوبي مبيعات في شركةٍ يأمرنا المدير بعدم إطلاق اللحية؟

الجواب

لا، هذا لا يجوز، ولا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، لأن عندنا الأوامر في اللحية أوامر مشددة: (أعفو اللحى) (أرخوا اللحى) (وفروا اللحى خالفوا المشركين).

المسألة شديدة، ليست مسألة اختيارية ومخالفة المشركين ليست قضية مباحة بل قضية واجبة، ولم ينقل أن النبي عليه الصلاة والسلام حلق لحيته مرة واحدة، ولا أحداً من الصحابة كلهم، ولا يوجد حديث أن واحداً من الصحابة حلق لحيته أبداً.

فهذا يؤكد أن اللحية شرعاً هي سنة واجبة في هذه الشريعة ولا يجوز إلزام الناس أو اضطهادهم لكي يحلقوا لحاهم كما يفعل بعض هؤلاء يقولوا: ما يتناسب مع العمل، ما شاء الله! كيف لا يتناسب مع العمل؟ هذا دين، الآن تجد اليهود ربما بعضهم يطلقون لحاهم إلى السرة وإذا جاء يركب كمامة غاز اخترعوا له طريقة لكي يركب الكمامة بدون أن يأخذ من اللحية ولا شيء، يعني الذي يريد أن يتمسك بدينه سيتمسك، والذي يريد أن يضيع الدين سيضيع.

(2/10)

دعاء القنوت

السؤال

ما هو دعاء القنوت وهل يجب على المسلم أن يدعو في الوتر في الأيام العادية؟

الجواب

ليس واجباً لكن يستحب أن يدعو في القنوت الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وهو: (اللهم اهدني فيمن هديت إلى قوله: لا منجى منك إلا إليك) فقط، والإمام ينوع ولا يلتزم بدعاء معين، حتى لا يُوهم الناس أن هذه سنة أو دعاء، قاله النبي صلى الله عليه وسلم في الوتر أو في القنوت.

(2/11)

الصلاة بالبسطار

السؤال

ألبس (البسطار) على طهارة وأصلي به الظهر والعصر والمغرب هل هذا صحيح؟

الجواب

نعم صحيح لكن لا تقذر المسجد بهذا (البسطار) السجاد المفروش له قيمة فلا يجوز إتلافه بالأحذية التي فيها وسخ، أما إذا كان حذاءً نظيفاً ليس فيه أي قذارة فيجوز لك أن تدخل به.

(2/12)

الحلف كاذباً

السؤال

هل يحلف الإنسان كاذباً؟

الجواب

لا، لا يجوز الحلف كاذباً، ولو اضطر فإنه يكفر عن يمينه، فلو جاء ظالم قال: فلان عندك؟ قال: ما هو عندي قال: احلف، وما استطاع أن يوري فيحلف ويكفر وابن القيم ذكر عدداً من الأشياء قال: لو قالوا له في النطق بكلمة الكفر: قل كفرت بالله، يقول: كفرت باللاهي ويقصد اللاهي: لها يلهو لاهي، اسم فاعل، ولا يقصد لفظ الجلالة، يقصد اسم فاعل من لها يلهو لاهي، كفرت باللاهي يعني: بالعابث باللاعب، فإن قالوا له سكن قل: كفرت بالله، فيتأول وجهاً من وجوه اللغة وهو جواز حذف الياء عند الوقوف على المعتل الآخر بالياء كنحو قوله تعالى: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72] هي أصلها: قاضي، فيتأول هذا الوجه من أوجه اللغة ويقف يقول: كفرت باللاة، ويتأول ما يأتي، وكذلك إنسان إذا أرادوا أن يحلف على الكذب فلا يحلف على الكذب، بل يوري وإذا ما استطاع أن يوري واضطر للحلف كاذباً عليه أن يكفر عن يمينه.

(2/13)

لبس النقاب في العمرة

السؤال

لبست نقاباً أثناء العمرة وكان عليها غطاء؟

الجواب

وقعت في محظورات الإحرام، وإذا كانت جاهلة فليس عليها شيء، وإذا كانت عامدة عالمة فإن عليها أحد ثلاثة أشياء: أولاً: ذبح شاة.

ثانياً: إطعام ستة مساكين.

ثالثاً: صيام ثلاثة أيام.

{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] مخيرة على التخيير، وإذا كانت جاهلة لا تدري ما عليها شيء.

(2/14)

زكاة الذهب

السؤال

لزوجتي ذهب بمقدار خمسة وثلاثين ألف ريال مهر كيف نخرج زكاته؟

الجواب

نختبر الرياضيات والحساب، كل ألف فيها خمسة وعشرون ريالاً، خمسة وثلاثون ألفاً كم زكاتها؟ [25×35] كم؟ الجواب: على مسئوليتكم، الرجل سيخرج الزكاة فكروا في ذلك، أنتم تحملوا الفتوى!! يقولون: [875].

(2/15)

تفسير قول الله: (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ)

السؤال

ما معنى قول الله تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44]؟

الجواب

الجودي: اسم جبل، قيل هو جبل في العراق أو بين العراق وتركيا استوت عليه هذا السفينة، وأنها بقيت حتى رآها بعض هذه الأمة، وما هو الدليل على بقاء سفينة نوح حتى رآها الناس بعد نوح من القرآن؟ قوله تعالى: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:15] تركناها أي: تركنا السفينة، و (آية) أي: رآها الناس أجيالاً بعد نوح (وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً) لكن الإثبات صعب، مثلاً يقولون: هذا كهف أصحاب الكهف، ولا تستطيع أن تثبت هذا، وكلها ظنون، أو لو قال مثلاً: وجدنا هيكل سفينة نوح قد تكون سفينة أخرى، ما عندنا إثبات، لكنها ظنون والله أعلم، إنما قطعاً أن السفينة بقيت بعد نوح ورآها أجيال من البشرية: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً} [القمر:15] مثل بدن فرعون بقي: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92] وبقي بدنه سليماً، أخرج من البحر الذي غرق فيه ورآه الناس عبر الأجيال، رآه الناس محفوظاً {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92].

(2/16)

قصة موت أبي طالب

قد ينصر الله عز وجل هذا الدين ولو بالكافر، ولكن العبرة هي بنهاية هذا الكافر، فإنه فعل ما فعل في نصرة دين الله ومات على الكفر، فهو في جهنم خالداً مخلداً فيها، وما حدث لأبي طالب هو خير مثال لذلك.

وقد ذكر الشيخ حفظه الله في هذا الدرس الكثير من الفوائد والعبر المستقاة من هذه الحادثة العظيمة، ومن أعظم الفوائد: أن لا إله إلا الله لابد معها من العمل والعلم بها وبشروطها.

(3/1)

أبو طالب وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: هذه القصة التي سنتحدث عنها هذه الليلة -أيها الإخوة- هي قصة وفاة عم النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها من العبر والعظات ما ينبغي أن يتوقف عنده المؤمنون، ويتمعن فيه أهل البصيرة، وقد روى هذه القصة الإمام البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى وغيرهما، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه، أنه أخبره: أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل بن هشام -وأبو جهل كان يكنى في الجاهلية بـ أبي الحكم، فلما كفر لقبه المسلمون بـ أبي جهل، ولا زالت هكذا كنيته إلى قيام الساعة- وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي طالب: وهو في سياق الموت: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أشهد) وفي رواية: (أحاج لك بها عند الله).

فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب! أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه -أي: يعرض عليه لا إله إلا الله- ويعودان الكافران بتلك المقالة، وهي: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ أتترك ملة أبيك؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، وهما يعودان بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، آخر شيء قبل أن يموت، والكلمات النهائية الأخيرة: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك) فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] وأنزل في رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].

أبو طالب اسمه عبد مناف، وهو اسم من أسماء أهل الجاهلية، وقد اشتهر بكنيته، وكان شقيق عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك أوصى بالنبي صلى الله عليه وسلم عبد المطلب عند موته أبا طالب، فكفله إلى أن كبر، واستمر على نصرة النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن بُعث إلى أن مات أبو طالب، وكان موته بعد خروج المسلمين من حصار الشعب، وكان ذلك في آخر السنة العاشرة من البعثة.

وكان يذب عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يرد على كل من يؤذيه، وهو مقيمٌ مع ذلك على دين قومه على الشرك، وقد جاء في أثر ابن مسعود: [وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه] وكان أبو طالب قد قطع على نفسه العهد بحماية النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الذي قال:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا

وكان أبو طالب يعلم حقاً ويقيناً بأن دين النبي صلى الله عليه وسلم دين حق، ويدل على هذا قوله في شعره:

ولقد علمت بأن دين محمدٍ من خير أديان البرية ديناً

لولا الملامة أو حذار مسبةٍ لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً

كان يعلم أن دين النبي عليه الصلاة والسلام خير أديان البرية، ولكن الذي كان يمنعه من اتباعه الملامة وحذار المسبة، أي: لوم قومه له وسبهم إياه.

(3/2)

شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم الخاصة بعمه أبي طالب

سئل النبي عليه الصلاة والسلام: ما أغنيت عن عمك؟ أي: ماذا نفعت عمك أبا طالب وقد كان يحوطك -أي: من الحياطة وهي المراعاة- ويرعاك ويدافع عنك؟ لأن خديجة وأبا طالب ماتا في عام واحد قبل الهجرة بثلاث سنين، وكانت خديجة وزيرة صدق للنبي عليه الصلاة والسلام يسكن إليها، وكان أبو طالب عضداً له وناصراً له على قومه، فلما هلك أبو طالب، نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تطمع في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيهٌ من سفهاء قريش، فنثر على رأسه التراب صلى الله عليه وسلم.

عام الحزن هو العام الذي مات فيه أبو طالب هو وخديجة ولذلك كان وقع المصيبة على النبي عليه الصلاة والسلام مضاعف، ولكن الله سبحانه وتعالى عوضه برحلة الإسراء والمعراج التي كان فيها التخفيف العظيم والتسلية له صلى الله عليه وسلم.

سئل النبي عليه الصلاة والسلام: ماذا نفعت عمك وقد كان يحوطك ويغضب لك؟ فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي نفع عمه به هو أن أبا طالب صار في ضحضاحٍ من نار -الضحضاح هو ما يبلغ الكعب- والمعنى: أنه خُفف عن أبي طالب العذاب، فنُقل أبو طالب من وسط جهنم وجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه.

وقد جاء في حديث مسلم: (إن أهون أهل النار عذاباً أبو طالب له نعلان يغلي منهما دماغه) هذا أهون أهل النار.

وفي رواية للبزار: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (هل نفعت أبا طالب؟ قال: أخرجته من النار إلى ضحضاح منها) أي: شفاعته له أثرت فقط أن يُنقل أبو طالب من وسط النار إلى ضحضاح من نار (يغلي منهما دماغه من الحرارة كما يغلي المرجل بالقمقم) والمرجل: الإناء الذي يُغلى فيه الماء، والقمقم: الذي يُسخن فيه الماء، كما يغلي المرجل بالقمقم كما جاء في بعض الروايات.

(3/3)

عبر وعظات من موت أبي طالب

مات أبو طالب على الكفر، وقد قضى الله تعالى أن الذي يموت على الكفر أنه يخلد في النار ولا يخرج منها، وقطع الله بذلك وقضى به وحكم، قال الله عز وجل: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48].

(3/4)

أحكام من مات على الكفر

إذاً: لا يمكن أن يخرجوا من النار، وماذا يعني هذا أيها الإخوة؟ يعني: أن الذي يموت على الكفر لا يمكن أن يدخل الجنة، ولا يخرج من النار، وقد حاول بعض أهل البدع اختراع بعض الروايات التي يؤيدون بها أن أبا طالب أسلم، وأنه نطق الشهادة في النهاية، لكن الحقيقة أنه لم يفعل.

والدليل على ذلك: أن أبا طالب لما مات -في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والنسائي [جاء ولده علي بن أبي طالب إلى النبي عليه الصلاة والسلام يقول: يا رسول الله! إن عمك الشيخ الضال قد مات].

علي بن أبي طالب من تجرده للحق، والذي مات أبوه، لكن ما منعه أن يقول: [إن عمك الشيخ الضال قد مات] أي: علي يعرف تماماً أن أباه أبا طالب مات على الكفر، ولذلك بعد موته نعته بالضلال، ماذا أفعل به؟ قال: (اذهب فواره) أي: ادفنه، قلت: [إنه مات مشركاً] قال: (اذهب فواره) أي: الكافر يدفن حتى لو كان كافراً، ولا يبقى على وجه الأرض.

ولذلك ألقى قتلى بدر في البئر طوياً خبيثاً منتناً، فيدفن حتى الكافر ولا يبقى على الأرض، لكن لا تغسيل، ولا تكفين، ولا صلاة عليه، يُؤخذ مثل الكلب، ويدفن في حفرة، وهكذا يُفعل بالمرتد عن الدين المستهزئ به، المضاد لدين الإسلام ولشريعة الله، والمعاند التارك لدين الله، وكذا تارك الصلاة بالكلية، والشاك في البعث، والذي أعرض عن دين الإسلام لا يتعلمه، ولا يعمل به، والذي يشك في القرآن، ويسب الرسول، أي أحد من هؤلاء: من سب الله، أو سب رسوله، أو سب دينه، أو شك في الله، أو في اليوم الآخر، أو في كتاب الله، أو من زعم أن شريعة غير الله مثل شريعة الله، أو أحسن، أو أقل، لكن يجوز تطبيقها، أو اعتقد أن غير شرع الله يجوز تطبيقه، أو اعتقد جواز التحاكم إلى غير شريعة الله، أو حكم الجاهلية، من اعتقد ذلك كفر، كل هؤلاء إذا ماتوا ما حكمهم؟ يؤخذ إلى حفرة ويدفن فيها مثل الكلب، لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، ولا يرث، ولا يورث، ولا يدعى له بالمغفرة والرحمة، بل ولا يجوز الدعاء له بالمغفرة والرحمة.

(3/5)

عدم جواز الاستغفار للكافر

من دروس القصة العظيمة: أن القريب إذا مات على الكفر، لا يجوز الدعاء له بالمغفرة والرحمة، لأن الله سبحانه وتعالى قال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ} [التوبة:113] بعدما ماتوا على الكفر {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113].

وبعض الناس أحياناً يقولون: رحم الله فلاناً الفلاني ونحو ذلك، ويكون هذا معلوم كفره، وأنه مات على الكفر، أو مات تاركاً للدين بالكلية، ومع ذلك يترحمون عليه.

أحد الكُتَّاب قال: "وقال برناردشو رحمه الله" فهناك بعض الذين اجتالتهم الشياطين يخلطون الحق بالباطل، ويترحمون على الكفرة.

على أية حال: قد يكون الرجل اسمه محمد وأحمد وعبد الله وهو من أكفر الكفار، والمسألة مسألة عقيدة، فمن اعتقد شيئاً يُضاد دين الله سبحانه وتعالى فإنه كافر.

يقول أحد الناس: أنا أصلي احتياطاً، كيف احتياطاً؟ قال: إذا كان هناك يوم آخر صليت، وإذا لم يكن يوم آخر ما خسرت شيئاً، أي: أنه شاك في البعث.

وأحد الناس تدين ولده، وصار ملتزماً بشريعة الله، وأقبل على الصلاة والعبادة، ورافق أصحاب الصلاح والدين والخير، فلم يعجبه أبوه هذا التدين الشديد، فقال له: على رسلك تمهل، ليس إلى هذا الحد يا ولدي، لماذا؟ ما يدريك ربما لا يكون هناك شيء انظر هذه الكلمة، أي: ربما تعمل وتجتهد وفي الأخير ليس ثمة بعث ولا جزاء ولا حساب ولا جنة ولا نار، وهذه الكلمة كفر أكبر مخرج من الملة.

وكذلك الاستهزاء بالدين، أو سب أهل الدين لأجل دينهم، لا لأجل أشكالهم، أو أشخاصهم، وإنما لأجل دينهم فهذا كفر أيضاً.

وكذلك الرضا بالتحاكم إلى القوانين الوضيعة، واعتقاد جواز التحاكم إلى غير شريعة الله، كل هذا كفر أكبر مخرج عن الملة.

على أية حال! الأشياء التي تخرج من الملة متعددة ذكرها العلماء رحمهم الله، وجمعها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في نواقض الإسلام العشرة، إذا مات الرجل من هؤلاء لا يترحم عليه، ولا يدعى له بالمغفرة والرحمة، هذا أبو طالب الذي نصر الدين، ونصر النبي عليه الصلاة والسلام لا يجوز الاستغفار له.

(3/6)

الحرص على هداية الأقارب خاصة

كان النبي عليه الصلاة والسلام حريصاً على هداية عمه أبي طالب، وهذا درسٌ عظيمٌ لنا أن يحرص الإنسان على هداية أقربائه، أبوه عمه جده ابن عمه ابن أخيه، كل الأقرباء يجب أن يكون الإنسان حريصاً عليهم أكثر من حرصه على هداية بقية الناس، لأنهم أقرباءك، والذين ينبغي أن تُوصل إليهم الخير أكثر من غيرهم: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214].

لما سمع النبي عليه الصلاة والسلام أن أبا طالب على فراش الموت حضره، وفي هذا يؤخذ جواز الذهاب إلى الكافر وهو على فراش الموت لدعوته إلى الله.

ويؤخذ كذلك من الحديث: الحرص على هداية الأقرباء.

ومعنى (حضرته الوفاة) أي: قبل أن يدخل في الغرغرة، وإلا لو كان دخل مرحلة الغرغرة، فلا ينفع الكلام، ولا تنفع التوبة، ولا ينفع الإسلام، وبلغ من حرص النبي عليه الصلاة والسلام أن كرر عليه الدعوة، يقول: (يا عم!) بهذا الخطاب اللطيف، وهذا هو أسلوب الدعوة: (يا عم! قل كلمة أشفع لك بها عند الله أحاج لك بها عند الله أشهد لك بها عند الله).

قل: لا إله إلا الله فقط، وأبو طالب يقول: لولا أن تعيرني قريشٌ، يقولون: ما حمله عليه إلا جزع الموت، لأقررت بها عينك.

الله سبحانه وتعالى إذا قضى على رجلٍ بالضلالة، فلن تملك له من الله شيئاً، ولو أن أهل الأرض اجتمعوا على أن يهدوه من دون الله لا يُمكن أن يهتدي، وهل هناك أحسن أسلوباً من أسلوب النبي عليه الصلاة والسلام؟! أو أحسن دعوة من دعوة النبي عليه الصلاة والسلام؟! أو أحسن طريقة من طريقة النبي صلى الله عليه وسلم؟! ومع ذلك لم يستطع أن يهديه وهو عمه وقريب من الدين، وكان ينصر النبي عليه الصلاة والسلام، وكان يعرف أن دينه دين الحق.

وكان يقول: لولا أن تعيرني قريشٌ، يقولون: ما حمله عليه إلا جزع الموت، لأقررت بها عينك -لقلتها وقرت عينك يا بن أخي- لكن ما قالها.

ويؤخذ من هذا فائدة عظيمة وهي: أن الإنسان لو اقتنع بالإسلام قناعة تامة وأنه دين الحق، ومات على ذلك، فهو في النار خالداً مخلداً فيها، إلا إذا نطق بالشهادتين ودخل في الدين، فقضية الاقتناع لا تنفع في شيء.

أي: هناك بعض الكفار الأجانب يمكن أن نجدهم معنا في الشركات والمصانع والمؤسسات ومع الشرح والدعوة إلى الإسلام يقتنع أن هذا دين الحق، يقول: أنا أوقن تماماً أن دينكم هذا أحسن من دين النصرانية واليهودية والبوذية والمجوسية والهندوسية، وأحسن ملة في الأرض، لكن لا يقول: لا إله إلا الله، ولا يشهد، ولا يدخل في الإسلام، وإذا مات فهو في النار قطعاً.

فقضية الاقتناع العقلي شيء، والدخول في الدين شيء آخر، ولذلك فإن الاقتناع العقلي يعني أنه قريب من الدين وهو قاب قوسين أو أدنى، وعلى البوابة، لكنه لم يدخل، لأنه لم ينطق بمفتاح الجنة (لا إله إلا الله) ولذلك لا بد أن نبين لهم أن القناعة لا تكفي، وكونه يقتنع أن الإسلام دين حق لا يكفي، بل لا بد أن ينطق بالشهادتين.

(3/7)

نصرة الكافر لدين الله

نلاحظ كذلك أن من فوائد القصة: أن الله تعالى قد يقيض للداعية من ينصره من الكفار أكثر من المسلمين، ربما النبي صلى الله عليه وسلم انتفع من حماية أبي طالب وهو كافر أكثر مما انتفع من حماية غيره من المسلمين، فقد دافع أبو طالب دفاعاً نفع النبي عليه الصلاة والسلام، دافع عنه عدد من الصحابة، لكن أبا طالب كان يمنعه من أذى الكفار أكثر بكثير مما كان يمنعه بعض الصحابة.

فالله سبحانه وتعالى قد يقيض للداعية من يمنعه من الأذى ويحوطه ويدافع عنه، وهذا قد يكون من الأقرباء، وهذا فيه درس لنا أن الإنسان يهتم بأقربائه، لأن وشيجة القربى تلعب دوراً مهماً في حماية الداعية ونصرته، وقد يكون للإنسان قريب كافر، ولكن ينتفع به انتفاعاً كبيراً.

النبي صلى الله عليه وسلم واجه مع اليهود في معركة بني النضير، ما هي قصتها؟ اتفق جماعة من اليهود على أن يطلبوا النبي عليه الصلاة والسلام للمناظرة.

يقولون: اخرج إلينا -مثلاً- في ثلاثين من أصحابك، ونخرج إليك في ثلاثين منا، ثم يتلاقى ثلاثة معك، وتعرض ما عندك ونعرض ما عندنا، ولبس اليهود الثلاثة الخناجر للغدر بالنبي عليه الصلاة والسلام وقتله، فأخبرت امرأة من اليهود أخاً لها من الأنصار، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فعلم بالغدر، فلم يخرج إليهم، ثم ذهب وحاصرهم، وقاتلهم وأجلاهم.

إذاً: قد تكون القرابة حتى لو من الكفار تنفع نفعاً عظيماً، فينبغي ألا يفوت القريب ولو كان كافراً، وأن الإنسان يُحسن الصلة بأقربائه حتى الكفار، وأن بعض الكفار يمكن أن ينفعوا المسلمين، وينفعوا الدعوة من حيث لا يتوقع الإنسان، نعم لا يؤجرون على ذلك في الآخرة، لكنهم ينفعون، فلماذا يفوت مثل هذا؟!

(3/8)

هداية التوفيق والإلهام بيد الله

في هذا الحديث من الفوائد العظيمة قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] وفعلاً النبي صلى الله عليه وسلم كم كان يتمنى أن يهتدي عمه الذي حماه ونصره ودافع عنه، ومع ذلك بقي على الكفر ولم يهتد، ولذلك عدد من الأمهات والآباء عندهم أولادهم ضُلال، لا يصلون، ويستعملوا المخدرات، والأب يتمنى أن ولده يهتدي، والأم تتمنى أن ولدها يهتدي، ومع ذلك لا يهتدي، لأن الهداية ليست بأيدي الناس، إنما هي بيد الله تعالى، ولذلك: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام:125].

وإذا قدَّر الله أن يضله فلن تملك له من الله شيئاً، من يهدي الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23] ولذلك كم نتمنى أن يهتدي أناس من العصاة من أقربائنا، ولكن لا يكون باليد حيلة مع الدعوة ومع القيام بواجب النصيحة.

فالإنسان إذا لم يهتد قريبه ماذا يشعر؟ لا يشعر بالحسرة ويتقطع؛ لأنه يعلم بأن الهداية بيد الله، ولذلك قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ِ {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8] {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6] تتقطع نفسك تموت تريد أن تهلك نفسك، لا تهلك نفسك؛ الهداية بيد الله وليست بيدك: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] مع أنه حبيبه وخليله ومصطفاه من خلقه وأمينه على وحيه، أفضل الخلق وأحب الخلق إلى الله محمد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يعطه ما يتمناه في كل شيء.

كان يتمنى أن يهتدي عمه، لكن الله لم يعطه الهداية لعمه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] يلقن الأمة درساً، يقول: هذا النبي أفضل الناس عند الله لم يهد الله له عمه، ولا أعطاه ما يريد في عمه، ومات عمه كافراً ودخل النار، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام شفع في أبي طالب شفاعة خُفف بسببها العذاب عنه تخفيفاً فقط أما الخروج من النار فلا.

(3/9)

استغلال أوقات الشدة في الدعوة

في هذا الحديث كذلك: انتهاز فرصة مرض الشخص وضعفه لعرض الإسلام عليه، لأنه يكون في أحسن الأوضاع التي يُرجى أن يتقبل فيها، لأن الإنسان إذا كان في حال الصحة والقوة ربما لا يلتفت للكلام، وإذا صار في حال المرض والضعف يكون أقرب للتأثر، ولذلك فإن الإنسان إذا انتهز مثل هذه الفرصة يمكن أن يتأثر الشخص المقابل.

وكذلك من عجائب الاتفاق أن الذين أدركهم الإسلام من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم أربعة لم يُسلم منهم إلا اثنان.

وكان اسم من لم يسلم ينافي أسماء المسلمين، واسم اللذين أسلما يوافق أسماء المسلمين، فعماه اللذان أسلما: حمزة والعباس، وعماه اللذان لم يسلما: عبد العزى وعبد مناف.

من هو عبد مناف؟ أبو طالب، ومن هو عبد العزى؟ أبو لهب، فسبحان الله! اتفاق، قدر الله أن اللذين أسلما أسماؤهما: حمزة والعباس، واللذان كفرا أسماؤهما: عبد العزى وعبد مناف.

(3/10)

قبول التوبة ما لم يغرغر صاحبها

كذلك في هذا الحديث: أن التوبة لا تنفع عند الغرغرة، وقبل ذلك تنفع، وأن الإنسان على فراش الموت يمكن أن يهتدي قبل الغرغرة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما عاد شاباً يهودياً في سياق الموت، قال له: أسلم.

فنظر الشاب إلى أبيه اليهودي، قال: أطع أبا القاسم! إشفاقاً من اليهودي على ولده.

اليهودي ملعون ويعرف أنه سيدخل النار، وأشفق على ولده، قال: أطع أبا القاسم، فأسلم الشاب ومات، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من عنده وهو يقول: (الحمد لله الذي أنقذه بي من النار).

(3/11)

أثر قرناء السوء حتى عند الموت

كذلك في الحديث فائدة: وهي أن الراوي عندما وصف كلام أبي طالب، قال: " هو على ملة عبد المطلب " مع أن الأصل أن يقول: " أنا على ملة عبد المطلب " لكن كره الراوي أن يقول: " أنا على ملة عبد المطلب " فقال: " هو على ملة عبد المطلب " حتى لا يتوهم منها أنه هو، أي: الراوي مع أنه يحكي عن غيره، لكنه يقول: " هو على ملة عبد المطلب ".

كذلك في هذا الحديث: أثر قرناء السوء، وهذه فائدة بليغة: حضر أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية عند أبي طالب، وكان الثلاثة كفاراً، مات أبو جهل وأبو طالب على الكفر.

يقول النبي عليه الصلاة والسلام من جهة: (يا عم! قل: لا إله إلا الله) وهما يقولان: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ أتترك دين آبائك وأجدادك؟ أتترك دين أبيك؟ أتموت على غير دين أبيك؟ أثر قرناء السوء هذا درس مهم: أن قرناء السوء كانوا سبباً في دخول الشخص عالم الشقاء الأبدي، ولذلك فهم لا يتركون صاحبهم إلى آخر رمق، ويحاولون فيه.

(3/12)

سنة التدافع بين الحق والباطل

كذلك هذه القصة هذه تمثل حلقة من حلقات الصراع بين الحق والباطل، وبين دعاة الإسلام ودعاة الكفر بين دعاة الخير ودعاة الشر، النبي عليه الصلاة والسلام جاءه يقول: (يا عم! قل: لا إله إلا الله) والأذن الأخرى، والجذب من الطرف الآخر: أتموت على غير ملة عبد المطلب؟ أتموت على غير ملة عبد المطلب؟!! إذاً: صراع بين دعاة الخير ودعاة الشر، وهذا شيء معروف ومشهود في أيامنا هذه، تجد الواحد أحياناً له قرينان {حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} [الأنعام:71] ومن الطرف الآخر الشلة وأهل السوء تعال عندنا تعال معنا اترك أولئك صراع بين الحق والباطل، وهذه سنة إلهية في الحياة إلى قيام الساعة، وهي سنة التدافع: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [البقرة:251].

التدافع بين الحق والباطل هذه سنة إلهية، ولذلك تتقاتل جيوش المسلمين والكفار، ويتواجه دعاة الإسلام والكفر، ويتواجه علماء الإسلام وعلماء الكفار، ويتناظرون المدافعة سنة إلهية لا بد أن تحدث، لا بد أن يكون هناك صراع، وفائدة الصراع أن يتبين الذي يضحي من الذي لا يضحي، يتبين من الذي يقدم للإسلام من الذي يتكاسل، يتبين من الذي ينصر دين الله من الذي يتقاعس عن نصرة دين الله، يتبين أهل الشر من أهل الخير، رءوس الكفر ورءوس الدين تتبين في الصراع.

فالصراع لا بد منه، أما قضية السلام التام في الأرض فلا يوجد إلا في عهد عيسى، لماذا؟ لأنه سينتهي الكفر من الأرض بالكلية في عهد عيسى بعد القضاء على الدجال ويأجوج ومأجوج، ولذلك قال: (وتملأ الأرض من السلم كما يملأ الإناء من الماء، ويصبح الذئب في الغنم كأنه كلبها، ويدخل الوليد يده في الحية فلا تضره، وتكفي اللقحة الفئام من الناس، ويكون الفرس بالدريهمات، ويستظل الناس بقحف الرمانة، وتملأ الأرض من البركة).

ما دام أن الكفر قد انتهى من الأرض، لا يوجد صراع، انتهت المسألة، لكن ذلك لن يستمر، لأن بعد عيسى سيعود الكفر مرة أخرى، ولذلك فإن الصراع بين الحق والباطل شيء مستمر إلى قيام الساعة، ولذلك ينبغي على دعاة الإسلام ألا ييأسوا، ولو رأوا الشخص، أو الشاب ينافسهم عليه أهل الباطل، لا يتركوه لأهل الباطل، النبي صلى الله عليه وسلم لم ييأس، وهو واحد والطرف الآخر أكثر في العدد، ولكنه لم ييأس واستمر في الدعوة إلى آخر لحظة، ونحن كذلك عندما يكون الواحد له صاحب، أو صديق طيب يريد هدايته، ولهذا الصديق أصدقاء سوء ينتبه أن يسلمه إليهم، أو يتركه لهم، بل يبقى على دعوته إلى آخر لحظة، النبي عليه الصلاة والسلام اشتغل بدعوة عمه إلى آخر لحظة.

يجب أن يتميز الداعية بطول النفس في الدعوة إلى آخر لحظة.

ونلاحظ كذلك أن الحوار كان سجالاً، يقول: "فلم يزل يعرضها" أي: لا إله إلا الله مراراً، ويعيدانه إلى الكفر بتلك المقالة، كلما عرض عليه لا إله إلا الله، عرضوا عليه الكفر مرةً أخرى حتى قال: على ملة عبد المطلب، ومات.

(3/13)

اقتداء النبي عليه الصلاة والسلام بإبراهيم في استغفاره لأبيه وأمه

كذلك في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم في البداية كان يقتدي بأبيه إبراهيم الذي استغفر لأبيه وهو مشرك: {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} [مريم:47] فبالمقابل وبالمثل فإن النبي عليه الصلاة والسلام استغفر لعمه أبي طالب لما نزل قول الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة:113] ونزل أيضاً: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} أي: إبراهيم {أَنَّهُ} أي: أبوه آزر {عَدُوٌّ لِلَّهِ} أي: عندما مات على الكفر {تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:114].

إذاً: إبراهيم لم يستمر يستغفر لأبيه، ولما تبين له أن أباه مات على الكفر تبرأ منه، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة:113] لأن الدين والعقيدة فوق القرابات.

النبي عليه الصلاة والسلام لم يستطع أن يستغفر لأمه، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً إلى المقبرة، فجاء حتى جلس إلى قبر منها، فناجاه طويلاً، ثم بكى، فبكى الصحابة لبكائه، ورحموه من شدة بكائه عليه الصلاة والسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي، واستأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي) لأن أمه ماتت على الكفر، فأنزل عليَّ {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة:113] رواه الحاكم وابن أبي حاتم، عن مسروق، عن ابن مسعود.

وأخرج أحمد من حديث ابن بريدة عن أبيه نحوه، وفيه: (نزل بنا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن معه قريب من ألف راكب -نزلوا في الطريق عند قبر- لما قدم مكة، ووقف على قبر أمه حتى سخنت عليه الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها، فنزلت الآية: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة:113]).

ولما جاء أعرابي، قال: (يا رسول الله! أين أبي؟ قال: "في النار" فلما خرج ناداه النبي عليه الصلاة والسلام، وقد رأى أنه تأثر، قال: أبي وأبوك في النار).

لا توجد مجاملات في الدين، فالعقيدة فوق القرابات، أبوه وأمه وعمه، لكن في النار، لأنهم كفار ماتوا على الكفر، ولذلك الإنسان فعلاً يصاب بالحسرة والأسى؛ خصوصاً عندما يكون له أب مشرك، أو أم كافرة، لكن ماذا يفعل؟ لا توجد طريقة، إذا قضى الله بالضلالة عليهم، فلا يملك لهم من الله شيئاً.

وهذا من الإعجاز، والله يُعجز خلقه ويبين لهم أن الهداية بيده لا بأيديهم.

(3/14)

معنى لا إله إلا الله

نأتي إلى فائدة عظيمة وهي: معنى لا إله إلا الله، لو قال شخص: حسناً! وماذا كان يُقدم أو يُؤخر لو أن أبا طالب قال: لا إله إلا الله وتنتهي المشكلة؟ لماذا أصرَّ أبو جهل وصاحبه على منع أبي طالب من أن يقول الكلمة؟ مع أنه سيقول فقط كلمة ويموت، أو عبارة ويموت؟! الإجابة: لأن أبا جهل وصاحبه يعلمان معنى (لا إله إلا الله) أكثر مما يعلمها اليوم كثيرٌ من المسلمين.

لماذا أبو جهل لم يترك أبا طالب يقول: لا إله إلا الله! وهي كلمة ثم يموت ويذهب؟ لأن أبا جهل يعلم أن هذه الكلمة معناها: الانخلاع من الطواغيت، الكفر بهبل واللات والعزى ومناة، الكفر بالآلهة كلها هذه التي عند الكعبة، والاعتقاد فقط بأن الله وحده هو المستحقٌ للعبادة، وأن لا إله إلا الله هي متضمنة للكفر بما يعبد من دون الله، وأن لا إله إلا الله ليست مجرد كلمة باللسان بل كان معناها عند الكفار واضح جداً وهي الانتقال من دين إلى دين، والدخول في هذا الدين الجديد، ولا معبود بحق إلا الله.

أي: عندما يشهد الإنسان أنه لا إله إلا الله، وأنه لا معبود بحق إلا الله، معناها: أنه يَكْفُر بجميع ما عُبد من دون الله.

معناها أنه يُعلن البراءة من أديان الكُفر وملله، ومن الأصنام والطواغيت والأنداد التي تعبد من دون الله، وأن هذه الكلمة تتضمن وتقتضي توحيد الله بالعبادة، وصرف العبادة لله فقط، إنهم كانوا يفقهون معناها فقهاً كبيراً، وكانوا يعرفون ماذا تعني شهادة أن لا إله إلا الله، ولذلك كانوا يصرون على منع أبي طالب من قولها.

وفي الحديث بيان أن لا إله إلا الله ليست مجرد كلمة، وإنما اعتقادٌ بمعناها أيضاً، وأن المطلوب من أبي طالب لم يكن مطلوباً منه فقط أن يقولها بلسانه، وإنما أن يعتقد معناها أيضاً، ولذلك أصرّ أبو جهل وصاحبه، وبالتالي لم يتكلم أبو طالب بها؛ لأنها كانت تعني كما يقول: لو قلتها، سيترتب عليها أشياء، والأشياء التي ستترتب عليها سأعاب بها ويذمني قومي ويلومونني ويسبونني، ويقولون: قالها خوف الموت ترك ملة أبيه، فهذا كله من عظمة كلمة: (لا إله إلا الله) وأن معناها بخلاف ما يظنه كثيرٌ من الناس أنها مجرد كلمة، ليست القضية قضية تلفظ فقط، وإنما اعتقاد لمعنى لا إله إلا الله، وأن بعض الكفار أعرف بتفسيرها من بعض المسلمين.

(3/15)

الأعمال بالخواتيم

أبو طالب له أعمال جليلة كثيرة، لكن ماذا استفاد؟ لا شيء، الأعمال بالخواتيم، فما دام أنه مات على الكفر، إذاً قُضي عليه بالخلود في النار، فإن قال قائل: ما هي شروط لا إله إلا الله؟ وما هو ملخص هذه الشروط؟

الجواب

أنها قد جمعت في قول حافظ حكمي رحمه الله تعالى:

العلم واليقين والقبول والانقياد فادر ما أقول

والصدق والإخلاص والمحبة وفقك الله لما أحبه

فشروط لا إله إلا الله: 1 - العلم: العلم بمعناها.

2 - اليقين: أن يوقن القلب بهذا المعنى.

3 - القبول: أي: الرضوخ لهذا المعنى، والاستسلام لهذه العبارة.

4 - الانقياد: اتباع ما تقتضيه العبارة من صلاة وزكاة وصيام وحج وتحاكم إلى شريعة الله إلخ.

5 - الصدق.

6 - عدم النفاق، أي: الإخلاص لله عز وجل في جميع العبادات.

7 - المحبة، أي: محبة الله عز وجل، لأنه المألوف المحبوب المعبود.

وفقك الله لما أحبه.

هذه بعض الدروس التي اشتملت عليها قصة وفاة أبي طالب على الشرك، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا ويهدي أولادنا وذرارينا وأقربائنا إلى الحق والإسلام والدين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد.

(3/16)

الأسئلة

(3/17)

تطيب النساء عند الخروج

السؤال

أرجو التنبيه على أنه يوجد في المسجد امرأتان أحضرتا مبخرتين لتبخير المسجد تريدان الأجر، ولكن المصليات والحاضرات قد تبخرن واختنقن من رائحة البخور؟

الجواب

هذا يحتاج إلى تنبيه من جديد، لأنه لا يجوز للمرأة أن تتطيب، والتي تأتي إلى المسجد متطيبة، ثم تمر بالرجال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنها زانية، أي: عليها إثم الزنا، وأما التي وضِعَ لها البخور بدون قصد، ولا إرادة، وأجبرت عليه، فليس عليها شيء إن شاء الله، والإثم على من أحضره إلى النساء، فهي التي تأثم.

على أية حال: أظن -والله أعلم- أن هاتين المرأتين جاهلتين بالحكم وإنما قصدتا الخير، ولكن كما قال ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: [كم من مريد للحق لم يدركه] كم من مريد للخير لكنه لا يُوفق للخير.

(3/18)

حكم الجماعة الثانية للعشاء مع وجود جماعة التراويح

السؤال

أتينا المسجد ولم ندرك صلاة العشاء، فوجدنا جماعة من الشباب، فنهانا أحدهم وقال: صلوا العشاء مع صلاة التراويح، فما حكم ذلك؟

الجواب

ليس هو نهياً للتحريم والإلزام، ولكن إذا دخلت معهم منعاً للتشويش فهو الأحسن، وإذا صليت مع جماعة في الخارج بحيث لا تشوش على المصلين في صلاة التراويح أيضاً فلا بأس بذلك.

(3/19)

الصدقة دون علم المتصدق عنه

السؤال

هل يجوز أن نتصدق عن أحد دون علمه؟

الجواب

نعم يجوز ذلك.

(3/20)

إقناع النفس بأنها أفضل من غيرها

السؤال

أحياناً الشيطان يوسوس لي أنك أحسن من غيرك، فغيرك لا يصلي وأنت تصلي، وغيرك لا يقرأ القرآن وأنت تقرأ القرآن؟

الجواب

كل إنسان أحسن من الذي هو أردى منه، لا شك في ذلك، فحتى الذي لا يصلي أحسن من الشيوعي الملحد، والذي لا يصلي ويعتقد أن هناك خالق أحسن من الذي يعتقد أنه لا يوجد خالق، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام أمرنا في الدين أن ننظر إلى من هو فوقنا، وفي الدنيا أن ننظر إلى من هو أسفل منا أمرنا في الدين أن ننظر إلى من فوقنا حتى نزداد في العبادة ونقتدي، وفي الدنيا أن ننظر إلى من هو تحتنا؛ لأجل أن نعرف نعمة الله علينا، لا أن نعكس القضية فننظر في الدين إلى من هو أسفل منا، ونقول: الحمد لله! نحن في خير، فغيرنا ملاحدة وشيوعيين، وننظر في الدنيا إلى من فوقنا ونقول: يا حسرة! يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون! إذاً: الناس عكسوا القضية، أصبح -الآن- الذي يصلي في المسجد يقول: أنا أحسن من الذي يصلي في البيت، والذي يصلي في البيت يقول: أنا أحسن من الذي لا يصلي، والذي يصلي أحياناً يقول: أنا أحسن من الذي لا يصلي إلا الجمعة، والذي يصلي الجمعة يقول: أنا أحسن من الذي لا يصلي أبداً، والذي لا يصلي أبداً يقول: أنا أحسن من الملحد واليهودي والنصراني! واليهودي والنصراني يقول: أنا كتابي أحسن من الشيوعي، فهذه المسألة لا تنتهي، ولا يمكن أن أحداً يُفكر بهذه الطريقة إلا الكسالى والمقصرين وأرباب المعاصي والفسوق الذين يريدون أن يقنعوا أنفسهم أنهم في خير وعافية.

(3/21)

السبب الحقيقي لغزوة بني النضير

السؤال

يقول: أليست قصة بني النضير في رجل كان يريد إلقاء الحجر على النبي صلى الله عليه وسلم؟

الجواب

هذه القصة ضعيفة، وردت بإسناد فيه ضعف، ولكن الرواية الصحيحة التي رواها أبو داود هي قضية اشتمال اليهود على الخناجر هي سبب الغزوة الحقيقي، رواها أبو داود والحديث صحيح، وأشار الحافظ إلى صحتها في الفتح وكذلك الألباني.

(3/22)

إعطاء الزكاة لمن لا يكفيه راتبه

السؤال

لي أحد الأقارب حالته صعبة، وراتبه لا يكفي آخر الشهر؟

الجواب

إذا كان لا يكفيه فيعطى من الزكاة، وإذا كان يكفيه لا يُعطى.

(3/23)

أخذ النقود من الوالد دون علمه

السؤال

لقد كنت آخذ نقوداً من جيب والدي من دون علمه وأنا لا أدري كم ريال؟

الجواب

تقدرها وتعيدها إليه، ويجوز أن تعيدها خفية كما أخذتها خفية.

(3/24)

قراءة المأموم بالفاتحة خلف الإمام

السؤال

في الصلاة الجهرية هل أقرأ الفاتحة خلف الإمام؟

الجواب

يكفي قراءة الإمام، كما هو مذهب مالك ورأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

(3/25)

فائدة شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه

السؤال

كيف نفع أبو طالب عمله بأن خُفف عنه العذاب وهو مشرك؟

الجواب

لأن المشرك لا يخرج من النار وهذا لا يخرج من النار بل هو مخلد فيها، نفعه بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فقط، والشفاعة كانت محدودة بشيء معين وهو التخفيف، أما أنه يخرج فلا.

(3/26)

وجه اتخاذ النبي أبا طالب ناصراً له ومعيناً

السؤال

هل اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم أبي طالب ناصراً له ومعيناً يتنافى مع موالاة الكفار، أو مع تحريم موالاة الكفار؟

الجواب

كلا.

لأن الموالاة المحرمة التي فيها محبة لهم، ومحبة لدينهم، ورضاً بباطلهم، وتنازل عن شيء من ديننا، أما أن الإنسان يُقيض له قريب مشرك كافر يدافع عنه، فهذا تأييد من الله.

وكذلك المحبة الطبيعية التي تكون بين المسلم وقريبه الكافر محبة طبيعية ليس فيها ما ينافي الدين، فلو أن مسلماً تزوج كتابية محصنة، ما حكم النكاح؟ صحيح حسناً ليس هناك بين الزوجين محبة؟ هل حبه لها ينافي التوحيد؟ أبداً، لأن هذا من جنس المحبة الطبيعية، مثل: محبة الإنسان مثلاً للحم المشوي، أحدهم يحب العنب، هذه محبة ليس لها علاقة بالعقيدة، هذه محبة طبيعية من ميل نفسي، فمحبات القرابة، أو الزوجية، إذا كان أحد الطرفين مسلماً محبة طبيعية ليس فيها ما ينافي العقيدة.

ثم إن أبا طالب الإنسان يكره عقيدته ولا شك، فهو يحبه من وجه ويبغضه من وجه، قد يحبه محبة طبيعية من جهة القرابة، ويبغضه على دينه الذي هو عليه وعلى عقيدته التي هو عليها ولا شك.

أما محبة الأخوة الدينية، أو المحبة التي وردت: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] التي تربط بين الناس لا يمكن أن تكون لـ أبي طالب، ولا لغيره.

على أية حال: كون الله قيض لنبيه أبا طالب يدافع عنه، هذا لا ينافي الموالاة.

(3/27)

كتاب نهج البلاغة

السؤال

ماذا تعرف عن كتاب نهج البلاغة؟

الجواب

نهج البلاغة كتاب سمٌ مسمومٌ يحذر منه، منسوب إلى علي رضي الله عنه وأرضاه، وعلي رضي الله عنه وأرضاه بريء من كثيرٍ مما فيه.

(3/28)

رد المرأة على الهاتف

السؤال

ما حكم إذا ردت المرأة على الهاتف وأجابت عن سؤال؟ الجواب: إذا لم يكن خضوع بالقول وكان للحاجة، فلا بأس.

(3/29)

زيارة العديل لمنزل عديله

السؤال

ما هي آداب زيارة العديل لمنزل عديله؟

الجواب

المقصود بالعديل هنا عند الناس هو: زوج أخت الزوجة، فيقولون: هذان عديلان، أو هؤلاء عدلاء، أي: أزواج لأخوات، فإذا زارها في بيتها، أولاً لا يجوز الخلوة بالمرأة وهي أخت زوجته، لأنها ليست من المحارم، وليست من المحرمات عليه على التأبيد، فإذاً لا يجوز الخلوة بها، ولا النظر إليها ولا الاختلاط بها.

(3/30)

البسملة في أوائل السور

السؤال

إنسان بدأ السورة، ولكن لم يسم ما حكم ذلك؟

الجواب

قراءته صحيحة، والسنة أن يسمي من أول السورة.

(3/31)

استقبال القبلة عند قراءة القرآن

السؤال

ما حكم استقبال القبلة عند قراءة القرآن؟

الجواب

ليس واجباً، فلو قرأ إلى غير القبلة فقراءته صحيحة.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد.

(3/32)

قصة الثلاثة العظماء الذين أخرجهم الجوع

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شظف من العيش، وشدة من المعاناة ومما يدل على ذلك: قصة خروجه صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وعمر من شدة الجوع، حتى استضافهم أبو الهيثم بن التَّيْهان.

هذا الحديث هو ما تكلم عنه الشيخ حفظه الله، فقد ذكر فوائد عظيمة مستفادة من هذا الحديث، ثم تكلم عن الضيافة وآدابها وما يتعلق بها؛ مذكراً بموقف إبراهيم عليه السلام مع أضيافه.

(4/1)

حديث خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر واستضافة أبي الهيثم لهم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فحديثنا في هذه الليلة -أيها الإخوة- عن الثلاثة العظماء الذين أخرجهم الجوع: نبي، وصدِّيق، وشهيد وكان ذلك في الصدر الأول من هذه الأمة المرحومة المكرمة بهذا النبي العظيم.

روى هذه القصة الإمام الترمذي -رحمه الله تعالى- في هذا الحديث الصحيح: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ساعةٍ لا يخرج فيها ولا يلقاه فيها أحد، فأتاه أبو بكر فقال: ما جاء بك يا أبا بكر؟ فقال: خرجت ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنظر في وجهه والتسليم عليه، فلم يلبث أن جاء عمر، فقال: ما جاء بك يا عمر؟ قال: الجوع يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا قد وجدت بعض ذلك، فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم بن التَّيْهان الأنصاري، وكان رجلاً كثير النخل والشاء، ولم يكن له خدم، فلم يجدوه، فقالوا لامرأته: أين صاحبكِ؟ فقالت: انطلق يستعذب لنا الماء، فلم يلبث أن جاء أبو الهيثم بقِربة يزعبها، فوضعها، ثم جاء يلتزم النبي صلى الله عليه وسلم ويُفَدِّيه بأبيه وأمه، ثم انطلق بهم إلى حديقته، فبسط لهم بساطه، ثم انطلق إلى نخلةٍ، فجاء بقِنْوٍ فوضعه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلا تنقَّيتَ لنا من رُطَبه؟ فقال: يا رسول الله! إني أردتُ أن تختاروا، أو قال: تخيروا من رُطَبه وبُسْره، فأكلوا وشربوا من ذلك الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تُسألون عنه يوم القيامة؛ ظل بارد، ورُطَب طيب، وماء بارد.

فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعاماً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تذبحن ذات دَرٍّ، قال: فذبح لهم عَناقاً أو جَدْياً، فأتاهم بها، فأكلوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك خادمٌ؟ قال: لا، قال: فإذا أتانا سبي فائتنا، فأُتي النبي صلى الله عليه وسلم برأسَين ليس معهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اختر منهما.

فقال: يا نبي الله! اختر لي.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن المستشار مؤتمَن، خذ هذا، فإني رأيته يصلي، واستوصِ به معروفاً، فانطلق أبو الهيثم إلى امرأته، فأخبرها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت امرأته: ما أنت ببالغٍ ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تعتقه، قال: فهو عتيق، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاًَ، ومن يوقَ بطانة السوء فقد وُقِي) قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله: هذا حديث حسن صحيح.

(4/2)

شرح بعض ألفاظ الحديث

هذا الحديث يقول فيه أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (خرجت ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنظر في وجهه، والتسليم عليه، فلم يلبث أن جاء عمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما جاء بك يا عمر؟ قال: الجوع يا رسول الله).

وفي رواية مسلم: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ أو ليلةٍ فإذا هو بـ أبي بكر وعمر، فقال: ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟) الساعة غير المعتادة التي لا يخرج فيها الناس عادة.

(قالا: الجوع يا رسول الله! قال: وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما) وهذا فيه بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وكبار أصحابه من التقلُّل من الدنيا، وما ابتُلوا به من الجوع وضيق العيش في أوقات (فقال لهم: فانطلقوا إلى منزل أبي الهيثم الأنصاري): وأبو الهيثم رضي الله عنه، اسمه: مالك بن التَّيْهان أو ابن التَّيِّهان.

قال أبو هريرة: (وكان رجلاً كثير النخل والشاء -والشاء هي الغنم، جمع شاةٍ- ولم يكن له خدم، فما وجدوه، فقالوا لامرأته: أين صاحبكِ؟) وفي رواية مسلم: (فلما رأته المرأة قالت: مرحباً وأهلاً! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين فلان؟ فقالت: خرج يستعذب لنا الماء): أي: يطلب لنا الماء العذب الذي لا ملوحة فيه.

(ثم بعد ذلك جاء أبو الهيثم رضي الله تعالى عنه بقربةٍ يزعبها) ومعنى (يزعبها) أي: إنه احتملها وهي ممتلئة، يتدافع بها ويحملها لثِقَلِها.

فلما رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم هشَّ له غاية الهشاشة، والتزمه وعانقه وضمَّه إلى نفسه، ثم انطلق بهؤلاء الثلاثة الضيوف الكرام إلى حديقته، الروضة ذات الشجر، فجاء بقِنْوٍ وهو: العِذْق من الرُطَب، فجاءهم بعِذْق فيه بُسْر وتَمْر ورُطَب، ولما جاء به وضعه بين أيديهم (فقال عليه الصلاة والسلام: أفلا تنقَّيت لنا من رُطَبه؟ -أي: اخترتَ لنا من الرُطَب- فقال أبو الهيثم: إني أردتُ أن تختاروا أو تخيروا من رُطَبه وبُسْره) وثمر النخلة عندما يطْلُع يكون طَلْعاً، ثم بعد ذلك يصبح بَلَحاً، ثم بعد ذلك يصبح بُسْراً، ثم بعد ذلك يصبح رُطَباً.

(ولما أكل النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تُسألون عنه يوم القيامة) وفي رواية مسلم: (فلما أن شبعوا وروَوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر وعمر: والذين نفسي بيده لتسألُنَّ عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم!).

ولما أراد الرجل أن يذبح لهم شاةً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تذبحنَّ ذات دَرٍّ) أي: ذات لبن، وفي رواية مسلم: (إياك والحلوب، فذَبَح لهم عَناقاً -وهي الأنثى من أولاد المَعْز- أو جَدْياً -وهو الذكر من أولاد المَعْز- وقدَّمه إليهم، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك خادم؟ -لأن هذا المال يحتاج إلى من يخدمه- قال: لا، فقال: فإذا أتانا سبي -أي: مِن أسارى المشركين- فائتنا، فجيء للنبي عليه الصلاة والسلام برأسين من العبيد، وجاء أبو الهيثم، فقال عليه الصلاة والسلام: اختر منهما -اختر واحداً منهما- فقال: اختر لي يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم -توطئةً وتمهيداً قبل الاختيار-: إن المستشار مؤتمَن) أي: إن الذي يُطلَب منه الرأي وتطلب منه النصيحة لا بد أن يؤدي الأمانة، ولا يجوز له أن يخون المستشير بأن يكتم ما فيه مصلحة له.

فأشار عليه الصلاة والسلام إلى واحدٍ منهما وقال: (خذ هذا، فإني رأيته يصلي) ظهر على هذا الأسير آثار الصلاح، وكان يصلي، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فأعطاه هذا الرجل، وقال له: استوصِ به معروفاً أي: اصنع به معروفاً، وأحسن إليه.

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أعطاه هذا العبد، رجع إلى بيته فقال لامرأته: (إن النبي عليه الصلاة والسلام أوصاني بأن أستوصي به خيراً.

فقالت المرأة: ما أنت ببالغٍ ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تعتقه -أي: أحسن شيء تستوصي به خيراً أن تعتقه- فقال الرجل: هو عتيق) متى ما تلفظ الإنسان بالعتق وقع العتق.

فقال النبي عليه الصلاة والسلام على إثر ذلك: (إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفةً إلا وله بطانتان) والبطانة: هم خاصة الرجل الذين يعرفون أسراره لثقته بهم، شبَّههم ببطانة الثوب؛ لأن البطانة مما يلي الجسد من الداخل، فشبه الخاصة -المجلس الخاص للإنسان، أصحاب سره وأهل ثقته- شبههم بالبطانة مِن قُرْبِهم للرجل ومِن علمهم بباطنه وحقيقة أمره وأسراره، هؤلاء هم البطانة.

قال: (إن الله لم يبعث نبياً إلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف -وهو ما عرفه الشرع وحكم بحسنه- وتنهاه عن المنكر -وهو ما أنكره الشرع ونهى عن فعله- وبطانة لا تألوه خبالاً) أي: لا تقصِّر في إفساد أمره، كقوله تعالى: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران:118] يأمرونه بالشر، ويسعون في إفساده.

(ومن يوقَ بطانة السوء فقد وُقِي).

هل النبي عليه الصلاة والسلام وهو نبي له بطانتان؟ قيل: إن المراد بالبطانتين في حق النبي: الملَك، والشيطان، وشيطان النبي عليه الصلاة والسلام قد أَسْلَمَ، أعانه الله عليه فدخل في الإسلام، وقيل: أَسْلَمُ، أي: أَسْلَمُ مِن شره، فما من نبي ولا غيره من الخلفاء إلا وله بطانتان.

وقال عليه الصلاة والسلام: (من ولِي منكم عملاً فأراد الله به خيراً جعل له وزيراً صالحاً، إن نسي ذكَّره، وإن ذكَر أعانه) ولو أن الإنسان لم يوجد له بطانة من الشر، فإن نفسه أمارة بالسوء (ومن يُوقَ بطانة السوء فقد وُقِي) الذي يَمنعه الله من بطانة السوء ويعصمه الله من بطانة السوء فقد وُقِي الشر كله.

(4/3)

من فوائد الحديث

هذا الحديث فيه فوائد:-

(4/4)

جواز الإخبار بالألم إذا لم يكن على سبيل التشكي

الفائدة الأولى: أن الإنسان يجوز له أن يخبر بما ناله من ألم، إذا لم يكن ذلك على سبيل التشكِّي وعدم الرضى، بل للتسلية والتصبير فقد قال أبو بكر: أخرجني الجوع.

وقال عمر: أخرجني الجوع، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أخرجني إلا هذا، أو إني أجد بعض هذا أو وأنا قد وجدت بعض ذلك) كل واحد أخبر الآخَرَين بما ناله من الجوع.

ففيه جواز أن يشتكي الإنسان لصاحبه، وأن يخبر الإنسان بما عنده من الألم؛ من مرض، أو جوع، أو فقر، إذا لم يكن على سبيل التسخط على القضاء والقدر، وإذا لم يكن على سبيل شكاية الخالق إلى المخلوق، إذا لم يكن على سبيل التضجر والتبرم من قضاء الله وقدره، وإذا لم يكن على سبيل الشحاذة، فإذا كان كل واحد يخبر أصحابه أو صاحبه بظرفه لعلَّه يساعده في رأي، أو لعله يسليه، أو يعطيه كلمة طيبة؛ فهذا لا بأس به.

إذاً شكوى الأخ لإخوانه مما لقيه من صعوبة، أو بلاء، أو فقر، أو ألم، أو مرض يكون على حالَين: الحالة الأولى: أن يخبرهم بذلك لكي يُسَلُّوه ويصبروه، فهذا لا بأس به، وهو من باب التواصي.

الحالة الثانية: إذا كان على سبيل التشكِّي والتبرُّم والتضجُّر من قضاء الله وقدره، والشكاية للمخلوقين، وإذلال النفس، والطلب، ومد اليد؛ فهذا مذموم.

(4/5)

زهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه

الفائدة الثانية: ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الزهد في الدنيا هو ووزيراه: أبو بكر، وعمر هؤلاء أعظم الناس على الإطلاق في ذلك الوقت، والنبي عليه الصلاة والسلام أعظم الناس في كل وقت، ومع ذلك ما عندهم شيء، الإمام الأعظم ووزيراه ما عندهم في بيوتهم شيء، هذا شيء عجيب! إنه فعلاً يستدعي الانتباه والوقوف قائد الأمة وإمام الأمة ما عنده شيء في بيته، ووزيره الأول أبو بكر الصديق ما عنده شيء في بيته، والوزير الثاني عمر بن الخطاب ما عنده شيء في بيته، كلهم خرجوا من بيوتهم في ساعة لا يخرج الناس في مثلها، ما الذي أخرجهم؟! إنه الجوع.

إذاً: فيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وكبار أصحابه من التقلُّل من الدنيا، وما ابتُلوا به من الجوع وضيق العيش.

(4/6)

الإتيان إلى الإخوان عند الحاجة إليهم

الفائدة الثالثة: أن الإنسان إذا اشتكى من مثل هذا فلا بأس أن يأتي إلى صاحبٍ له ليس بينه وبينه حرج أو كُلفة، فيطعم عنده فمِن الأخوة أنه إذا جاع أتى أخاً له ليس بينه وبين كُلفة ولا حرج ولا رسميات -كما يقولون- فيطعَم عنده، وهذا يسميه العلماء: الإدلال على الأخ أو على الصاحب، ما دام أن بينه وبينه مَعَزَّة كبيرة، وأخوَّة عالية، وصاحبه لا يتضجر إذا أتاه، ولا يثقل عليه، فإنه لا بأس بأن يأتي إليه.

وكفى شرفاً بـ أبي الهيثم بن التَّيْهان أن يكون ضيفه النبي صلى الله عليه وسلم.

الفائدة الرابعة: أن الإنسان إذا ذهب إلى شخصٍ لطعامٍ، وكان يعلم أن هذا الشخص لا يتحرج من إتيان آخرين، فإنه لا بأس أن يصطحبهم فلو دعاك شخص وكان معك واحد أو اثنان أو أكثر، وأنت تعلم أن الذي دعاك لا يمانِع ولا يتحرج ولا يثقل عليه، ولا يتضجر من أن تصطحب معك بعض أصحابك إلى هذه الدعوة، فإنه لا يعتبر شيئاً مذموماً أن تأخذهم معك، مادام أنك تعلم رضاه، وأنه لا يثقل عليه، ولا يُحرج، وأن عنده ما يكفي الجميع، فلا حرج من أن تذهب بهم إليه.

وأما إذا ذهب الإنسان ومعه شخص ولا يدري هل يأذن صاحب البيت أو لا يأذن، فإنه يستأذن لهذا الشخص، فيقول: يا فلان يا صاحب الدار! أنا مدعوٌّ عندك، ومعي واحد لم يُدْعَ، هل تسمح له فيدخل أو ينصرف فيرجع؟ فإذا أذِنَ صاحب البيت بدون إحراج، فإنه لا بأس أن يدخل هذا الشخص ولو لم يُدْعَ.

(4/7)

استخدام المال في طاعة الله

الفائدة الخامسة: أن الإنسان إذا كان غنياً فإنه يستخدم غِناه في طاعة الله؛ فيُكْرِم أهل العلم، ويُكْرِم الصالحين، ويفرح إذا قدم عليه الضيوف الصالحون.

ولذلك فرح أبو الهيثم بقدوم النبي عليه الصلاة والسلام، وقام يعتنقه، وقال: مَن أكرم أضيافاً مني؟! لا أحد اليوم أكرم أضيافاً منه؛ محمد صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، مَن بقي أكرم أضيافاً من هؤلاء؟! من هو أكرم من هؤلاء؟! لا يوجد، ولذلك كان فرحه عظيماً.

فيُسَر المؤمن ويفرح إذا قدم إلى بيته أحد الصالحين أو العلماء، وهذا من علامات الإيمان، أن الإنسان يُسَر ويفرح بقدوم أهل الْخَير إلى بيته، وبالذات إذا جاءوا من غير دعوة، إنها مفاجأة سارة جداً، أن يقْدُم أهل الْخَير إلى بيته.

(4/8)

جواز الكلام مع المرأة الأجنبية إذا لم يكن هناك فتنة

الفائدة السادسة: جواز الكلام مع المرأة الأجنبية بدون فتنة إذا كان بغير فتنة، ولا محذور شرعي، فإنه لا بأس على الإنسان أن يتكلم مع المرأة الأجنبية.

فالنبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى هذا الرجل قال للمرأة: (أين صاحبكِ؟) والصاحب هو الزوج، وما هو الدليل على أن الزوج يسمى صاحباً والزوجة تسمى صاحبة؟ قال الله تعالى: {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ} [المعارج:12] إذاً: الزوجة تسمى صاحبة، والزوج صاحبها؛ لأن بينهما مصاحَبة، فهو يصاحبها في هذه الحياة بالعشرة الزوجية.

فقال: (أين صاحبكِ؟ فقالت: انطلق يستعذب لنا الماء، فرحَّبَت بهم وتركتهم يدخلون).

(4/9)

يجوز للمرأة أن تُدخِل بيت زوجها من أذن لها في ذلك

الفائدة السابعة: أنه يجوز للمرأة أن تُدْخِل إلى بيت زوجها مَن كانت تعلم يقيناً أن زوجها لا يمانع في دخوله، أما إذا كان زوجها منعها من إدخال فلان من الناس فلا يجوز لها أن تدخله، وفي الحديث: (ولا تأذن في بيته إلا بإذنه) كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، لا تُدخل أحداً إلى البيت، لا جارَةً، ولا قريبةً، ولا بعيدةً، ولا رجلاً، ولا رجالاً لا تدخل أحداً إلا بإذنه، فإن كانت تعلم أنه يأذن أدخلَتْه.

(4/10)

حرمة الخلوة بالأجنبية

الفائدة الثامنة: حرمة الخلوة بالأجنبية فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء جاء ومعه أبو بكر وعمر، هؤلاء جماعة من الصالحين، لا يُخشى من دخولهم إلى البيت، لكن لو كانوا فَسَقَة فربما يتعاونون على المرأة.

ولذلك ينبغي الحذر الشديد من إدخال الأجنبي أو الأجانب إلى البيت، إلا إذا كانوا أناساً صالحين، والزوجة تعرف يقيناً أن الرجل لا مانع لديه من دخولهم، وكانوا صالحين، فهنالك يدخلون، أما أن يدخل واحد فقط فلا يجوز أن يخلو بالمرأة ولو كان من أصلح الصالحين.

وقول عائشة رضي الله عنها: [ولا والله ما مست يد النبي صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، ما بايَعَهن إلا كلاماً] أي: مِن بعيد، وما مَسَّتْهُنَّ يدُه، مع أنه النبي عليه الصلاة والسلام ولم تمس يدُه في بيعة يد امرأة، ومع وجود الحاجة لمس اليد في البيعة؛ لأن المبايِع يضع كفَّه في يد المبايَع، ويعاهده بالله أن يفعل كذا وكذا ولا يفعل كذا وكذا، فمع الحاجة لوضع اليد في البيعة إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام ما بايع النساء مصافحةً، إنما بايعهن كلاماً، قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ} [الممتحنة:12] إلى آخر الآية، قال فيها: {فَبَايِعْهُنَّ} [الممتحنة:12].

فالمبايعة كانت بالكلام، وعائشة تقول: [ولا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط].

إذاً: لا خلوة، لا مع صالح ولا مع غير صالح، ولا مصافحة؛ لا من صالح ولا من غير صالح، المصافحة حرام.

أما دخول البيت فيكون بإذن الزوج، أو من كانت تعلم يقيناً أن الزوج لا يمانع في دخولهم، وكانوا صالحين، لا يُخشى منهم؛ لأن الفاجر إذا دخل: أولاً: قد يُفضي دخوله إلى حرام مع المرأة.

ثانياً: قد يسرق من البيت.

ثالثاً: قد يضع فيه سحراً، أو يضع فيه شيئاً، وكم من الناس ابتُلوا في بيوتهم من جراء دخول أناس فَجَرَة فَسَقَة لا يؤمَنُون إلى البيوت! وقد يطَّلعون على أسرار في البيوت وأشياء؛ ولذلك لا يُدخل الإنسان بيتَه إلا من يثق به، خصوصاً في هذا الزمن، الذي يجب أن يتحرى الإنسان في دخول بيته أكثر من أي زمن آخر، لأن الفتن فيه عمَّت، وكثرت فيه المحرمات والفُحش والفسوق والعصيان، فيجب الحذر التام من إدخال الأشخاص إلى البيوت.

(4/11)

إكرام الضيف بما تيسر قبل قدوم الطعام

الفائدة التاسعة: أن مِن أدب الضيافة: استحباب المبادَرة إلى إكرام الضيف بما تيسر ريثما ينضج الطعام فإذا جاءك ضيف مفاجئ، وأنت لم تستعد بطبخ وليمة ولا ذبيحة ولا شيء، فالسنة ما فعله هذا الصحابي، أولاً: أتى لهم بعِذْق تَمْرٍ ورُطَبٍ وبُسْرٍ، يأكلون منه؛ لتسكين جوعتهم في البداية؛ ريثما يصنع لهم طعاماً.

وبعضهم استدل به على تقديم الفاكهة على الخبز واللحم، وأن الله يقول أيضاً: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة:20 - 21] فقدَّم الفاكهة على الطعام؛ لكن الصحيح أنه ليس في هذه الآية ما يدل على ذلك، هذا كلام عن نعيم أهل الجنة، ونعيم أهل الجنة يختلف بطبيعته عن أهل الدنيا، والفاكهة سواء وُضِعت قبل الطعام أو بعد الطعام حسب مصلحة الناس، وما تعود عليه الناس، فلا بأس بذلك.

وربما بعض الناس لو وضعت له فواكه وأشياء في البداية لقال لك: هاتِ الدسم، هاتِ الخلاصة، هاتِ الشيء المهم، أتريد أن تشغلنا بالأشياء الجانبية؟! فإذاً: الناس على ما تعودوا، ويكون إكرام الناس على ما تعودوا عليه؛ لكن الإنسان قد يفاجأ بضيف، فماذا يقدم له لتسكين جوعته؟ يقدم له ما يقدمه الناس في الغالب، مثلاً: تَمْراً وقهوةً، ريثما يأتوا بالطعام.

فـ أبو الهيثم بن التَّيْهان رضي الله عنه لما فوجئ بهؤلاء الضيوف الكرام قدَّم لهم -أولاً- هذا الرُطَب والتَمْر ريثما يذبح لَهُم ويطبخ لَهُم.

(4/12)

السؤال يوم القيامة عن المباحات

الفائدة العاشرة: أن الإنسان سيُسأل يوم القيامة عن المباحات وهذه هي المشكلة الكبيرة؛ لأننا إذا كان سنسأل عن المباحات فما بالك بغيرها؟! والنبي صلى الله عليه وسلم فسَّر الآية بهذا الشيء الواقعي الذي حصل: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8] فقال لهم: (ظلٌ بارد، وماءٌ بارد، وفاكهة، ولحم ((لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)) [التكاثر:8]) فهذا هو الذي يُسأل عنه يوم القيامة.

والقضية -يا إخوان- أنه كم مرة حصل للنبي عليه الصلاة والسلام ظلٌ بارد، وماء باردٌ، وفاكهة، ولحم، في وجبة واحدة؟! قليلٌ جداً، هذه إحدى المرات النادرة في حياته التي حصلت له، أما نحن -والحمد لله- كل يوم تقريباً عندنا ظل، وماء بارد، وفواكه، ولحم، إذا لم يكن دجاج فسمك أو لحم أحمر أو غيره.

الصحابة حصل لهم هذا الأمر مرة واحدة -التي نقلت إلينا- وحصل لهم مرات أخرى، ربما وجد في بعض الأحاديث أنهم أكلوا؛ لكنها قليلة، والأكثر أنهم ما عندهم كل يوم لحم وفاكهة، لذلك قالت عائشة: (كان يمر الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال -ثلاثة أهلة في شهرين- وما يوقد في بيوت النبي صلى الله عليه وسلم نار) لا يوجد طبخ، ولا يوجد غيره؛ لأنه ليس هناك شيء يُطبخ.

(4/13)

تجنب التكليف على المضيف

الفائدة الحادية عشرة: أن الإنسان يتجنب تكليف المضيف بما يشق عليه فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تذبحن ذات دَرٍّ) أي: ذات لبن، خَلِّها واتركها لِلَّبن؛ لتستفيد منها في الحَلْب، اذبح شاةً ليست ذات لبن، دع الحلوب ليستفاد منها، واذبح شيئاً آخر، فيرشد المضيف إلى أن ينتقي له ما لا يضر بمصلحته، أو ما لا يحرمه من الانتفاع به.

(4/14)

مكافأة من أحسن إليك

الفائدة الثانية عشرة: مكافأة من أحسن إليك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما طعم عنده سأله وقال له: (هل لك خادم؟ قال: لا.

قال: فإذا أتانا سبيٌ فائتنا) ولما أتاه سبيٌ أعطاه، وكافأه بعبدٍ على هذه الوجبة.

(4/15)

أخذ الرأي من الصلحاء والعقلاء

الفائدة الثالثة عشرة: أن الإنسان يأخذ رأي الصلحاء والعقلاء في اختيار الأشياء لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أُحْضِر له الرأسان وأتاه أبو الهيثم قال عليه الصلاة والسلام: (اختر منهما.

فقال: يا نبي الله! اختر لي) أي: أنت أبصر مني وأخبر، وأخير مني وأنصح لي، وأعلم بمصلحة نفسي من نفسي، فاختر لي.

فيأخذ الإنسان رأي الصلحاء والعقلاء في اختيار الأشياء، مع أنها أشياء دنيوية، قد تكون سيارة، وقد تكون امرأة، وقد يكون بيتاً، وقد تكون سلعة، وقد تكون غير ذلك.

(4/16)

المستشار مؤتمن

الفائدة الرابعة عشرة: أن المستشار مؤتمَن، وأن الإنسان إذا طُلب منه نصيحة فلا بد أن يأتي بها لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال في حقوق الإخوة: (وإذا استنصحك فانصح له) فهذا أمر يدل على الوجوب، أي: لا بد أن تبذل له الوسع في نصحه، وتجتهد، ولا تختر له اعتباطياً وعشوائياً، وإنما يجب أن تفكر وتجتهد وتبذل الوسع في الدلالة على الخير، لتخبره: هل هذا أفضل له أم ذاك؟ وهذه مسألة تحتاج إلى تحرٍ ونظر وتفكير، وليس شيئاً عشوائياً، ما دام أنه استشارك لا بد أن تبذل له الرأي مجاناً (وإذا استنصحك فانصح له) هذا يدل على وجوب إعطاء النصيحة للأخ المسلم من قبل أخيه المسلم وجوباً شرعياً.

وما هي الأشياء التي تجعل المستشار يؤدي النصيحة بشكل سليم؟ أولاً: أن يعرف ظرف المستشير وما حوله وحاله وإمكاناته.

ثانياً: أن يفكر وينظر في المسألة.

ثالثاً: أن يستشعر بأن القضية أمانة.

رابعاً: لا تكون الإشارة هذه صحيحة إلا إذا كان لم يكتم شيئاً من المصلحة، لا أن يقول: هذا أعطاني فكرة، أنا الآن أدله على أي شيء وأسبقه إليه، كما يفعل بعض الناس، يقول: أنا أوصله إلى أي شيء استثماري، قد لا يكون مفيداً أو فائدته بسيطة، وأنا أسبقه إليها، وبعض الناس من خيانتهم في الإشارة إذا جاء واحدٌ وقال له: أنا عندي صفقة مع فلان كذا ومع فلان كذا، فيقول له: لا، خذ هذه، ويدله على الأقل، ثم يذهب هو ويأخذ تلك ويسبقه إليها هذه من الخيانة.

إذاً: من خيانة المستشار أن يكتم المصلحة، ومن خيانة المستشار ألا يُعْمِل الجهد في الرأي، بل يعطي رأياً اعتباطياً عشوائياً.

فالمستشار مؤتمَن، أي: أنه يجب عليه أن يتوخَّى الأمانة في إخبار المستشير.

(4/17)

خطورة البطانة وأهميتها

الفائدة الخامسة عشرة: خطورة البطانة وأهميتها المرأة هذه لما كانت نِعْم البطانة لزوجها أشارت عليه بأن يعتق العبد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما عرف ذلك: (إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً، ومن يُوْقَ بطانة السوء فقد وُقِي).

إذاً: بطانة الشخص من الأهمية والخطورة بمكان؛ لأنهم: أولاً: يعرفون أسرار الإنسان.

ثانياً: لأن العادة والغالب أنه يتأثر بهم، ويمشي على حسب إشارتهم وقولهم، ويعمل برأيهم؛ فإذا كانوا بطانة خير كانت الأشياء التي يعملها الشخص في الغالب خيراً؛ لأن البطانة يشيرون عليه بالخير، وإذا كانوا أهل سوء فهو يتأثر بهم؛ لأنهم ندماؤه وجلساؤه وأهل ثقته وخاصته والمقربون إليه، فإذا دلوه على شر فإنه سيفعل الشر في الغالب (ومن وُقِي بطانة الشر فقد وُقِي).

الفائدة السادسة عشرة: أن الإنسان لا يكاد يسلم من بطانة سوء إما صديق سوء، أو قريب سوء، أو زوجة سوء، أو سكرتير سوء، لا يسلم من بطانة سوء، ولذلك قال: (إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان) الشخص العظيم صاحب القدر الكبير إلا وله بطانتان، وإذا لم يوجد إنس فالشيطان والنفس الأمارة بالسوء.

الفائدة السابعة عشرة: أن السعيد من وُقِي بطانة السوء، وأنه يجب على الإنسان أن ينقِّي بطانته، فينخلهم نخلاً، وينظر في هؤلاء المقربين إليه جلسائه، أصدقائه، ندمائه، أصحاب سره، وأهل ثقته، مَن منهم الصالح فيحتفظ به، ويشتريه ويضعه على رأسه، ومَن منهم صاحب السوء فيتخلص منه ويستغني عنه ويبيعه، لأنه لا خير للإنسان في الاحتفاظ ببطانة السوء، ولا يكاد يوجد فينا واحد إلا وهو محتك بأشخاص سيئين وأشخاص طيبين، لكن قد يكون عند الواحد -مثلاً- الطيبون أكثر، وعند الآخر السيئون أكثر؛ لكن لا يخلو أن يكون لك تعرض بوجه من الوجوه إلى شخص سيئ، فينبغي نبذه وتركه وهجره ومقاطعته ومنابذته والاستغناء عنه.

الفائدة الثامنة عشرة: أن بعض الناس غرضهم الإفساد ماذا يعني (لا يألونه خبالاً) أي: أنَّهم لا يقصِّرون في إفساده، يبذلون المحاولات الشديدة في إفساده، قال عليه الصلاة والسلام: (وبطانة لا تألوه خبالاً) أي: أن هذه البطانة ليس تأثيرها عليه تأثيراً عشوائياً وبفعل وجودهم فقط، وإنما هم يخططون لإفساده، (لا يألون) أي: يجتهدون، ولا يتركون وسيلة لإفساده إلا سلكوها، وهذا يدل على وجود تعمد وتخطيط، وعلى وجود تواطؤ منهم.

ولذلك فإن هذه المسألة في غاية الخطورة، فهناك أناس نذروا أنفسهم للشر، يندسون للإفساد، ويعملون، ويشتغلون ليلاً ونهاراً، مكر الليل والنهار.

(4/18)

توافق مشاعر بعض الصالحين وأحوالهم

وفي هذا الحديث: أن بعض الصالحين قد تتوافق مشاعرهم، وتتوافق أحوالهم مع بعض فمما يثير الانتباه أن هؤلاء جاعوا معاً وخرجوا معاً بدون توافق، كل واحد خرج من بيته، ثم اتضح في النهاية أن أسباب الخروج واحدة عند الجميع بدون توافق، فتجد أن الناس القريبين من بعض أو الأصدقاء والخلان -أحياناً- تتواطأ مشاعرهم على شيء واحد.

(4/19)

أهمية الخادم المصلي

وفيه كذلك: أهمية الخادم المصلي أهمية أن يكون الخادم من المصلين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما اختار له واحداً منهم اختار بناءً على الصلاة، وقال: (خذ هذا، فإني رأيته يصلي) فلو عُرض على أحد خادمة تصلي وخادمة لا تصلي، أو سائق يصلي وسائق لا يصلي، أو موظف يصلي وموظف لا يصلي، فعليه أن يختار الذي يصلي، لأن الغالب أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر نعم، قد يوجد كافر عنده أمانة، ومسلم مصلّ لكنه خائن، لكن الأكثر والأغلب أن المصلي أكثر أمانة من غيره، وعلى الأقل هناك بينه وبين الله صلة، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45].

إذاً: يؤخذ من الحديث: انتقاء المصلين في الأعمال.

ولا يعني هذا أنك لا تنظر إلى الصفات الأخرى، وتقول: المهم أنه مصلٍّ؛ سواء كان غبياً أو لا يفهم، بل عليك أن تنظر إلى الصفات الأخرى {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] فالأمانة من ضمنها الصلاة؛ لأن الصلاة أمانة وعبادة، والأمانات كثيرة: أمانة بين العبد وربه، وأمانة بين العبد والعبد، والقوي، أي: الخبير، القادر.

إذاً: الإنسان يعتمد المصلي كأساس، ويبحث -أيضاً- عن الصفات الجيدة في المصلين.

(4/20)

الضيافة وما يتعلق بها

هذا الحديث -أيها الإخوة- قد اشتمل على مسألة الضيافة وما يتعلق بها، ولعلنا نشير إشارات سريعة إلى بعض الأشياء المتعلقة بالضيافة.

(4/21)

إكرام الضيف من آداب الإسلام

أما مسألة الضيافة فإن إكرام الضيف من آداب الإسلام ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه).

وضيافة المسلم المسافر المجتاز واجبة على النازل به مجاناً يوماً وليلة فإذا كنتَ في طريق مسافرين، وكان عندك مزرعة أو بيت ونزل عليك مسلم، فإنه يجب عليك أن تبذل له ضيافة يوم وليلة مجاناً على قدر الكفاية، وهذا الحق الذي يمكن أن يطالب به عند القاضي، يذهب إلى قاضي البلد ويقول: نزلت عند فلان في طريق السفر وهو قادر، فأبى أن يضيفني، والقاضي يرغمه شرعاً على ضيافته.

فالمسألة إذاً واجبة، ويأخذ القاضي من صاحب المكان مالاً بقدر الضيافة ولو بغير إذنه ويعطيه للضيف.

(4/22)

الضيافة ثلاثة أيام

ويسن أن يكرمه يوماً وليلة أخرى ثانية وثالثة فالواجب الأُولى، والثانية والثالثة مستحبة، والسنة ثلاثة أيام الأفضل المستحب ثلاثة أيام، وبعد الثلاثة الأيام من حقه أن يسرِّحَه، ولا يجوز الإثقال على الإنسان بأن يمكث عنده الضيف أكثر من ثلاثة أيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) جائزته يومٌ وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان بعد ذلك فهو صدقة.

ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه فلا يجوز للضيف أن يقيم عند صاحب البيت بعد ثلاثة أيام من غير استدعاء من صاحب البيت وإذن منه ورغبة، أما أن يجلس عنده حتى يحرجه فلا، فإن الناس -مثلاً- يسكنون مكة والمدينة، فيأتي أناس من الخارج، ويجلسون عندهم أسبوعاً أو عشرة أيام أو شهراً، ضيف ثقيل دم، ولذلك فإن هذا المكث حرام؛ لأنه فيه إحراجاً؛ إلا إذا كان الإنسان طيبة نفسه بالضيف، ويأنس به، ويرغب أن يجلس عنده، أما أن يأتي ويجلس ويضع عنده أولاده وأهله فهذا فيه حرجٌ وضيق، ولذلك فإنه لا يجوز له أن يفعل ذلك.

وكذلك فإن الإنسان يكرم من نزل عليه حتى علف الدابة، وكل ما يحتاجه الضيف على حسب القدرة والطاقة.

(4/23)

آداب متفرقة في الضيافة

وينبغي للمضيف أن يخرج مع ضيفه إلى باب الدار قال ابن عباس رضي الله عنه: [من السنة إذا دعوتَ أحداً إلى منزلك أن تَخرج معه حتى يَخرج، وهذا من مكارم الأخلاق].

وكذلك السنة للضيف: ألا يقعد في صدر المجلس إلا إذا أذن صاحب البيت؛ لأن صاحب البيت أحق بصدر مجلسه وصدر دابته من غيره.

وكذلك فإن الضيف إذا جلس في مكان فلا يجلس في المكان الذي يرى فيه الباب، ويرى ما وراء الباب إذا انفتح، وما وراء الستارة؛ حتى لا يطَّلع على عورات صاحب البيت.

وقد حدثت قصة لطيفة بين أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله والإمام أحمد.

أبو عبيد القاسم بن سلام من كبار أئمة اللغة، والإمام أحمد معروفٌ مَن هو.

قال أبو عبيد القاسم بن سلام: زرت الإمام أحمد، فلما دخلتُ قام فاعتنقني وأجلسني في صدر مجلسه، فقلت: أليس يُقال: صاحب البيت أو المجلس أحقُّ بصدر بيته أو مجلسه؟ قال: نعم، يَقعُد ويُقعِد مَن يريد إذا كان هذا حقه فآثرَ به آخر فإن له الحق أن يُجلسه.

قال: قلتُ في نفسي: خذ يا أبا عبيد فائدة أبو عبيد كان يظن أن صاحب البيت فقط هو الذي يجلس في صدر البيت، والإمام أحمد أجلسه في صدر البيت، ولما سأله أبو عبيد قال: صاحب البيت أَولى؛ لكن إذا هو آثَر الضيف بصدر المجلس فإنه يَجلس.

قال: قلت في نفسي: خذ يا أبا عبيد فائدة، ثم قلت -يقول أبو عبيد للإمام أحمد -: لو كنتُ آتيك على قدر ما تستحق لأتيتك كل يوم أي: أنت يا إمام أحمد يستحق الواحد أن يأتيك كل يوم، لما يوجد عندك من الفائدة، وأنه يجب أن نقدرك.

فقال: لا تقل ذلك، فإن لي إخواناً ما ألقاهم كل سنة إلا مرة، أنا أوثق في مودتهم ممن ألقى كل يوم يقول: هناك أناس بيني وبينهم علاقات ما ألقاهم في السنة إلا مرة أعز عليَّ من أناس أراهم كل يوم، فالمسألة ليست بكثرة الترداد إنما بالمنازل التي في القلوب.

قال: قلت: هذه أخرى يا أبا عبيد -الفائدة الثانية- فلما أردتُ القيام قام معي، فقلت: لا تفعل يا أبا عبد الله! فقال: قال الشعبي: مِن تمام زيارة الزائر أن تمشي معه إلى باب الدار، وتأخذ برِكابه.

قلت: يا أبا عبد الله! مَنْ عَنِ الشعبي؟ قال: ابن أبي زائدة عن مجالد عن الشعبي قلت: هذه ثالثة يا أبا عبيد أي: هذه الفائدة الثالثة.

وهكذا كان السلف رحمهم الله تعالى يتعلمون، يذهب بعضهم إلى بعض من أجل أن يتعلموا الفوائد.

(4/24)

إبراهيم عليه السلام وأدب الضيافة

وقد ضرب إبراهيم الخليل صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم المثل العظيم في إكرام الضيف، فقد جاءه ضيف، قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [الذاريات:24 - 28].

هذه الآيات اشتملت على آداب الضيافة مِن قبل إبراهيم الخليل عليه السلام؛ فتعالَوا بنا نُنْهِي هذا الموضوع باستعراض بعض الفوائد في الضيافة التي حصلت من إبراهيم الخليل عليه السلام:- أولاً: أنه قرَّب الطعام إليهم، ولم يأمرهم أن يتقدموا إلى الطعام وهذا واضح من قوله تعالى: {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} [الذاريات:27] حتى يكفيهم مئونة الإتيان إلى الطعام، وهو من مزيد التكريم، أن تقدم الطعام للضيف؛ لكن مع كثرة الأطعمة التي نضعها اليوم، يمكن أن يجلس الواحد نصف ساعة وهو يقدم الأطعمة إلى الضيف، ولذلك لو أنه جهَّز السُّفْرَة ثم قربهم إليها، فلا بأس بذلك.

ثانياً: من آداب الضيافة: السرعة في الإتيان بالطعام أخذناه من قوله تعالى: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] (فَجَاءَ) بحرف الفاء، ولم يقل: ثم جاء، ولكن (فجاء).

ثالثاً: إحضار الطعام بدون إعلامهم أو بدون استئذانهم لئلا يُحرَجوا وبعض الناس يقول: هل نأتي لكم بغداء؟! معنى ذلك أنه لا يريد أن يأتي لهم بشيء؛ لأنه لو كان صادقاً لأتى بالغداء قبل أن يستأذنهم أو يستأمرهم، وهكذا فعل إبراهيم الخليل؛ فإن الله تعالى قال عنه: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} [الذاريات:26] و (راغَ) أي: ذهب خفيةً لئلا يحرجهم، وما أحسوا به لما ذهب من الباب، فانسل خفيةً وأتاهم بالطعام.

رابعاً: اختيار أحسن الطعام قال تعالى: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] والآية الثانية: {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود:69] والحنيذ هو اللحم المشوي على الرضخ، والرضخ هي الحجارة المحمَّاة، وهو ألذ الطعام وأصحُّه، فاللحم المشوي على الحجارة المحماة أصح شيء، وهو في القمة واسأل به خبيراً! وليس ذلك أنا، فإني لم أشوِ على الحجارة أبداً، لكن المقصود أنك تسأل الذين يشوُون على الحجارة، ويقال: إن طعام الكبراء من هذا النوع، أكثره على الحجارة المحمَّاة، فهو جيد من ناحية الصحة، ومن ناحية اللذة والنضج على الحجارة.

سادساً: أسلوب العرض جميل قال تعالى: {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27] لما قربه إليهم ما مدوا أيديهم {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27] أسلوب في غاية اللطف.

سابعاً: حُسن الاستقبال فإبراهيم كان بابه مفتوحاً {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} [الذاريات:25] والكريم دائماً بابه مفتوح.

ثامناً: أنهم لَمَّا قالوا له: سَلاماً، قَالَ: سَلامٌ سلاماً: جملة فعلية، وسلامٌ: جملة اسمية.

سلاماً: مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره نسلم سلاماً.

سلامٌ: خبر {سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ} [الذاريات:25] فهي جملة اسمية، والجملة الاسمية تفيد استقرار المعنى وثباته أكثر مما تفيده الجملة الفعلية {فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ} [الذاريات:25].

قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86].

تاسعاً: لم يسألهم عن أسمائهم، إنما أشعرهم بأن قال: {سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ} [الذاريات:25] أي: أهلاً بالضيوف الذين لا أعرفهم، فهو يرحب بمن يعرف وبمن لا يعرف، وهذا من كرمه صلى الله عليه وسلم، فهو الذي يكرم الجميع، فقد جاء بعجلٍ حنيذ لأناس لا يعرفهم، وهذا من إكرام أبي الأنبياء عليه السلام.

عاشراً: أن الإنسان يراقب أحوال الضيف حتى يأتيه أو يعينه على المقصود قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود:70] وفي الآية الأخرى: {قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27] فإن الإنسان يراعي أحوال الضيف: ماذا ينقصه؟ ربما ينقصه ماء، ربما ينقصه شيء؛ والآن بعض الناس يضعون السفرة ويمشون، ولا يدري عن الضيوف ماذا ينقصهم، وماذا يحتاجون، فتفقُّد أحوال الضيوف على المائدة من إكرام الضيوف.

الحادي عشر: المبالغة ذَبَح لهم عجلاً، لم يذبح لهم ثوراً، أو جاموساً قاسي اللحم، إنما ذبح العجل الذي هو صغار البقر، وهذا يكون لحمه طرياً طيباً.

الثاني عشر: من إكرام الضيف أن الإنسان يحادثه:- يحادث ضيفه؛ ليحصل الاستئناس، ولذلك رخص النبي صلى الله عليه وسلم في السمر للمصلي والمسافر والذي عنده ضيف، لا بأس أن يسمر معه الإنسان في الليل، وإلا فإن الأصل أن بعد العشاء نوم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كره السهر، إلا لمصلٍّ، أو مسافر، أو صاحب ضيف يسمر معه ويحادثه.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

(4/25)

وليمة أهل الخندق

غزوة الخندق حولت مجرى الأحداث بين قريش والإسلام، ففي هذه الغزوة من الدروس والعبر الشيء الكثير، وفي هذه المحاضرة نقف مع درس من دروسها في حفر الخندق، وما لاقاه المسلمون من الشدة، ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم في تكثير الطعام، وتبشيره لأصحابه بالفتح.

(5/1)

روايات حديث تكثير الطعام في الخندق

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فنذكر في هذه الليلة إن شاء الله تعالى حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنه؛ في عمل من أعمال الصحابة مع نبيهم صلى الله عليه وسلم وهم جياع، نرقق قلوبنا بسيرتهم معه، ونتأمل كيف عانوا ما عانوا لنصرة الدين، وكيف ذاقوا ألم الجوع وصبروا عليه ابتغاء وجه الله الكريم، وكذلك ما حصل من معجزاته عليه الصلاة والسلام في تكثير الطعام، الذي رآه الصحابة أمامهم فزاد إيمانهم.

(5/2)

رواية البخاري لقصة طعام الخندق

إنها قصة جابر التي يرويها رضي الله عنه يقول: (إنا يوم الخندق نحفر فعرضت كديةٌ شديدة، فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا هذه كديةٌ عرضت في الخندق، فقال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيباً أُهِيل، فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت.

فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ما كان في ذلك صبر، أفعندك شيءٌ؟ قالت: عندي شعير وعناق، فذبحت العناق، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأكافي قد كادت أن تنضج، فقلت: طعيمٌ لي؛ فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، قال: كم هو؟ فذكرت له.

قال: كثير طيب! قال: قل لها لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي فقال: قوموا.

فقام المهجرون والأنصار، فلما دخل على امرأته قال: ويحك! جاء النبي صلى الله عليه وسلم، والمهاجرون والأنصار معه، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم.

فقال: ادخلوا ولا تضاغطوا، فجعل يقسم الخبز ويجعل عليه اللحم، ويخمر البرمة والتنور إذا أخذوا منه، ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا وبقي بقية قال: كلي هذا وأهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة) هذا الحديث قد رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب المغازي.

(5/3)

رواية الإمام مسلم لقصة طعام الخندق

وكذلك رواه الإمام مسلم رحمه الله عز وجل، ولفظ الإمام مسلم في صحيحه: عن جابر بن عبد الله: (لما حفر الخندق، رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصة) أي: رأيته ظاهر البطن من الجوع (فانكفأت إلى امرأتي) يعني رجعت إلى زوجتي (فقلت لها: هل عندك شيءٌ؟ فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً، فأخرجت لي جراباً فيه صاع من شعير ولنا بهيمة داجن) -البهيمة: الصغيرة من أولاد الضأن تطلق على الذكر والأنثى كالشاة من أولاد المعز، والداجن: ما ألف البيوت.

(قال: فذبحتها وطَحنَتْ، فَفَرغَتْ إلى فراغي، فقطعتها في برمتها، ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، قال: فجئته فساررته فقلت: يا رسول الله، إنا قد ذبحنا بهيمةً لنا وطحنا صاعاً من شعير كان عندنا، فتعال أنت في نفر من أصحابك، فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا أهل الخندق! إن جابراً قد صنع لكم سوراً -وهو الطعام الذي يدعى إليه، وهي لفظة فارسية- فحيهلا بكم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينتكم حتى أجيء، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس، حتى جئت امرأتي فقالت لما رأت العدد الكبير: بك وبك) أي أنها ذمته قال الشراح: أو: بك تلحق الفضيحة ويتعلق الذم، أو جرى هذا بسبب سوء نظرك، وبرأيك، وأنك تسببت في جلب الفضيحة بأن جئت بعدد كبير وليس عندنا إلا هذا الشيء لا يكفيهم (فقلت: قد فعلت الذي قلته لي، وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم سراً) قال جابر: (وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخرجت له عجينتنا فبصق فيها وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيها وبارك، ثم قال: ادعي خابزةً فلتخبز معك ثم قال: واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها) أي اغرفي المرق في قدح.

يقول جابر رضي الله عنه: (وهم ألف! فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا -يعني شبعوا وانصرفوا- وإن عجينتنا وإن برمتنا لتغط كما هي).

(5/4)

شرح الحديث والجمع بين الروايات

أما بالنسبة لحديث البخاري رحمه الله والذي يقول فيه جابر رضي الله عنه: إنا يوم الخندق نحفر، فمعروف أن الصحابة رضوان الله عليهم حفروا الخندق في غداة باردة في الشتاء، ولم يكن لهم عبيد يعملون فكانوا يعملون بأنفسهم، ومعروف أن المنطقة التي حفر فيها الخندق -وهي موجودة إلى الآن- صخرية شديدة الصخور، وعرة، صلبة، حتى أنهم لما أرادوا أن يمهدوا شارعاً ويحفروا فيها تكسرت الآلات واستسلم المقاول، وجاءوا بمقاول آخر فحفر شهراً كاملاً إلى أن عبدوا الطريق، والصحابة حفروه في أسبوع بدون آلات مثل هذه الآلات الموجودة الآن، وحفروا بأيديهم في البرد الشديد، وحفروا هذا الخندق عمقاً وعرضاً حوالي ستة آلاف متر.

يقول جابر: فعرضت كديةٌ، وهي القطعة الشديدة الصلبة من الأرض لم يستطيعوا قطعها وأعجزتهم، فلجئوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية: جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: هذه كدية قد عرضت في الخندق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: رشوها بالماء، فرشوها، ثم قال: أنا نازل، ثم قام وبطنه معصوب بحجر من الجوع، أصابهم جهدٌ شديدٌ حتى ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم على بطنه حجراً من الجوع.

كانوا يأتون بحجارة رقاق صفائح على قدر البطن تشد على الأمعاء فائدتها ثلاثة أشياء: أولاً: أن الإنسان من الجوع ينحني ظهره فإذا شدوا عليه الحجارة اعتدل الظهر.

ثانياً: أن هذه الحجارة تبرد حرارة الجوع، والجوع له حرارة، فهذه الحجارة ببرودتها تطفئ شيئاً من حرارة الجوع، أو تمتص من حرارة الجوع التي بالبطن فتجعل الإنسان أصبر وأقدر على المقاومة.

ثالثاً: أن شدها على البطن والأمعاء يجعل الطعام قليل التحلل، فلا يتحلل منه كما لو لم تكن مربوطة.

شد النبي عليه الصلاة والسلام على بطنه حجراً وكان بإمكانه أن يكون أعظم ملوك الأرض، وعنده مفاتيح خزائن الأرض.

قال جابر: ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً، أي: لا نطعم شيئاً ولا نقدر عليه، لما عرضت هذه الحجر، كان الناس جياعاً يعملون بأيديهم في حفر صخور صلبة في البرد، والمطلوب إنجاز المهمة بسرعة قبل أن يأتي كفار قريش ومن معهم من العرب، فلما وصلوا إلى هذه الصخرة الصلبة التي أعيتهم، استدعوا النبي عليه الصلاة والسلام فقال: رشوا عليه الماء، ونزل عليه الصلاة والسلام وبطنه معصوب بالحجر، فأخذ المعول أو المسحاة فضرب هذه الصخرة.

وفي رواية: فسمى ثلاثاً ثم ضرب، وفي روايةٍ لما ضربها قال: باسم الله وبه بدينا -يعني بدأنا- ولو عبدنا غيره شقينا، فحبذا رباً وحب دينا -حب: من ألفاظ حبذا، لما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم الصخرة، قال الراوي: فعاد كثيباً أهيل، أي: تحولت الصخرة إلى رمل يسيل ولا يتماسك، فصارت الصخرة الصماء الصلبة رملاً ناعماً يسيل، كما قال الله تعالى: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً} [المزمل:14] أي: تحول الجبال إلى رمل سائل.

(5/5)

تفصيل ضرب صخرة الخندق عند أحمد والنسائي

جاء تفصيل هذه الضربة عند الإمام أحمد والنسائي بإسناد حسن من حديث البراء بن عازب قال: (لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق؛ عرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ فيها المعاول، وفي رواية: تكسرت معاولهم عليها، فاشتكينا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء فأخذ المعول فقال: باسم الله، فضرب ضربة فكسر ثلثها وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة).

إنها من غنائم المسلمين وفتوحاتهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا الكلام في وقتٍ الحصارُ فيه آتٍ، والعرب قد اجتمعت على حربه صلى الله عليه وسلم، واليهود من خلفه قد نقضوا العهد، والمنافقون يرجفون في المدينة.

ضرب الصخرة بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم وقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر الساعة.

(ثم ضرب الثانية فقطع الثلث الآخر فقال: الله أكبر! أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض -وهذا هو إيوان كسرى- ثم ضرب الثالثة وقال: باسم الله! فقطع بقية الحجر وقال: أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة) وفي رواية أنه لما قال ذلك فرح المسلمون واستبشروا وكان كلما كبر كبروا بتكبيره فرحاً واستبشاراً.

فجاء جابر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! ائذن لي إلى البيت، جاء تفصيل ذلك في رواية ابن عباس: احتفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق هو وأصحابه وقد شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع، فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هل دللتم على رجل يطعمنا أكلةً) قال رجل: ٌ نعم.

وهذا كأنه جابر رضي الله عنه ولذلك استأذن رسول الله ليذهب إلى أهله، فذهب إلى امرأته وهي سهيلة بنت مسعود الأنصاري رضي الله عنها وسألها عما يوجد عندها فقالت: عندي شعير، في رواية: أنه صاع من شعير فقط، وله بهيمةٌ داجن، فذبحت وطحنت وصنعت خبزاً وقوله في الحديث: والعجين قد انكسر، أي: رطب وتمكن منه الخمير، لأنه يحتاج إلى تخمر حتى يخبز، والبرمة بين الأثاث هي الحجارة التي توضع عليها القدر، وتكون في العادة ثلاثة أحجار، وهي أمكن لئلا يميل القدر ولا يسقط.

ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله طُعيمٌ لي -وطعيم تصغير طعام، يعني أنه قليل- فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان، وفي رواية: فقم أنت ونفر معك، وفي رواية: أن جابراً قال: كنت أريد أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده فقط، لكنه عليه الصلاة والسلام فاجأه بقوله: (قوموا) فقام المهاجرون وتبعهم الأنصار ومن معهم.

(5/6)

فضل سهيلة بنت مسعود وموقفها من قصة الطعام

وذهب جابر إلى امرأته يقول: ويحك! جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار.

المرأة لعلها أولاً قالت: بك وبك، ثم استدركت فقالت: هل سألك عن الطعام؟ قال: نعم، وفي رواية قال جابر: فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، أي: من هذا العدد الكبير من الناس وليس عندي ما أطعمهم، وقلت: جاء الخلق على صاع من شعير وعناق، فدخلت على امرأتي أقول: افتضحت! جاءك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق أجمعين فقالت: هل كان سألك عن طعامك؟ فقلت: نعم.

فقالت: الله ورسوله أعلم.

فكشف عني غماً شديداً كلامُ المرأة.

ظنت أنه لم يعلمه فخاصمته، وقالت: بك وبك، فلما أعلمها سكن ما عندها، ثم تحولت القضية إلى إيمان فقالت: الله ورسوله أعلم، وهذا يدل على وفور عقلها، وكمال فهمها رضي الله عنها، هذه سهيلة بنت مسعود الأنصاري نسأل الله أن يحشرنا معها.

هذه المرأة وقع لها قصة أخرى مع جابر، أي قصة التمر، وهي أن جابراً أوصاها لما زاره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تكلمه (كان على جابر دين عظيم تركه أبوه، وزاره النبي عليه الصلاة والسلام لحل مشكلة هذا الدين، وقد أوصى جابر زوجته أن إذا جاءنا النبي عليه الصلاة والسلام فلا تكلميه ولا تتحدثي معه، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الانصراف نادته المرأة: يا رسول الله! صل علي وعلى زوجي -أي: ادع لي ولزوجي- قال: صلى الله عليك وعلى زوجك، فعاتبها جابر لأنه قال لها لا تتكلمي فتكلمت، فقالت له: أكنت تظن أن الله يورد رسوله بيتي ثم يخرج ولا أسأله الدعاء) أخرجه الإمام أحمد بإسناد حسن.

المهم أن جابراً رجع إليه فبين له، فأتاه فقال: يا رسول الله! إنما هي عناق وصاع شعير قال: (فارجع فلا تحركن شيئاً من التنور ولا من القدر حتى آتيها، واستعر صحافاً) كما في رواية.

ولما جاء النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة معه أمرهم بالدخول وقال: (ولا تضاغطوا) يعني لا تزدحموا وادخلوا برفق، ثم أخرج العجين، وتفل فيه صلى الله عليه وسلم، ودعا بالبركة، ثم إلى البرمة كذلك ودعا بالبركة وجعل يخمر البرمة أي: يغطيها، ثم ينزع اللحم من البرمة، وأمر الخابزة أن تأتي لتخبز، وأمر بالغرف، وأقعدهم عشرةً عشرةً، فأكلوا عشرة عشرة.

قال جابر: وبقيت بقية فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وفي رواية: فما زال يقرب إلى الناس حتى شبعوا أجمعون، ويعود التنور والقدر أملأ مما كانا أي: أكثر امتلاءٍ مما كانت قبل أن يأكل منها ألف رجل، وقال عليه الصلاة والسلام في ختام القصة للمرأة: كلي هذا وأهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة، قالت: فلم نزل نأكل ونهدي يومنا أجمع.

(5/7)

من فوائد قصة تكثير الطعام في الخندق

(5/8)

خصائص النبي ومعجزاته

وهذه القصة العظيمة تعتبر من معجزاته صلى الله عليه وسلم، ومعجزاته صلى الله عليه وسلم كثيرة، كما أن خصائصه صلى الله عليه وسلم كثيرة، وكان عليه الصلاة والسلام قد كثر الله له الطعام، وكذلك الشراب من اللبن وغيره، وكذلك نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم, وكان الصحابة يسمعون تسبيح الطعام وهو يؤكل بين يديه صلى الله عليه وسلم، وكان حجر يسلم عليه بـ مكة، وانشق القمر له صلى الله عليه وسلم.

وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم قد حصل له من المعجزات في هذه القصة في مسألة فلق الصخرة، وأنه رأى اليمن والشام والعراق قد فتحت عليه.

هذه القصة فيها أيضاً علمان من أعلام النبوة؛ تكثير الطعام القليل، وعلمه صلى الله عليه وسلم أن الطعام الذي يكفي في العادة خمسة أنفس أو نحوهم سيكثر ويكفي ألفاً، فدعا ألف رجل قبل أن يصل؛ مع إنه يعلم أنه صاع من شعير وبهيمة، وكذلك آمن الصحابة بين يديه وهم يرون هذه المعجزات.

وقد جمع المعجزات عدد من العلماء منهم: القفال الشاشي في الدلائل، وصاحبه أبو عبد الله القديمي وكذلك أبو بكر البيهقي، قال النووي رحمه الله: وأحسنها كتاب البيهقي وهو دلائل النبوة مطبوع في مجلدات، وهذه القصة فيها نصر الصحابة للدين، وقيامهم بحفر هذا الخندق.

وكذلك في هذه القصة أن الأمل لا يفقد بالمؤمن؛ حتى مع الحصار وقوة الأعداء، فإنه عليه الصلاة والسلام كان يوقن بنصر الله عزوجل، وأن الله سيتم هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه.

(5/9)

جواز المسارة في جماعة

كذلك في هذا الحديث جواز المسارة بالحاجة بحضرة الجماعة؛ لأن جابراً جاء فأسر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والنهي إنما جاء عن تناجي اثنين دون الثالث؛ لأن ذلك يحزنه؛ فإنهما إذا تناجيا دونه شعر بالغربة والوحشة، أو أنهما يريدان به شراً، أو أنه أقل مستوى من أن يسمع الكلام ونحو ذلك، لكن لو كانوا جماعة فجاء رجل فسر إلى رجل في وسط الجماعة فهذا لا بأس به.

ويعتبر من التناجي أن يتكلما بلغة لا يفهمها الثالث إذا كان معهما في المجلس وحده، فإنه يعتبر أيضاً تناجياً محرماً.

(5/10)

من آداب الضيافة اختيار الزوجة الصالحة

وكذلك في هذا الحديث أنه يجوز للإنسان أن يدعو إلى بيت من دعاه أناساً إذا كان يعلم أن صاحب البيت يرضى، وهذا يفهم من عنوان الحديث من صحيح مسلم: (من دعا معه أشخاصاً وهو يعلم أن صاحب البيت راضٍ) لكن إذا كان لا يعلم أهو راضٍ أم لا، فلا بد أن يستأذن من صاحب البيت، فإذا جاء إلى البيت فطرق الباب فليقل: معي فلان أيدخل أو يرجع؟ وأما إذا كان يعلم أنه لا يأذن فإنه لا يأتي به أصلاً.

فإذاً إما أن يعلم إذن صاحب البيت فيأتي بالأشخاص، أو يعلم أن صاحب البيت لا يرضى فلا يأتي بهم، أو لا يعلم هل هو راضٍ أو لا، فإذا أتى بأحد معه استأذن له قبل أن يدخل.

وكذلك في هذا الحديث: أن المرأة تعين زوجها على أمر الله ورسوله، وأن هذه المرأة الصالحة سهيلة بنت مسعود رضي الله عنها سألت زوجها: هل سألك عن الطعام؟ ثم قالت مستسلمة: الله ورسوله أعلم، وهذا من إيمانها، وهذا الذي قال جابر بسببه أنه قد كشف عنه الغم الذي كان به، فالمرأة الصالحة يكون كلامها سبباً في كشف الغم عن زوجها إذا اغتم.

وكذلك في هذا الحديث بركة ريقه عليه الصلاة والسلام.

وفي هذا الحديث الدعاء بالبركة وأنه يكون سبباً في كفاية الطعام القليل للعدد الكثير.

وكذلك في هذا الحديث أنه ينبغي الرفق عند صاحب الوليمة وعدم التضاغط، وكذلك فيه التحلق عشرة عشرة إذا كان المكان ضيقاً، يأكل مجموعة ويمشون، ثم تأتي مجموعة يأكلون وينصرفون، وتأتي مجموعة ثالثة يأكلون وينصرفون، فيجعلون على نوبات كما حصل في حديث جابر هذا، فإنهم جاءوا عشرة عشرة فأكلوا وانصرفوا.

(5/11)

فوائد أخرى

وكذلك في هذا الحديث أن الالتزام بأمر النبي صلى الله عليه وسلم مجلبة للخير فإنه قال: (لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى يأتي عليه الصلاة والسلام) ومن يقينه عليه الصلاة والسلام بربه أنه قال: (ادعي خابزة) ثم قال: (استعر صحافاً) فطلب منه أن يستعير آنية ليسكب فيها، ونادى الألف رجل.

وكذلك في هذا الحديث أن المهاجرين رضوان الله عليهم أفضل الصحابة، ولذلكم خصهم بالذكر فقال: فقام المهاجرون.

وفي هذا الحديث أيضاً أن اليقين بنصر الله يكون مع المؤمن باستمرار، ولذلك فإنه صلى الله عليه وسلم أخبرهم بغنائم كسرى وقيصر وفتح صنعاء، والمنافقون يقولون: محمد بـ يثرب والكفار من فوقنا، واليهود من أسفل منا، وأحدنا لا يستطيع أن يذهب لقضاء حاجته، وهو يقول: إننا سنفتح مدائن كسرى وقصور قيصر! فأما المنافقون فازدادوا ريبةً إلى ريبتهم وهم في ريبهم مترددون، وأما المؤمنون فزادهم إيماناً، ولذلك فرح المسلمون واستبشروا.

وكذلك في الحديث خدمة المرأة لضيوف زوجها، وأنها تعجن وتخبز وتغرف لهم الطعام.

وفي الحديث بيان ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من الشدة، وأنها فتحت لهم الأمصار مع ما كانوا فيه من الجوع والفقر، ومع ما كانوا فيه من الظروف الصعبة الشديدة، ولكن علم الله سبحانه وتعالى إخلاصهم ففتح عليهم.

وفيه الافتخار بالرب والدين في قوله صلى الله عليه وسلم: (فحبذا رباً وحب دينا) رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ نبياً.

ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأُ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا

أنت الرب وأنا العبد.

فكون الله سبحانه وتعالى هو ربنا فخر، والنبي محمد صلى الله عليه وسلم نبينا فخر، وأن الإسلام ديننا فخر، والقرآن كتابنا كذلك: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] أي: شرف لك ولقومك.

وفي هذا الحديث أن على المسلم إكرام أضيافه، وأن الله عزوجل يبارك إذا اتسع الصدر واتسع القلب.

هذا ما تيسر من شرح هذا الحديث، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن ينصر بهم الدين، وممن يبارك في أوقاتهم وأبدانهم إنه رب العالمين.

(5/12)

الأسئلة

(5/13)

استبعاد نصر الله

السؤال

يقول: في هذا الزمان الذي تكالب فيه الأعداء والمنافقون على المسلمين يستبعد بعض المسلمين النصر نظراً لإعراضهم عن دينهم، فما قولكم في هذا؟

الجواب

{ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج:15] {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] فالذي يظن أن الله لا ينصر المسلمين فهو مسيء الظن بربه، مرتكب لكبيرة هي سوء الظن بالله، وهذا مصادم للتوحيد ومنافٍ له.

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله كلاماً متيناً في الذي يسيء الظن بربه، ونقل كذلك الشيخ سليمان رحمه الله في كتاب تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد في الفصل الذي عقده المصنف الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في كتاب التوحيد لوجوب حسن الظن بالله وخطورة سوء الظن بالله، وأنه منافٍ للتوحيد، فالذي يظن أن الله لا ينصر المسلمين، وأنهم سيبقون هكذا مهزومين إلى قيام الساعة، فهو إنسان سيئ الظن بربه، ثم إنه إما مكذب بالبشارات، أو إنه ضعيف إيمان، ألم يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أننا سنفتح روما؟ ألم يخبرنا أننا سنتغلب على النصارى الذين سيسيرون إلينا في ثمانين راية، تحت كل رايةٍ ثمانون ألفاً، تسعمائة وستين ألف نصراني من بني الأصفر -من الروم- سيسيرون إلينا، وأننا سنلتقي معهم في مرج دابق قريباً من حلب في بلاد الشام في سوريا، وأن المسلمين سينتصرون عليهم نصراً مؤزراً، وأنه سيموت ثلث أفضل الشهداء عند الله، والثلث الذين ينهزمون لا يتوب الله عليهم، والثلث الأحياء الباقون الذين ثبتوا سيكتب الله على أيديهم النصر، وأخبرنا أن مدينة قسطنطينية ستفتح بالتكبير جزء في البر وجزء في البحر، وأن المسلمين سيكبرون جميعاً فيسقط جزئها الذي في البر، ثم يكبرون جميعاً ويسقط جزؤها الذي في البحر، وتدخل في أيدي المسلمين.

ألم يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن المسلمين سيقاتلون اليهود حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم يا عبد الله! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله؟ ألم يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن عيسى عليه السلام سينزل من السماء، وأنه سيكون مع المهدي في قيادة المسلمين لقتال الدجال وقتله، ومعه سبعون ألفاً من يهود أصفهان، عليهم الطيالسة قد لبسوها، وأن عيسى سيقتله بحربة بيده؟ ألم يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن عيسى سيحكم الأرض بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام، وأنه لن يقبل إلا الإسلام أو القتل، وأن هذا الدين سيدخل كل بيت، سواء بيت صحراوي في الصحراء، أو في المدن، لا يبقى بيت مدر ولا وبر ولا حجر، ولا بيت صوف أو شعر إلا أدخله الله هذا الدين؛ بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر.

فكل هذه المبشرات لا يجوز بعدها أن يقال: إن المسلمين سيبقون مهزومين إلى قيام الساعة، ومن قال ذلك فإما أنه ضعيف إيمان، أو جاهل، أو مكذب بأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، فإن الله سينصر المسلمين على اليهود والنصارى قطعاً [100%] لاشك في ذلك، وإن لم ينتصر هذا الجيل فالجيل الذي بعده، أو الذي بعده وقال صلى الله عليه وسلم: (ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم، حتى يكون آخرهم مع المسيح بن مريم).

والجهاد لا ينقطع إلى قيام الساعة، ولعل تجميع الله تعالى لليهود من أقاصي الدنيا في هذا المكان تمهيداً لاستئصالهم، وأن تكون هزيمتهم عامة وشاملة، وكذلك لعل اتحاد أوروبا الآن وتقاربها هي التي ستمهد للحرب التي ستكون بيننا وبين النصارى، وهم الروم (بني الأصفر) الذين جاء ذكرهم في الحديث.

والذي يوقن بوعود الله، ويؤمن بقضاء الله تعالى وقدره يوقن بـ: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] فقد حصلت في الماضي أحداث كثيرة ولم يكن يتوقع حصولها، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وحده هارباً من مكة مع صاحبه، والكفار قد وضعوا مائة بعير لمن يأتي برأسه، ومع ذلك يقول لـ سراقة بن مالك الجعشمي بأنه سيلبس سواري كسرى، ومن ذلك الموقف الذي حصل في الخندق ومر معنا، فإن المنافقين ما صدَّقوا أنه ستفتح كنوز كسرى وقيصر وصنعاء للمسلمين.

فهذه أمور كثيرة في التاريخ كانت لا تصدق إلا من قبل مؤمن بمن أخبر بها ثم حصلت، فما الذي يجعل من البعيد أن يحصل ما أخبرنا به، والمتأمل للواقع يجد أن الأحداث تتجه إلى تحصيل ما أخبرنا به من المعارك الفاصلة والملاحم التي ستقع في آخر الزمان.

(5/14)

تمحيص المؤمن

السؤال

كيف يكون التمحيص للمؤمن في الدنيا والآخرة؟

الجواب

التمحيص للمؤمن في الدنيا يكون بأشياء، منها المصائب التي يقدرها الله عليه فيمحصه بها، فينظر أيصبر، فإذا صبر فالأجر العظيم لتكفير السيئات، يمحصه أيضاً بابتلائه بالعبادات؛ هل يقوم بها أو لا يقوم، يمحصه أيضاً بتسليط من يؤذيه من الأعداء، فيكون في ذلك فتنة: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:141] {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179] (ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة).

ولذلك لا يدخلها إلا من حصل له التمحيص، ومن التمحيص أيضاً هذه المبشرات التي أخبرنا بها؛ هل نصدق أم نشك، ثم التمحيص في القبر بفتنة تكفر الذنوب، فإن كفى وإلا فزحام المحشر مع الحر والشمس التي تصهر الذنوب وتكفرها، والمرور على الصراط، حتى يدخل الجنة في النهاية طاهراً نظيفاً.

(5/15)

أجر من فطَّر صائماً وقدر ما يفطره به

السؤال

هل تفطير الصائم قدر الإشباع هو الذي يجزئ الأجر؟

الجواب

ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن إذا أطعمه وأشبعه فإنه يحصل له الأجر، ولو أطعمه بأقل من الشبع يحصل له الأجر، لكن الأجور تتفاوت، وكلما كان الطعام أكثر في الإشباع كان الأجر أكثر.

(5/16)

اختراع ذكر في وقت محدد

السؤال

ما حكم قول بعضهم عند قيام التراويح (الوتر) رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين؟

الجواب

إذا لم يثبت هذا الحديث فهي بدعة، فبعض الناس مثلاً إذا قام إلى الصلاة قال: أقامها الله وأدامها وهذا ورد في حديث لكنه ضعيف فلا نقوله، أو إذا قام للتراويح أو الوتر قال هذا الدعاء، الدعاء صحيح، لكن التوقيت غير صحيح قال زكريا عليه السلام: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89] وبعض الناس بعد السلام من الصلاة يقول: تقبل الله وحافظ عليها، وبعضهم يقول: حرماً -أي: يصلي في الحرم- فيقولوا: جمعاً -يعني أجمعين- وبعضهم بعد الوضوء يقول: زمزم، ونحو ذلك فيجعلون عبارات معينة لم ترد في الشرع، فمن واظب عليها تحولت إلى بدعة، لأنه اختراع ذكر لم يرد في الشريعة، بقصد التعبد إلى الله، فهذا هو البدعة، وتعريفها: اختراع في الدين يقصد منه التقرب إلى الله.

جاء أبو موسى إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال: يا أبا عبد الرحمن إني خرجت من مسجد الكوفة فرأيت فيه عجباً.

قال: وما رأيت؟ قال: رأيت قوماً حلقاً حلقاً، على رأسهم واحد يقول: سبحوا مائة، فيسبحون مائة.

كبروا مائة، فيكبرون مائة وهكذا.

قال: وما قلت لهم؟ قال: ما قلت لهم شيئاً انتظار أمرك، قال: هلا أمرتهم أن يعدوا سيئاتهم، وأنا ضامنٌ لهم أن لا ينقص من حسناتهم شيء، ثم تلثم وخرج، فدخل المسجد فوجدهم على هيأتهم حلقاً، وقائل يقول: سبحوا مائة فيسبحون مائة، كبروا مائة فيكبرون مائة، فكشف اللثام عن وجهه، وقال: أنا أبو عبد الرحمن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أسرع هلكتكم يا أمة محمد! هذه ثياب نبيكم لم تبل، وآنيته لم تكسر، ثم زجرهم ووبخهم، وأمرهم أن يكفوا عن هذا الصنيع المبتدع.

قال: فلقد رأيت عامة هؤلاء يطاعنون يوم النهروان، يعني من الخوارج.

فلا يجوز إحداث شيء في الدين، أو ذكر من الأذكار لم يرد في الشريعة، ومن فعل ذلك يأثم، لأنه يزيد على الدين وكأنه يقول: إن الإسلام ناقص فجئت وأكملته، أو إن رسول الله قد خفي عليه ما علمته.

وهكذا المبتدع من جميع الجهات خاسر متضرر، ويزول الدين بهذه الطريقة، كل واحد يزيد فيه قليلاً حتى يصبح متغيراً، والقاعدة: أنه كلما أحييت بدعة أميتت سنة، وكلما أحييت سنة أميتت بدعة، ولذلك ترى البلاد التي فيها بدع كثيرة؛ السنة فيها ميتة، وليس عندهم من علم السنة إلا القليل، والبلاد التي فيها السنة ظاهره تجد البدعة فيها قليلة، وهذا قانون المدافعة الإلهي، إذا انتصرت السنة وهيمنت زالت البدع أو خفت، والعكس بالعكس.

(5/17)

من قام بعد سلام الإمام من الوتر ليزيد ركعة

السؤال

هل يجوز لأحد المأمومين أن لا يسلم مع الإمام في صلاة الوتر ويأتي بركعة أخرى؟

الجواب

نعم.

ولكن الأفضل أن يسلم مع الإمام وينصرف معه حسب الحديث، حتى ينصرف وقد كتب له قيام ليله، ثم يصلي مثنى مثنى إذا أراد الزيادة في بيته.

(5/18)

حكم لبس الجورب قبل إكمال الطهارة

السؤال

ما حكم من توضأ وحين وصل عند غسل القدم اليمنى نزع جوربه الأيمن، ثم لبسه، ثم نزع الجورب الأيسر وغسل رجله، ثم لبسه عندما أتى وقت الصلاة؟

الجواب

هذا يقصد والله أعلم أنه غسل القدم اليمنى ثم لبس الجورب الأيمن ثم غسل القدم اليسرى ولبس عليها الجورب الأيسر؛ فيكون قد لبس الأيمن قبل أن يكمل طهارته، فلا يجوز له المسح عليهما إلا على طهارة كاملة: (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين) أي: بطهور كامل، فعليه أن ينزع اليمنى ويعيد لبسها على طهارة كاملة.

وأبى شيخ الإسلام ذلك -رحمه الله- وهذا رأيه، وقال: بأن ذلك عبث لا تنظر إليه الشريعة ولكن الأحوط للإنسان أن لا يمسح إلا على جوربين قد لبسهما على طهارة تامة.

(5/19)

قصة الخصومة بين العمرين

الخصومة والخلاف طبيعة عند البشر، فقد وقع الخلاف في خير القرون، غير أن خلافهم لم يفسد للود قضية، وهنا بيان لذلك، يشتمل على بعض أخلاقهم وفضائلهم وغير ذلك.

(6/1)

قصة الخصومة بين أبي بكر وعمر بن الخطاب

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فقصتنا في هذا الدرس عن شيء حدث على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بين العمرين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

(6/2)

أحداث قصة الخصومة بين العمرين

وهذه القصة يرويها أبو الدرداء -رضي الله تعالى عنه- يقول: (كانت بين أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- محاورةٌ، فأغضب أبو بكر عمر؛ فانصرف عنه عمر مغضباً، فاتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو الدرداء: ونحن عنده) وفي رواية: (أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غامر، فسلم وقال: إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه، ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي، فأبى عليَّ فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثة، ثم إن عمر ندم على ما كان منه فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا.

فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله! والله أنا كنت أظلم مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي، فما أوذي بعدها).

(6/3)

شرح ألفاظ حديث الخصومة بين العمرين

هذا الحديث فيه وقُوع شيء من الخلاف -كما يقع بين البشر- بين أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فأخطأ أبو بكر في حق عمر، ثم ندم أبو بكر فأراد أن يستسمح من عمر فأبي عليه، فذهب أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حاسراً ثوبه عن ركبتيه، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة قال: (أما صاحبكم فقد غامر) أي: دخل في غمرة الخصومة، وقيل: سبق بالخير، (فسلم أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم وجلس إليه وقص عليه القصة وقال: كان بيني وبين ابن الخطاب شيءٌ -أي: محاورة، أو مراجعة، أو مقاولة، أو معاتبة-فأسرعت إليه -أي: فأغضبته- فأغضب أبو بكر عمر فانصرف عنه مغضباً فاتبعه أبو بكر، قال أبو بكر: ثم ندمت على ما كان، فسألته أن يغفر لي -أي: أن يستغفر لي- فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهي فأبى عليّ)، وفي رواية: (فتبعته إلى البقيع حتى خرج من داره وتحرز مني بداره، فاعتذر أبو بكر إلى عمر فلم يقبل منه فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثة -أي: أعاد هذه الكلمة ثلاث مرات- ثم إن عمر ندم فذهب إلى بيت أبي بكر الصديق لكي يصافيه ويعتذر منه فسأل عنه، فقالوا: خرج من المنزل، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليجده عنده، فلما سلم عمر وجلس جعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر -أي: تذهب نضارته من الغضب- وكان النبي صلى الله عليه وسلم أبيض جميلاً كأن القمر يجري في وجهه صلى الله عليه وسلم، فجعل وجهه يحمر من الغضب وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم).

وفي رواية: (فجلس عمر فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تحول فجلس إلى الجانب الآخر فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام فجلس بين يديه فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله! ما أرى إعراضك إلا لشيء بلغك عني، فما خير حياتي وأنت معرض عني؟ -أي: أيُ خيرٌ لي في هذه الدنيا وفي هذه الحياة إذا كنت معرضاً عني- فقال: أنت الذي اعتذر إليك أبو بكر فلم تقبل منه -أي: طلب أخوك أن تستغفر له فلا تفعل! - فقال: والذي بعثك بالحق ما من مرةٍ يسألني إلا وأنا أستغفر له، وما خلق الله من أحدٍ أحب إليّ منه بعدك، فقال أبو بكر: وأنا والذي بعثك بالحق كذلك).

ولما تمعر النبي صلى الله عليه وسلم أشفق أبو بكر أن يكون من رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر ما يكره، فجثا أبو بكر -أي: برك- على ركبتيه، ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (والله أنا كنت أظلم) وقال ذلك؛ لأنه كان هو البادئ، فجعل أبو بكر يعتذر حتى لا يجد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه على عمر، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن فضل الصديق، وقال: (إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله).

وواساني من المواساة، وسميت مواساة لأن صاحب المال يجعل يده ويد صاحبه في ماله سواء، ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟) في رواية: (تاركو) وجزم بعضهم بأنها خطأ، ووجه بعضهم بوجه من وجوه اللغة لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟ فما أوذي بعدها).

(6/4)

فوائد حادثة الخصومة بين العمرين

هذه الحادثة يؤخذ منها فوائد متعددة، فمن هذه الفوائد:

(6/5)

فضل الصديق ومكانته في الإسلام

أولاً: فضل الصديق -رضي الله عنه- وهو السابق إلى الإسلام وهو أكثر الصحابة نفعاً للدعوة على الإطلاق، واسى النبي صلى الله عليه وسلم بأهله وماله ونفسه، ولما جعل الكافر يخنق النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر يذب عنه، ويقول: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28].

وهو الذي دفع ماله كله في سبيل الله، وحمى النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، وكان يبذل ماله للمسلمين، وكان يدعو إلى الله، وأسلم على يديه عدد من كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وهو الوزير الأول للنبي صلى الله عليه وسلم، وصاحب الرأي الأعظم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأفضل الأمة بعد النبي عليه الصلاة والسلام، وهو خليفته من بعده، وهو الذي تصدى للمرتدين لما غُمّي الأمر على عددٍ من الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم فقام بالأمر، وهو الذي وقف ذلك الموقف المشهود، وكان أفقه الصحابة لما مات عليه الصلاة والسلام واضطرب الأمر، ثم تلا عليهم قول الله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر:30] فكأن الناس سمعوها لأول مرة، ويظنونها نزلت الآن، فلما تلا عليهم الآية علم الناس أن النبي عليه الصلاة والسلام قد مات، وهو الذي قال في ذلك الموقف العظيم: [والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه للنبي صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه].

فلما رأى عمر إصرار أبي بكر علم أنه هو الحق، وأن الله قد شرح صدر أبي بكر للحق، وهو الذي أنقذ المسلمين في سقيفة بني ساعدة من التفرق رضي الله عنه، وهو الذي استتب بسببه الأمن في الجزيرة لما كفر العرب أجمعون، إلا أهل المدينة ومكة، وطائفة قليلة من العرب.

وبدأ في عهده التجهيز لغزو بلاد فارس والروم.

هذا الصديق هو أحب الرجال إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وبنته أحب النساء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، حدث بينه وبين عمر هذه الخصومة.

(6/6)

ترك إغضاب الفاضل لمن هو أفضل منه

الفائدة الثانية: أن الفاضل لا ينبغي له أن يغاضب من هو أفضل منه، وينبغي أن يحفظ له حقه، وأن الشخص الفاضل ينبغي أن يكون له مكانة في المجتمع، ولا يرد عليه، ولا يمنع طلبه، وإنما يعطى حقه ويلبى طلبه لفضله ومكانته.

(6/7)

جواز مدح المرء عند أمان الفتنة

ثالثاً: جواز مدح المرء في وجهه إذا أُمنت الفتنة، فإن الأصل عدم جواز مدح المرء في وجهه، ولكن إذا أمنت الفتنة جاز ذلك كما مدح النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر في محضرٍ من الصحابة، لما علم الله أن أبا بكر من الأتقياء، الذين لا يغترون بالمدح، والنبي صلى الله عليه وسلم -وهو الذي يوحى إليه والمؤيد من ربه- مدح الصديق في حضرة الصحابة، فإذا أمن الافتتان والاغترار بالشخص جاز مدحه للمصلحة، كتبيان فضله حتى لا يعتدى عليه.

(6/8)

مفاسد الغضب

ورابعاً: أن الغضب يحمل الإنسان على ارتكاب خلاف الأولى وترك الأفضل، أو ترك ما ينبغي أن يكون في ذلك الموقف، لكن الغضب يصرف الإنسان عن الرؤية الصحيحة فلا يتخذ الموقف الصحيح.

(6/9)

الرجوع عن الخطأ من صفات الفضلاء

والخامس: أن الفاضل في الدين يُسرع بالرجوع، فإن الناس يخطئون والصحابة بشر يخطئون، ولكن ما هو الفرق بيننا وبين الصحابة؟ أنهم أقل أخطاءً منا بكثير، ولكن إذا أخطئوا سرعان ما يرجعون إلى الصواب وإلى الحق رضي الله عنهم.

فالمشكلة حصلت بين أبي بكر وعمر ولكن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما رجعا بسرعة، فندم أبو بكر ليس بعد هذه الخصومة بساعات طويلة أو أيام أو شهور وإنما ندم مباشرةً، فرجع إلى بيت عمر، ولما أخطأ عمر ولم يقبل اعتذار أبي بكر، ندم عمر بسرعة وذهب إلى بيت الصديق، وهذه السرعة العجيبة في الرجوع إلى الحق هي التي ميزت أولئك القوم؛ حتى صاروا أفضل هذه الأمة، واختارهم الله لصحبة نبيه ونصرة دينه، والجهاد مع محمدٍ صلى الله عليه وسلم ومعايشة التنزيل ونزول الوحي، فهم أنصاره ووزراؤه رضي الله تعالى عنهم، وهم أفقه الأمة وأعلمها بالحلال والحرام وأبرها قلوباً، ولا يبغضهم إلاَّ منافق ولا يسبهم إلا ملعون.

وينطبق في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] أي: هؤلاء المتقون إذا مسهم طائف من الشيطان كغضب في خصومة، أو سوء تفاهم فإنهم سرعان ما يرجعون، ولذلك قال الله: {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] وسرعة رجوعهم إلى الحق هذه من مناقبهم وفضائلهم رضي الله تعالى عنهم.

إن الصحابة بشر يخطئون، وهل هناك أعظم من أبي بكر وعمر -رضي الله تعالى عنهما- بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟!! ومع ذلك حصل منهم ما يحصل من البشر من سوء التفاهم والخصومة، فهم بشر! وليسوا ملائكة، وهم يخطئون ويقع منهم الخطأ، لكنهم رجاعون إلى الحق، وهذه هي الميزة العظيمة التي عندهم.

(6/10)

التحلل من المظالم

والسادسة: الاستغفار والتحلل من المظلوم؛ فإن الإنسان إذا ظلم أخاه وتعدى عليه وأساء إليه وأخطأ في حقه؛ فإن المندوب له أن يأتيه ويطلب منه أن يستغفر له، وأن يتحلل من هذا المظلوم ويقول له: سامحني وحللني واستغفر لي وتجاوز عني ونحو ذلك ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت له عند أخيه مظلمة -من ظلم أخاه- فليتحلل منه اليوم قبل ألا يكون دينارٌ ولا درهم ولكن بالحسنات والسيئات).

(6/11)

ترك ذكر الاسم مباشرة عند الغضب

وسابعاً: أن الإنسان إذا غضب على صاحبه ربما لم يذكر اسمه مباشرة، وإنما ينسبه إلى أبيه أو جده، كما قال أبو بكر رضي الله عنه: (كان بيني وبين ابن الخطاب شيء).

(6/12)

الركبة ليست عورة

والفائدة الثامنة: أن الركبة ليست بعورة، لأن أبا بكر جاء وقد حسر عن ركبتيه والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه.

(6/13)

قبول اعتذار المخطئ

والفائدة التاسعة: أن الإنسان لا ينبغي له أن يرد اعتذار من اعتذر إليه، ويغلق الباب في وجهه، أو يرفض قبول الاعتذار، وهذا يفعله عدد من الناس من فجورهم في الخصومة، فتراهم لا يقبلون الاعتذار ولا يرجعون ويبقون سنوات على ذلك، وكلما حاول فيهم الشخص أن يعتذر إليهم لم يقبلوا منه، بل ربما ظلوا على ذلك حتى الممات لا يقبلون المعذرة ولا يسامحونه، وليست هذه من شيم المؤمنين ولا من أخلاق المتقين؛ بل هذه من صفات المعاندين الذين ركب الشيطان في رءوسهم فنفخهم فجعلوا يرفضون الاعتذارات، ويرفضون العودة والقبول، وإن من شيم المؤمن أن يكون هيناً ليناً يقبل اعتذار أخيه.

(6/14)

معرفة النبي صلى الله عليه وسلم لحال أصحابه بالتوسم

الفائدة العاشرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف بالتوسم حال أصحابه، فبمجرد ما رأى أبا بكر قال: (أما صاحبكم هذا فقد غامر) فعرف ما به وحاله من هيئته وشكله ومنظره، وطريقة تشميره عن ثيابه، وعرف أن أبا بكر قد دخل في خصومة قبل أن يتكلم أبو بكر رضي الله عنه.

(6/15)

الإتيان إلى البيت للاعتذار

الفائدة الحادية عشرة: أن الإنسان إذا أراد أن يستسمح من آخر فليأته إلى بيته، فـ أبو بكر لما أخطأ في حق عمر جاء إلى بيت عمر ولحقه إلى بيته، ولما ندم عمر جاء إلى أبي بكر في بيته؛ لأن الإتيان إلى البيت فيه مزيد من تطييب الخاطر، وكذلك فيه إظهار الكرامة للمخطي عليه؛ لأنه يأتيه في بيته، وكذلك فيه مزيد من الاعتناء بالاعتذار؛ لأنه ليس في الشارع أو الهاتف، أو يرسل له رسالة، أو يوكل أحداً من الناس يقول له: اعتذر لي من فلان، وإنما يأتيه في بيته، فإتيانه فيه مزيد من الاعتناء بالاعتذار، وهذا ما ينبغي أن يفعل عند حدوث الأخطاء.

(6/16)

اللجوء إلى أهل العلم في حل المشاكل

الفائدة الثانية عشرة: أن الإنسان إذا حدثت بينه وبين أخيه مشكلةٌ لم يستطع أن يحلها؛ فإن عليه أن يلجأ لأهل العلم، وأن يقص القصة دون زيادةٍ ولا نقصان، فإن أبا بكر لما أيس من مسامحة عمر له جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقص عليه الخبر؛ حتى يقوم النبي عليه الصلاة والسلام بالتدخل والمصالحة -مثلاً- أو بيان الحق في المسألة أو الحكم ونحو ذلك.

(6/17)

تواضع الصديق رضي الله عنه

والفائدة الثالثة عشرة: تواضع أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما جعل يقول: (والله يا رسول الله! لأنا كنت أظلم)، ولم يشأ أبو بكر ولم يسره أن يسكت حتى يشتد النبي عليه الصلاة والسلام على عمر أكثر، وإنما كان أبو بكر يريد سرعة إنهاء الموضوع، وبدون أن يعنف النبي عليه الصلاة والسلام على عمر بمزيدٍ من التعنيف؛ ولذلك تدخل أبو بكر ولم يدع النبي عليه الصلاة والسلام يكمل الاشتداد على عمر، وجعل يعترف ويقول: (أنا كنت أظلم أنا كنت أظلم) رأفة ورحمة وإنقاذاً لأخيه عمر من هذا الموقف الحرج؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يتكلم وليس كلامه ككلام غيره وبحضرة الصحابة الآخرين، فهو موقف صعب على عمر، فلم يقل أبو بكر: دعه يلقنه درساً لا ينساه، ولأدع عمر يقف هذا الموقف المحرج حتى يتعلم مرة ثانية ألا يسيء إليّ ونحو ذلك مما يقع من بعضنا في مثل هذا الموقف، لكن لأن الصديق أرفع درجةً من ذلك فقد تدخل لإنقاذ أخيه وصاحبه عمر من الموقف المحرج.

(6/18)

حفظ حق الفاضل وترك أذيته

الفائدة الرابعة عشرة: أن الفاضل ينبغي ألا يُؤذى ويحفظ حقه، وأن يندب إلى ذلك، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هل أنتم تاركون لي صاحبي؟) فينبغي أن يشهر ويعلن بين الناس أن يتركوا فلاناً من الأذى إذا كان له سابقة وفضل، وأن ينوه بسابقته وفضله؛ حتى يترك الناس إيذاءه، ويعرفوا مقداره، ويكفوا شرهم عنه، ويوقروه ويعرفوا حقه وقيمته وقدره، فقال عليه الصلاة والسلام: (إني رسول الله إليكم جميعاً فقلتم: كذبت وقال أبو بكر: صدقت وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟) فنوه بفضله وقيمته ومنزلته حتى لا يعتدى عليه.

(6/19)

خشية المخطئ على نفسه من العقوبة

الفائدة الخامسة عشرة: أن الإنسان المخطئ عليه أن يخشى على نفسه من العقوبة؛ ولذلك لما جاء عمر رضي الله عنه جلس عن يمين النبي -عليه الصلاة والسلام- ثم عن شماله ثم بين يديه، ثم قال: (يا رسول الله! فما خير حياتي وأنت معرض عني) فهذه كلمة بالغة في الرقة حيث يقول: إذا أنت غضبت عليَّ فما خير العيش لي بعد ذلك مع غضبك؟! فلا يمكن أن يطيب لي عيشٌ وأنت عليّ غضبان، فهذا فيه استرضاء.

(6/20)

استرضاء العالم والقدوة حال غضبه

الفائدة السادسة عشرة: استرضاء العالم والقدوة والكبير إذا غضب، والمسارعة إلى التخفيف من غلواء غضبه، والمبادرة إلى الاعتذار والرجوع.

(6/21)

الإعلان بالرجوع عن الخطأ

الفائدة السابعة عشرة: الإعلان بالرجوع عن الخطأ؛ لأن بعض الناس ربما لا يقوى على الإعلان بالرجوع عن الخطأ، وإنما يريد أن يعتذر سراً، وليس أمام الناس، ولكن أبا بكر يقول: (أنا كنت أظلم) أمام الجميع، وعمر جاء يعتذر للنبي صلى الله عليه وسلم أمام الجميع، فلم يكن ليمنعهم عن إظهار الاعتذار أن يكون بعض الناس حاضرين، ويقولون: نحفظ ماء وجهنا بأن نأخذ النبي عليه الصلاة والسلام على جنب ونكلمه ونعتذر له، ولكنهم لا مانع عندهم أن يعتذر الإنسان، ويعترف بخطئه أمام الآخرين، ولم ينقص قدرهم رضي الله عنهم.

(6/22)

أخطاء العمرين لا تنقص من قدرهما

الفائدة الثامنة عشرة: أن أفضل رجلين في الإسلام بعد النبي عليه الصلاة والسلام ما غض من قدرهما، ولا نقص من قيمتهما، أنهما أخطئا ورجعا، فهما أخطئا وجاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونقلت القصة، والقصة في صحيح البخاري ومسند أبي يعلى وغيره من المصنفين، ومع ذلك فلا نجد في أنفسنا حرجاً ولا غضباً ولا شيئاً على الصديق وصاحبه أبداً؛ بل نجد كامل المحبة لهما؛ لأن خطأهما فائدة لنا، أي: إن من بركتهم أن أخطاءهم فائدة لنا، يتعلم المرء منها أشياء كثيرة، مما ينبغي أن يكون عليه الموقف.

(6/23)

أهمية تقديم المال للدعوة إلى الله

الفائدة التاسعة عشرة: أهمية تقديم المال والدعم للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأن الإنسان إذا قدم المال والنفس في الدعوة إلى الله فإن ذلك مما يرفع قدره ومنزلته، ويستوجب صيانة حرمته والكف عن إيذائه؛ لأن التقديم في سبيل الدعوة الحقيقية عبادة عظيمة؛ لأن النفع متعدٍ، ونشر الخير والهداية إلى الآخرين، سبب في إنقاذ الناس من النار والكفر؛ ولذلك من أسباب علو منزلة الصديق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق وواساني بنفسه وماله).

فإذاً: تصديق أبي بكر للداعية الأول عليه الصلاة والسلام، ومواساته بالنفس؛ حيث عرض نفسه للخطر في عدد من المواضع من أجل النبي صلى الله عليه وسلم، وواساه -كذلك- بماله، فالتقديم للدعوة كتقديم النفس والمال، والجهد، والتضحية لا شك أن لها فضلاً عظيماً؛ لأن الدعوة مجالٌ لهداية الناس، ونشر النور إلى الآخرين.

(6/24)

فضل السابقين في الدعوة

الفائدة العشرون: أن الإنسان كلما كانت سابقته أقدم في الدعوة، وتقديمه أبكر من غيره كلما كان أفضل؛ ولذلك قال الله عز وجل: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] أي: الذي أنفق في وقت غربة الدين وضعف المسلمين، وفي المرحلة المكية، وأنفق في وقت الاضطهاد، وفي وقت الحاجة الماسة، لما كان الناس لا يجدون شيئاً، وكان المسلمون في غاية الشدة والعسر، فهذا لا شك أن بذله أكثر أجراً ممن بذل في وقت الرخاء والسعة.

ولذلك فإنه كلما أمكن الإنسان أن يبكر بالتقديم والعطاء والدعوة في سبيل الله يكون أجره أكبر -ولا شك في ذلك- وكلما كان العطاء في وقت الشدة، وفي وقت مبكر يكون أفضل قال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10] وكلهم له أجر {وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10].

(6/25)

حادثة الخصومة بين الصديق وربيعة الأسلمي

هذه قصة مشابهة حصلت مع أبي بكر -رضي الله عنه- وفيها شيءٌ مما يجب أن يكون في الخصومة بين الإخوة.

(6/26)

أحداث قصة الخصومة بين ربيعة والصديق

وهذه القصة سندها جيد يرويها الإمام أحمد -رحمه الله- في مسنده عن ربيعة الأسلمي قال: (كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ربيعة ألا تزوج؟ قلت: والله يا رسول الله ما أريد أن أتزوج -عرض عليه الزواج لما في الزواج من صيانة العرض والدين- قال: يا رسول الله: ما أريد أن أتزوج؟ ما عندي ما يقيم المرأة -أي: ليس عندي نفقة- وما أحب أن يشغلني عنك شيءٌ -أي: أخشى أن تشغلني الزوجة عنك وعن خدمتك يا رسول الله، فهو يريد أن يخدم النبي عليه الصلاة والسلام بنفسه ويوقف عليه- فأعرض عني -أي: ترك دعوته للزواج- فخدمته ما خدمته، ثم قال لي الثانية: يا ربيعة ألا تزوج؟ فقلت: ما أريد أن أتزوج، ما عندي ما يقيم المرأة وما أحب أن يشغلني عنك شيءٌ، فأعرض عني، ثم رجعت إلى نفسي فقلت: والله لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما يصلحني في الدنيا والآخرة أعلم مني -أي: أنا راغب عن الزواج من أجل الأجر في خدمته عليه الصلاة والسلام، لكن هو الذي أشار عليَّ بالزواج فمعنى هذا أن الزواج فيه أجر لي أكثر من أن أترك الزواج لخدمته- فقال: والله لئن قال تزوج لأقولن: نعم يا رسول الله مرني بما شئت، قال: فقال: يا ربيعة -المرة الثالثة- ألا تزوج؟ فقلت: بلى مرني بما شئت، قال: انطلق إلى آل فلان حي من الأنصار، وكان فيهم تراخٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم -أي: لم يكونوا يواظبون على حضور مجالسه عليه الصلاة والسلام؛ لأجل مشاغلهم الضرورية من كسب العيش وغيره، وهذا معنى تراخيهم عن النبي صلى الله عليه وسلم- فانطلق ربيعة إليهم قال: فقل لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إليكم يأمركم أن تزوجوني فلانةً -لامرأةٍ منهم- فقالوا: مرحباً برسول الله وبرسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لا يرجع رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بحاجته -أي: إلاَّ وحاجته مقضية- فزوجوني وألطفوني وما سألوني البينة -أي: لم يسألوا عني ولا استوضحوا عن خبري ولا عن أخلاقي وديني- فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حزيناً، فقال لي: ما لك يا ربيعة؟ فقلت: يا رسول الله أتيت قوماً كراماً فزوجوني وأكرموني وألطفوني وما سألوني بينةً؛ لأنهم وثقوا -أي: ما دام أنه من عند النبي عليه الصلاة والسلام فلم يسألوا عن أي شيء- قال: وما سألوني بينةً وليس عندي صداقٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بريدة الأسلمي اجمعوا له وزن نواةٍ من ذهب قال: فجمعوا لي وزن نواة من ذهب، فأخذت ما جمعوا فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اذهب بهذا إليهم فقل: هذا صداقها، فأتيتهم فقلت: هذا صداقها -أي: هذا المهر- فرضوه وقبلوه وقالوا: كثيرٌ طيب) -ليسمع هذا أصحاب المغالاة في المهور فقد يصل المهر في هذا العصر إلى الخمسين والمائة ألف والمائتين ألف- (فرضوه وقبلوه وقالوا: كثيرٌ طيب قال: ثم رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم حزيناً فقال: يا ربيعة ما لك حزينٌ؟ فقلت: يا رسول الله! ما رأيت قوماً أكرم منهم رضوا بما آتيتهم وأحسنوا، وقالوا: كثيرٌ طيب وليس عندي ما أولم -أي: قد انحلت مشكلة العقد فعقدنا، والبنت قد وجدناها، والمهر اديناه، وبقيت الوليمة- قال: يا بريدة اجمعوا له شاةً) فلننظر كيف تنحل المشاكل بسرعة في العهد النبوي، فليس هناك مشكلة تجلس السنة والسنتين، فيقول لهم: اجمعوا فيجمعوا له بسرعة؛ لأن الحلول جاهزة للمشكلات، والأمور ميسرة وبسيطة، وتمشي الأمور على السعة.

لأن الغاية أن يحصل العفاف والزواج قال: (فجمعوا لي كبشاً عظيماً -أي: ما يكفي لشراء كبش كبيرٍ سمين- فجمعوا لي كبشاً عظيماً سميناً، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب إلى عائشة فقل لها: فلتبعث بالمكتل الذي فيه الطعام -والمكتل: زنبيل ووعاء يسع خمسة عشر صاعاً- قال: فأتيتها فقلت لها ما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: هذا المكتل فيه تسع آصع شعير -والآصع: جمع صاع، ويجمع على: أصوع وصيعان- وقالت: لا والله إن أصبح لنا طعامٌ غيره -أي: لا والله ما عندنا طعام غير هذا الذي طلبه النبي عليه الصلاة والسلام، فكل الموجود عندنا تسع أصواع من الشعير، وهذا هو كل الذي في مطبخ عائشة إذا كان عندها مطبخ، وإنما هي حجرة لـ عائشة - فقالت: خذه -لأن زوجها أمر بذلك، فهي لم تبخل به- قال: فأخذته فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته ما قالت عائشة، فقال: اذهب بهذا إليهم فقل: ليصبح هذا عندكم خبزاً، فذهبت إلى أهل العروس وذهبت بالكبش ومعي أناس من أسلم فقال: ليصبح هذا عندكم خبزاً وهذا طبيخاً) -أي: أنا أتيت لكم بالمواد الخام، وأنتم عليكم الصناعة لأهل العروس، فهذا الشعير اخبزوه، وهذا الكبش اذبحوه واطبخوه- (فقالوا: أما الخبز فسنكفيكموه، وأما الكبش فاكفونا أنتم) -فهو أخذ أناساً من جماعته من بني أسلم فقالوا: الخبز مقدور عليه عندنا لأن لدينا من يخبز، وأما الكبش فعليكم، فلننظر إلى سلاسة وسهولة المسألة، فليس هناك اعتراضات، يقول لي أحد الإخوة: لما جئنا نتناقش في موضوع زواج البنت وجلسنا مع الرجل وأب الزوج كان نقاشاً عجيباً حتى ذكروا الشروط والنقاش وأشياء أخرى، حتى أن أباه قال: على من الببسي؟ قلنا: الببسي علينا، قال: إيه لا بد أن يكون كل شيء واضحاً- (قالوا: أما الخبز فسنكفيكموه، وأما الكبش فاكفونا أنتم، فأخذنا الكبش أنا وأناس من أسلم فذبحناه وسلخناه وطبخناه، فأصبح عندنا في الصباح خبزٌ ولحم، فأولمت ودعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: -أي ربيعة الأسلمي - إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني أرضاً -أي: بعد الزواج جاء الخير- وأعطاني أبو بكر أرضاً، وجاءت الدنيا فاختلفنا في عذق نخلة) -يبدو أن بعض النساخ أو بعض الشراح قال: إن كلمة أعطاني خطأ من خطأ النساخ وأن الصحيح (أعطاني أرضاً وأعطى أبا بكر أرضاً، وجاءت الدنيا فاختلفنا في عذق نخلة -فقلت أنا: -أي: ربيعة الأسلمي - هي في حدي وقال أبو بكر: هي في حدي) -أي: أن الدنيا جاءت، وكل واحد يقول عن النخلة أنها في حده، والحد هو: الحاجر بين الشيئين، فكل واحد منهما يظن أن النخلة في أرضه المملوكة -قال: (فكان بيني وبين أبي بكر كلامٌ، فقال أبو بكر كلمة كرهها وندم -أي: أثناء المحاورة- فقال لي: يا ربيعة رد علي مثلها حتى تكون قصاصاً) -فـ أبو بكر رضي الله عنه قال كلمة غليظة في الحوار وندم مباشرة، ومع أنه تلك الشخصية المباركة، إلاَّ أنه ندم فوراً على الكلمة، وقال: يا ربيعة رد علي مثلها حتى تكون قصاصاً فلابد أن تقول لي نفس الكلمة وترد بها علي فلو قلت لك: يا غبي لا بد أن تقول لي: يا غبي حتى تصير قصاصاً، ولو قلت لك: يا طماع لا بد أن تقول لي: يا طماع حتى تصير واحدةً بواحدة، فـ أبو بكر يصر على القصاص؛ لأن القصاص في الدنيا أهون من القصاص في الآخرة- قال: (قلت: لا أفعل، فقال أبو بكر: لتقولن أو لأستعدين عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم -أي: أشتكيك- فقلت: ما أنا بفاعل قال: ورفض الأرض -أي: أن أبا بكر ترك النخلة- وقال: خذ النخلة، وترك الأرض التي فيها العذق المتنازع عليه، فتركها لـ ربيعة تكرماً -أي: تكرماً من الصديق ترك الأرض لـ ربيعة وبقيت الكلمة؛ لأن الأرض عند الصديق ليست مشكلة، إنما المشكلة في الكلمة- وانطلق أبو بكر -رضي الله عنه- إلى النبي صلى الله عليه وسلم وانطلقت أتلوه -أي: أتبعه- فجاء ناسٌ من أسلم -من قبيلة ربيعة - فقالوا لي: لما علموا القصة رحم الله أبا بكر في أي شيء يستعدي عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قال لك ما قال؟ -أي: لماذا يشتكيك وهو المخطئ؟! - فقلت: أتدرون ما هذا؟ هذا أبو بكر الصديق وثاني اثنين وذو شيبة المسلمين، إياكم! لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيغضب لغضبه فيغضب الله عز وجل لغضبهما فيهلك ربيعة، قالوا: ما تأمرنا؟ قال: ارجعوا، فانطلق أبو بكر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبعته وحدي -بدون جماعة- حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم -أي: الصديق - فحدثه الحديث كما كان، فرفع إلي رأسه صلى الله عليه وسلم، فقال لي: يا ربيعة ما لك وللصديق؟ قلت: يا رسول الله! كان كذا، كان كذا، قال لي: كلمةً كرهها، فقال لي: قل كما قلت حتى يكون قصاصاً فأبيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل.

لا ترد عليه ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر، فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر، فولى أبو بكر -رضي الله عنه- وهو يبكي).

فالآن التشابه بين القصتين في أنه حصل شيءٌ من سوء التفاهم بين أبي بكر -رضي الله عنه- وبين ربيعة الأسلمي، ولكن لننظر السرعة العجيبة في رجوع أبي بكر الصديق والاعتذار والتنازل عن الأرض أصلاً، ثم إن ربيعة رضي الله عنه يعرف قدر الصديق، ولذلك قال: (أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر الصديق، ثاني اثنين وذو شيبة المسلمين) أي: هذا شيبتنا، وكبيرنا بعد النبي عليه الصلاة والسلام، فلو غضب يمكن أن يغضب الله علينا لغضب النبي صلى الله عليه وسلم.

كذلك فإن ربيعة لم يرد أن يتكلم ع

(6/27)

فوائد من قصة الخصومة بين ربيعة والصديق

القصة هذه لوحدها فيها فوائد كثيرة في مسألة تيسير الزواج والمهور، وكيفية استقبال الناس لصاحب الدين إذا جاءهم ليتزوج، وكيفية جمع المهر وتيسير الأمور، وحل المشكلات بين أهل الزوجة والزوج وأهل الزوج والشخص المتقدم، وكيف أن الدنيا يمكن أن تكون سبباً للمشكلات بين الإخوة، وهذه من أهم الفوائد.

قال ربيعة كلمة عظيمة: (وجاءت الدنيا فاختلفنا في عذق نخلة فقلت أنا: هي في حدي، وقال أبو بكر: هي في حده) فهذه الدنيا هي سبب الخلاف، وهي التي تجر الخصومة، ثم تجر الكلام الذي لا يليق بين الإخوة.

وكيف أن الصديق أراد أن يتحلل في الدنيا قبل الآخرة، وأن الإنسان لا يستعين بقومه على الباطل، والنبي عليه الصلاة والسلام أخبر أن الذي يعين قومه على غير الحق مثل البعير المتردي بذنبه، فإذا تردى بذنبه فلا يمكن لأحدٍ أن يخرجه؟ وإذا تردى في بئر لا يمكن لأحدٍ أن يسحبه؛ ولذلك يدفعونه إلى الهلاك دفعاً، ورجوعه صعب إذا قام قومه معه بالباطل.

فهذه قصة الصديق رضي الله عنه في الحالتين تبين أشياء كثيرة من حقوق الأخوة، وتبين الحالة التي يجب أن تكون بين الإخوة، وتبيّن كذلك أن الخلاف بنيهم لا يمكن منعه بالكلية، وتبين كذلك الموقف الصحيح لمعالجة هذه الأمور الخلافية.

(6/28)

الأسئلة

(6/29)

الحج وغفران الذنوب

السؤال

هل الحج يغفر الغيبة والنميمة والحلف في اليمين؟

الجواب

أما الكبائر فتحتاج إلى توبة خاصة، وأما حقوق البشر فلا بد من إرجاعها والتحلل منهم، وأما بقية الأشياء فيمكن أن تغفر بالحج كلها.

(6/30)

حكم علاج المريض من أموال الزكاة

السؤال

مرض قريبٌ لي فأدخل المستشفى ولم يكن لديه ما يسد به نفقات العلاج، فهل يجوز أن يكون ذلك من الزكاة؟

الجواب

نعم، إذا كان لا يقدر على العلاج وهو محتاج فيُعطى من الزكاة.

(6/31)

حكم إعطاء الزكاة للخدم

السؤال

ما حكم إعطاء الزكاة للخادمة؟

الجواب

لا يجوز للإنسان أن يستفيد من الزكاة بشيء، ولا أن يرغب الخادمة بالبقاء، أو أن يجعل الزكاة وسيلة لتحسين خدمتها -مثلاً- ولذلك لا يعطيها من الزكاة، وهذا هو رأي الشيخ عبد العزيز -حفظه الله-.

(6/32)

ميقات الإحرام للعمرة

السؤال

جئت إلى الظهران للدراسة لمدة سنة، وأعود يوم الأربعاء إلى الجمعة من كل أسبوع إلى مدينة جدة، فإذا أردت العمرة هل يكون الإحرام من جدة أو من الظهران؟

الجواب

إذا كان لك بيتٌ في جدة، فيجوز لك أن تحرم من جدة من بيتك؛ لأنك من أهل جدة، فيكون لك بيت هنا، وبيت في جدة وإذا لم يكن لك بيتٌ في جدة فإنك تحرم من المكان الذي يحرم منه أهل المنطقة هنا.

(6/33)

إعطاء الحقوق العامة عند الهجران

السؤال

إذا كان صديقك يبتعد عنك، ولا يقوم بواجب الصداقة، وهو قام بالخصومة فهل أفارقه؟

الجواب

( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)، فأنت عليك أن تلقاه وتسلم عليه، وتعطيه الحقوق العامة على الأقل: (إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصحه، وإذا عطس فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه) فهذه الحقوق العامة تعطيه إياها، ثم بعد ذلك إذا هو صدك فأنت ليس عليك إثم، وإذا سلمت عليه ولم يرد عليك رد عليك من هو خيرٌ منه وأطيب وهم الملائكة كما جاء في الحديث الصحيح.

(6/34)

جواز الاعتذار بالهاتف والرسالة عند الخطأ

السؤال

هل يجوز الاعتذار بالهاتف أو الرسالة؟

الجواب

نعم، ولا شك في ذلك، لكن الأولى أن يأتيه في بيته ويعتذر إليه، ولكن قد يكون ذاك في بلد بعيد أو أن في الإنسان بعض الحساسيات والاحراجات، ويريد أن يتلافى المواجهة بالرسالة فلا بأس.

(6/35)

حكم ميداليات المفاتيح المطلية بالذهب

السؤال

ما حكم ميدالية المفاتيح المطلية بالذهب؟

الجواب

لا يستعمل الرجال المطلي بالذهب.

(6/36)

حكم الهدايا المقدمة من المرابين

السؤال

ما حكم الهدايا التي تقدم من المرابين؟

الجواب

إذا كانت أموالاً ربوية فلا تقبل، ويمكن أن توضع في مكان عام، أو تعطى لفقراء أو أناس يستفيدون منها، كالمال الضائع الذي ليس له صاحب.

(6/37)

حكم من نوى الإفطار في السفر ولم يفطر

السؤال

كنت على سفر فنويت الإفطار، ولكني لم أفطر؟

الجواب

هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، فذهب بعضهم: إلى أنه يفطر بمجرد نية الإفطار، وقال بعضهم: لا يفطر إلا إذا تعاطى مفطراً كالأكل أو الشرب أو الجماع وهذا هو الراجح إن شاء الله، ولكن الأحوط أن يقضي خروجاً من خلاف أهل العلم.

(6/38)

حكم شرب الماء عند أذان الفجر

السؤال

شربت ماءً بعدما بدأ أذان الفجر؟

الجواب

ينبغي على الإنسان إذا أذن أن يمتنع عن الطعام والشراب، ولكن مثل هذا الذي أكل أو شرب أثناء الأذان لا يؤمر بالقضاء، إلا إذا كان الأذان على طلوع الفجر الصادق حقيقة يراه أمامه، فعند ذلك يكون قد أكل في نهار رمضان وشرب فيؤمر بالقضاء والتوبة.

(6/39)

جواز كشف المرأة لشعرها عند إقامة حلقة قرآنية في المنزل

السؤال

هل يجب على المرأة أن تغطي شعرها أثناء إقامة حلقة القرآن في البيت؟

الجواب

يجوز أن تقرأ وهي كاشفة الشعر.

(6/40)

حكم إجابة دعوة من يعمل في الربا

السؤال

ماذا نفعل في رجل ممن يعمل في الربا، ولكنه يدعونا إلى بيته، وإذا امتنعنا يحصل قطيعة رحم؟

الجواب

يمكن أن تذهبوا إليه ولا تطعموا عنده، أو تدعوه إلى بيتكم أو تذهبوا بطعامكم إليه، أو إذا كان له كسبٌ مختلط يجوز الأكل من طعامه حينئذٍ، أو إذا كانت زوجته موظفة والمال مشترك بينهما يؤكل من طعامهم؛ لأن الحرام لم يتميز.

(6/41)

حكم الصدقة بخلاف نية المتبرع

السؤال

أعطى أحدهم المؤذن مائة ريال، وقال: اشتر سجادة للإمام، والمسجد مفروش والحمد لله والذي أعطى المال لا نعرفه حتى نرجع المال إليه فماذا نفعل؟

الجواب

إذا كان لا يُشرع فرش السجاد على السجادة، ولا وضع السجادة للإمام والمسجد مفروش فإننا نشتري به مفرشاً لمسجدٍ غير مفروش، أو نضعه في فرش مسجدٍ آخر، فإذا لم يمكن تنفيذ نية المتبرع فنجعلها في أقرب شيء إلى نية المتبرع.

(6/42)

(معنى قول: (اغسل حوبتنا

السؤال

ما معنى اغسل حوبتنا؟

الجواب

الحوبة: الذنب العظيم والذنب الكبير وورد في القرآن: {إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [النساء:2].

(6/43)

قصة إبراهيم وسارة والجبار

هذه قصة من السنة الصحيحة، تعرض فيها أبونا إبراهيم عليه السلام لمحنة عظيمة، وكربة شديدة، حيث دخل وزوجته بلاداً يحكمها أحد الجبابرة، فحاول هذا الجبار اغتصاب هذه الزوجة، فكفه الله عنها بدعائها وإخلاصها.

وفي هذه المحاضرة بيان ثلاث عشرة فائدة من هذه القصة، وإسهاب في بيان إحدى هذه الفوائد، وذلك فيما يتعلق بالمعاريض والتورية وأمثلة عليها من حياة الرسول والصحابة والسلف.

(7/1)

نص حديث قصة إبراهيم وسارة والجبار

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله محمدٍ وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد: فسنتحدث إن شاء الله في هذه الليلة عن قصة رواها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أخيه وأفضل الأنبياء بعدَه: إبراهيم عليه السلام.

هذه القصة رواها البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات: ثنتين منها في ذات الله، قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63]، وواحدةً في شأن سارة، فإنه قد قَدِم أرض جبارٍ ومعه سارة، وكانت أحسن النساء، فقال لها -إبراهيم يقول لزوجته سارة -: إن هذا الجبار -هذا الملك الكافر الطاغية في هذا البلد- إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك، فإن سألك فأخبريه أنك أختي، فإنك أختي في الإسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار، أتاه -هذا القريب للجبار أتى الجبار- فقال له: لقد قدم أرضَك امرأةٌ لا ينبغي لها أن تكون إلا لك، فأرسل إليها، فأُتي بها، فقام إبراهيم عليه السلام إلى الصلاة، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها، فقبِضت يده قبضةً شديدة، فقال: ادْعِي الله أن يُطْلِق يدي ولا أضرك، ففعلت، فعاد، فقبِضت أشد من القبضة الأولى، فقال لها مثل ذلك، ففعلت، فعاد، فقُبِضت أشد من القبضتين الأولَيَين، فقال: ادعِي الله أن يطلق يدي، فلكِ الله ألا أضرك، ففعلت وأُطْلِقت يده، ودعا الذي جاء بها، فقال له: إنك إنما أتيتني بشيطان، ولم تأتني بإنسان، فأخْرِجْها من أرضي وأعطها هاجر، قال: فأقبلت تمشي، فلما رآها إبراهيم عليه السلام انصرف، فقال: مَهْيَمْ؟ قالت: خيراً، كف الله يد الفاجر، وأخدم خادماًَ قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء).

يقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا ثلاث كذبات).

قال في الحديث عن الكذبة الأولى حين دُعِي إلى آلهتهم: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] وذلك أنه لم تكن به علة ولا مرض؛ ولكنه كان سقيم النفس، كاسف البال، حزيناً على شرك قومه؛ لأنهم لم يلبوا نداءه، ولم يطيعوه في دعوته.

فإذاً عندما قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] لم يكن في الحقيقة كذاباً، وإنما استخدم التورية، ويقصد بالمرض (المرض النفسي) أنه مريض النفس، اعتلت نفسه من إصرارهم على الشرك والكفر، قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] لما دعوه للخروج معهم إلى عيدهم، وكانوا يخرجون إلى عيد خارج البلد، قال لهم: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، وقبل أن يقول لهم: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] نظر نظرة في النجوم {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89] وكان هؤلاء القوم كفاراً عبادَ الكواكب والنجوم، ويعتقدون أن النجوم لها تأثير في الحوادث الأرضية، وفي مرض الناس، والإنجاب، والرزق ونحو ذلك، فأراد إبراهيم الخليل أن يقيم عليهم الحجة، {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:88 - 89] عاملهم من حيث كانوا؛ لئلا يُنْكِروا عليه {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات:90] تركوه وذهبوا إلى عيدهم خارج البلد.

لما خلت البلد وصار معبد الأصنام فارغاً دخل إبراهيم على الأصنام، فكسَّرها، ثم وضع القدوم (الفأس) في يد كبيرهم لعلهم يعتقدون أنه هو الذي غار غِيْرةً لنفسه، وأنف أن تُعبد معه الأصنام الصغار، فقام عليها وكسرها.

فلما رجعوا من عيدهم وجدوا أصنامهم مكسَّرة، {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:62] لأنه لم يتخلف عن حضور العيد غيره، {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63] وأشار بإصبعه {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63] أي: غضب من أن يعبد معه الصغار وهو أكبر منها فكسرها.

ماذا أراد إبراهيم من هذا الكلام؟ أن يقيم عليهم الحجة، ولذلك قال لهم: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:63] حتى يخبروا من فعل ذلك بهم، اسألوا الأصنام المكسرة، حتى يخبروكم من كسرها، {إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:63].

فلما قال لهم ذلك رجعوا إلى أنفسهم، وعرفوا أنها لا تنطق، {نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} [الأنبياء:65] رُدُّوا إلى الكفر بعد أن أقروا على أنفسهم بالظلم.

لما قال لهم: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:63] رجعوا إلى أنفسهم، قالوا: {إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} [الأنبياء:64] كيف تعبدون أشياء لا تسمع ولا تبصر.

لكن لما كان القوم على فسادٍ في الطريقة أجيالاً استمرءوا الكفر، وأصروا على الباطل، وعاندوا وتعصبوا لمبدئهم، ورفضوا الحق ورجعوا مرة أخرى، {ثُمَّ نُكِسُوا} [الأنبياء:65] هذا معنى: {ثُمَّ نُكِسُوا} [الأنبياء:65] رجعوا إلى الكفر مرةً أخرى بعد أن لاح لهم الحق، وأقنعهم إبراهيم، وتبينت لهم القضية بالحجة؛ لكنهم رجعوا، نكسوا على أنفسهم، مثل المريض إذا صارت له صحوة ثم انتكس مرة أخرى ورجع إلى المرض، {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء:65] كيف نسألهم وهم لا ينطقون؟ فانتهز إبراهيم الخليل الفرصة، وقال لهم: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ} [الأنبياء:66 - 67] تباً لكم وهلاكاً لكم، {وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:67].

(7/2)

قصة حرق إبراهيم

فلما غلبوا على أمرهم وخافوا الفضيحة ولم تبق لهم حجة اجتمعوا هم وملكهم النمرود على إحراق إبراهيم الخليل عليه السلام، وجعلوا له بنياناً {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات:97] بنوا له بنياناً كالحظيرة، وجعلوه في هذا البنيان، وجمعوا له صلاب الحطب من أصناف الخشب، حتى قيل: إن الرجل منهم كان إذا مرض يقول: لئن عوفيت لأجمعن حطباً لإبراهيم، وكانت المرأة تنذر إن أصابت ما تريد وحصل لها ما تبتغي لتحتطبن في نار إبراهيم، وقيل: إن المرأة منهم كانت تغزل وتشتري الحطب بغزلها، فتلقيه في البنيان إعداداً لحرق إبراهيم، تحتسب الدفاع عن الأصنام والانتصار لها.

وجمعوا الحطب -فيما قيل- شهراً، ولما جمعوا ما أرادوا أشعلوا في كل ناحية من الحطب النار، واشتدت النار، وعلت في السماء حتى أن الطير ليمر بها فيحترق من شدة وهجها، فأوقدوا عليها سبعة أيام، حتى إذا اشتدت لم يعلموا كيف يلقوا إبراهيم فيها، فأتاهم إبليس بفكرة المنجنيق على ما ذكر بعض أهل التفسير، فوضعوه مقيداً مغلولاً، وأطلقوه بالمنجنيق مِن بُعد على هذه النار؛ لأنهم لا يستطيعون الاقتراب منها من شدتها، {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] والله تعالى له الأمر من قبل ومن بعد، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] وهو الذي خلق النار فسلب منها خاصية الإحراق، {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً} [الأنبياء:69] لو لم يقل: {سَلاماً} [الأنبياء:69] لربما مات إبراهيم من شدة البرد وتجمد، {كُونِي بَرْداً وَسَلاماً} [الأنبياء:69] حتى لا تؤذيه بالبرد.

وقال إبراهيم كلمة واحدة فقط وهو في الهواء، يلقى بالمنجنيق إلى النار، في اتجاه النار، ذاهبٌ في الهواء، قال: حسبي الله ونعم الوكيل؟ قال ابن عباس كما في صحيح البخاري: [حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار].

وقال محمدٌ صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما قيل لهم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] بعد غزوة أحد، قيل لهم: لقد عاد المشركون مرةً أخرى لاستئصالكم، {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].

كل الدواب كانت تنفخ -بأمر الله- النار عن إبراهيم إلا الوزغ فإنه كان ينفخ النار على إبراهيم، ولذلك أمرنا بقتل الأوزاغ إحياءً لذكرى أبينا إبراهيم، وإظهاراً للكراهية لهذا الحيوان الدابة الذي كان تنفخ النار على إبراهيم، كما جاء في الحديث الصحيح: (وقالت سائبة مولاة الفاكه بن المغيرة: دخلتُ على عائشة، فرأيتُ في بيتها رمحاً موضوعاً، قلت: يا أم المؤمنين! ماذا تصنعون بهذا الرمح؟ قالت: هذا لهذه الأوزاغ نقتلهن بالرمح، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم: حدثنا أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار لم تكن في الأرض دابةٌ إلا تطفئ النار عنه غير الوزغ، كان ينفخ عليه، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله).

وأخبرنا في الحديث الصحيح: (أن من قتل وزغاً من أول ضربة فله مائة حسنة، ومن قتلها من الضربة الثانية فله خمسون حسنة نصفها).

وورد في بعض الآثار: [أنه لم يبق يومئذٍ نار في الأرض إلا طفئت، فلم ينتفع في ذلك اليوم بنارٍ في العالَم].

(7/3)

كذب إبراهيم في ذات الله

وهذه قصة الكذبتين الأوليتين: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89]، و {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63].

وقيل: إنه استخدم التورية أيضاً، قال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء:63] وأشار إلى إصبعه.

وعلى أية حالٍ كانت من إبراهيم الخليل عليه السلام طريقة لإقناع قومه ومحاجتهم.

نعود إلى قصتنا: - {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء:63].

- {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:89].

- وكذلك عندما قال عن زوجته: إنها أخته.

قال النبي عليه الصلاة والسلام عن هذه الثلاث الكذبات: (ثنتين منهن في ذات الله) ما معنى في ذات الله؟ مع أن قول إبراهيم عن زوجته: هذه أختي، أيضاً فيها معنى من جهة الدفاع عن عرض زوجته وتخليص زوجته في سبيل الله أيضاً؛ لكن خص هاتين بقوله: (في ذات الله) مع أن الثالثة في ذات الله أيضاً؛ لكن الثنتين الأوليتين ما تضمنتا حظاً لنفسه، بخلاف الثالثة، فإن فيها حظاً له وهي: نجاته ونجاة زوجته.

الثالثة التي هي في ذات الله؛ لكن فيها فائدة له أو حظاً له، وسعيه لتخليص زوجته، وهو مقصد شرعي مباح لا غبار عليه على الإطلاق؛ لكن امتدح الثنتين الأوليتين؛ لأنها لله محضة ما فيها حظ لنفس إبراهيم وشخصه أبداً.

(7/4)

دخول أرض الجبار وطمع الجبار بزوجة إبراهيم

قال: (بينما هو ذات يومٍ وسارة قدم أرض جبارٍ ومعه سارة) قيل: إنه ملك مصر في ذلك الوقت هذا الجبار الكافر الطاغية، وأن إبراهيم لما خرج من أرض العراق بعدما أحرق الله النمرود وقومه اتجه إلى بلاد الشام وبلاد مصر، فلما دخل بلاد مصر وكان عليها هذا الرجل الجبار قيل له: إن هنا رجلٌ -لما دخل أرض مصر وكان فيها هذا الجبار- قيل للجبار: إن هنا رجل -وهو إبراهيم- ومعه امرأة، هناك رجل معه امرأة دخلوا مملكتك، المرأة جميلة جداً في غاية الجمال، لا تصلح إلا لك.

وإبراهيم تزوجها لَمَّا هاجر من بلاد قومه إلى حران، قيل: إنه تزوجها في ذلك الوقت، ولما دخل بها مصر وكان على مصر ذلك الملك الطاغية بعض أقرباء الملك، كما ورد في الحديث رأى إبراهيم ورأى معه سارة، وكانت قد أوتيت من الحسن شيئاً عظيماً، وقال له: إني رأيتها تطحن، وإنها في غاية الجمال، فالملك كان لا يدع شيئاً مثل هذا يفوته من ظلمه وعسفه وبغيه، فأرسل إلى إبراهيم وإلى سارة وجيء بها، وجيء معه، فسأله عنها، فقال: من هذه المرأة التي معك؟ قال: أختي، ظاهر الحديث أنه أتي بإبراهيم أولاً وسأله من هذه؟ قال: هذه أختي، رجع إبراهيم إلى زوجته، قال: يا سارة! ليس على وجه الأرض مسلم غيري وغيركِ، ثم طلب منها، إذا سألها الملك عن قرابتها منه مَن تكون بالنسبة له أن تقول له: إنها أخته؛ حتى لا يتناقض كلامه مع كلامها؛ ولئلا يظهر بمظهر الكاذب، فقال: فصدقيه إذا سألك عني، فقولي: هذا أخي؛ لأنني قلت له: إنك أختي، يقصد إبراهيم أختي في الإسلام.

فلعل إبراهيم أحس مسبقاً أن الملك سيطلبها، فأوصاها بما أوصاها به، ولما وقع ما كان يظنه أعاد عليها الوصية لما استدعاه الملك، وقال: من هذه المرأة التي معك؟ قال: أختي، رجع إليها، وقال: إذا سألك فاصدقيني إذا سألك فقولي له: أنك أختي، ولا تكذبيني.

ما هو السبب؟ لماذا لم يقل: إنها زوجتي؟ ولماذا لم يخبر بالحقيقة؟ قيل: إن الملك إذا عرف أنها زوجته لا يمكن أن يصل إليها إلا بالتخلص من زوجها، فيَقْتُل إبراهيم للوصول إلى المرأة؛ لكن لو عرف أنها أخته ربما وصل إليها بطريقة أخرى كالزواج أو غيره، وإن كان رجلاً رَكَّاباً للحرام، كما يتبين من القصة؛ لكنه كان ظالماً يريد اغتصابها، فلعله كان إذا عرف أن المرأة متزوجة قتل الزوج أولاً، فأراد إبراهيم أن يدفع أعظم الضررين بارتكاب أخفهما، بين أن يكذب أو يخبر بالحقيقة، ويُقْتل، فارتكب أدنى المفسدتين، وأخبر بتلك الكلمة، وقال لها: (ليس على وجه الأرض مؤمنٌ غيري وغيرك).

لو قال قائل: ولوط عليه السلام؟! فيمكن أن يقال: إن إبراهيم يقصد الأرض التي هو فيها الآن، دخلنا بلد مصر، لا يوجد مؤمن غيري وغيرك، أما الأرض الأخرى ففيها لوط، {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26] وقال إبراهيم: {إِنِّي مُهَاجِرٌ} [العنكبوت:26] وهاجر إبراهيم، {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت:26].

لما أُخِذَت سارة من إبراهيم قام إبراهيم يصلي، ولما أدخلت سارة على الملك لم يتمالك أن بسط يده إليها من شدة جمالها، لأنه لم يستطع أن يقاوم نفسه فقبِضَت يده قبضة شديدة، وفي رواية: (فقام إليها فقامت تتوضأ وتصلي -أي: تدعو- فغُطَّ) وفي رواية: (رُكِض برجله) يعني: اختنق، كأنه مصروع، والغط: صوت النائم، من شدة النفخ، غطيط.

فمجموع الروايات يؤخذ منها: أنه عوقب أولاً بقبض يده؛ أي: شُلَّت يده ولم يستطيع أن يحركها، وثانياً: أنه صُرِع.

جاء في رواية الأعرج: أن سارة توضأت ودعت الله عز وجل قائلةً: (اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تسلط علي الكافر) هي تعلم أنها آمنت به لكن تواضعاً قالت هذا الدعاء.

ولما شلت يد هذا الملك وصرع قال: (ادعي الله لي ولا أضرك) وفي رواية مسلم: (ادعي الله أن يطلق ففعلتْ) قال أبو سلمة: قال أبو هريرة: قالت: (اللهم إن يمت يقال: هي التي قتلته) إن يمت الآن من هذه الصرعة يقول قومه: هي التي قتلته، فربما قتلوها، فدعت الله له فأرسلها، لما تحرر الرجل ورجع إلى حاله الأولى هل توقف؟ أبداً.

تناولها الثانية، ثم قام إليها فقامت تتوضأ وتصلي ودعت الله عز وجل فأخذ مثلها أو أشد، أشد من القبضة الأولى.

وفي المرة الثالثة دعا الرجل الذي جاء له بـ سارة وقال له: إنك لم تأتني بإنسان، إنما أتيتني بشيطان، ما أرسلتم إلي إلا شيطانة أرجعوها، ولعله لما صُرع ظن أن الشيطان هو الذي تدخل، وكانوا قبل الإسلام في الجاهلية يعظمون أمر الجن جداً، ويرون كل ما وقع من الخوارق من فعل الجن؛ لما رأى الملك نفسه مصروعاً مشلولاً قال: هذا من فعل الجن، هذا شيطان، هذا ليس بإنسان.

أطلق سراح سارة وقال: أعيدوها إلى إبراهيم، وزيادة على ذلك: أعطاها خادمة وهي هاجر وهبها لها لتخدمها، لأنه سمع أنها كانت تعجن العجين أو تخدم نفسها، قال: هذه لا يليق أن تخدم نفسها، فأعطاها خادمة وهي: هاجر.

فلما أطلق سراحها ومعها هاجر أتت سارة إلى إبراهيم وكان يصلي، فقال إبراهيم بعدما انصرف من صلاته: (مَهْيَمْ-أي: ما الخبر؟ - فقالت سارة ملخصةً ما حصل: رد الله كيد الكافر وأخدم هاجر) رد الله كيد الكافر في نحره، أَشَعَرْتَ أن الله كبت الكافر وأخدم وليدةً؟ وهي الجارية.

أبو هريرة ماذا قال عن هاجر في آخر القصة؟ قال: [تلك أمكم يا بني ماء السماء] يخاطب أبو هريرة العرب يقول لهم: [تلك أمكم] هذه هاجر التي كانت خادمة وأُعْطِيَت خادمةًَ وجاريةً لـ سارة، ثم وهبتها لزوجها إبراهيم، قال: [فتلك أمكم يا بني ماء السماء] لماذا يطلق على العرب (بني ماء السماء)؟ لكثرة ملازمتهم للفلوات والصحاري؛ لأن فيها مواقع القطر وهو الماء النازل من السماء، يغشون البراري لأجل رعي أغنامهم، ولذلك سُمُّوا ببني ماء السماء؛ لأن عيشهم على ماء السماء.

وقوله: [تلك أمكم يا بني ماء السماء] قيل: إن العرب كانوا من ولد إسماعيل، وهناك عرب قبلهم؛ لكن هؤلاء العرب المتأخرون كانوا من ولد إسماعيل.

(7/5)

فوائد من قصة إبراهيم وسارة والجبار

هذا الحديث فيه فوائد كثيرة ومتعددة:- فمن الفوائد:

(7/6)

مشروعية أخوة الإسلام

أولاً: مشروعية أخوة الإسلام، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [حجرات:10] وأن رابطة الدين رابطة عظيمة، وأن أخوة الإسلام أقوى من أخوة النسب، والدليل على ذلك: أن الأخوين إذا كان أحدهما مسلماً والآخر كافراً جاز للمسلم أن يقتل أخاه في سبيل الله، إذا التقيا في صفين يمكن أن يعمد إليه فيقتله، فهذا دليل على أن أخوة الدين أقوى من أخوة النسب.

(7/7)

الرخصة في الانقياد للظالم وقبول هديته

ثانياً: الرخصة في الانقياد للظالم والغاصب، فيمكن أن يقال: لماذا لم تقاوم؟ قد تقاوم وتقتل وتذل وتهان، وهنا رخصة في أن المرأة إذا أجبرت بالقوة على الانقياد إلى ظالم، فإنها إذا لم تجد طريقة للهرب ولا للتخلص، وقِيْدت بالقوة، فإنها تكون معذورة بهذا.

ثالثاً: يؤخذ من الحديث: قبول هدية المشرك؛ فإنه لما أعطاها هاجر قَبِلَت الهدية وأقرها إبراهيم، وهو نبي يأتيه الوحي، فأُخِذَت هدية المشرك.

(7/8)

إجابة دعاء المخلص

ومن أعظم الفوائد: إجابة الدعاء بإخلاص النية؛ فإنها دعت الله تعالى، ففرج الله عنها، والله تعالى مع المكروب، ومع الملهوف، ومع المظلوم، يجيب دعوة المظلوم، والمضطر، ولا شك أن سارة في ذلك الموقف كانت في اضطرار عظيم، فلما دعت الله وقالت: (اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك) فكانت صادقة مؤمنة فاستجاب الله دعاءها.

وهكذا المرأة المسلمة والرجل المسلم إذا وقع في ضرورة في ورطة في أزمة فتوجه إلى الله بالدعاء فإن الله سبحانه وتعالى يخلصه إذا كانت نيته حسنة.

(7/9)

مشروعية التوسل بالأعمال الصالحة

خامساً: مشروعية التوسل بالأعمال الصالحة، وهذا سبق لنا في قصة أصحاب الغار الثلاثة.

وهذا دليل آخر، فإنها قالت: (اللهم إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر) فتوسلت إلى الله تعالى بالإيمان وبالعفة، (وأحصنت فرجي إلا على زوجي) وهذه من الأعمال الصالحة، امرأة عفيفة تقول: ما مسني أحد من الأجانب أبداً (أحصنت فرجي إلا على زوجي) التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة، وأن الله سبحانه وتعالى يقبل الدعاء بالأعمال الصالحة، وأنه عز وجل يستجيب.

(7/10)

الحكمة من ابتلاء الصالحين

سادساً: يؤخذ من هذه القصة أيضاً: ابتلاء الصالحين لرفع درجاتهم؛ فإن الله ابتلى إبراهيم بأخذ زوجته منه ابتلى إبراهيم بهذا الملك الظالم ابتلاه باستدعائه له ابتلاه بالموقف الصعب الذي مر به ابتلاه بالشدة، وهذا ليرفع درجته ويزيد أجره وحسناته.

(7/11)

أهمية الفزع إلى الصلاة ومشروعية الوضوء لمن قبلنا

سابعاً: أن الإنسان إذا نابه كرب أو وقع في شدة فإن عليه أن يفزع إلى الصلاة؛ فإن إبراهيم الخليل لما أُخِذت منه زوجته ماذا فعل؟ اشتكى إلى مَن؟ إلى ملك الملوك.

ويلجأ إلى من؟ الذي خصمه الآن أكبر سلطان في البلد وهو الملك، أخذ زوجته، يشتكيه إلى مَن؟ لا يوجد حل إلا من الله سبحانه وتعالى، فتوجه إلى الله تعالى وقام يصلي.

وهكذا كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا فزعه أمر صلى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153].

ولما أخبر ابن عباس أن أخاه قد توفي وهو في طريق السفر، نزل عن دابته إلى جانب الطريق فصلى ركعتين وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153].

فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أو كربه أمر صلى، وهكذا إبراهيم الخليل لما حصل له ما حصل فزع إلى الصلاة، قام إبراهيم يصلي، طيلة فترة غياب الزوجة عنه وهو في صلاته، هذه من أسوأ الفترات التي يمكن أن تمر بالإنسان، الزوج إذا أُخِذَت زوجته إلى مكان مجهول، ولا يدري ماذا يُفعل بها، وليس عنده قوةً ليس عنده جيشٌ يحارب به، ولا قوة يستطيع أن يقتحم قصر الظالم ويستخرج زوجته، أو أنه يهرب بها، لا يستطيع، دخل في سلطان هذا الفاجر.

فإذاً كان يأوي إلى ركنٍ شديد وهو الله عز وجل.

ثامناً: من فوائد هذه القصة أيضاً: أن الوضوء كان مشروعاً للأمم من قبلنا، وليس خاصاً بهذه الأمة ولا بالأنبياء؛ لأن ذلك ثبت عن سارة أنها قامت تتوضأ، وجمهور العلماء على أن سارة ليست بنبية وإنما هي من أولياء الله.

(7/12)

إثبات كرامات الأولياء

تاسعاً: من فوائد القصة: إثبات كرامات أولياء الله تعالى؛ لأن سارة أكرمها الله بأن فكها من يد الظالم وكرامة لها، ثم إن هذا الظالم لما شلت يده وصرع قال: ادعي الله لي ولا أضرك، دعت الله وفُك ورجع إلى ما كان عليه، فمن كرامات أولياء الله أن يستجيب الله دعاءهم، والاعتقاد بكرامات أولياء الله من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله قد يخرق العادة لبعض أوليائه.

وقد اختلف في هذا الشيء أصناف من الناس: - فذهب الأشاعرة إلى أن كلما كان معجزةً لنبي جاز أن يكون كرامةً لولي، فسوَّوا بين الكرامة والمعجزة.

- وذهبت المعتزلة إلى النقيض من ذلك، فأنكروا كرامات الأولياء، وقالوا: ليست هناك كرامات، لأنهم عقلانيون، فالقضايا الغيبية لا يؤمنون بها.

- وتوسط أهل السنة والجماعة فقالوا بإثبات كرامات الأولياء؛ ولكن كرامة الولي لا يمكن أن ترقى إلى درجة معجزة النبي، فمعجزة النبي أعظم لا شك في ذلك؛ لأنه مؤيد من الله بمعجزات لبيان صدقه وإقامة الحجة على قومه، أما الولي فقد تقع له الكرامة وهو في الصحراء فمفرده، فيعطش مثلاً وليس عنده زاد، فالله سبحانه وتعالى ينزل عليه شيئاً أو طعاماً أو شراباً، أما معجزة النبي فيراها الناس؛ لأنه مؤيد من الله والمعجزة تكون لأجل أن يؤمن الناس ليقيم الله الحجة عليهم.

فإذاً عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات كرامات الأولياء إذا ثبتت، وإلا فإن الصوفية وغيرهم ادَّعوا كرامات كثيرة، وكذب كثيرٌ من الناس في الكرامات، كل أحد يدعي كرامة من جهة، لكن إذا ثبتت الكرامة فإن عقيدة أهل السنة والجماعة إثبات كرامات الأولياء، ولكنها مقام دون مقام معجزات الأنبياء ولا شك.

فـ أهل السنة والجماعة وسطٌ بين الأشاعرة والمعتزلة في هذا المقام.

تاسعاً: من الفوائد: أن الكذب في ذات الله تعالى لإعلاء شأن الدين جائزٌ ولا حرج فيه.

عاشراً: أن على الإنسان أن يكون حكيماً يحسب للأمر حسابه، فهذا إبراهيم عليه السلام يقول لزوجته: (إذا سألك فأخبريه أنك أختي) حتى لا أكون كذاباً عنده، ولا تتناقض الأقوال.

(7/13)

تحذير النساء من الفجرة

حادي عشر: أن بعض الفجرة لا يتورعون عند رؤية المرأة أن يمدوا أيديهم إليها مباشرةً؛ ولذلك فإن على المرأة المسلمة أن تحتشم {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59].

فالمرأة إذا تبرجت صارت نهباً وعُرضة لكل فاسق وفاجر؛ لأنها تصبح مجالاً للإغراء والفتنة، ويطمع فيها الطامعون، وأما إذا احتشمت وتحجبت ولم يظهر منها شيء فلا يطمع فيها أحد؛ لأنها ليست مغرية -عند الحجاب ليست مغرية- لكن المتبرجة تغري بنفسها، هذه المتبرجة سفيهة؛ لأنه لسان حالها يقول للناس في الشوارع: تعالوا ورائي، الذي يريد أن يلمسني، يلمسني؛ والذي يريد أن يعطيني رقماً، يعطيني؛ والذي يريد أن يجيء ورائي، يجيء، هذه الفاجرة، المرأة التي تتبرج ما معناها الآن؟ إذا تبرجت امرأة في الشارع؛ مكياج، وزينة، وحسرت عن وجهها وشعرها، وخرجت تمشي في السوق بين الرجال الأجانب، ما معناها؟ معناها دعوة للفحشاء، تلم الناس تقول: تعالوا ورائي، الذي يريد أن يجيء، هذا معناه أن تلفت إليها الأنظار، فهي المجرمة الأولى، والفاجر الذي وراءها المجرم الثاني.

ولذلك النساء اللاتي يتبرجن في الأسواق لا يعلم الإثم الذي عليهن إلا الله عز وجل، لأنها لا تفتن واحداً ولا اثنين ولا عشرة، طيلة مشيها في الشارع تفتن الناس، والناس أكثرهم فيهم ظلمٌ وفجور، ينظرون ولا يتورعون، يطلقون البصر ويلحقونها؛ ولذلك تجد أحياناً امرأة في الشارع يسير وراءها ثلة من الفجرة؛ لأنها كلما تبرجت تبرجاً ملفتاً للنظر مثيراً، كلما زاد عدد الأتباع الذين يتبعونها، وبعض النساء تريد هذا أن يتبعها أكبر عدد من الشباب.

ولذلك يا إخوان، الله سبحانه وتعالى حكيم عندما قال: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، و {يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31].

ولما قال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31].

ولما قال: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59].

ولما قال: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33].

ولما قال: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32].

ولما قال: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31].

كل هذه إجراءات للعفاف وتطهير المجتمع المسلم، ولما خالفت النساء هذا، انتشرت الفاحشة في المجتمع، ورأيتَ الآن رمي الأرقام وهذا شيء مشاهَد، لا يحتاج إلى زيادة تدقيق وأصبح شيئاً عادياً، وتجد المسألة عادية، والعياذ بالله، وهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى لا يسامح فيه، الله يغضب لحرماته، وإذا أصبح المجتمع فاجراً فإن الله عز وجل ينزل بأسه وسطوته وعذابه انتقاماً من هذا المجتمع.

ولذلك لا بد من الحذر الشديد في هذه القضية، وأن يقوم كل إنسان على زوجته، وبنته، وأمه، وأخته، بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجار ينصح جاره في زوجته، والقريب ينصح أقرباءه في زوجاتهم وبناتهم وأخواتهم، لا نترك أحداً؛ لأن المسألة عامة، والعذاب عام؛ إذا نزل عمَّ الجميع، ثم يبعثون على نياتهم، لا ينجو من العذاب إلا الذي كان ينهى عن السوء {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف:165].

ثاني عشر: من فوائد هذه القصة: تواضع سارة لما قالت: (كف الله يد الفاجر) ما قالت: بصلاحي بدعائي! لا، قالت: (كف الله يد الفاجر) الفرج من عند الله (وأخدم خادماً).

(7/14)

مشروعية المعاريض والتورية

ثالث عشر: قضية مشروعية المعاريض، استخدام التورية:- وعند هذا سنقف وقفةً أخيرة في هذه القصة بين الكذب والتورية.

(7/15)

عقوبة الكذاب ومراتب الكذب

أما الكذب: فإنه من الكبائر، قال الله تعالى: {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61]، وقال سبحانه: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والكذب، فإن الكذاب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار -فالكذب طريق مباشر إلى جهنم- ولا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذاباً).

وكذلك من صفات المنافق أنه (إذا حدث كذب) فالكذاب فيه صفة من صفات المنافقين.

وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: (رأيت كأن رجلاً جاءني فقال لي: قم، فقمتُ معه، فإذا أنا برجلين: أحدهما قائم والآخر جالس، بيد القائم كلُّوب من حديد يلقمه في شدق الجالس فيجذبه حتى يبلغ كاهله) يشرشره من الجنب إلى القفا، ويرجع يأخذ الجنب الثاني إلى القفا، يعود إلى الجنب الأول سليماً، يشرشره إلى القفا، كلاليب من حديد، (فقلت للذي أقامني: ما هذا؟ قال: هذا رجلٌ كذاب، يعذب في قبره إلى يوم القيامة)، وفي رواية: (هذا رجل يكذب فتبلغ كذبته الآفاق) يكذب كذبة وتنتشر، كأن تنتشر الآن عبر القنوات الفضائية، كذبة تنتشر في الآفاق في المشرق والمغرب، فهؤلاء هذا عذابهم في القبر، غير عذاب النار، وسيأتي عذاب جهنم بعد عذاب القبر.

إذاً: الكذب لا شك أنه كبيرة من الكبائر، ومُتَوعد عليها باللعن، أما الكذب على الله وعلى رسوله فهذا أسوأ أنواع الكذب، لأن الكذب درجات، والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم مَن فعله فإنه يتبوأ مقعده من النار مباشرةً، ومن استحل الكذب على النبي عليه الصلاة والسلام فإنه يكفر ولا شك.

والكذب على الله مثل أن تخبر عن الشيء الحرام أنه حلال، كما يفعل بعض المفتين، ينتقد البنوك الربوية؛ لأنها تفتح فروعاً إسلامية، يقول: لماذا تفتحوا فروعاً إسلامية، أنتم إذا فتحتم فروعاً إسلامية معناها كأنكم تقولون للناس: إن شغلكم الآخر حرام، فأنتم لا يجب أن تفتحوا فروعاً إسلامية؛ لأنه أصلاً كله حلال جائز؛ لماذا تفتح فرعاً إسلامياً، ألا لعنة الله على الكاذبين، {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13] {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل:25] والعامة الذين يتبعونهم كلهم أوزارهم فوق ظهر هذا الكذاب.

فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم أخوف ما خاف على أمته: (الأئمة المضلين الذين يضلون بأهوائهم)، {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116].

فيأتي يقول على الربا: إنها حلال، لعنة الله على مَن قال ذلك، وهذا غيض من فيض.

المهم: الكذب على الله وعلى رسوله أسوأ أنواع الكذب، والكذب العام الذي يبلغ الآفاق هذا، أو الشائعة التي تنشر، أو الخبر الكذب الذي ينشر هذا عقوبته في القبر مرت معنا وعرفناها.

والكذب على أفراد الناس لا شك أنه محرمٌ أيضاً، الكذب مراتب ودرجات.

(7/16)

هل يباح الكذب أو يجب؟

هل هناك كذب مباح؟ نعم، قال عليه الصلاة والسلام: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس ويقول: خيراً وينمِي خيراً) ولم أسمعه يُرَخَّص في شيء مما يقول الناس (رخص النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الكذب في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها).

فإذاً: الكذب في الحرب جائز؛ لأجل مخادعة العدو، والحرب خدعة، مثل أن يقول: إن جيش المسلمين كثير، عشرة آلاف، وربما هم لا يتجاوزون الألفين أو الثلاثة، فيكذب على العدو بإعطائهم أخباراً عن جيش المسلمين أنه كثير لأجل إخافة العدو، هذا ماذا؟ كذب مشروع، ولا حرج فيه، ويُتَقَرَّب به إلى الله.

كذلك الكذب للإصلاح بين متخاصمَين، كأن يقول: يا فلان! لم لا تكلم فلاناً، فيقول: هذا عدوي يتكلم علي، هذا بلغني أنه تكلم علي في المجلس الفلاني، فيقول: أنا كنت حاضراً ولم أسمعه يتكلم، وهذه إشاعة، ولا تصدق هذا الكلام؛ لأجل الإصلاح بينهما.

أو يقول: إنني سمعته يثني عليك وهو لم يسمعه يثني عليه، ولكن لأجل الإصلاح بين المتخاصمَين، فهذا لا حرج فيه.

أما حديث الرجل لزوجته: لو قال إنسان لزوجته: أنتِ أجمل امرأة رأيتها في حياتي، ومن المؤكد أنها ليست أجمل امرأة؛ لكن من باب التحبب إليها.

أو يقول: هذه الطبخة أحسن طبخة أكلتها في حياتي، ما أكلت ألذ منها، من باب التلطف مع الزوجة وحسن المداعبة والمعاشرة، مع أنه ربما أكل في مطعم أحسن منها، لكنه يقصد التقرب إلى الزوجة، والحديث معها ليس حديثاً يأكل به حقها ولا مهرها ولا يعتدي عليها أو يهضم شيئاً من حقوقها، لا يقول مثلاً: أنا ما أخذت ذهبك وهو الذي أخذه، كذاب.

وكذلك المرأة لا تقول: إنني ما أخذت مالك، وهي التي أخذت ماله، وإنما الكذب الذي يكون من نوع المِلْح الذي تُحَسَّن به المعيشة.

وكذلك من الكذب الواجب: ما لو قصد إنسان ظالم قتل رجلٍ مختفٍ عندك وجب عليك أن تكذب؛ لئلا يعلم أين هو، فلو قال: هو عندك؟ تقول: لم أره جاز ذلك.

مثلاً لو أن ظالماً يريد أن يأخذ مال واحد قال: هل مال فلان عندك؟ قال: لا.

لم يضع عندي ولا قرشاً، بالعكس أنا لي عنده فلوس، فالكذب لإنقاذ روح إنسان معصوم الدم، أو لتخليص مال مسلم من الهلاك، هذا مشروع.

ونَظَم أحد الشعراء المسلمين أقسام الكذب فقال:

لِخَمْسَةٍ ينقسم الكذب فما لا نفع شرعاً فيه قطعاً حُرِما

وما لوالدٍ لجبر خاطرهْ أو خاطر الزوجة دعه فكُرِهْ

وهو لإرهاب العدو يندبُ للمسلمين إن هم تأهبوا

وإن تخلص مسلماً أو مالَهُ به فعلت واجباً تجزى لََهُ

ولصلاحٍ بين ناسٍ قد أبيحْ وقيل: إن الكذب كله قبيحْ

فإذا كان الكذب لتخليص مسلم أو ماله من الهلاك فإنه يكون واجباً.

وإذا كان لإرهاب أعداء الدين كأن يخبرهم بكثرة عدد المسلمين، وأنهم آتون، وأنهم قريبو المجيء، فهذا أيضاً مشروع ومستحب.

قيل: إن الإصلاح بين الناس من قسم المباح، ولا يبعد أن يكون من قسم المشروع.

وقيل: ما كان جبراً لخاطر، فإنه مكروه، وما لا نفع فيه شرعاً فإنه محرم.

ولا شك أنه إذا كان مضراً فهو محرم، مثلك أن يكذب ويقول: سآتيك بالمال، وهو كذاب لن يأتيه به، مالك عندي وجاهز متى تريد أعطيك حقك، وهو كذاب ما عنده المال ونحو ذلك، فهذا الكذب أكثره محرم، وقسم قليل هو الذي يكون جائزاً.

(7/17)

التورية مخرج من الكذب

وهناك مخرجٌ مهم يمكن أن يلجأ إليه الإنسان ألا وهو التورية: إذا احتاج إلى الكذب استخدم التورية، فما هي التورية؟ بعد أن عرفنا أن الكذب حرام ومرت معنا قصة إبراهيم الخليل، وأن الأنبياء لا يحوز الكذب في حقهم مطلقاً في قضية تبليغ الشريعة والوحي، وأنهم معصومون من الكذب في تبليغ الشريعة قطعاً، والكذب في غير ذلك من الصغائر، المسألة فيها قولان مشهوران للسلف والخلف: - أما منصب النبوة فلا يمكن أن يكذبوا فيه مطلقاً، والله سبحانه وتعالى يبعث الصادق، حتى في الجاهلية كان النبي صلى الله عليه وسلم معروفاً بالصدق.

ينبغي على الإنسان إذا احتاج للوقوع ليخبر عن شيء بخلاف الحقيقة أن لا يكذب وإنما يستخدم التورية فما هي التورية؟ التورية: أن تأتي بكلامٍ له معنيان؛ معنى قريب، ومعنى بعيد، فالسامع يتوهم أنك تقصد المعنى القريب، وفي الحقيقة أنك تقصد المعنى البعيد، هذه قضية المعاريض.

والأصل في مشروعيتها قوله صلى الله عليه وسلم: (إن في معاريض الكلام مندوحة عن الكذب).

وهذه المعاريض لا تجوز مطلقاً في ظلم الناس أو إسقاط حقوق الخلق أبداً.

لنأخذ شيئاً من معاريض النبوة حتى يتبين لنا ما هي المعاريض: النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله، بعض العرب في غزوة ما، ولم يتعرفوا من هو، وأرادوا أن يعرفوا شخصيته، فقالوا: (من أنتم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نحن من ماء) ويقصد بذلك الماء الذي خلق منه الإنسان؟ وقال أيضاً: (لا يدخل الجنة عجوز!) ما المعنى القريب الذي فهمته المرأة وبكت؟ أن العجائز لا يدخلن الجنة.

لكن المعنى الآخر: أن الله عز وجل لا يُدخل العجوز على هيئة عجوز، وإنما يغير هيئتها وتعود شابة {إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً} [الواقعة:35 - 36] وليس المعنى أن العجوز التي في الدنيا عجوز لا تدخل الجنة، وإنما المقصود أنها عند دخولها الجنة لا تكون عجوزاً؛ بل تنقلب إلى بكرٍ شابة في سن الثالثة والثلاثين.

لما قال للمرأة: (زوجك الذي في عينه بياض) والبياض يفهمون أنه العمى، لكن كل واحد منا في عينه بياض وسواد.

فالمعرِّض يقصد معنىً بعيداً، اللفظ يحتمله، ولو أن اللفظ لا يحتمله يكون كذباً، والسامع يفهم المعنى القريب لهذا اللفظ.

ولا يجوز استعمال التورية مطلقاً في إسقاط حق.

مثال: يقول القاضي لرجل: أنت أخذت مال فلان؟ فيقول: لم آخذ ماله، وهو يقصد مال رجل آخر، فهذا لا يمكن؛ لأن معنى ذلك: أن يسقط حقاً، وهذا حرام ولا يجوز.

(7/18)

أمثلة في التورية

من الأمثلة مثلاً: لما وطئ عبد الله بن رواحة جاريته، وعنده زوجة شديدة الغيرة، فلما وطئ جاريته رأته امرأته فأخذت السكين وجاءته، فوجدته قد قضى حاجته، فقالت: لو رأيتك حيث كنت لَوَجأتُ بها في عنقك، فقال: ما فعلت! فقالت: إن كنت صادقاً فاقرأ القرآن تعرف أن الجنب لا يقرأ القرآن- فقال:

شهدتُ بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طافٍ وفوق العرش رب العالمينا

وتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا

فقالت: آمنت بكتاب الله وكذَّبتُ بصري، وهذه طبعاً القصة في إسنادها شيء، ولها طرق لكنها لا تخلوا من ضعف، وهذه المرأة يمكن أن يكون فيها غفلة، لأنها لم تعرف أن تميز بين الشعر والقرآن.

لكن نأخذ أمثلة أخرى: دُعِي أبو هريرة إلى طعام فقال: (إني صائم -ما أراد أن يأكل من هذا الطعام- فرأوه يأكل بعد ذلك، فقالوا: ألم تقل إنك صائم؟ قال: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، فأنا أصوم ثلاثة أيام من كل شهر).

وكان محمد بن سيرين إذا اقتضاه غريم ولا شيء معه، مثلاً: أعطاه رجل مالاً وجاء يريد المال، وهو مسكين ليس عنده شيء، وهو لا يريد أن يُذهب أموال الناس، يقول: [أعطيك في أحد اليومين إن شاء الله] فالسامع يفهم؟ أنه يطيه المال غداً أو بعده، وهو يقصد يومي الدنيا والآخرة، أحد اليومين، إما في الدنيا أعطيك، أو في الآخرة تأخذه.

وكذلك أبو بكر الصديق لما هاجر مع النبي عليه الصلاة والسلام وسئل: (من هذا الذي معك؟ -كانت خطورة أن يخبر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه معه- فقال: هذا رجلٌ يهديني الطريق) ماذا يقصد؟ ماذا يفهم العربي والبدوي في الصحراء؟ أي: هذا دليل، أنا مسافر وهذا دليل في السفر، بينما هو قصد (هذا رجلٌ يهديني الطريق) يعني: طريق الإسلام طريق الخير؛ حِفاظاً على حياة النبي عليه الصلاة والسلام، هذه تورية واضحة ومشروعة، ما أراد أن يكذب لم يقل: هذا فلان الفلاني، جاء بأي اسم كذب، قال: (هذا رجلٌ يهديني الطريق).

وقال حماد عن إبراهيم أنه سئل عن رجل أخذه رجل فقال: إن لي عندك حقاً، فقال: لا.

فقال: احلف بالمشي إلى بيت الله فقال له إبراهيم: احلف بالمشي إلى بيت الله واعنِ مسجد حيك؛ لأن المساجد كلها بيوت الله، وذاك سيفهم بيت الله أي: بيت الله الحرام.

وذكر هشام بن حسان، عن ابن سيرين، أن رجلاً كان يُصِيْب بالعين فرأى بغلة شريح فأراد أن يعينها، كان شريح ذكي رحمه الله وكان عنده بغله حسنه، فرأها أحد العيانين الحساد الذي كان إذا أصاب شيئاً بالعين لا يخطئ كأشعة الليزر، وهذه نوعية موجودة في البشر، فلما رأى بغلة شريح أراد أن يعينها، ففطن له شريح قبل أن يعينها فقال: إنها إذا ربضت لم تقم حتى تُقَام -قال: هذه إذا جلست لا تقوم حتى تقام- قال الرجل: أفٍ أفٍ.

فزهد العائن فيها فما حسدها، وإنما أراد أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقيمها، أي: لا تقوم حتى يقيمها الله سبحانه وتعالى، كما يأمر كل شيء فيكون.

وكذلك قال أبو عوانة، عن أبي مسكين: كنت عند إبراهيم وامرأته تعاتبه في جارية له - إبراهيم النخعي كان عنده جارية والمرأة تغار من الجارية جداً- وكان بيد إبراهيم مروحة يروح بها في الصيف فلما جاءت المرأة، وأكثرت عليه الكلام عند الناس والضيوف، قال: أشهدكم أنها لها -لتسكيت المرأة- فلما خرجنا قال: علام شهدتم؟ قلنا: شهدنا أنك جعلت الجارية لها، قال: لا، أما رأيتموني أشير إلى المروحة، إنما قلت: اشهدوا أنها لها، وأنا أعني المروحة.

وكان حماد رحمه الله إذا جاءه من لا يريد الاجتماع به من بعض مضيعي الأوقات كان يضع يده على ضرسه، ويقول: ضرسي ضرسي ويمشي، ضرسي ضرسي وهو لا يكذب؛ لأن كل واحد عنده ضرس.

وأُحْضِر الثوري إلى مجلس المهدي، فأراد أن يقوم، وكان المهدي متمسكاً به يريد أن يجلس عنده، والثوري رحمه الله يريد الذهاب، فمُنع من القيام فحلف بالله أنه يعود، وعلى هذا الأساس تركه الخليفة يمشي، فترك نعله ومشى ثم رجع فلبس نعله وأخذها ولم يعد، فقال المهدي: ألم يحلف أنه يعود؟ فقالوا: إنه عاد فأخذ نعله.

وكان المروزي من أذكى أصحاب الإمام أحمد وأنجبهم، فجاء واحد يسأل عن المروزي يريد أن يأخذه من مجلس أحمد فأراد الإمام أحمد ألا تفوت المروزي الفائدة من الدرس، فقال الرجل: المروزي موجود عندك؟ فوضع أحمد إصبعه في كفه وقال للسائل ينظر إليه: ليس المروزي هاهنا، وما يفعل المروزي هاهنا؟ يقصد أحمد رحمه الله في كفه ليس المروزي هاهنا، ما يفعل المروزي هاهنا؟ وهذا كله من أجل التوقي من الكذب وعدم الوقوع فيه.

فهذه أمثلة على التورية نلاحظ منها أن الذين فعلوها كانوا يقصدون إما جبر خاطر، أو تحقيق مصلحة مثلاً، أو تخلصاً من موقف محرج، وحفاظاً على وقتهم.

ولذلك فإن هذه التورية مباحة وتغني عن الكذب، إذا احتاج الإنسان أن يتكلم بكلام لا يكذب يمكن أن يستخدم التورية ويحصل على مقصودة.

أما استخدام التورية لبيان المهارة وخداع الناس، لكي يثبت الإنسان أنه أذكى من الآخرين، فهذا مزلق شيطاني، وتجد بعض الناس يفعلون التورية بحاجة وبغير حاجة، ولذلك يقعون في الكذب.

وكذلك فإن كثرة استخدام التورية تؤدي إلى الوقوع في الكذب في النهاية، ولذلك فإننا عندما نتكلم عن التورية لا نقصد التوسع بها وأن يجرب الإنسان مهاراته على الآخرين، إنما نقصد أنك إذا احتجت أن تتكلم بكلام تتخلص به من موقف فهناك مجالات أخرى غير الكذب وهي التورية.

هذا ما تيسر ذكره من فوائد هذه القصة.

والله تعالى أعلم.

(7/19)

الأسئلة

.

(7/20)

أجر الملتزم في هذا الزمان

السؤال

يوجد حديث شريف ينص على أن أجر الالتزام في هذا الزمان بأجر خمسين صحابياً.

الجواب

الأجر المقصود ليس أجر الصحبة، ولكن أجر التمسك بالدين؛ لكثرة الفتن والمنكرات في هذا الزمان.

(7/21)

كيفية قتل النمرود

السؤال

يقول: كيف قتل النمرود؟

الجواب

قيل بأن النار خرجت على النمرود وقومه فأحرقتهم.

(7/22)

بلاد سيدنا إبراهيم

السؤال

ما أصل سيدنا إبراهيم؟

الجواب

من أرض العراق، وهو من ذرية نوح.

(7/23)

هل ينتقض الوضوء بنزع الجورب؟

السؤال

إذا مسحت على الجورب لصلاة العصر وقمت بعد ذلك بنزع الجورب، هل ينتقض الوضوء بنزع الجورب؟

الجواب

لا، لم يرد في الشريعة أن من نواقض الوضوء نزع الجورب.

(7/24)

دليل وجوب تغطية وجه المرأة

السؤال

ما هو سند تغطية وجه المرأة في القرآن والسنة؟

الجواب

ذكرنا قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المرأة عورة)، وقول عائشة: (عندما جاء صفوان فخمَّرت وجهي) والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة.

(7/25)

السنة في العقيقة

السؤال

ما هي السنة في العقيقة؟

الجواب

أن تُذْبَح في اليوم السابع، شاتان متشابهتان في السن والحجم قدر الإمكان، عن الذكر، وواحدة عن الأنثى.

(7/26)

صحة وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بسابع جار

السؤال

ما صحة أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى إلى سابع جار؟

الجواب

لا أعرف حديثاً صحيحاً في هذا، ولكن ورد عن بعض السلف هذا الكلام، (السابع) و (الأربعون).

(7/27)

هل يشترط تتابع التسبيح؟

السؤال

هل إذا أردت أن أقول: سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة أن أقولها متتابعة؟

الجواب

لو وزعتها على اليوم لا بأس.

(7/28)

الإفرازات التي تخرج من المرأة

السؤال

امرأة تعاني من خروج إفرازات كثيرة، وهذه الإفرازات كالماء في لونها إلا أنها لزجة فهل تغتسل منها؟

الجواب

ينبغي أن نعرف الأشياء التي يمكن أن تخرج من الإنسان: أولاً: المني: وهو أصل خلقته، ويجب منه الغسل، وهو طاهر، ورائحته كقرع النخل أو خميرة العجين، وله أثر إذا يبس معروف.

الثاني: المذي: وهو يخرج عند الشهوة، من نظر، أو تقبيلٍ، أو تفكيرٍ، وهو ماءٌ رقيق شفافٌ، إذا يبس لا يترك أثراً، وهو نجس، ويجب منه الوضوء، وغسل الأنثيين، أسفل الذكر.

الثالث: البول: وهو معروف.

الرابع: الودي: وهو ماءٌ ثخين يشبه المني، يخرج بعد التبول، وهو نجس، ويجب منه الوضوء.

الخامس: ما يخرج من المرأة من الإفرازات مثل: العرق، الرطوبة التي تكون في موضع خروج الولد، تخرج باستمرار، والصحيح أنها طاهرة، ولا تنقض الوضوء.

فبعد ذلك تبين ما هو نوع هذا وبناءً عليه يُعرَف الحكم.

(7/29)

مشورة وإرشاد

السؤال

كان من المفترض أن أقوم بإجازة لبلدي في الثامن والعشرين من رمضان، وفجأة قررت إدارة الشركة وقف جميع الإجازات، وبعد محاولات قَرَّرَتْ أن مَن يريد أن ينزل فعليه أن ينزل على حسابه؛ لأن الشركة من المحتمل أنها لا تجدد عقدها، وكنت سأتزوج بعد نزولي، وأريد أن ترشدني هل أذهب وأتوكل على الله علماً أن علي بعض الديون، أو انتظر ستة أشهر أخرى؟

الجواب

إذا كان غلب على ظنك أن هذه الشركة لن تجدد العقد، وأنك إذا نزلت سينقطع عملك فيها فابْقَ، وإذا غلب على ظنك أن هذا الاحتمال ضعيف، وأن لك مكاناً إذا أردت أن تعود، فاستخر الله تعالى واذهب.

(7/30)

تعليم اللغات الأجنبية للأطفال

السؤال

ما حكم ذهاب الأطفال للتعلم في مدارس اللغات الأجنبية وأعمارهم من سن أربع سنوات؟

الجواب

من أكبر الجرائم توجيه الأطفال الصغار لتعلم اللغات الأجنبية، وخلط اللغات يسبب ازدواجية عند الولد تضر بتربيته ومهاراته وتفكيره وتؤثر على نبوغه؛ لأن الولد إذا أصبح يفكر بلغتين ويتكلم بلغتين من أول الأمر لا لحاجة ولا لضرورة، فإن هذا الحال يؤدي إلى تأخر.

لقد أثبت التربويون أن ابتداء تعلم الولد للغتين في أول أمرة يسبب بطئاً وتأخراً عنده في مهاراته ونموه العقلي، حتى تفكيره واستنباطه؛ لأن عنده حيرة في استخدام أي اللغتين، ولذلك ترى بعض الذين درسوا في الخارج أولادهم لا يجيدون اللغة العربية ولا الانجليزية وربما يتكلم بالإنجليزي أكثر من العربي، وتصبح مواقف مخجلة وأيضاً فصاحة اللغة العربية تتأثر بتعلم لغات أخرى من البداية، فلو قلنا: بعدما تمكن من اللسان العربي أصبح عنده سليقة جيدة، وصار عنده موسوعة من كلمات اللغة العربية الكثيرة، بعد ذلك لا مانع أن يتعلم اللغة الأجنبية للفائدة كما تعلم زيد بن ثابت السريانية في ستة عشر يوماً، لكن هذا يتكلم من أربع سنين على لغتين، هذا أمر مضر، ومع ذلك تراهم يتباهون، روضة لتعلم الإنجليزي، ما شاء الله.

(7/31)

عدم مشروعية تنبيه المصلين لسجود التلاوة

السؤال

هل يُشرع للإمام تنبيه المصلين لسجود التلاوة؟

الجواب

لا.

لا يتكلم ولا يقل: سنسجد سنسجد، لأن هذا ليس هذا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم.

(7/32)

الجمع للمسافر عبر المطار

السؤال

سوف أصل إلى مطار جدة الساعة الواحدة ظهراً، هل أجمع الظهر والعصر؟

الجواب

نعم، لا بأس.

(7/33)

كذب الأطفال

السؤال

إذا كان الولد صغيراً وكذب هل عليه أثم؟

الجواب

إذا كذب وهو صغير معنى ذلك أنه سيتعود الكذب، وفي المستقبل يبلغ وهو كذاب.

(7/34)

عمل المأموم في دعاء القنوت

السؤال

ماذا يفعل المأموم أثناء دعاء القنوت؟

الجواب

يرفع يديه ويدعو الله ويؤمِّن مع الإمام في الدعاء، وإذا مر بشيء فيه تسبيح لله سبح.

(7/35)

حكم الإكثار من التورية

السؤال

بعض المسلمين يجعل التورية حياته كلها فما حكم ذلك؟

الجواب

هذه مصيبة، وهذا أكيد أنه يقع في الكذب (100%)، وربما يصاب بشيء من التباهي والفخر بنفسه، يعني: أنه كيف خدع الناس واستطاع أن يفهمهم شيئاً وهو يقصد شيئاً آخر، ثم مع كثرة التورية الناس لا يثقون بكلامه.

(7/36)

قصة أبي هريرة والشيطان

الشيطان هو ذلك العدو الملازم للإنسان، مختص بغوايته وإضلاله، ولكنه رغم عدائه وكذبه صدق مع أبي هريرة في نصيحته له بقراءة آية الكرسي، فمن قرأها فلا يزال عليه من الله حافظ.

وقد وضح الشيخ في هذه المادة أسباب فضل آية الكرسي، والوسائل التي تعين على الحذر من الشيطان، وقبل هذا وذاك ذكر فوائد قصة أبي هريرة والشيطان، والتي تربو على عشرين فائدة، بعد أن صدر المادة بذكر نص الحديث وبعض مواقف الصحابة مع الجن.

(8/1)

نص حديث أبي هريرة مع الشيطان وشرح ألفاظه

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فلقاؤنا في هذه الليلة وقصتنا -أيها الإخوة- مع أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، لنلتقي معه في هذه القصة العظيمة التي رواها الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: عن أبي هريرة قال: (وَكَّلَنِي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: والله لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إني محتاج وعليَّ عيالٌ ولي حاجةٌ شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ قال: قلت: يا رسول الله! شكا حاجةً شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود.

فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيالٌ ولن أعود، فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك؟ قلت: يا رسول الله! شكا حاجةً شديدةً وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، قال: أما إنه قد كذبك وسيعود.

فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه ثلاث مرات تزعم أنك لا تعود ثم تعود، قال: دعني وسوف أعلمك كلماتٍ ينفعك الله بها، قلت: ما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي - ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم)) [البقرة:255]- حتى تختم الآية، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربنك شيطانٌ حتى تصبح؛ فخليت سبيله.

فأصبحت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل أسيرك البارحة؟ قلت: يا رسول الله! زعم أنه يعلمني كلماتٍ ينفعني الله بها، فخليت سبيله، قال: وما هي؟ قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: - {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} [البقرة:255]- وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطانٌ حتى تصبح -وكانوا أحرص شيءٍ على الخير- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه قد صدقك وهو كذوب، أتعلم من تخاطب منذ ثلاث ليالٍ يا أبا هريرة؟ قال: لا.

قال: ذاك الشيطان).

هذا الحديث أخرجه البخاري رحمه الله تعالى في كتاب: الوكالة، باب: إذا وكل الموكل رجلاً فترك الوكيل شيئاً فأجازه الموكل فهو جائز، ورواه رحمه الله كذلك في كتاب: فضائل القرآن من صحيحه.

هذا الحديث في شرحه: أن النبي صلى الله عليه وسلم وكَّل أبا هريرة بحفظ زكاة رمضان، والمقصود زكاة الفطر ليفرقها النبي صلى الله عليه وسلم على الفقراء، وفي رواية: أن أبا هريرة كان على تمر الصدقة، فوجد أثر كفٍ كأنه قد أخذ منه.

- وقوله: (من الطعام) المراد بالطعام: البر ونحوه مما يزكى به، وهذا دليل على أن صدقة الفطر تخرج من الطعام، فقد جمعها النبي عليه الصلاة والسلام من الطعام ووكَّل بحفظها أبا هريرة.

- وفي الحديث قوله: (لأرفعنك) أي: لأذهبن بك أشكوك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: ليقطع يدك لأنك سارق.

- وقوله: (إني محتاج وعلي عيال) أي: فقير في نفسي، (وعليَّ عيال) أي: أظهر حاجة أخرى وهي وجود عيال له، ثم قال مؤكداً حاجته: (ولي حاجةٌ شديدة) أي: زائدة، وشديدة: صعبة كدينٍ أو جوعٍ مهلك ونحو ذلك، فهذا تأكيد بعد تأكيد، يقول: (إني محتاج وعليَّ عيال ولي حاجةٌ شديدة).

- وقوله: (إني محتاج وعلي عيال) وفي رواية: (إنما أخذته لأهل بيتٍ فقراء من الجن).

- وقوله: (فرصدته) أي: ترقبت مجيئه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إنه سيأتي.

- وقوله: (إنه سيعود) هذا تأكيد من الصحابي رضي الله عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بذلك.

- وقوله في آخر الحديث: (لن يزال عليك من الله حافظ) أي: لن يزال من عند الله أو أمر الله حافظٌ عليك من قدرته سبحانه أو من الملائكة، لا يقربك شيطان لا إنسي ولا جنيٌ، لا أمر ديني ولا دنيوي.

- وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقك -أي: في تعليمه لك- وهو كذوب) أي: في سائر أقواله؛ لأن هذه عادة الشيطان.

هذا الحديث يبين حلقة من حلقات الصراع بين المسلم والشيطان.

(8/2)

مواقف متفرقة للصحابة مع الجن

لقد حصل لعددٍ من الصحابة مواقف مثل موقف أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فمن هذه المواقف: 1 - أن أبا أيوب الأنصاري حدَّث أنه كانت له عكة فيها تمر، وكانت تجيء الغيلان من الجن -ومنه قول الصحابي: [إذا تغولت الغيلان فعليكم بالأذان] إذا تراءت الغيلان أمامكم وظهرت فعليكم بالأذان؛ لأن الأذان يطردها- وتأخذ منه، وفي الرواية: أنها علمته آية الكرسي، وأنه لا يقربه شيطان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صدقك وهو كذوب).

2 - كذلك قصة أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه: أن أباه كعباً أخبره أنه كان له جرين فيه تمر -والجرين: هو البيدر الذي يجمع فيه الطعام- وكان يتعاهده، وكلما جاء يتعاهد هذا البيدر وجده قد نقص، فحرسه ذات ليلة فإذا هو بدابةٍ كهيئة الغلام المحتلم، قال: فسلم فرد السلام، فقال: ما أنت جنٌ أم إنس؟ قال: جنٌ، فقلت: ناولني يدك، فإذا هي يد كلب وعليها شعر كلب، فقلت أهذا خلق الجن؟ قال: لقد علمت الجن أن فيهم من هو أشد مني، فقلت: ما يحملك على ما صنعت؟ قال: بلغني أنك تحب الصدقة فأحببت أن أصيب من طعامك.

فقلت: ما الذي يحرزنا منكم؟ قال: هذه الآية -آية الكرسي- فتركته ثم غديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته قال: صدق الخبيث.

رواه ابن حبان في صحيحه.

3 - وحدثت كذلك حادثة أخرى رواها عبد الله بن مسعود قال: لقي رجلٌ من أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم رجلاً من الجن فصارعه فصرعه الإنسي، فقال له الإنسي: إني لأراك ضئيلاً شخيتاً كأن ذريعتيك ذريعتا كلب -تصغير ذراع- فكذلك أنتم معشر الجن أم أنت من بينهم كذلك؟ قال: لا والله.

إني منهم لضليع.

يقول الإنسي: أنا أراك ضئيلاًً -أي: دقيق الجسم- شخيتاً -أي: مهزولاً- فهل أنتم الجن هكذا أم أنك أنت ضعيف من بينهم؟ قال: لا والله إني من بينهم لضليع- أي: جيد الأضلاع، ولكن عاودني الثانية فإن صرعتني علمتك شيئاً ينفعك، قال: نعم.

فصارعه فصرعه قال: تقرأ: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} [البقرة:255] فإنك لا تقرأها في بيتٍ إلا خرج منه الشيطان له خبجٌ -أي: ريحٌ- كخبج الحمار، ثم لا يدخله حتى يصبح.

وهذه الروايات في بعض أسانيدها ضعف، لكن ثبت أن عمر رضي الله عنه صارع جنياً فصرعه، وهذا من قوة عمر رضي الله عنه، وعاوده فصارعه فصرعه.

4 - وجاء في بعض الروايات كذلك: أن أبا هريرة رضي الله عنه عندما كان يحرس تمر الصدقة اشتكى لما رأى ذلك الرجل يأخذ منه، قال: فأخذته فالتفت يدي على وسطه فقلت: يا عدو الله! وثبت إلى تمر الصدقة فأخذته وكانوا أحق به منك، لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيفضحك، وفي رواية قال: ما أدخلك بيتي تأكل التمر؟ قال: أنا شيخ كبير فقير ذو عيال، وما أتيتك إلا من حاجة، ولو أصبت شيئاً دونك ما أتيتك، ولقد كنا في مدينتكم هذه حتى بُعث صاحبكم، فلما نزلت عليه آيتان تفرقنا منها، فإن خليت سبيلي علمتكهما، قلت: نعم.

قال: آية الكرسي، وآخر سورة البقرة من قوله: {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة:285] إلى آخرها.

هذه بعض الروايات التي جاءت في حديث معاذ رضي الله عنه أيضاً، لكن قصة أبي هريرة رضي الله عنه مع الشيطان أثبت القصص كما هي في صحيح البخاري.

(8/3)

فوائد من قصة أبي هريرة مع الشيطان

هذه القصة يؤخذ منها فوائد كثيرة ومتعددة، فمن هذه الفوائد: أولاً: أن الشيطان قد يعلم ما ينتفع به المؤمن.

ثانياً: أن الحكمة قد يعلمها الفاجر ولكنه لا ينتفع بها؛ لأنه لا يعمل بها، وربما تأخذ علماً من رجل فاجر، والعلم هذا نافع؛ ولكن الفاجر لا ينتفع به لفجوره.

ثالثاً: أن الشخص قد يعلم الشيء ولا يعمل به، وهذا كثير حاصل، وكثيرٌ من الناس عندهم معلومات كثيرة لكن لا يعملون بها، لو كانوا يعملون بالمعلومات التي عندهم لتغيرت أحوالهم؛ لكنها معلومات بدون عمل، ومعلومات بدون عمل لا تنفع، ولو كنا نعمل بعشر ما نعلم لتغيرت أحوالنا كثيراً.

رابعاً: أن الشيطان قد يَصْدُق أو يُصَدِّق ببعض ما يصدق به المؤمن، ومع ذلك لا يكون مؤمناً، هذا الشيطان يقول: إن هذه الآيات تحفظك من الشياطين، هو صدق بهذا لكن هذا التصديق لا يعني أنه مؤمن.

خامساً: أن الكذاب قد يصدق، فبعض الكذابين يمكن أن يَصدقوا في بعض الأحيان مع أنهم كذابون، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم قال في الشيطان: (صدقك وهو كذوب).

سادساً: أن العادة والغالب على الشيطان الكذب، وأنه نادراً ما يصدق.

وكذوب صيغة مبالغة من قوله: (صدقك وهو كذوب).

سابعاً: أن الشيطان قد يتصور بصورةٍ يمكن للإنسي أن يراه من خلالها؛ لأن الله يقول في كتابه: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، الشيطان يراكم وأنتم لا ترونه {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} [الأعراف:27] هو ومن على شاكلته من الشياطين يرونكم وأنتم لا ترونهم، فإذا كان الله يقول: {مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] فكيف رآه أبو هريرة؟ وكيف رآه الصحابة الآخرون؟ فنقول: عندما تصور بصورة أخرى غير الصورة الأصلية، أي: أنه لو كان هو على شكله الأصلي الحقيقي فلا يمكن أن نراه {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] لكن إذا تشكل بصورة كلب أو حية أو على صورة هذا الكائن المهزول كأن ذراعيه ذراعي كلب، فحينها يمكن أن نراه؛ لأنه تشكل بصورة أخرى، فنراه بهذه الصورة التي تشكل عليها، لكن الصورة الأصلية التي خلقه الله عليها لا يمكن أن نراه وهو عليها {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27].

ثامناً: أن الشخص الذي يقام على حفظ الأشياء يسمى وكيلاً، فمن يوكل بحفظ الصدقة فهو وكيل.

تاسعاً: أن الجن يأكلون من طعام الإنس، قال الله عز وجل: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الإسراء:64] والطعام يدخل في الأموال، فإذا أردت أن تمنع الشيطان من مشاركتك في الطعام فقل: باسم الله، وإذا دخلت منزلك فقل: باسم الله فإنه لا يدخل معك، وإذا قدم الطعام فقلت: باسم الله فإن الشيطان يقول: لا مبيت لكم ولا عشاء، فإذاً تستطيع أن تحرم الشيطان من مشاركتك في الطعام عندما تسمي الله عليه.

وكذلك إذا كان إناء فيه طعام غطه، وقل: باسم الله، فإن من فائدة تغطيته وقول: باسم الله منع الشيطان من الأكل منه، وإن الشيطان يأكل ويشرب من الإناء المفتوح، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ولو أن تعرض عليه عوداً وتسمي الله) فلو وضعت عوداً دون الغطاء، وقلت: باسم الله، فلا يستطيع الشيطان أن يأكل أو يشرب منه.

وكذلك يفيد في منع نزول الداء من السماء، فإن في السنة ليلة ينزل فيها داء كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا شيء غيبي، فإذا غطيت الإناء فلا ينزل الداء، فإذاً فائدة تغطية الإناء، وقول: باسم الله ما يلي: أولاً: منع الداء.

ثانياً: منع الشيطان من أن يشاركك في مطعومك ومشروبك.

ثالثاً: أن باسم الله تمنع الشيطان من النظر إليك.

فإذا قال إنسان: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] فإننا نريد أن نخلع ثيابنا، وأن ندخل للاغتسال، وأن يأتي الرجل أهله فما هو الحل؟ وهل نبقى نحن نهباً لأعين الجن يرون عوراتنا؟ فنقول: لا.

فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الرجل إذا أراد أن يخلع ثيابه فسمى الله، فإن الشيطان لا يستطيع أن ينظر إلى عورته، وهذا حفظ للعورة، وإذا خلع الثياب قال: باسم الله، وإذا أتى أهله قال: باسم الله.

وكذلك باسم الله تمنع من المشاركة في الأولاد؛ فإنه ورد في تفسير قوله تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الإسراء:64]: أن الشيطان يشارك الإنسان في وطء زوجته، فيشاركه في الأولاد، فإذا قلت: باسم الله قبل الجماع منعت الشيطان مشاركتك في الأولاد.

فباسم الله تمنعه من دخول بيتك، ومن طعامك، وشرابك، ومن رؤية عورتك، ومشاركتك زوجتك، ومن هذا يتبين لنا أهمية هذه الكلمة.

عاشراً: أن الشياطين قد يتكلمون باللغة العربية، وقد تسمعه أيضاً باللغة التي عليها هذا الرجل، قد يتكلم باللغة الإنجليزية أو الفارسية.

حدثوا أن أبا علقمة النحوي -وكان رجلاً متقعراً في الكلام يأتي بالكلام الوحشي- كان ذات مرةٍ يمشي في الطريق، فأصابه شيء فسقط، فتجمع عليه أهل السوق، هذا يعصر إبهامه، وذاك يقرأ في أذنه، وذلك يؤذن في الأذن الأخرى، فقال: مالكم تكأكأتم علي كتكأكئكم على ذي جنة افرنقعوا عني.

فقالوا: شيطانه يرطن بالفارسية أو بالهندية.

فقوله: (تكأكأتم علي) أي: تجمعتم علي كتجمعكم على ذي جنة، أي: كتجمعكم على من دخل فيه الجني، (افرنقعوا عني) أي: انفضوا واذهبوا عني، فقالوا: هذا شيطانه يتكلم بالهندية أو بالفارسية.

إذاً يمكن للشيطان أن يتكلم باللغات الحية المعروفة، ولا شك أنهم يعلمون أن منهم من يتكلم العربية، ومنهم من يتكلم غيرها، وفيهم أهواء وبدع؛ عندهم قدرية ورافضة ومرجئة ومبتدعة، ومشركون، وضُلاَّل {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} [الجن:11] حتى البدع موجودة عند الجن.

حادي عشر: في هذا الحديث أن الشياطين يسرقون ويخدعون، ما هو وجه السرقة هنا؟ لما جعل يحثو من الطعام ويأخذ منه بكفيه، وفي الرواية الأخرى: أنه كان يأخذ فينقص الطعام، ويخدعون لما قال له: لا أعود ثم عاد وقال له: لا أعود ثم عاد، هذا خداع.

ثاني عشر: فضل آية الكرسي، ومن الروايات الأخرى يؤخذ فضل آخر سورة البقرة.

ثالث عشر: أن الجن يصيبون من الطعام الذي لا يذكر اسم الله عليه.

رابع عشر: أن يد السارق لا تقطع في المجاعة، ويمكن أن يقال: إن المسروق لم يبلغ نصابه.

خامس عشر: قبول العذر والستر على من يظن به الصدق، فإذا جاء أحد ظهر لك منه الصدق، وأمسكت به وهو يسرق شيئاً من عندك، وعندما حققت معه شكا الحاجة والفقر والعيال ولا يظهر منه خلاف ذلك، فالذي يظهر منه -فعلاً- الفقر والشدة والمسكنة، فالأفضل لك أن تعذره بما فعل، ولا تأخذه بما اقترف، من باب قبول العذر والستر على من يظن به الصدق، وأبو هريرة رضي الله عنه في المرة الأولى هكذا كان حاله، فقد ظن به أنه محتاج فعلاً، وأنه أهلٌ للرأفة والرحمة فتركه.

سادس عشر: اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على المغيبات؛ لأن أبا هريرة لما جاء النبي عليه الصلاة والسلام لم يقص عليه القصة، بل النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي قال له: (ما فعل أسيرك البارحة؟) فما الذي أدرى النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان هناك أسير مع أن أبا هريرة لم يخبره؟ جاء أبو هريرة النبي عليه الصلاة والسلام وبادأه بالقول: (ما فعل أسيرك البارحة؟) فإذاً النبي عليه الصلاة والسلام يطلعه الله على شيء من الغيب.

سابع عشر: جواز جمع زكاة الفطر قبل ليلة الفطر لتفريقها بعد ذلك، وأنه يجزئ إخراجها قبل العيد، وكما قال العلماء: يجوز إخراج زكاة الفطر قبل العيد بيومٍ أو يومين، وكان يقوم العامل في عهد الصحابة الموكل من بيت المال من الخليفة بأخذ الزكاة قبل العيد بيوم أو يومين، وإذا كان الشهر ثلاثين فثلاث ليال، ولو كان تسعة وعشرين فقبلها بيوم أو يومين، يوم وتسعة وعشرين.

ثامن عشر: أن زكاة الفطر تخرج طعاماً كما تقدم ذكره.

تاسع عشر: يقين الصحابة بكلام النبي عليه الصلاة والسلام وتصديقهم به، عندما قال أبو هريرة: (فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود) لمجرد أن الخبر من النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيعود أيقن أبو هريرة أنه سيعود.

عشرون: فضل قراءة آية الكرسي قبل النوم؛ لأن الشيطان قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} [البقرة:255] فإذاً متى تقرأ بناءً على تعليمات الشيطان الرجيم؟ إذا أويت إلى فراشك، ليس لأنها وصية الشيطان بل لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر ذلك، وإلا فالشيطان لا سمع له ولا طاعة، فلم يصبح تشريعاً بكلام الشيطان بل صار تشريعاً لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (صدقك)، وهذه الفائدة التالية.

حادي وعشرون: لما قال:) صدقك)، هو التشريع وليس كلام الشيطان.

ثاني وعشرون: أن آية الكرسي تمنع شياطين الإنس والجن في ظاهر النص -سواء كان في الأمور الدينية- من أن يقترب من الإنسان؛ لأنه يقول: ولا يقربنك شيطان، وكلمة (شيطان) نكرة (ولا يقربنك) نفي، فلا يقربك شيطانٌ حتى تصبح.

ثالث وعشرون: كرامة الله تعالى لـ أبي هريرة عندما استطاع أن يلقي القبض على الشيطان، وليس آحاد الناس يستطيعون القبض على الشيطان، لكن أبا هريرة استطاع أن يلقي القبض عليه، فما استطاع الشيطان أن يفر منه، فلذلك قال: (فرحمته فخليت سبيله) وإلا لو لم يخل سبيله لما استطاع الشيطان أن يهرب منه, إذاً

(8/4)

أسباب فضل آية الكرسي

إن قال قائل: ما هي الميزة الموجودة في آية الكرسي حتى تمنع الشياطين من إيذائنا؟ ف

الجواب

إن هذه الآية هي أعظم آية في كتاب الله تعالى، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الصحابي، وأن هذه الآية إذا قرأها رجل في دبر كل صلاة -أي: بعد كل صلاة- لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه النسائي رحمه الله وغيره، فآية الكرسي إذاً تقرأ قبل النوم وكذلك في أدبار الصلوات، وهي أفضل آية في كتاب الله عز وجل.

ومن أسباب فضلها: 1 - اشتمالها على الاسم الأعظم: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} [البقرة:255] في البقرة، وفي آل عمران {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1 - 2]، وفي طه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:111].

2 - وكذلك فإن هذه الآية هي عشر جمل مستقلة: أ- {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [البقرة:255] متفرد بالألوهية.

ب- {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً، والقيوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد:33] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم:25] فكل الموجودات لا قوام لها إلا بالله عز وجل، ولا غنى لها عن الله عز وجل أبداً، فكل الموجودات مفتقرة إلى الله.

جـ- {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] لا تعتريه سبحانه وتعالى غفلة ولا ذهول، ولا نعاس، ولا نوم: أي: استغراق في النوم وغياب عن الوعي أبداً.

د- {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:255] الجميع عبيده وتحت قهره وملكه: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم:93].

هـ- {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] لا يتجاسر أحد أن يشفع لأحد عند الله إلا إذا أذن الله، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام لكي يشفع لا بد أن يستأذن، وإذا أراد يوم القيامة أن يستأذن يأتي تحت العرش ويخر ساجداً، فيدعه الله ما شاء أن يدعه، ويعلمه من المحامد ويفتح عليه من الثناء أشياء لم يُعلمها أحداً فيعلمه إياها، وبعد ما يقولها ينتظر الناس النتيجة، ويسجد من تحت العرش ما شاء الله أن يسجد من الوقت، بعد ذلك يقول: (يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع) فهذا سيد الخلق لا يمكن أن يشفع إلا إذا أذن الله.

و {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة:255] إحاطته سبحانه وتعالى بجميع الكائنات، وإحاطته بالحاضر والماضي والمستقبل، والجن من الغيب، والله سبحانه وتعالى يحيط بهم ويعلمهم {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} [البقرة:255].

ز- {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] فلا يطلع أحد على شيء من علم الله إلا من أطلعهم الله، ولولا أنه أطلعهم ما اطلعوا ولا عرفوا.

م- {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] الكرسي: موضع قدمي الرب سبحانه وتعالى، والعرش لا يقدر قدره إلا الله، الكرسي عظيم جداً وفي غاية الاتساع {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] هذا الكرسي كيف العرش؟ {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] لو أن السماوات السبع والأرضين السبع بسطت ووصل بعضها ببعض ما كانت في الكرسي إلا مثل الحلقة في صحراء من الأرض، والسماوات السبع والأرضين لو بسطت ووصل بعضها ببعض فإن مساحتها بالنسبة للكرسي مثل الحلقة التي ألقيت في صحراء من الأرض، هذا الكرسي الذي هو موضع قدمي الرب فكيف العرش العظيم؟ (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاةٍ في الأرض).

الآن نسبة كل السماوات السبع والأرضين إلى الكرسي مثل حلقة في صحراء، والكرسي نسبته إلى العرش -أيضاً- مثل حلقة في صحراء، والله أكبر من العرش، وهذا يعطيك معنى عظيماً عندما تقول: الله أكبر من كل شيء، السماوات والأرض تضيع في الكرسي، والكرسي يضيع في العرش، والله أكبر من الكرسي ومن العرش ومن السماوات ومن الأرض، استوى على العرش استواءً يليق بجلاله وعظمته، فعندما نقول: الله سبحانه وتعالى عظيم كبير، فهو شيءٌ لا يوصف أبداً، ولا يمكن أن يتخيله المتخيلون ولا يصفه الواصفون.

نحن -الآن- في الأبعاد الفلكية هذه عقولنا تضيع ولا نستطيع جمع مسافات هذه السنوات الضوئية، وهذه كلها لا شيء بالنسبة لله سبحانه وتعالى، وبالنسبة للعرش والكرسي، ولذلك فإن الله عز وجل من عظمته أنه خلق هذه الأشياء العظيمة وهي لا تقارن به سبحانه.

ط- {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:255] لا يثقله، ولا يكرثه، ولا يعجزه، ولا يتعبه، ولا يشق عليه حفظ السماوات والأرض ومن فيهن، فهو سهل يسير عليه سبحانه وتعالى.

أنت كم تستطيع أن ترعى من ولد في نفس الوقت؟ المرأة كم تستطيع أن ترعى من الولد في البيت في نفس الوقت؟ تحافظ عليهم؟ إذا زادوا عن عدد معين هذا يسقط، وهذا يجرح، وهذا يصطدم بجدار، وهذا يضرب، وهذا وهذا، لا تستطيع السيطرة عليهم، فالله سبحانه وتعالى لا يئوده حفظ كل من السماوات والأرض وما فيهما من الإنس والجن والملائكة وجميع العوالم، وهذا شيء يسير على الله سبحانه وتعالى.

ي- {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] آخر جملة في الآية هي قوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] كقوله تعالى: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:9].

فهذه تبين لنا بجلاء عظم قدرة الله عز وجل، وأنه سبحانه قائم على جميع الأشياء التي منها الجن، وأنه لا يخرج شيءٌ منها عن ملكه، فالتحصن بهذه الآية التي معناه: أنك تلتجئ إلى الله، وتعتصم به وبقدرته وبحفظه وكلاءته ورعايته فيقيك من شر الشيطان، فإنك في الحقيقة إذا قرأتها بهذه النية فأنت تلتجئ إلى من لا ينام ولا يغفو ولا يسهو، وأن له ما في السماوات وما في الأرض، وأن الجن هؤلاء والشياطين لا يخرجون عن ملكه ولا عن قدرته، وأنه يعلم حركات الجن والشياطين، ولا يئوده حفظهما وما فيهما {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255] فأنت في الحقيقة تعتصم بالله بقدرته وبعظمته، فلذلك ينجيك هذا الاعتصام ويحفظك بالتأكيد إذا كنت بالله مؤمناً وعليه متوكلاً ولا بد من هذا، والمسألة مسألة يقين وتوكل.

(8/5)

وسائل التوقي من الشيطان

إذا قال قائل: ما هي الوسائل التي نستطيع أن نحذر بها من الشيطان؟ ف

الجواب

الوسائل كثيرة، فمن ذلك: 1 - الحذر، والحيطة -أخذ التأهب- والاعتصام والالتزام بالكتاب والسنة.

2 - الالتجاء إلى الله والاحتماء به سبحانه وتعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون:96 - 98].

3 - الاستعاذة عند دخول الخلاء، وعند الغضب، وعند الجماع: (اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا).

عند الغضب: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم).

وعند دخول الخلاء: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) (إذا نهق الحمار تعوذوا بالله من الشيطان الرجيم -لماذا؟ - لأنه رأى شيطاناً).

عند قراءة القرآن تعوذ بالله من الشيطان الرجيم، حتى أولادك وأهلك تعوذهم، وكان الحسن والحسين يعوذهما النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة) والهامة: مفرد الهوام، وهو كل من يهم بسوء.

4 - الاشتغال بذكر الله تعالى مما يحمي العبد من الشيطان، وعلى رأس الذكر القرآن، وعلى رأس القرآن آية الكرسي.

والأذكار كثيرة، وآية الكرسي واحدة من هذه الأذكار، وإذا لازم الإنسان الصالحين فإن في ذلك حفظاً له من الشيطان؛ لأن الذئب يأكل من الغنم القاصية، فالذي يتفرد عن جماعة المسلمين فإن الشيطان يتسلط عليه، (الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد) ولذلك إذا كان الإنسان مع القوم الصالحين فإنه يحمي نفسه من الشيطان الشيطان يأكل بشماله وأنت تأكل بيمينك الشيطان يشرب بشماله وأنت تشرب بيمينك الشيطان يعطي بشماله وأنت تعطي بيمينك الشيطان يأخذ بشماله وأنت تأخذ بيمينك، حتى اللقمة إذا وقعت منك لا تدعها للشيطان، وإذا علمت أن العجلة من الشيطان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (العجلة من الشيطان) فلا تستعجل بل تتأنى، التثاؤب مدخل للشيطان فعليك أن تسد الطريق عليه وتضع يدك عند التثاؤب على فمك، الاستغفار -مثلاً- يقطع الطريق على الشيطان فعليك أن تلزمه وهكذا.

فهناك وسائل كثيرة تنجي العبد من الشيطان، فينبغي الالتزام بها، والمحافظة عليها، وهذا ذكر بعض ما تضمنه حديث أبي هريرة من الفوائد، والله سبحانه وتعالى أعلم.

(8/6)

الأسئلة

.

(8/7)

حكم من كان على الطريقة الصوفية

السؤال

هل جميع من هم على الطريقة الصوفية مبتدعون، لأنني أعرف شخصاً على الطريقة الصوفية يقوم بدروس في الفقه وكتب العلم من كتب أهل السنة والجماعة، ويتكلم في عظمة الله وتقوى الله، ويأتي بالدليل من القرآن والسنة، ويزور تاركي الصلاة، ويذهب إلى الخارج للدعوة؟

الجواب

كلمة الصوفية قيل: هي نسبة إلى الصوف؛ لأنهم كانوا يلبسون الصوف تزهداً، وقيل: نسبة إلى الصفاء، فتىً تصافى فصوفي حتى سمي صوفي، وقيل: غير ذلك.

هذه الطائفة نشأت في البداية كردة فعل لما أصاب الناس في عهد بني أمية من الترف، وجاءت الفتوحات والأموال والغنى، واشتغل الناس بالأطعمة وتشييد القصور والبساتين، وانغمس الناس في الدنيا، وبدأت تخرج بعض ردود الفعل العكسية التي فيها عزوف تام مقابل ذلك الترف، فإذاً مبدأها كان تزهداً، وعزوفاً عن النعيم، فلا يلبسون الناعم بل يلبسون الصوف، ويعيشون على الأشياء البسيطة، ولا يشتغلون، ولا يأكلون الأطعمة الفاخرة؛ بل يعيشون على العدس والأطعمة البسيطة، ثم بعد ذلك تطور الأمر شيئاً فشيئاً، ودخل أعداء الدين في باب الصوفية دخولاً كبيراً، ومبدأ الصوفية مماثل لمبدأ الرهبان {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27].

هكذا كان بعض الصوفية، ونشأت صلة خطيرة جداً بين التصوف والتشيع، وصار هناك بعد ذلك كيان فيه انحرافات عظيمة جداً، وأيضاً اليهود كان لهم آثار على الطرق الصوفية التي نشأت.

فإذاً هناك ارتباط وثيق جداً بين الباطنية والصوفية، فرق الباطنية والصوفية، وهذا ما حكاه علماء المسلمين، وهم الآن يحاولون تمجيد الحلاج، وتؤلف فيه بعض الرسائل في بعض الجامعات في الخارج، وهو من أكفر الكفار الموجودين على ظهر الأرض؛ لأنه واحد ممن يقولون: كل ما ترى بعينك فهو الله، ويعتقد أن الإنسان جزء من الله، وأنه الجدار، ويقولون:

وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسته!!!

تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، فهم يذكرون أشياء شنيعة جداً تطورت لها الأمور بعد ذلك.

والصوفية بين البدعة وبين الكفر الأكبر، إما أن تكون أحياناً مسابح مائة أو تسعمائة أو ألف مسبحة، أو أذكار الصمدية، والصلاة النهارية، ويذكرون -مثلاً- أذكاراً معينة لم ترد في الكتاب والسنة، ويعتقدون في الأولياء والأوتاد والأقطاب والغوث الأعظم، وكل طريقة تمجد صاحبها؛ فـ الرفاعية يمجدون الرفاعي، والقادرية يمجدون عبد القادر الجيلاني، والمرسية يمجدون المرسي ابن عباس، والبدوية يمجدون البدوي ويقولون: ولي، وأنه كان على جدار فبال على الناس وهم ذاهبون إلى المسجد فهموا به، فقال: أنا رجل مالكي والناس يغتابونني وبول كل ما أكل لحمه طاهر -لأن الغيبة أكل لحم أخيك- وبولي كبول ما أكل لحمه فهو طاهر!!! انظر كيف الاعوجاج؟! ويحجون إلى القبور ويطوفون بها ويستغيثون، وعندهم قضية المولد والتوسل الشركي بالنبي صلى الله عليه وسلم، والتوسل بالأموات، وإذا أردت أن تقرأ دواوين الصوفية تجد فيها الأشعار العجيبة في الشرك:

فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم

إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم

يتوسلون بالنبي عليه الصلاة والسلام، ويستغيثون به، إني دعوتك من أين دعوتك يقول: من برع من يمن دعوتك يا رسول الله! وأغثني يا رسول الله! وانصرني يا رسول الله! وإذا لم تكن معي يا رسول الله في الآخرة فمن معي، وأنا إلى من أشكو إلا إليك يا رسول الله! وأين الله عز وجل؟ أجعلتم له بدلاً؟! {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف:194] نسيتم الله وذهبتم إلى الخلق تسألون هذا وتطلبون من هذا، وهم أموات لا يسمعون: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80] {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] ويسألون الأموات، ويكتبون الإلحاد في الأوراق ويضعونها في القبر، ويأخذون الإجابات والبركات، والمرأة التي لا تحمل تتمسح بالصخرة الفلانية فهذا شغلهم، ترى في الهند رجل قذر وسخ لا يغتسل مطلقاً رائحته قذرة يتمدد على سرير موضوع خارج كهف وأمامه الناس في صف طويل جداً وهو ماد رجله، كلما جاء أحد يمسح ويمشي، والذي بعده يمسح هذه الرجل ويمشي هكذا، يزعمون أنهم يلتمسون البركات.

جاءوا إلى الخضر قالوا: هذا هو الولي، كل من التشريعات الآن من الخضر، والخضر عنده العلم اللدني، والصوفية لا يوجد عندهم سند حدثنا فلان عن فلان؛ لأن وليهم يقول: حدثني قلبي عن ربي، ويقولون عن أسانيدنا: إنها ميت عن ميت، وأسانيدهم: عن الحي الذي لا يموت، حدثني قلبي عن ربي وكأنها برقية، الخط الساخن مفتوح نتلقى عن الله مباشرة.

وعندهم عقيدة الخرقة، وهي أن الخرقة أعطاها الشيخ للشيخ فلان بعد وفاة الشيخ فلان، وهذا الشيخ هذا بايع الخضر.

وهذا أحمد التيجاني ليلة سبع وعشرين من رمضان عند غار حراء يجتمع بالأقطاب المسئولين عن إدارة العالم، ويوزعون الأرزاق على الخلق في تلك السنة، هذا الغوث الأعظم وهذا القطب الأكبر، وهذا فلان بن فلان، هؤلاء مسئولون عن إدارة العالم، الله سبحانه وتعالى لا ينشغل بهذه الأشياء الصغيرة فأوكلها إلى الأقطاب والأوتاد، فهؤلاء يصرفون العالم، ولذلك نحن ندعوهم ونقول: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] نحن ذنوبنا كثيرة، ولا يجوز لنا أن ندخل إلى الله مباشرة، فلابد من واسطة حتى يقبل الله منا، فواسطتنا الجيلاني والبدوي والمرسي، ثم كل ولي له تخصص.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(8/8)

قصة المستهزئ الذي هداه الله

الاستهزاء بالدين قضية خطيرة، ترمي بصاحبها في مكان من النار سحيق، واللسان من أكثر ما يقع في ذلك، ولكن قد يهدي الله مستهزئاً بفضله، ليعود من خير الناس ديناً، وفي هذه المحاضرة شرح لحديث إسلام أبي محذورة، ومعه بيان لخطر الاستهزاء بالدين وبعض صور الاستهزاء.

(9/1)

هداية أبي محذورة بعد استهزائه بالدين

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: ففي هذه الليلة أيها الإخوة موعدنا مع قصة المستهزئ الذي هداه الله تعالى، وهذه قصة عظيمة في مجال الهداية، هداية الله تعالى للإنسان إذا أراد أن يهديه.

وهذه القصة روى أصلها الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، ورواها مطوَّلة الإمام أحمد، وابن ماجة.

وهذه القصة من مسند الإمام أحمد رحمه الله يرويها عبد الله بن محيريز، وكان يتيماً في حجر أبي محذورة.

قال روح بن معير حين جهزه إلى الشام: قلت لـ أبي محذورة: يا عمِّ! إني خارج الشام، وأخشى أن أُسأل عن تأذينك، فأخْبَرَني أن أبا محذورة قال له: (خرجتُ في نفرٍ فكنا ببعض طريق حنين - أبو محذورة رضي الله عنه يروي له ويعلمه الأذان قبل أن يخرج إلى الشام - يقول له أبو محذورة: خرجتُ في نفرٍ -يعني: مع المشركين بعد فتح مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم- خرجتُ في نفرٍ فكنا ببعض طريق حنين، فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين، فلَقِيَناه ببعض الطريق، فأذَّن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعنا صوت المؤذن ونحن متَنَكِّبون، فصرخنا نحكيه ونستهزئ به، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت فأرسل إلينا، إلى أن وقفنا بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم الذي سمعتُ صوتَه قد ارتفع؟ فأشار القوم كلهم إليَّ وصَدَقوا، فأرسل كلهم -أطلقهم- وحبسني، فقال: قم فأذن للصلاة، فقمتُ ولا شيء أكره إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مما يأمرني به، فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألقى إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين فقال: قل: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله -منخفضاً- ثم قال لي: ارْجِع فامدد من صوتك، فقل: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة، ثم أَمَرَّها -أي: مر بيده الشريفة- على وجهه مرتين، ثم مرتين على يديه، ثم على كبده، ثم بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرة أبي محذورة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله فيك فقلت: يا رسول الله! مُرْني بالتأذين بـ مكة فقال: قد أمرتك به، وذَهَب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية، وعاد ذلك محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقَدِمت على عتاب بن أسيد، عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ مكة، فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم).

انتهى كلام أبي محذورة رضي الله عنه.

(9/2)

شرح حديث أبي محذورة في قصة هدايته

كانت هذه القصة مرجع النبي عليه الصلاة والسلام من غزوة حنين، لما نَكَبَ عن الطريق وعَدَلَ عنه وتَنَحَّى، وكان هؤلاء يصرخون بالأذان استهزاءً لأنهم كفار، والنبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يؤذن، وأن يخفض صوته بـ (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله) ثم يرفع بها صوته.

وأبو محذورة اسمه: أوس بن مِعْيَر، وولاه النبي صلى الله عليه وسلم الأذان يوم الفتح، وكان أحسن الناس أذاناً، وأنداهم صوتاً.

وقد جاء مروياً عند الدارمي بإسناد متصل بـ أبي محذورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بنحو عشرين رجلاً فأذنوا، فأعجبه صوت أبي محذورة فعلمه الأذان.

وجاء لبعض شعراء قريش في مدح أذان أبي محذورة:

أما ورب الكعبة المستورةْ وما تلا محمدٌ من سورةْ

والنغمات من أبي محذورةْ لأفعلن فعلة مذكورةْ

(9/3)

السنة في الأذان من الترجيع وغيره

وهذا الحديث يحتوي على التكبير مرتين، والروايات المشهورة بأن التكبير في أول الأذان مربع، أي: أربع تكبيرات، والشهادتان المشهور في الأذان كل واحدة مرتان، وحسب أذان أبي محذورة كل واحدة أربع، أشهد أن لا إله إلا الله أربع مرات، وأشهد أن محمداً رسول الله أربع مرات؛ ولكن المرتين الأولَيَتَين من كل واحدة سراً أو بصوت منخفض، والمرتين الأخرَيَتَين بصوت مرتفع، وهذا هو الترجيع المذكور عند الفقهاء، وهو أن المؤذن إذا قام إلى الصلاة فإن السنة أن يجهر بالتكبيرات الأربع، ثم يقول بصوت منخفض: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، ثم بعد ذلك يعود فيرفع صوته بهذه الشهادات.

وقد توفي أبو محذورة رضي الله تعالى عنه بـ مكة سنة تسعٍ وخمسين، وقيل: سبعٍ وسبعين، ولم يزل مقيماً بـ مكة، وتوارثت ذريته الأذان رضي الله تعالى عنهم.

والأذان له أكثر من كيفية، وكذلك الإقامة لها أكثر من كيفية.

والمشهور من أذان عبد الله بن زيد الذي رأى الرؤيا: التربيع في التكبير.

وكذلك قال بالتربيع الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وجمهور العلماء، أن المؤذن يقول في بداية الأذان: الله أكبر أربع مرات.

وذهب مالك رحمه الله إلى أن التكبير في أول الأذان مرتين، واحتج بأذان أبي محذورة.

وبالتربيع عَمَلُ أهلِ مكة، وهي مجمع المسلمين في المواسم وغير المواسم.

المهم: أن أذان أبي محذورة يؤخذ منه سنة الترجيع وهي ثابتة ومشروعة، وصفتها كما سبق.

وبعض العلماء قالوا بحديث عبد الله بن زيد الذي ليس فيه ترجيع؛ ولكن جمهور العلماء على هذا الحديث الصحيح ولا تَعارُض! وأيهما متقدم، وأيهما متأخر، حديث أبي محذورة أم حديث عبد الله بن زيد؟ حديث عبد الله بن زيد متقدم، وحديث أبي محذورة متأخر.

ولا تَعارُض بين حديث أبي محذورة مع حديث عبد الله بن زيد، فحديث أبي محذورة يتضمن الترجيع، وحديث عبد الله بن زيد لا يتضمن الترجيع.

فيمكن أن نقول للمؤذن: إذا أردت التزام السنة والحرص عليها فطبق سنة الترجيع.

فإذا رأيت مؤذناً بعدما يقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، يسكت فترة وبعد ذلك يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، فاعلم بأنه يطبق سنة، ألا وهي سنة الترجيع.

وسنة الترجيع هي للمؤذن فقط، أما المستمع فيردد ما جهر به، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول).

(9/4)

من فوائد حديث إسلام أبي محذورة

(9/5)

تغير حال الإنسان لمؤثر ما

أولاً: أن الإنسان قد ينقلب من كافر إلى مسلم في لحظة: وأبو محذورة رضي الله عنه كان كافراً فلما أسلم ولقَّنَه النبي صلى الله عليه وسلم الأذان، ومَسَح وجهه، ومسح على كبده، ودعا له بالبركة، انقلب الكُرْه إلى محبة، وانقلب الكفر إلى إيمان، وانقلب بُغْض الأذان إلى محبة الأذان، بل وطلب أن يصبح مؤذناً، وانقلب الاستهزاء بالأذان إلى الجِدِّيَّة في إقامة هذه الشعيرة: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} [الأعراف:178] {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125] ويجعل الله تعالى النور في قلبه، والهداية ربانية من الله عز وجل، كم حاول النبي صلى الله عليه وسلم هداية أبي طالب، ولم يُسلِم أبو طالب، وأما أبو محذورة فقد مَسَحَ عليه ودعا له فهداه الله عز وجل، مع أن أبا طالب أقرب إلى النبي عليه الصلاة والسلام من أبي محذورة، ذاك عمُّه؛ ولكن الله عز وجل هو الذي بيده الهداية.

فإذاً يؤخذ من الحديث: أن الهداية بيد الله، وأن الإنسان مهما كان حريصاً على هداية شخص، فلا يمكن أن يهديه إذا كتب الله عليه الضلالة، وكذلك إذا كان الشخص مهتدياً، وقدر الله له أن يستمر على الهداية، فلا يمكن أن يضل مهما اجتمع عليه من شياطين الإنس والجن.

(9/6)

فوائد حول الأذان والمؤذنين وانتقائهم وأجرة الأذان

وكذلك يؤخذ من الحديث: أن الإنسان قد يُوْلَع بالشيء حتى يصبح له عادة يطلبه ويحرص عليه: فهذا أبو محذورة رضي الله عنه صار مؤذناًَ.

وفي هذا الحديث: انتقاء صاحب الصوت الندي لأجل الأذان: لأن صاحب الصوت الندي يُسمع له، وينجذب الناس لأذانه، وبالتالي للصلاة في المسجد أكثر من صاحب الصوت غير الندي، ولأن المؤذن وظيفته خطيرة؛ لأنه يدعو الناس إلى الصلاة، بل ربما بعض الناس لا يأتي إلى المسجد إلا من أذان المؤذن، فإذا كان المؤذن نَدِيَّاً تجد أن النفوس تنشرح وتُقْبِل على المسجد، والمؤذن داعٍ يدعو يقول: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، فيقول لهم: أقبلوا تعالوا إلى الصلاة، يدعوهم إلى الصلاة.

وبما أنه لا يمكن أن يقوم العبد إلى شيء من الطاعات إلا بقَدَر الله وتوفيقه وإعانته، فإنا نقول إذا سمعنا حيَّ على الصلاة؛ لا حول ولا قوة إلا بالله، أي: لولا أن أعطانا الله قوة وأعطانا حولاً نَقْدِرُ به على الإتيان إلى الصلاة؛ لما أمكن أن نأتي ولا أن نستطيع، ولذلك لما يقول: الله أكبر، الله أكبر، نقول: الله أكبر، الله أكبر، ينطق بالشهادتين، فننطق بالشهادتين، عندما يقول: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، تريد أن تقول عبارة معناها: استعنا بالله، وهذه العبارة التي معناها استعنا بالله هي: لا حول ولا قوة إلا بالله، ومعنى (لا حول ولا قوة إلا بالله) لا طاقة لنا ولا قدرة، ولا إمكان لنا أن نأتي إلى المسجد أو نقوم إلى الصلاة إلا إذا وفقنا الله لذلك، وأعاننا عليه ويسره لنا، وأعطانا الحول والقوة؛ لأنه هو صاحب الحول والقوة، ومنه نستمد الحول والقوة سبحانه وتعالى.

وأقول: إن وظيفة المؤذن في المجتمع وظيفة خطيرة، ولذلك لابد أن ينتقى من الناس المخلصون أصحاب الأمانة، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المؤذنين (أمناء الناس، على أذانهم يفطرون، وعلى أذانهم يمسكون) فهم مؤتَمَنُون، فينبغي أن يكونوا من أصحاب الأمانة، ولذلك أوصى ابن عمر رضي الله عنه رجلاً أن يتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً؛ لأن المؤذن المحتسب يكون إخلاصه أشد ولا شك، ولذلك يستجيب له الناس أكثر من المؤذن الذي يأخذ المال أو يؤذن لأجل المال.

ولعل من أسباب عدم التوفيق لدى بعض الناس في الصلاة: أن بعض المؤذنين لا يؤذنون إلا من أجل المال، وتجد بعض الناس إذا أراد أن يبحث عن وظيفة ويتزوج أسرع شيء يخطر في باله الأذان، مع أن المؤذن ينبغي أن يكون ذا صفات متفوقة؛ حتى يحصل له القبول عند الناس، وحتى يكون لصوته القبول عند الناس، ولذلك إذا احتسب المؤذن الأجر في الأذان وما أخذ عليه أجرة؛ فإنه من أطول الناس أعناقاً يوم القيامة وفي الحديث: (المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة).

كما أن الجزاء من جنس العمل، فبأذانهم صاروا أطول الناس أعناقاً يوم القيامة، وكذلك إذا أذن ردَّد معه وشهد له يوم القيامة ما عن يمينه وشماله من شجر وحجر، وجن وإنسٍ.

وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في مناقب بلال أنه سمع دف نعليه في الجنة، أمامه عليه الصلاة والسلام.

وحكم أخذ الأجرة على الأذان: أن من أذن لأجل المال، وجعل الأذان وسيلة للمال، فهو آثم وأذانه غير مقبول؛ لأنه اشترى الحياة الدنيا بالآخرة، ودفع العمل الأخروي الديني لأجل أن ينال الأجرة الدنيوية.

وبناء على ذلك من جعل الأذان وسيلة للتكسب فليس له عند الله من خلاق.

لكن إذا لم يوجد مؤذن محتسب، ولا يوجد من الناس من يتفرغ للأذان، فعند ذلك يعطى المؤذنون من بيت المال ما يفرغهم للأذان؛ لأن الناس لا بد لهم من مؤذنين، فإذا لم يوجد مؤذنون محتسبون، فلا بد من تفريغ بعض الناس للأذان، ولكن على هذا الشخص الذي يأخذ من بيت المال ألا يكون هدفه المال، وإنما هدفه الأجر وليس الأجرة، فيأخذ الأجرة للتفرغ للأذان، فهو يأخذ ليؤذن، لا أنه يؤذن ليأخذ، يأخذ ليتفرغ للقيام بهذه الشعيرة العظيمة، وليس أنه يقوم بهذه الشعيرة لكي يأخذ المال.

وفرق بين من يؤذن ليأخذ ومن يأخذ ليؤذن، كما أن هناك فرقاً عظيماً بين من يحج ليأخذ والذي يأخذ ليحج.

فإذا قال: أنا أريد رؤية المشاعر، والذهاب إلى بيت الله الحرام، وأن أدعو هناك، وأذكر الله هناك، لكن لا أجد مالاً، وأنا أتمنى وأشتهي، فقال له إنسان: أنا أريدك تحج عن ميتي فخذ هذا المال لتحج به، فهذا هدفه ونيته؛ الحج والذهاب إلى هناك، ورؤية المشاعر، وذكر الله هناك، والدعاء هناك، فهذا يؤجر؛ فهو يأخذ المال ليتمكن من الذهاب، فالمال وسيلة، والحج هي الغاية.

أما الذي يقول: يا أخي، ابحثوا لنا عن أناس عندهم حجج لأموات لنستفيد، أو يفاوض إمام مسجد لينظر له من يعطيه أجرة حجة عن ميت على أن يكون للإمام من ذلك نصيب، فهذا ليس له عند الله خلاق.

كما بين شيخ الإسلام رحمه الله الفرق بين من يحج ليأخذ، وبين من يأخذ ليحج، فالذي يحج ليأخذ مأثوم.

وأما من يأخذ ليحج والحج هو الهدف، والأخذ إنما هو وسيلة، ومن علاماته: أنه إذا بقي مال بعد الحج أعاده إلى أصحابه.

وأما من يحج ليأخذ فتجده يفاوض ويريد أكثر، وإذا زاد شيء لا يرجعه، ولا يمكن أن يعيده.

فإذا أذن المرء محتسباً وجُعِل له من بيت المال مبلغ لتفريغه للأذان فإنه يؤجر، أما الذي يبحث عن أذان، ليستفيد من البيت الذي للمسجد، ويستفيد من الأجرة، فهذا ليس غرضه الأذان، ولا الأجر على الأذان، بل غرضه البيت (بيت المؤذن) لأنه مجاني، وغرضه راتب المؤذن.

ثم من أسوأ الأشياء التي تُفعل: أن يوكل شخصاً آخر، فيأتي بواحد من الخارج؛ من بنغلاديش مثلاً أو من الهند أو من باكستان، يقول له: تعال يا أخ أنت أذِّن، ولك خمسمائة ريال شهرياً، ثم يضع في جيبه سبعمائة فبأي حق يدخر السبعمائة لنفسه؟! وأيضاً يؤجر الشقة التي للمؤذن ويقول: هذا مصدر دخل، سبحان الله! أنت لا تقوم بالعمل، ثم تأخذ البيت، وتأخذ أكثر من نصف الراتب الذي رُتِّب للمؤذن ثم تقول: هذا مصدر دخل؟! هذا سُحْت، وكسب حرام.

وهذا من أسباب عزوف الناس عن الصلاة.

ولو وجد المؤذنون المحتسبون وشاعوا لَوَفَّقهم الله بـ (حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح) بناس كثيرين يأتون، لكن إذا صار هدفه المال هل هو يقول: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح من قلبه، ويرجو بها أن كل واحد يأتي إلى المسجد؟ إن أجر المؤذن عظيم! وكل واحد يأتي إلى المسجد يؤجر المؤذن مثل أجره، لأنه هو الذي دعاه (الدال على الخير كفاعله) (الداعي إلى الخير له مثل أجور من تبعه) فحين يقول: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، يناديهم، ويأتون له أجر عظيم.

فانظر كم يضيع على هؤلاء المساكين الذين ينوون الدنيا من الأجر، وكم يكون لهم من الأجر إذا نووا وجه الله تعالى! ونفس الكلام على الأئمة والخطباء، والقضاة والمفتين؛ هؤلاء يُرَتَّب لهم من بيت المال ما يفرغهم للقيام بالإمامة، والأذان، والإفتاء، والقضاء، لأن هذه وظائف دينية لا يجوز أخذ المقابل عليها؛ لكن يعطى ما يفرغه، ولا يقال: هذه أجرة الفتوى، هذه أجرة الإمامة، هذه أجرة الصلاة بالناس، هذه أجرة الأذان، هذا ليس عملاً دنيوياً حتى يجوز أخذ الأجرة عليه، فإنه لا يجوز أخذ الأجرة على الأعمال الدينية، ولا يجوز أن يبتغي الإنسان بهذه الأعمال الدينية المال أو الدنيا، لكن يبتغي وجه الله، وما يأخذه من بيت المال إنما هو للحاجة، ولأجل تفرغه وتركه السعي والمشاغل الأخرى، وإلا اضطُرَّ أن يشتغل ويترك الإمامة والأذان.

(9/7)

تأليف القلوب بالمال والتكفير بالحسنات مكان السيئات

كذلك في هذا الحديث: استعمال المال لتأليف قلوب الكفار: النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه أبو محذورة أعطاه صرة فيها شيء من فضة، وكان عليه الصلاة والسلام يستخدم المال في تأليف قلوب الكفار، ودخل في الدين أناس كثيرون بسبب التأليف بالمادة، ثم بعد ذلك خَلُصت نياتهم وأصبحوا صالحين، وأصبحوا يدفعون المال في سبيل الله.

فأحياناً الواحد يكون مدخله إلى الدين المادة، ثم يهديه الله فيصير من المنفقين في سبيل هذا الدين ونشره.

فلا مانع أن يكون المدخل مادياً، مثل سهم المؤلفة قلوبهم، ثم بعد ذلك تتحول النيات وتتغير، ويصبح الشخص هو الذي يعطي من جيبه.

مثل الداعية إلى الله ربما ينفق على شخص من جيبه، ويدعوه إلى طعام، ويخدمه، وينفق عليه من المال، فإذا اهتدى هذا الشخص صار هو الذي ينفق على الآخرين، وهو الذي يعطي في سبيل الله، ويفعل مثل ما فُعِل معه.

ولذلك فإن استخدام المال للدعوة ونشر الدين أمر في غاية الحكمة، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم كما وجدنا في هذه القصة.

ثم كذلك: أهمية الدعاء بالبركة: قال: (بارك الله فيك).

ثم إن من فوائد هذه القصة أيضاً: أن الإنسان إذا كان عدواً للدين، مستهزئاً بشعيرة من شعائره، فإن من كفارة ذلك أن يقوم بعمل ديني يخدم به الدين؛ فهذا أبو محذورة لما هداه الله قال: (قلتُ: يا رسول الله! مُرْني بالتأذين بـ مكة) أي: الآن أنا مستعد أن أؤذن، وأنا أطلب منك أن تجعلني مؤذناً بـ مكة (فقال: قد أمرتك به، وذهب أبو محذورة إلى عتاب بن أسيد) وعتاب هو أمير مكة من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، لما فتح مكة ولَّى عليها عتاب بن أسيد، وكان رجلاً شاباً مُبَكراً في السن، لكن عنده قدرات كبيرة، ولاه على قريش في مكة، فصار عتاب الأمير والإمام، وأبو محذورة هو المؤذن، وسبحان الله! كيف ينشأ جيل جديد في الدعوة، فهذه مكة التي كانت تنجب الفجرة الكفرة أعداء الدين، خرج من أصلابهم مَنْ عبد الله، وأذَّن، ونشر التوحيد، بعدما كانوا ينشرون الكفر.

(9/8)

فوائد في التعلم والتعليم والتأثر والتأثير

وكذلك في هذا الحديث: الحرص على أخذ العلم من صاحبه الأصلي: ولذلك ذهب إلى أبي محذورة وقال له: (علمني الآذان قبل أن أُسْأَل عن تأذينك) إني خارج إلى الشام وأخشى أن أُسْأَل عن تأذينك، إذا علموا أني صاحبك، وأني كنت عندك سيسألونني عن أذانك، فأخبرني عن الأذان وعلمني إياه، حتى إذا سألوني أخبرتهم.

ففيه الاستعداد بالجواب قبل السؤال، وكذلك الحرص على القصة من صاحب القصة، والحرص على العلم من صاحب العلم، وأعلم واحد بالأذان هو من ألقي عليه الأذان.

وكذلك فيه: أن رفقه السوء تساعد على الوقوع في الباطل: ولذلك يقول: (فسمعنا صوت المؤذن ونحن مُتَنَكِّبون، فصرخنا نحكيه ونستهزئ به) هم الذين شجعوه على الاستهزاء بالمؤذن، رفقة السوء هؤلاء الذين كانوا مع أبي محذورة كانوا كفرة، وهم الذين شجعوه على الاستهزاء بالمؤذن، وهذا يبين خطورة رفقة السوء، وأن الإنسان ربما لو ترك لوحده لما استهزأ بالدين، لكن إذا كان معه من الفاسدين من يحوطه، فإنهم يجرئ بعضهم بعضاً على المنكر، وهذه من خطورة رفقة السوء، فبسببهم حصل ما حصل.

ثم أيضاً من فوائد القصة: أن الشيء السيئ قد ينقلب بأمر الله في مصلحة صاحبه: فـ أبو محذورة رفع صوته مستهزئاً، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم الصوت واستدعاهم، فشاء الله أن يكون رفع الصوت بالاستهزاء سبباً في هداية الرجل، فسبحان من جعل هذا السوء ينقلب على صاحبه خيراً.

وفي هذا الحديث طريقة من طرق النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم: أن يقول: قل كذا قل كذا، وذاك يقول، يلقيه عليه إلقاءً، ولذلك فالإنسان لا ينسى أن يلقن تلقيناً مباشرة، فإنه من طرق التعليم التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها، ويُملي عليه الكلام إملاءً.

وفيه كذلك: أن مشاعر الإنسان يمكن أن تتغير في لحظة: الكره ينقلب إلى محبة، والمحبة تنقلب إلى كره، العداوة تنقلب إلى صداقة، والصداقة تنقلب إلى عداوة، الحزن ينقلب إلى سرور، والسرور ربما ينقلب إلى حزن، وذلك في لحظة.

وفاطمة: (أسَرَّ إليها النبي كلمات، فَبَكَت، ثم أسر إليها كلمات، فضحكت وربَعت) أولاً: أخبرها بدنو أجله، فبَكَت، فقال لها: إنها سيدة نساء العالمين، فضَحِكَت.

فالإنسان بحسب ما يناله ويحيط به من الظروف تتقلب مشاعره، والقلب يتقلب، وما سُمِّي القلب قلباً إلا أنه يتقلب.

فهذه البغضاء يقول أبو محذورة: (وذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهية، وعاد ذلك محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم).

وفيه: أن حسن معاملة المدعو الكافر مِن قِبَل الداعية المسلم هو الذي يغير صورة الداعية وسمعته، والشبهات التي كانت حول الداعية، أو الشكوك، أو العداوات في نفس الشخص الآخر، تتغير بفعل المعاملة الحسنة من الداعية، أعطاه المال، ولان له في الكلام.

ثم إننا نلاحظ أن من وسائل الدعوة: أن تجعل الشخص يتلبس بالطاعة:- فلو أتيتَ بمُغنٍ كان معك فحضر وقت الصلاة، فقلت له: يا أخي! لماذا لا تؤذن لنا؟! هل من الممكن أن تؤذن لنا؟ فيمكن أن يكون طلبك من المغني أن يؤذن سبباًَ لهدايته إلى طريق الحق؛ لأن استخدام الطاقة في الشر إذا عُكِس، وطُلِب منه أن يؤديها في الخير يحس بلذة الخير، فتتغير قناعاته، ويتغير مسلكه وطريقه.

ولذلك ربما شعر أبو محذورة -لما أذن- بطعم الأذان، وذاق شيئاً من طعم الإيمان، وأحس بجمال الأذان.

فالشخص حين يقوم بالعمل، ويقوم بالطاعة، وعندما توعز إليه أن يقوم بها يكون إيعازك له طريقةً لقلب حاله وهدايته، وهذه حكمة بالغة من النبي عليه الصلاة والسلام، جاءه شخص مستهزئ بالدين فقال له: (قم فأذن للصلاة).

ثم لاحظ: أن النبي عليه الصلاة والسلام جرد الشخص من أعوانه الفجرة الكفرة؛ قال: (فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟ فأشار القوم كلهم إليَّ، وصَدَقُوا، فأرسل كلهم وحبسني) فجرد الشخص عن المحيط السيئ الذي هو فيه، وهنا يمكن التأثير عليه، بخلاف ما لو كان مع هذه الرفقة السيئة، فاستفراد الداعية بالمدعو يجعل التأثير ممكناً أكثر.

(9/9)

هيبة النبي ومسارعة الصحابة في تنفيذ أوامره

ثم نلاحظ: هيبة النبي صلى الله عليه وسلم: فإنه لما أتى بهؤلاء الكفرة وقال لهم: (أيكم الذي سمعت صوته؟) -ما استطاعوا أن يكذبوا عليه، بل كلهم أشار إلى أبي محذورة.

ثم نلاحظ: سرعة الصحابة في القبض على هؤلاء:- قال: (فصرخنا نحكيه ونستهزئ به، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت، فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه) جيء بهم بسرعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وفيه: أن بعض الكفار قد يخرج وراء الدنيا مع المسلمين، فـ أبو محذورة ومن كان معه خرجوا من مكة طلباً لغنائم حنين، فلما لم يستفيدوا عادوا وحصل ما حصل مما كان سبباً في إسلام أبي محذورة.

(9/10)

الاستهزاء بالدين بيانه وأحكامه

نريد أن نتحدث الآن في ختام هذه القصة عن مسألة مهمة جداً ألا وهي: قضية الاستهزاء بالدين؛ لأن أبا محذورة رضي الله عنه أول ما حصل له هو ومن معه الاستهزاء بالدين.

والاستهزاء بالدين من الأعمال الشنيعة، والداء الفتاك الذي انتشر بين كثير المسلمين مع الأسف، حتى صارت السخرية ببعض آيات الله، وبعض ما يتعلق بالإيمان، والعقيدة، والعبادات الشرعية موجودةً عند عدد من الناس، يتندرون بها في المجالس، وينشرونها ويتكلمون بها.

والاستهزاء والسخرية قريبان، الهزء هو السخرية، استهزأ به يعني: سخر منه وضحك، والله سبحانه وتعالى توعد المنافقين قائلاً لهم: {قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة:64].

(9/11)

الاستهزاء بالدين من صفات المنافقين

فالاستهزاء بالدين من صفات المنافقين.

وفي غزوة تبوك استهزأ بعض الناس بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والرواية قد رواها ابن جرير رحمه الله وغيره، وهو حديث حسن.

عن عبد الله بن عمر قال: (قال رجل في غزوة تبوك في المجلس قال: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس: كذبت؛ ولكنك منافق، ولأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن، قال عبد الله بن عمر: وأنا رأيته متعلقاً بِحِقْب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تَنْكُبُه الحجارة وهو يقول: يا رسول الله: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65] ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]) وفي رواية: (فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يا رسول الله! {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65] ونتحدث حديث الركب نقطع به عناء الطريق، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]).

وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن الكفر الذي كفروا به كفر حقيقي، وليس مجرد كفر باللسان، بل هو كفر قلبي، ولذلك ما أظهروه إلا لبعض خواصهم، قال: (ما رأينا مثل قرائنا) ونُقل الحديث إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا دال على الكفر ولا شك.

فبيَّنت هذه الرواية أن الاستهزاء بآيات الله كفر، وأن المستهزئ كافر، فلو أن شخصاً استهزأ بشيء من الدين، أو بآية من القرآن مثلاً، ثم قال لك: يا أخي! والله أنا قصدي المزاح فقط، نقول: لا، الاستهزاء بالقرآن كفر، قلتَ مازحاً أو ما قلتَ مازحاً أنت كافر، هذه هي المسألة واضحة.

(9/12)

أقوال العلماء في الاستهزاء بالدين وذكر بعض صوره

وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمه الله: وفيه بيان أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها، أو عمل يعمل به، وأشدها خطراً إرادات القلوب.

وكذلك قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: فيه مسائل: الأولى وهي العظيمة: أن من هزل بهذا فهو كافر.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله في هذه الآية التي هي: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] قال: وهذا نص في أن الاستهزاء بالله وآياته وبرسوله كفر.

وقال أيضاً: وقد دلت هذه الآية على أن كل من تَنَقَّصَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جاداً أو هازلاً فقد كفر.

وقال رحمه الله: فهؤلاء لما تَنَقَّصُوا النبي صلى الله عليه وسلم، حيث عابوه والعلماء من أصحابه قالوا: ما رأينا مثل قرائنا، والقراء هم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستهانوا بخبره، أخبر الله أنهم كفروا بذلك وإن قالوه استهزاءً، فكيف بما هو أغلظ من ذلك، وإنما لم يُقِمِ الحد عليهم لكون جهاد المنافقين لم يكن قد أُمِر به إذ ذاك، بل كان مأموراً بأن يدع أذاهم؛ ولأنه كان له أن يعفو عمن تَنَقَّصَه وآذاه.

وعلى ما سبق فإن أي استخفاف أو ازدراء بالدين، أو استهزاء بأي شعيرة من الدين؛ بالله، أو آياته، أو رسوله، أو أركان الإيمان؛ أو الجنة، أو النار، أو الملائكة، أو الأنبياء، مَن استهزأ بشيء من ذلك فقد كفر، والكفر الذي يكفر به كفر أكبر مخرج عن الملة.

قال العلامة السعدي رحمه الله: إن الاستهزاء بالله ورسوله كفر يخرج عن الدين؛ لأن أصل الدين مبني على تعظيم الله، وتعظيم دينه ورسوله، والاستهزاء بشيء من ذلك منافٍ لهذا الأصل ومناقض له أشد المناقضة.

وقال النووي رحمه الله: ولو قال وهو يتعاطى قدح الخمر، أو يقدم على الزنا: باسم الله، استخفافاً باسم الله تعالى كفر.

أي: لو أن واحداً أخذ كأس خمر وقال: باسم الله تعالى، ويقصد بذلك الاستهزاء فإنه يكفر بذلك.

وقال ابن قدامة رحمه الله: من سب الله تعالى كفر؛ سواء كان مازحاً أو جاداً، وكذلك من استهزأ بالله تعالى، أو بآياته، أو برسله، أو كتبه، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ الآية} [التوبة:65].

وينبغي أن لا يُكْتَفى من الهازئ بذلك بمجرد الإسلام، يعني: نقول له: كفرتَ يقول: بسيط! أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، نقول: لا.

حتى يؤدب أدباً يزجره عن ذلك، فلا نكتفي بعودته بالدخول في الدين من جديد، ولا بد أن يؤدب؛ يسجن أو يضرب، لا بد أن يؤدب تأديباً يردعه عن العودة إلى ذلك.

فالاستهزاء بالدين لا يدخله المزح واللعب، ولا يصح العذر بأنه غير قاصد، وأنه ما أراد حقيقة الكلام، نقول: بمجرد النطق بها والإنسان في وعيه وعقله فإنه يكفر مباشرة، سواء قال: أنا قصدي الهزل، أو المزح، أو قال: أنا مؤمن، أنا قلبي فيه إيمان، نقول: حتى لو، فإن الله يقول: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا} [التوبة:65 - 66] لا تقولوا: هي كلمات باللسان، هو حديث بيننا، هي مزحة، لم نقصد الحقيقة، نقول: لا.

الله يقول: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66].

وكذلك فإن هذا الوعيد الشديد الذي جاء ينال كل من قام بشيء من ذلك، والاستهزاء قد يكون بالقول، وقد يكون بالفعل، وبعض الناس يقصد أن يُضْحِك القوم في مجلس من المجالس فيهزأ بالملائكة، أو بالجنة، ويسمون ذلك نُكَتاً، وهي طبعاً ليست نكتاً ولا شيء، إنما هي سخرية واستهزاء بالدين.

قال بعض العلماء: ومن البدع القولية مزح الإنسان بشيء من كتاب الله تعالى، فهو مما يَكْفُر فاعلُه أو يُذَم، أما الذي يَكْفُر فاعله كمن يصعد في مكان مرتفع والناس تحته، فيتشبه بالواعظ والخطيب، يتلو كلام الحبيب صلى الله عليه وسلم، ثم يأخذ في مد صوته وهز رأسه ويقول: (أيها الناس) وهم تحته يتضاحكون؛ كفروا كلهم أجمعون.

وقال رجل لبعض الفقهاء: (إن الملائكة لتضع أجنحتها رِضاً لطالب العلم) فقال واحد في المجلس مازحاً: لأجل ذلك سَمَّرْتُ (قُبْقَابي) لكسر أجنحتهم، فما كان إلا قليلاً حتى وقع في تهمة، فقُطِعَت فيها رجله، أي: قدر الله عليه بشيء تسبب في قطع رجله، لأنه قال: أنا جئت إلى حلقة العلم، ومعي مسامير في القبقاب لكسر أجنحتهم، لاحظ الكلمة! وكذلك لو أن إنساناً استهزأ بأي شيء يتعلق بجهنم أو أهل النار، أو طعام أهل النار، وضربوا أمثلة فيما يُكْفَر به من كلام، وهذه الأمثلة منها ما هي سب صريح، أو فيه استهزاء صريح، ومنها ما يحتمل المزاح؛ ولكن مع ذلك عده العلماء من المكفرات.

وأيضاً فإن اللاعب والجاد في إظهار كلمة الكفر سواء، كما دلت عليه هذه الآية.

ونلاحظ أن بعض الناس يستخدمون أجزاء من آيات في مجال استهزاء أو سخرية، يأتي بشيء من القرآن في مكان لا يناسب أبداً، فهذا يُخشى عليه من أن يدخل في هذه الآية.

كما قال أحد المدعوين: ما لي لا أرى الخبز أم كان من الغائبين، فقال صاحب الدعوة: سآتيك به قبل أن تقوم من مقامك، ونحو ذلك من الكلام نعوذ بالله.

وكقول بعضهم: ولكم في العدس أسوة حسنة، فيضحكون ويقهقهون، هؤلاء يُخشى عليهم من الكفر الوارد في هذه الآية صراحةً.

وكقول بعضهم لما جيء له بالطعام فقال: أفطر عندكم الصائمون، أكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة إلا جبريل، قالوا: ولِمَ؟ قال: لأنه لا يأتي إلا مع الشاي.

هذا فيه استهزاء بجبريل، أنه لا يأتي إلا مع الشاي، فهذه الكلمة يمكن أن تودي به في مهاوي الكفر والعياذ بالله.

ويقع من بعض الناس على سبيل المزاح، أن يأتي بمقطع من آية، أو مقطع من حديث مثلاً، يأتي لك به على سبيل الاستهزاء والسخرية، ويتضاحك الناس في المجلس، يأخذونها على أنها طرفة، مع أن القضية في غاية الخطورة.

وينبغي على الإنسان إذا سمع كلام الله عز وجل أن يعظِّمه، وأن يخشع له، وأن يطرق مفكراً فيه متدبراً، لا أن يستعمله في مجالات الاستهزاء والسخرية والمزاح، فما أُنْزِل القرآن لكي نقطعه مقاطع، ونأتي بها في مناسبات على سبيل السخرية والتنكيت والمزاح وإضحاك الناس، ما أُنْزِل القرآن لهذا مطلقاً! وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، بعض الناس ربما يقول عن سنته أشياء، فهذه الأشياء التي تقال في سنته استهزاءً به، ربما تؤدي أيضاً بصاحبها إلى النار.

وكيف يجعل المسلم أعظم المقدسات عنده في الدين مجالاً للاستهزاء والسخرية! وكذلك ما يقع فيه البعض من الاستهزاء بالمتدينين في قضايا دينية، ليست قضايا شخصية، مثلاً يستهزئ بشكله بأنفه، لو استهزأ بذلك يكون مرتكباً لذنب عظيم، مخالفاً لقول الله: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ} [الحجرات:11] لكن أحياناً لا يستهزئ بشخصه، وإنما يستهزئ بشعيرة دينية يقوم بها هذا المتدين، كأن يرى أحداً مثلاً يلبس ثوباً وقد جعله حسب السنة فيقول: هذا لابسٌ (شانِيْل) مشبهاً له بفستان المرأة، فإطلاق (الشانِيْل) على الثوب الذي جاء بحسب السنة لا شك أنه يوقع في مهاوي الكفر والعياذ بالله؛ لأن معنى ذلك أنك تستهزئ بالسنة مباشرة؛ بحديث: (إزرة المسلم إلى نصف ساقيه) معناه أنك جعلت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مجالاً للاستهزاء والسخرية، فهذا إنسان يدخل في الآية، ويُخشى عليه من الكفر الصريح والعياذ بالله تعالى.

ونحو هذا أمثلة كثيرة توجد عند بعض الناس؛ يعملون نكتاً وأشياء على الجنة والنار، يدخلون جحا في الجنة والنار، يعملون بها طرائف، ويتناقلونها في المجالس، ولا شك أن تقليد المؤذن بصوت يحاكي صوت المؤذن استهزاءً به، أو يقول بعض الناس إذا سمع المؤذن: نهق الحمار، ولاحظ هذه الكلمة! فإنها استهزاءٌ صريح بشعيرة من شعائر الدين وهي الأذان، ولذلك كم يكفر من الناس يومياً! وبعض الممثلين قد يضع لحية مستعارة وعمامة، يقلد بها شيخاً صاحبَ دين، أو يعمل كأنه يقلد عالماً أو إماماً ونحو ذلك، يكون أيضاً داخلاً فيمن استهزأ بأهل الدين لدينهم، لأن أهل الدين لهم سمات ولهم علامات، فلو استهزأ بثيابهم وأشكالهم وهيآتهم، ومَثَّل دوراً فيه شخص متدين أو عالم، وجلس يقلد صوت هذا العالم على سبيل الاستهزاء والسخرية، فهذا أيضاً يُخشى عليه من الكفر والعياذ بالله تعالى.

وكما حدَّث بعضهم قال: ما هو مصير أهل فلسطين؟ قال: تركنا لهم مخيمات بين الجنة والنار، لاحظ! هذه داخلة في عملية الاستهزاء؛ لأنك الآن دخلت في اليوم الآخر وفي الجنة والنار، وفي القضايا العقدية، وجعلتها مجالاً أو محلاً للاستهزاء والسخرية، وكأنْ يسمع الإنسان شيئاً من نعيم الجنة فيقول: أنا لا أحب هذا، أو الرمان أنا لا أشتهيه ولا كذا، فربما يُخشى عليه أن يُحرم منه.

وعملية الاستهزاء والتشويه لشخصيات التاريخ الإسلامي، وشخصيات العلماء التي تكون في بعض المسلسلات؛ مثل إخراج دور صحابي يقع في حب فتاة، أو يخاطب امرأة متبرجة، أو يقول كلاماً فيه شيء من الغزل ونحو ذلك، لا شك أنه استهزاء بالصحابة، كذلك يظهرون مثلاً صورة عمر بن عبد العزيز أو شيخ الإسلام ابن تيمية، أو صلاح الدين الأيوبي، أو فلان أو فلان من شخصيات المسلمين، يجعلونها مثاراً للحب والغرام وكذا، فيعرضون علماء المسلمين بقالب فيه هذا الشيء، فهؤلاء يكونون قاصدين لتشويه أهل العلم، مثل ما قال المنافق في غزوة تبوك، قال: (ما رأينا مثل قرائنا أرغب بطوناً الخ) هذا كذلك يريد أن يجعل علماء المسلمين مثاراً للسخرية، وأنهم أصحاب غزل، وأصحاب حب وغرام ونحو ذلك.

فكم من كلمة أودت بصاحبها في

(9/13)

الأسئلة

(9/14)

قراءة السجدة والإنسان في فجر يوم الجمعة

السؤال

ما حكم قراءة سورتي السجدة والإنسان في فجر الجمعة بعض الأيام؟

الجواب

لا بأس، وهذه هي السنة، أما إذا كان يشق على المصلين بحيث أنهم ينفرون أو يتركون الصلاة، فيمكن أن يتألف قلوب هؤلاء بأن يقرأ سوراً أقصر منها؛ مع تعليمه للسنة، ويفعلها أحياناً لتعويدهم، ولا يكثر منها حتى لا يهربوا أو ينفروا، ثم إن الإنسان يجب أن يكون حكيماً في نشر السنة بين الجهلة بها.

(9/15)

أخذ الأجر على تعليم القرآن

السؤال

ما حكم أخذ الأجرة على تدريس القرآن؟

الجواب

إذا نواها لله فلا يجوز أن يأخذ أجرة عليها، كما دل عليه حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (لما علم رجلاً من أهل الصفة شيئاً من القرآن، فأحس ذلك الرجل بأن لـ عبادة عليه فضلاً، فأهداه قوساً حسن الصنعة، فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بأنه قوس من نار) وهذا يُحمل على ما إذا قَصَدَ وجه الله وثوابه، فلا يجوز بعد ذلك أن يأخذ شيئاً لئلا يعتاض عن ثواب الله بشيء من الدنيا.

أما لو أن الإنسان احتاج إلى أخذ شيء على تعليم القرآن، وإذا لم يعلم فقد لا يوجد من يعلِّم غيرَه من المتبرعين، فاحتاج أن يأخذ أجرة لكي يتفرغ للتعليم فلا بأس بذلك، مثل ما يأخذ القارئ الذي يرقِي أجرة مقابل القراءة، كما جاء في قصة أبي سعيد مع اللديغ، حيث اشترطوا عليهم جُعلاً، فجعلوا لهم قطيعاً من الغنم، فأخذوه مقابل تلك الرقية، وهو لا يأخذ مقابل العبادة، وإنما يأخذ مقابل العمل.

(9/16)

تقديم الأذان قبل وقت الإفطار بدقائق

السؤال

إذا تقدم المؤذن بالأذان قبل دخول الوقت بدقائق، فما الحكم؟

الجواب

لا نفطر حتى يأتي الوقت الصحيح، ثم إن الاعتماد على التقويم، المؤذن يعتمد على التقويم، وأنت عندك التقويم، فإذا قدم المؤذن فلا يكون هذا عذراً في الإفطار، وإذا علم أن المؤذن ثقة فيجوز للإنسان أن يفطر على أذانه.

(9/17)

الترجيع في الأذان

السؤال

هل الترجيع في الأذان عند كل أذان؟

الجواب

نعم، عند كل أذان السنة أن يرجع في الأذان.

(9/18)

من أذن ثنتي عشرة سنة فله الجنة

السؤال

( من أذن ثنتَي عشرة سنة محتسباً الأجر عند الله وجبت له الجنة) هل يصح هذا؟

الجواب

نعم.

هذا جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم.

(9/19)

استغلال العمال

السؤال

هل يجوز لشخص أن يأتي بعمال ويقول لهم: اذهبوا فاعملوا، ثم يأخذ منهم ثلاثمائة ريال شهرياً؟

الجواب

هذا أكل مال بالباطل، ولا يجوز، ولا يقال إن ذلك مقابل الكفالة، فإن الكفالة من عقود الإرفاق والإحسان، ولا يجوز أخذ المال عليها.

(9/20)

من أفطر بأكل قبل الجماع ليسقط الكفارة

السؤال

رجل أراد أن يجامع زوجته في نهار رمضان، فشرب ماءً حتى يفلت من الكفارة، ثم جامع، هل تسقط الكفارة؟

الجواب

لا.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله: كيف نقول للشخص يستعين على الجماع بالطعام والشراب قبل الجماع ثم نقول: ليس عليك إلا قضاء هذا اليوم، وإذا جامع قبل أن يأكل ويشرب نقول: عليك شهران، وعليك الكفارة المغلظة؟! قال: هذا عبث، لا يمكن أن تأتي بمثله الشريعة، ولذلك إذا أكل أو شرب بقصد الهرب من الكفارة المغلظة، فإنه يعاقَب بنقيض قصده، وتُجعل عليه الكفارة المغلظة.

(9/21)

حكم صلاة التراويح جماعة في مسجد العمل

السؤال

أنا إمام في مسجد العمل ولا يوجد من يصلي التراويح إلا شخصين أو ثلاثة علماً أن عددهم عشرة فما الحكم في عدم صلاتي بهم لرغبة الحضور مع الجماعة؟

الجواب

لا بأس، أن تذهب إلى المسجد وتصلي، إذا كان ذلك لا يخالف وقت العمل، وهم كل واحد مسئول عن نفسه بعد ذلك؛ ولكن إذا صليتَ في المسجد -وهو الواجب عليك- صلاة الفريضة، ثم عدت وصليت بهم التراويح رجاء أن يجتمعوا، فتعتبر هذه دعوة للآخرين، وهذا شيء طيب إن شاء الله.

(9/22)

تزاحم المؤذن المحتسب والمستأجر

السؤال

إذا كان هناك مؤذن يؤذن بمقابل، وجاء أحدهم وقال: إنه يريد أن يؤذن مكانه محتسباً، فهل له ذلك؟

الجواب

يُقَدَّم الذي يؤذن محتسباً، لكن يُقَدَّم بشرط أن يمسك الأذان، لا أن يأتي في كل أذان شخص ليقول: أنا محتسب ويؤذن، ويأتي بعد أسبوع يقول: أنا محتسب، وهكذا.

(9/23)

كيفية تقصير شعر المرأة في النسك

السؤال

كيف تقصر المرأة من شعرها بعد العمرة؟

الجواب

تجمع شعرها ثم تأخذ منه قيد أنملة، وإذا كان شعرها في الأمام والخلف، تجمع الذي من الأمام والذي من الخلف، وتأخذ.

(9/24)

الإحرام في الطائرة

السؤال

إذا لبست ملابس الإحرام في المنزل، فهل أستطيع عقد نية العمرة في الطائرة فوق الميقات أو قبله؟

الجواب

نعم.

(9/25)

لباس الناس إذا أوهم الشهرة

السؤال

إذا تشبهنا بالنبي صلى الله عليه وسلم فصارت الأنظار تلتفت إلينا فهل يعتبر هذا من لباس الشهرة؟

الجواب

لا.

هذا دعوة إلى السنة، ثياب الشهرة تفصيل غريب، موديل عجيب، تلبسه امرأة أو رجل ليُلفت أنظار الناس، وليس من لباس البلد، بل فيه غرابة عما حوله من الناس، بعض الموديلات فيها غرابة، تصميم الزي نفسه فيه غرابة، فيلفت أنظار الناس، يلتفتون إليه بمجرد مروره بينهم، يرفعون إليه أبصارهم، يشيرون إليه بأصابعهم، فهذا الذي فعله يريد أن يتميز عن الآخرين بهذا الشيء الدنيوي وليس سنة، فهذا الشيء الدنيوي ثوب شهرة.

(9/26)

الوسوسة المؤثرة في الخشوع

السؤال

أثناء الصلاة تراودني أفكار سيئة ورديئة تؤثر في الخشوع؟

الجواب

اذكر الموت في صلاتك، وفكر في معاني الآيات والأذكار، واستعذ بالله من الشيطان، وانفث عن يسارك ثلاثاً، فإنه يذهب إن شاء الله.

(9/27)

ترك بعض الراتب للبقاء مع الأم

السؤال

هل أترك العمل وأذهب إلى عمل بجانب أمي، وأحصل على وظيفة نصف الراتب؟

الجواب

إذا طلبت أمك ذلك فمن البر أن تفعل إذا كان لا يضرك، بمعنى أنه لا يؤثر على نفقاتك الواجبة، كنفقة الزوجة والأولاد، فإنك تحتسب الأجر في برها، وإذا لم تطلب منك ذلك ولم يكن لديها مانع أن تبقى بعيداً عنها، فإنك تبقى في عملك وتبرها بما ترسل إليها من المال أو الهدايا.

(9/28)

قراءة الإخلاص في نهاية التراويح

السؤال

هل لا بد من قراءة سورة الإخلاص في نهاية التراويح؟

الجواب

لا.

لكن السنة أن يقرأ الإمام: (سَبِّحِ) و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] في الشفع، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] في الوتر.

(9/29)

قول المردد عند الأذان (الصلاة خير من النوم)

السؤال

ماذا يقال عند قول المؤذن: الصلاة خير من النوم؟

الجواب

يقال: الصلاة خير النوم؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول) وما ورد الاستثناء إلا في حيَّ على الصلاة، وحيَّ على الفلاح فقط، ولذلك إذا قال: الصلاة خير من النوم يقول: الصلاة خير من النوم.

(9/30)

إذا دخل الوقت ولا مؤذن

السؤال

عند دخول وقت الأذان ولم يؤذن أحد هل يجوز لشخص أن يؤذن بعد دخول الوقت؟

الجواب

نعم.

لأنه دعوة للصلاة وطرد للشيطان، فالأذان فيه فوائد، فليس مجرد إعلان بدخول الوقت، بل فيه فوائد أخرى: دعوة الناس للصلاة، إظهار الشعيرة في البلد، طرد الشيطان.

(9/31)

اعتزال الزوجة عن زوجها

السؤال

ما حكم اعتزال الزوجة زوجها عدة أيام في غرفة لوحدها، وعدم الكلام معه، ولا السلام عليه لسبب ما؟

الجواب

هذا إذا حدث منها فهو نشوز، خاصةً إذا كان ليس لسبب ديني، فإذا هَجَرَت فراش زوجها لعنتها الملائكة، فالواجب عليها أن تتوب إلى الله، وأن تعود إلى زوجها، أما إذا هجرته لسبب ديني؛ كأن تهجره في وقت سكره ونحو ذلك، أو أنه تارك للصلاة فاعتزلته ولا تستطيع أن تذهب لأهلها، فاعتزلته في البيت، فهذا واجب عليها.

(9/32)

ترك العمل المحرم والبحث عن مباح

السؤال

هذا سؤال عن ترك عمل محرم للبحث عن عمل مباح؟

الجواب

فنقول: اتركه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] فالمسألة تعتمد على أمرين: - تقوى الله عز وجل.

- والأخذ بالأسباب.

تقوى الله: أن يترك العمل.

مع الأخذ بالأسباب: البحث الجاد.

(9/33)

تطييب ملابس الإحرام قبل لبسها

السؤال

تطييب ملابس الإحرام قبل لبسها، والدخول في نية الإحرام؟

الجواب

هذا من المحاذير التي يترتب عليها أنه لو خلع الرداء المطيب لسبب ما كمن أراد أن يغتسل، أو أن يتوضأ، فإنه لا يجوز له أن يلبسه؛ لأنه لا يجوز للمحرم أن يلبس شيئاً مطيباً، فبمجرد خلعه لا يجوز له أن يلبسه، ولذلك لا يطيبه حتى لا يقع فيه هذا الإشكال.

(9/34)

لا يشترط تتابع الطواف والسعي في العمرة

السؤال

ذهبت لأداء العمرة، وعند وصولنا طفت الأشواط السبعة، ولكن من شدة التعب لم أستطع السعي مباشرة، فذهبت إلى الفندق ونمت واحتلمت ثم اغتسلت، وغسلتُ ملابس الإحرام، ثم ذهبت للسعي، فما حكم عمرتي هذه؟

الجواب

عمرتك صحيحة، ولا يُشترط أن يكون السعي واقعاً بعد الطواف مباشرة، لو فَصَل بينهما براحة فلا بأس بذلك.

(9/35)

زينة المسجد

السؤال

ما حكم الزينة في المساجد؟

الجواب

الزينة في المساجد لا شك أنها منهي عنها، لا تحمَّر، ولا تصفَّر، ولا تنقش، ولا يجوز أن يكون هذا في مساجد المسلمين؛ لأن المساجد لم تُبْنَ للزخرفة: (إذا زخرفتم مساجدكم، وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم) كما جاء في الحديث الحسن، وعلى الإنسان أن يصرف بصره، وينشغل بذكر الله تعالى.

(9/36)

من توفي أبوه وهو عليه ساخط

السؤال

إذا توفي أحد الوالدين وهو على ولده غضبان، ماذا يفعل الولد لينال رِضا الله تعالى، علماً بأن رِضا الله للولد في رِضا الوالدَين؟

الجواب

عليه أولاً: أن يتوب إلى الله، لأن هنا حق لله تعالى أيضاً، وهو أنه عصى الله؛ لأن الله قال له: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة:83] وهو لم يبر بهما.

ثانياً: أن يستغفر لأبيه، ويدعو له، ويتصدق عنه، يبر أباه في قبره، يصل أهل وُدِّ أبيه بعد أن يولي كما جاء في الحديث: (إن من أبر البر أن يَصِل الرجل أهل ودِّ أبيه بعد أن يولي الأب) يزور أصدقاء أبيه مثلاً، يرسل هدايا إلى صديقات أمه مثلاً، يُشْركه في الأضحية، يحج عنه، يعتمر عنه، يتعهد دَيْنَه والكفارات التي عليه، وهكذا.

(9/37)

من لحق الإمام في غير قيام الفاتحة لا يقرأ الاستفتاح

السؤال

إذا جاء الإنسان ليصلي وكان الإمام يرفع من الركوع فهل يقول دعاء الاستفتاح؟

الجواب

لا.

طبعاً، هو ينضم مع الإمام مباشرة.

(9/38)

قصة المقداد والأعنز

لقد كان الصحابة رضي الله عنهم في ضيق من العيش، وفي جهد ومشقة، ومع ذلك صبروا وتحملوا في سبيل الله، وفي سبيل الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، وفي سبيل طلب العلم والاستزادة منه يجسد هذا المفهوم هذه القصة التي تكلم عنها الشيخ حفظه الله، فقد ذكر الحديث نصاً، ثم ذكر ما يستفاد منه على شكل نقاط

(10/1)

حديث قصة المقداد والأعنز

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فالقصة التي سنتحدث عنها هذه الليلة -أيها الإخوة- قصة تشبه إلى حدٍ ما قصة أبي هريرة التي مرت معنا مع إناء اللبن وأهل الصفة، ولكنها مع صحابي آخر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم العظام، الذين عرفنا سيرتهم بالخير، وذكرهم بالطيب، وثناء العلماء الحسن عليهم، وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أبرُّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها فهماً وعلماً، وهم الذين عاينوا الوحي والتنزيل، وكانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فهم أعلم الأمة بالقرآن والسنة رضي الله عنهم.

هذه القصة يرويها الإمام مسلم والترمذي باختصارٍ، وأحمد رحمهم الله تعالى.

يقول المقداد رضي الله عنه وأرضاه: (أقبلت أنا وصاحبان لي وفي رواية: قدمت أنا وصاحبان لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصابنا جوعٌ شديدٌ، فتعرضنا للناس، فلم يضفنا أحد وفي رواية لـ مسلم: أقبلت أنا وصاحبان لي، وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد، ومن الجوع والمشقة -ولا شك أن الجوع يؤثر على سمع الإنسان وبصره- فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس أحدٌ منهم يقبلنا) كل الذين عرضوا أنفسهم عليهم كانوا من الفقراء، وهذا يبين الشدة التي كان عليها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والفقر الذي عاينوه ولاقوه، ومع ذلك صبروا على الدعوة، وعلى العلم مع النبي صلى الله عليه وسلم، ما وُجِدَ أحد يستطيع أن يطعمهم؛ لأن كل الذين عرضوا عليهم كانوا مقلين ليس عندهم شيءٌ يواسون به، ما هناك أحد عنده طعام زائد يعطي هؤلاء، جاء هؤلاء الثلاثة: المقداد وصاحباه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولما لم يجدوا أحداً يقبلهم، قال: (فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلق بنا إلى أهله) وهكذا كان عليه الصلاة والسلام يفعل، يأتيه الرجل الجائع ولا يوجد من يطعمه، فيذهب به إلى أهله، قال: (فإذا ثلاثة أعنز -والعنز هي: الشاة أنثى الماعز التي بلغت سنة يطلق عليها عنزٌ- وفي رواية: أربعة أعنز- فلعل واحدةً أضيفت بعد ذلك- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احتلبوا هذا اللبن بيننا، قال: فكنا نحتلب، فيشرب كل إنسان منا نصيبه وفي رواية: فقال لي: يا مقداد! جزأ ألبانها بيننا أرباعاً، فكنت أجزؤه بيننا أرباعاً) ثلاثة أعنز تحلب والحليب الذي ينتج منها يقسم إلى أربعة أقسام: للنبي صلى الله عليه وسلم قسم، وللمقداد قسم، ولصاحبيه قسمان يقول المقداد رضي الله عنه وأرضاه: (فاحتبس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة -أي: تأخر عن موعد عودته المعتاد- فحدثت نفسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتى بعض الأنصار، فأكل حتى شبع، وشرب حتى روي، فلو شربت نصيبه).

شرب المقداد شرب نصيبه الخاص به، وأبقى نصيب النبي عليه الصلاة والسلام، ولما تأخر النبي عليه الصلاة والسلام ذات ليلة، قال: جاءني وارد في نفسي أنه عليه الصلاة والسلام قد دعي إلى عشاء هذه الليلة، وأنه قد أكل حتى شبع، وشرب حتى روي، فلو أنني شربت نصيبه، وفي رواية مسلم: (فكنا نحتلب، فيشرب كل إنسان منا نصيبه، ونرفع للنبي صلى الله عليه وسلم نصيبه، فيجيء من الليل -هذه العادة النبوية- فيسلم تسليماً لا يوقظ نائماً ويسمع اليقظان -لا يكون بصوت مرتفع، ولا بهمس، وإنما يسلم تسليماً لا يوقظ نائماً ويسمع اليقظان- ثم يأتي المسجد فيصلي، ثم يأتي شرابه فيشرب، فأتاني الشيطان ذات ليلة، وقد شربت نصيبي، فقال: محمدٌ يأتي الأنصار فيتحفونه -والشيطان لا يقول: صلى الله عليه وسلم، أي: محمد صلى الله عليه وسلم ليس عليه خوف، الناس كلهم يضيفونه- ويصيب عندهم -أي: يطعم عندهم- ما به حاجة إلى هذه الجُرعة) أو الجَرعة، والفعل منه: جرعت، وهي: الحثوة من المشروب.

وسوس الشيطان للمقداد وقال: ما بمحمد حاجة إلى هذه الجرعة، أكيد أنه الآن قد شبع، قال: (فأتيتها فشربتها وفي رواية: فلم أزل كذلك حتى قمت إلى نصيبه فشربته، ثم غطيت القدح) يقول: في النهاية استسلمت لهذا الرأي، ولهذا الوارد، وأتيت إلى نصيب النبي صلى الله عليه وسلم فشربته وغطيت القدح، قال: (فلما أن وغلت في بطني -أي: دخلت بطني وتمكنت من بطني- وعلمت أنه ليس إليها سبيل، ندمني الشيطان وفي رواية: فلم أزل كذلك حتى قمت إلى نصيبه فشربته ثم غطيت القدح، فلما فرغت، أخذني ما حدث، فقلت: يجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم جائعاً ولا يجد شيئاً! وفي رواية أخرى لـ أحمد يقول: فلما وغلت في بطني -أي: الشربة- وعرف -أي: الشيطان- أنه ليس إليها سبيلٌ، ندمني، فقال: ويحك! ما صنعت؟ شربت شراب محمد، فيجيء ولا يراه، فيدعو عليك فتهلك، فتذهب دنياك وآخرتك وفي رواية مسلم قال: ندمني الشيطان، فقال: ويحك! ما صنعت؟ أشربت شراب محمد فيجيء، فلا يجده، فيدعو عليك فتهلك، فتذهب دنياك وآخرتك، قال: وعليَّ شملة -أي: كساء يتغطى ويلتف به- إذا وضعتها على قدمي خرج رأسي، وإذا وضعتها على رأسي خرجت قدماي -أي: أن الذي عنده كساءٌ قصيرٌ لا يكفي، وهذا من فقره رضي الله عنه- وفي رواية أحمد: وعليَّ شملةٌ من صوف، كلما رفعتها على رأسي خرجت قدماي، وإذا أرسلتها على قدميَّ خرج رأسي، وجعل لا يجيء لي نومٌ وفي رواية مسلم: وجعل لا يجيء لي النوم، وأما صاحباي فناما ولم يصنعا ما صنعت -أنا الذي أجرمت وأذنبت، وأخذت شربة النبي صلى الله عليه وسلم- فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فسلَّم كما كان يسلِّم، ثم أتى المسجد فصلى، ثم أتى شرابه، فكشف عنه فلم يجد فيه شيئاً، فرفع رأسه إلى السماء، فقلت: الآن يدعو عليَّ فأهلك، حضرت ساعة الموت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني، فلما سمع هذه الدعوة، قال: اغتنمت الدعوة -وذلك لأن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مستجابة- فعمدت إلى الشملة، فشددتها عليَّ -تأهب- وأخذت الشفرة -أي: السكين- فانطلقت إلى الأعنز أيها أسمن فأذبحها للرسول صلى الله عليه وسلم -مع أنها ليست ملكه- فجعلت أجتسها أيها أسمن) وهو يجتسها فوجئ بمفاجئة غريبة جداً، كان قد حلب الأعنز قبل قليل، وقسم اللبن وشرب نصيبه ونصيب الرسول صلى الله عليه وسلم، والعنز إذا حلبت تحتاج حتى يمتلئ ضرعها مرة أخرى إلى يوم، أو بعض يوم، فيقول: (فلا تمر يدي على ضرع واحدةٍ إلا وجدتها حافلاً -أي: ممتلئة باللبن، والحيوان كثير اللبن يقال له: حافل، والجمع: حفل- وإذا هنُّ حفلٌ كلهن -أي: كل الأعنز ممتلئة الضرع باللبن- فعمدت إلى إناء لآل محمد صلى الله عليه وسلم، ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه -إناء كبير- فحلبت فيه حتى علته رغوة -وهو زبد اللبن الذي يعلو اللبن بعد حلبه، يقال: رغوة، أو رِغوة، أو رُغوة، أو رُغاية، أو رِغاوة، كلها صحيحة- فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناء اللبن، فقال: أشربتم شرابكم الليلة؟ قال: قلت: يا رسول الله! اشرب -ما أجاب، هرب من الجواب- فشرب ثم ناولني، فقلت: يا رسول الله! اشرب، فشرب ثم ناولني، فلما عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روي وفي رواية: فقلت: اشرب يا رسول الله! فشرب عليه الصلاة والسلام حتى تضلع صلى الله عليه وسلم، فلما عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روي وأصبت دعوته: اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني، ضحكت حتى استلقيت على الأرض من الضحك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إحدى سوءاتك يا مقداد! -أكيد أنك فعلت سوءةً من الفعلات، هذه الضحكة ما وراءها إلا فعلة فعلتها وسوءة أقدمت عليها، فما هي؟ - قال: فقلت: يا رسول الله! كان من أمري كذا وكذا وفي رواية: فقال: ما الخبر؟ فأخبرته، فقال صلى الله عليه وسلم: هذه بركة وفي رواية: ما هذه إلا رحمةٌ من الله، أفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها؟ فقلت: والذي بعثك بالحق ما أبالي إذا أصبتَها وأصبتُها معك من أصابها من الناس) بعدما أصابتني البركة الآن وأصابتني دعوتك لا أبالي بعد ذلك شرب من شرب.

(10/2)

الفوائد المنتقاة من حديث المقداد

1 - هذا الحديث -ولا شك- فيه بركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.

2 - وفيه: معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي: أن هذه الأعنز كانت فارغة قد حلبت، والآن بعد فترة يسيرة جداً رجع اللبن إليها أكثر مما كان، فإحداث اللبن في غير وقته على خلاف العادة؛ هذه معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي قصدها بقوله: (ما هذه إلا رحمةٌ من الله) وفي رواية قال: (هذه بركة) وهذا من تواضعه عليه الصلاة والسلام، لأنه رد الأمر إلى الله، لم يقل: هذا بسببي، وهذا بدعائي، وإنما قال: (ما هذه إلا رحمةٌ من الله) ولذلك إذا حصل للإنسان كرامة، أو حصل له شيء وفضل، فلا يقل: هذا بعرقي بذكائي بجهدي، وإنما يقول: هذا من الله وهذه فائدة عظيمة؛ أن أي فضل يحدث لك ونعمة تحدث لك، انسبها إلى المنعم، وقل: هذه من الله، وهذا من شكر النعمة؛ لأن شكر النعمة له صور كثيرة: أ- فمن شكر النعمة ألا تجحدها.

ب- ومن شكر النعمة أن تنسبها إلى الله.

جـ- ومن شكر النعمة أن تستخدم في طاعة الله.

د- ومن شكر النعمة أن تحدث بها ولا تكتمها {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11].

فشكر النعمة لها عدة طرق، وهذا منها: نسبة النعمة إلى الله سبحانه وتعالى.

3 - فيه: ما كان عليه الصحابة -رضوان الله عليهم- من الجهد والمشقة والجوع، ومع ذلك تحملوا ما تحملوا في سبيل الله، لم يذهبوا يشتغلوا بالتجارة ويتركوا الدين والدعوة والعلم، وإنما كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم.

4 - وفيه: حِلم النبي صلى الله عليه وسلم، وحسن خلقه، وكرم نفسه، وصبره.

5_ وفيه: إغضاؤه عن حقوقه، لم يقل: أين نصيبي من اللبن؟ بل قال: أشربتم شرابكم الليلة؟ ولو كان واحداً منا لقال: أين نصيبي؟ من الذي أخذ نصيبي؟ وربما سب ودعا على الذي أخذ نصيبه، كما يفعل بعض الناس إذا ذهب نصيبه؛ يدعو ألا يبارك لمن أخذه ولمن شربه، فمما نستفيد: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان عنده كرم نفس وصبر، وكان يتغاضى عن حقوقه.

6 - وفيه: الدعاء للمحسن والخادم، ولمن سيفعل خيراً فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى الإناء فارغاً، قال: (اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني) وهذه الدعوة لمن سيطعمه ولمن سيسقيه، ولأنه ما رأى اللبن، فقال: (اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني) لعله يأتي أحد يطعمه ويسقيه، فدعا له، وهذا دعاء لمن سيفعل له معروفاً.

إذاً: الدعاء يكون لمن صنع لك المعروف في الماضي، أو لمن يصنع لك الآن، لكن هذا دعاء عجيب، هذا دعاء لمن سيصنع له معروفاً في المستقبل (اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني) في المستقبل.

لذلك لو قال أحد الناس: ما هو المبرر؟ لماذا أراد المقداد أن يذبح الأعنز؟ لأنه لما سمع الدعوة: (اللهم أطعم من أطعمني) ذهب يذبح ليطعم النبي عليه الصلاة والسلام، وفسر لي شيخنا عبد العزيز هذه اللفظة: بأن المقداد لعله فعلها ليطعم النبي عليه الصلاة والسلام؛ متأولاً راجياً بركة الدعاء لما قال: (اللهم أطعم من أطعمني، واسق من سقاني).

7 - وفيه: أن الإنسان إذا جاء إلى مجموعة ظاهرهم النوم، ولكن يحتمل أن بعضهم ما ناموا بعد، فإن طريقة السلام حينئذٍ أن يسلم بصوت متوسط لا يوقظ النائم ويسمع اليقظان حتى يرد السلام، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم.

8 - وفيه: إشفاق الصحابي على نفسه، وخوف الصحابي على نفسه من أن يدعو عليه النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه تسبب له في شيء من الأذى في حرمانه من نصيبه وإبقائه على الجوع، ولذلك لما علم المقداد أن النبي عليه الصلاة والسلام قد روي وأجيبت دعوته من شدة الفرح بزوال الغم الذي كان في صدره؛ ضحك حتى سقط إلى الأرض من كثرة ضحكه، لما ذهب من حزنه، وانقلاب هذا الحزن فرحاً وسروراً بشرب النبي عليه الصلاة والسلام، وشبع النبي عليه الصلاة والسلام، ودعاء النبي عليه الصلاة والسلام، وإجابة دعاء النبي عليه الصلاة والسلام، وأن ذلك جرى على يد المقداد؛ لأنه هو الذي جاء إلى الأعنز فوجدها حفلاً، وهو الذي كان سبباً عندما شرب اللبن.

9 - وفيه: أن الشيطان يسول للإنسان فعل المعصية ثم يندمه عليها الشيطان لا يكتفي بأن يوقع الإنسان في المعصية، بل بعدما يحدث كل شيء يأتي الشيطان ويزيد الطين بلةً، قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22] فالشيطان لا يترك الإنسان حتى يقع في المعصية، وإذا وقع في المعصية كرَّ عليه مرة أخرى بالتعرض له بسيئات وسلبيات المعصية؛ حتى يركب الإنسان الهم والغم والحزن نتيجة ما حصل، فلا يكون عليه فقط سوء المعصية، وإنما عليه الهم والغم الذي حصل بعد ذلك.

10 - وفيه: أن المقداد عزا ما حصل إلى الشيطان وإلى تسويل نفسه، وأن الشيطان يضع الخطة، فإنه قال له: النبي صلى الله عليه وسلم عنده أصحاب، وعنده أكل، فما تأخر إلا وقد شرب وشبع وأكل، ولا زال بـ المقداد حتى جعله يشرب نصيب النبي عليه الصلاة والسلام.

11 - وفيه: تلطف النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وفطنته وفراسته؛ فإنه عندما نظر إلى المقداد وهو يضحك عرف أن في أمره شيئاً، وقال: (إحدى سوءاتك يا مقداد).

12 - وفيه: أن الإنسان إذا حضره خير لا ينسى أصحابه، ولا ينسى جيرانه؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال للمقداد: (أفلا كنت آذنتني فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها)، وقال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) وهكذا النبي صلى الله عليه وسلم تمنى أن يستيقظ الآخران ليشربا أيضاً.

13 - وفيه: تقاسم ما حضر مع الفقراء، فالنبي عليه الصلاة والسلام لما وجد الأعنز تقاسم حلبها مع هؤلاء الثلاثة الفقراء، والاقتسام هذا يجعل فيها بركةً وأجراً، وأن الشيء إذا كان محدوداً فلا بأس أن يعطى كل واحد قسطاً، يجعل له نصيب حتى لا يتعدى على نصيب الآخر (جزأ ألبانها بيننا أرباعاً) يجعل لكل واحد ربع خاص به، فيعرف ما هو له فيشربه ولا يتعدى على نصيب غيره.

14 - وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى المسجد صلى وهكذا لما دخل صلى ثم جاء إلى الشراب.

15 - وفيه: إكرام الصحابة والأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم بما كانوا يتحفونه به ويطعمونه ويسقونه رضي الله عنهم، وهذا من إكرامهم للنبي عليه الصلاة والسلام، وهذا من الأسباب التي حصل لهم بها رضوان الله تعالى عليهم.

16 - وفيه: أن الإنسان إذا جاع وبلغ الجوع به غايته، فلا بأس أن يعرض نفسه على من يطعمه، وأن ذلك لا يجعله يأثم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حرَّم المسألة إلا لصاحب الحاجة، وأخبر أن الذي يسأل الناس من غير حاجة إنما يسأله خدوشاً في وجهه يوم القيامة، تأتي المسألة يوم القيامة في وجه صاحبها خدوشاً، وهذا إذا سأل وله ما يغنيه، أما هؤلاء الصحابة فإن الجوع بلغ بهم أن ذهبت أسماعهم وأبصارهم، اختلت الرؤية والسمع من شدة الجوع.

17 - وفيه: حمد الله سبحانه وتعالى على النعمة، وأن الإنسان إذا كان به جوع فلا بأس أن يزداد من الطعام، كما يحمل عليه الشبع الذي حصل في حديث أبي هريرة الذي سبق ذكره.

18 - وفيه: أن دعوة النبي عليه الصلاة والسلام مستجابة.

هذه بعض ما تضمنته هذه القصة اللطيفة من الفوائد.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أهل الآخرة، وأن يجعلنا ممن يستعين بالدنيا على مرضاة الله عز وجل.

(10/3)

الأسئلة

(10/4)

حكم الاستمناء في نهار رمضان

السؤال

أنا شابٌ أعزبٌ ولم أتزوج لأني فقير، وفي يوم من أيام رمضان الحالي غلبت عليَّ نفسي، فأفسدت صومي بالاستمناء في نهار رمضان، فما هو الحكم في هذه الحالة؟

الجواب

لا شك أن إفساد الصيام جريمةٌ من الجرائم، وكبيرةٌ من الكبائر؛ لأن هذا الصوم لما فرضه الله عز وجل لا بد من الوقوف عند حدوده فيما فرض، وعدم انتهاك حدود الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث القدسي: (ويدع شهوته من أجلي) وبهذا استدل العلماء على تحريم الاستمناء متعمداً في نهار رمضان؛ لأنه قال: (ويدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) والشهوة تشمل الزوجة، وتشمل الأمة، وتشمل الاستمناء؛ كل هذا داخلٌ في الحديث: (ويدع شهوته من أجلي) ولذلك فهو حرامٌ مفسد للصيام، والشيطان بعدما يوقع الإنسان في المعصية يندمه ويقول له: انظر إلى المصيبة التي فعلت! حتى ربما يصاب باليأس من رحمة الله والقنوط، فمن فعل هذا فعليه: أولاً: أن يمسك بقية يومه؛ لأن حرمة الشهر وحرمة اليوم باقية في رمضان، وبعض الناس يقول: قد فسد الصيام، فيستمر في المعاصي، وهذا خطأ، فعليه أن يمسك بقية اليوم.

ثانياً: أن يقضي يوماً آخر بدلاً منه، وبما أنه ليس فيه وطءٌ، فليس فيه كفارة مغلطة: العتق، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكيناً، وإنما عليه قضاء يوم بدلاً منه.

ثالثاً: التوبة إلى الله سبحانه وتعالى، وعمل ما يلزم من المكفرات، من الحسنات الأخرى، كصيام النوافل؛ لأن الإنسان إذا خرق صيام الفرض، فإن الذي يرقعه الإكثار من النوافل، وإذا خرق صلاة الفرض لا يرقعها إلا الإكثار من صلاة النوافل، وكذلك إذا خرق حجه بالرفث والفسوق والجدال، فيحج حجة نافلة ترقع ما انخرق من حج الفريضة، هذا بالنسبة لمن فعل ذلك.

(10/5)

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام

السؤال

رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم وأنا نائمة، فهل هي رؤيا صحيحة؟

الجواب

لا نحكم لأحد أبداً أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً إلا إذا رآه بصفته، فإذا قال أحد: رأيته، فنقول له: صفه لنا، فلو قال: رأيته وعيناه عسليتان، نقول: لا، عيناه صلى الله عليه وسلم في شدة سواد مع شدة بياض، ولو قال: رأيتها صغيرة، نقول: ليست كذلك، ولو قال: رأيته أسود، أو حنطي اللون، نقول: لا، هو أبيض مشرب بالحمرة، ولو قال: رأيت شعره أجعد، نقول: لا، شعره لا سبط ولا أجعد، وإنما وسط، ولو قال: رأيته قصيراً، نقول: لا، هو بين الطويل والقصير صلى الله عليه وسلم، لا طويل مفرط في الطول ولا قصير، معتدل القامة، عريض ما بين المنكبين، عظيم المشاش التي هي فقرات الأصابع، ولو قال مثلاً: رأيته سميناً، نقول: لا، هو صلى الله عليه وسلم معتدل، لا بالسمين ولا بالنحيف، ولو قال مثلاً: رأيت لحيته قصيرة جداً، أو ليس له لحية، نقول: ليس هو؛ لأن لحيته صلى الله عليه وسلم كانت تملأ ما بين منكبيه، ولو قال: رأيت اللحية كلها بيضاء، نقول: لا، شعرات الشيب معدودة في مفرق النبي صلى الله عليه وسلم وفي لحيته، الصحابة ما تركوا شيئاً، حتى عدد الشعرات البيضاء في شعر النبي عليه الصلاة والسلام ولحيته كلها نقلوها.

إذاً: إذا رآه بصفته فهو هو بالتأكيد، لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بي) لا يستطيع الشيطان أن يتمثل في صورة النبي عليه الصلاة والسلام الحقيقية، لكن يمكن أن يتمثل بصورة أخرى ويقول في المنام لصاحب الرؤيا: افعل كذا، أو لا تفعل كذا، ونحو ذلك، لكن لا يستطيع الشيطان أن يتمثل بشكل النبي عليه الصلاة والسلام الحقيقي، ولو أمره بشرٍ -أيضاً- فليس هو صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يأمر بالشر.

(10/6)

الجمع بين الصلاتين في السفر

السؤال

سوف أسافر في الطائرة في وقت الظهر، فماذا أفعل في صلاة الظهر؟

الجواب

إذا كنت ستصل إلى هناك في وقت العصر فاجمع جمع تأخير، وإذا أردت أن تصلي في الطائرة، كأن تطلع -مثلاً- بعد العصر، أو قبل العصر من هنا، كأن يكون الإقلاع الساعة الثالثة، فما استطعت أن تصلي العصر هنا، والطائرة ستصل هناك ربما بعد أذان المغرب، فعليك أن تصلي في الطائرة، لأن العصر لا تجمع إلى المغرب حتى نقول: تصليها إذا نزلت في مطار جدة مثلاً، فلا بد من المحافظة على الصلاة في وقتها، فالوقت أهم شروط الصلاة.

(10/7)

معنى قوله تعالى: (وأما بنعمة ربك فحدث)

السؤال

هل معنى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] أن أخبر الناس كم أملك من النقود؟

الجواب

قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] كأن يقول الإنسان: كنت ضالاً فهداني الله، وكنت فقيراً فأغناني الله، وكنت طالباً ليس عندي شيء فأعطاني الله سبحانه وتعالى وأكرمني، وكنت مريضاً فشفاني الله سبحانه وتعالى {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] ولا يلزمه أن يقول: أنا عندي في البنك كذا وكذا، ويقول: هذا من الإخبار بالنعمة، وإلا فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (استعينوا على نجاح حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمةٍ محسود) معناه: أن الإنسان إذا خشي من حاسد فلا يتكلم في المجلس بما عنده من الأشياء والممتلكات حتى لا يصاب بعين هذا الحاسد، ويكون ذلك سبباً في تلف ماله، أو تلف ما عنده من النعم، هذا هو الوزن بين قضية {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] وبين: (فإن كل ذي نعمةٍ محسود) يحدث الإنسان بنعم الله عليه، ولا يحدث بطريقة تستجلب حسد الحساد، كأن يقول: عندي كذا وكذا، ثم إذا عرض ممتلكاته، ربما يكون فيها شيء من الخيلاء والفخر والغرور، فإن بعض الناس قد يقول: هذا فلان عنده ما يكفي حفيده السابع، فربما تذهب كل أمواله في طرفة عين، فإن قارون ذهبت أمواله بطرفة عين {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص:81] لا يزال يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، وقد قيل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر عن (رجلٍ مسبلٍ يجر إزاره كبراً وخيلاءً وغطرسة، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل بها إلى يوم القيامة) قالوا: هذا قارون، خرج على قومه في زينته {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص:81].

(10/8)

وسوسة النفس ووسوسة الشيطان

السؤال

ما هو الفرق بين وسوسة النفس ووسوسة الشيطان؟

الجواب

النفس أمارة بالسوء، والشيطان يأمركم بالفحشاء، فكلها تجتمع في الأمر بالسوء، وربما يكون الاثنين جميعاً، وربما تكون وسوسة النفس فقط، ولو قال أحد الناس: حسناً! إذا كانت الشياطين مصفدة في رمضان، فمن أين هذه المعاصي؟ نقول: أولاً: المصفدة هي المردة وليس كل الشياطين.

ثانياً: لو كانت كل الشياطين مصفدة، فمعك النفس الأمارة بالسوء {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53] ولو كان كل الشياطين مصفدة المردة وغير المردة، فعندك شياطين الإنس يشتغلون ليلاً ونهاراً، هذه القنوات الفضائية هي من شياطين الإنس، والظاهر الآن أن الشيطان استراح، بعض الناس لا يحتاج إلى أن يشتغل معهم؛ لأن العمل مستمر تلقائياً، لا يحتاج إلى تدخل، وعندما جاء أحد الناس وقال لأحد علماء المسلمين: إن أحد الأحبار والرهبان يقول: إننا نحن اليهود لا نشعر بأي وسوسة في الصلاة، عندما ندخل الكنائس أو البيع!! فقال: وماذا يفعل الشيطان في البيت الخرب؟ هو كافر ومشرك، وكل الطقوس الذي يقوم بها في الكنيسة أو في المعبد شرك في شرك، فلا يحتاج الشيطان إلى أن يتعب نفسه، ماذا يفعل الشيطان في البيت الخرب؟ الشيطان يذهب إلى هؤلاء الموحدين ويؤذيهم في صلواتهم.

(10/9)

حكم استعمال الحقنة في الدبر في نهار رمضان

السؤال

هل الحقنة المائية في الدبر تفطر أم لا؟

الجواب

رجح شيخ الإسلام -رحمه الله- أن الحقنة في الدبر لا تفطر، ومن العلماء من ذهب إلى أنها تفطر، ولكنهم قالوا: ليس هذا منفذ طبيعي لدخول الغذاء إلى الجسم، ولذلك فإنها لا تفطر.

(10/10)

الصلاة بوضوء مس المصحف

السؤال

إذا توضأت لقراءة القرآن فهل تصح الصلاة بهذا الوضوء؟

الجواب

إذا قصدت رفع الحدث والطهارة -وهذا الذي يقصده من أراد أن يقرأ القرآن ويمس المصحف- فإنه يجوز لك أن تصلي بهذا الوضوء.

والحمد لله رب العالمين.

(10/11)

قصة جريج العابد

هو رجل صالح من بني إسرائيل، قيل: إنه ان يشتغل بالتجارة، وأنه كان ينقص مرة ويزيد أخرى، أي: يربح ويخسر، فقال: ليس في هذه التجارة خير؛ لألتمسن تجارة هي خير من هذه، فبنى صومعة وترهب فيها، فجاء ذكر قصته على لسان رسولنا صلى الله عليه وسلم، لما فيها من العظة والعبرة، وقد ذكر الشيخ الحديث بنصه ثم شرحه شرحاً موسعاً.

(11/1)

حديث جريج

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فهذه القصة التي بين أيدينا هي قصة مِن أنباء مَن قد سبق، قصها علينا النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي لا ينطق عن الهوى، وهي قصة جريج الراهب، {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} النجم:4]، التي حدثنا بها النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء عنه في الحديث الصحيح.

وهذه القصة رواها البخاري رحمه الله، ورواها الإمام مسلم رحمه الله تعالى، وكذلك رواها الإمام أحمد رحمه الله.

ورواية الإمام مسلم رحمه الله تعالى، يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم، وصاحب جريج، وكان جريج رجلاً عابداً، فاتخذ صومعة فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلي، فقالت: يا جريج! فقال: يا رب! أمي وصلاتي -أيهما أقدم؟ - فأقبل على صلاته، فانصرفت -أي: أمه- فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج! فقال: أي ربِّ، أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جريج! فقال: أي ربِّ! أمي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر إلى وجوه المومسات.

فتذاكر بنو إسرائيل جريجاً وعبادته، وكانت امرأة بغي يُتَمَثَّل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفْتِنَنَّه، فتعرضت له، فلم يلتفت إليها، فأتت راعياً كان يأوي إلى صومعته فأمكنته من نفسها، فوقع عليها -الراعي- فحملت.

فلما ولدت قالت: هو من جريج -الولد ولد الزنا من جريج - فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: زنيتَ بهذه البغي، فولدت منك، قال: أين الصبي؟ فجاءوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلى فلما انصرف أتى الصبيَّ فطعن في بطنه وقال: يا غلام! من أبوك؟ قال: فلان الراعي، فأقبلوا على جريج يقبِّلونه ويتمسحون به وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا.

أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا).

وكذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لنا قصة المرأة التي كان معها الرضيع في هؤلاء الثلاثة؛ ولكن سنقتصر على قصة جريج؛ لأنها هي موضوعنا في هذه الليلة.

(11/2)

شرح حديث جريج

قوله عليه الصلاة والسلام: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة): لقد نُقِل أن عدداً من الناس قد تكلموا في المهد، مثل: صاحب الأخدود، وغيره؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بحسب ما يعلم، وبحسب ما أوحي إليه في ذلك الوقت، هذا إذا صحت الروايات برابع أو خامس أو ما زاد عن هؤلاء الثلاثة المذكورين في الحديث: عيسى، والولد في قصة جريج، وكذلك ولد المرأة الذي كان يرتضع، ثم تكلم عندما تمنت أن يكون مثل فلان، ودعت ألا يكون مثل فلان.

فـ جريج رحمه الله كان في بني إسرائيل، وقيل: إنه كان رجلاً تاجراً في بني إسرائيل، وكان ينقُص مرة ويزيد أخرى، يعني: تجارته ترتفع وتنخفض، تربح وتخسر، فقال: ليس في هذه التجارة خير، لألتمسن تجارة هي خير من هذه، فبنى صومعةً وترهَّب فيها، وهذا يدل على أن جريجاً كان بعد عيسى عليه السلام، وأنه كان من أتباعه؛ لأن أتباعه هم الذين ترهبنوا وحبسوا أنفسهم في الصوامع.

والصومعة: بناء مرتفع محدد الأعلى، رأسه دقيق، كان رهبان بني إسرائيل يعتكفون فيها -في الصوامع- يعبدون الله.

وبينما كان جريج يتعبد في صومعته جاءته أمه، وفي العادة كانت أمه تأتيه فتناديه فيشرف عليها فيكلمها فأتته يوماً وهو في صلاته، فنادته، ثم المرة التي بعدها صادف أن كان في الصلاة، فنادته، والمرة الثالثة نادته وكان في صلاة فقالت: أيْ جريج! أشرف علي أكلمك، أنا أمك، فكان يختار الإقبال على صلاته، احتار في البداية، أبى أن يجيبها، وقال في نفسه: (رب أمي وصلاتي) أي: اجتمع عليَّ واجبان، اجتمع علي إجابة أمي وإتمام صلاتي، فوفقني لأفضلهما، وفي رواية: (فصادفته يصلي فوضعت يدها على حاجبها فقالت: يا جريج! فقال: يا رب أمي وصلاتي، فاختار صلاته -اجتهد واجتهاده أن يقبل على صلاته- فرجعت ثم أتته فصادفته يصلي فقالت: يا جريج! أنا أمك فكلمني، فقال مثل ذلك) ثلاث مرات تناديه في كل مرة وهو يؤثر صلاته على أمه.

هو قال ذلك في نفسه؛ لأنه لا يتكلم في الصلاة، قال في نفسه: أمي أو صلاتي؟! ويحتمل أنه يكون نطق بذلك لأن الكلام عندهم كان مباحاً في العبادة، وكذلك كان في صدر الإسلام، ثم لما نزل قول الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] امتنع الكلام في الصلاة، في ديننا كان الكلام في الصلاة مباحاً، فكان الرجل إذا جاء إلى الجماعة وجدهم يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقرأ النبي عليه الصلاة والسلام آية، فيقول لمن بجانبه: متى نزلت هذه؟ أو هذه من أي سورة؟ ونحو ذلك، فيجيبه، فلما نزل قول الله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] امتنعوا عن الكلام في الصلاة، وحرم الكلام في الصلاة.

ويقول: وجاء في بعض الروايات: (لو كان جريجٌ عالماً لعلم أن إجابة أمه أولى من صلاته) لما صادف ثلاث مرات أن جريجاً لا يطيع أمه لما نادته ولا يكلمها لاشتغاله بالصلاة وترجيحه الصلاة على إجابة أمه، تضايقت الأم ودعت الله، فقالت: (اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات) وفي رواية: (حتى ينظر في وجوه المياميس).

وفي رواية: (حتى تريه المومسة).

وفي رواية: (فغضبت فقالت: اللهم لا يموتن جريج حتى ينظر في وجوه المومسات) المومسات: جمع مومسة، والمومسة هي: الزانية، وتُجمع على مواميس أيضاً.

ووقع في رواية: (قالت: أبيتَ أن تطَّلِع، لا أماتك الله حتى تنظر في وجهك زواني المدينة).

بعد ذلك حدث أن بني إسرائيل الذين كانوا في بلده ومعه تناقشوا في عبادة جريج، وذكروا كيف كان يعبد ويطيل العبادة ويتفرغ للعبادة، وينقطع للعبادة، فقالت بغي منهم: (إن شئتم لأفتننه، قالوا: قد شئنا -وكانوا قومَ بُهْت، كانوا قوماً فَسَقَة فَجَرَة، ما عندهم مانع أن تتعرض الزانية للعابد- قالوا: قد شئنا، فأتته فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأمكنت نفسها من راعٍ -راعي غنم- كان يؤوي غنمه إلى أصل صومعة جريج) الراعي كان يؤوي الغنم إلى أصل صومعة جريج في الأسفل، فهذه المرأة لما لم يلتفت إليها جريج ولا تعرض لها، أمكنت نفسها من هذا الراعي، فزنى بها، ووقع عليها، وكانت تعمل الفساد، وظنت أنها تستطيع أن تفتن جريجاً، ولكن لم يتعرض لها ولم يلتفت إليها.

لما وقع عليها الراعي حملت فولدت غلاماً: (فأتت بني إسرائيل فقيل لها: ممن هذا؟ -ممن هذا الغلام؟ - قالت: من صاحب الصومعة -نزل إلي من صومعته-.

وفي رواية: فقيل لها: مَن صاحبك؟ -أي: الزاني؟ - قالت: جريج الراهب، نزل إلي فأصابني.

وفي رواية: فذهبوا إلى الملك فأخبروه، قال: أدركوه فأتوني به، فأتوه، فكسروا صومعته، وأنزلوه.

وفي رواية: فأقبلوا بفئوسهم ومساحيهم إلى الدير فنادوه فلم يكلمهم فأقبلوا يهدمون ديره فما شعر حتى سمع بالفئوس في أصل صومعته فجعل يسألهم: ويلكم! ما لكم؟ فلم يجيبوه، فلما رأى ذلك أخذ الحبل فتدلى، أخذوه وضربوه وسبوه، قال: ما شأنكم؟ قالوا: إنك زنيت بهذه.

وفي رواية: فقالوا: أي جريج انزل، فأبى، يقبل على صلاته -مشتغلٌ بالصلاة- فأخذوا في هدم صومعته، فلما رأى ذلك نزل فجعلوا في عنقه وعنقها حبلاً وجعلوا يطوفون بهما في الناس، فقال له الملك: ويحك يا جريج! كنا نراك خير الناس فأحبلت هذه، اذهبوا به فاصلبوه.

وفي رواية: فجعلوا يضربونه ويقولون: مُراءٍ، تخادع الناس بعملك، قال: دعوني حتى أصلي، فتوضأ -وهذا دليل على أن الوضوء كان في الأمم مِن قبلِنا، وصلى ودعا الله تعالى -صلى ركعتين، ودعا الله تعالى- ثم أتى الغلام فطعنه بأصبعه في بطنه - جريج طعن الغلام بأصبعه في بطنه لكي ينتبه الغلام مع أن الغلام رضيع لا يفقه شيئاً- فقال: بالله يا غلام من أبوك؟ قال الغلام: أنا ابن الراعي.

وفي رواية: ثم مسح رأس الصبي، فقال: من أبوك؟ فقال: راعي الضأن.

وفي رواية: فأُتي بالمرأة والصبي وفمه في ثديها، فقال له جريج: يا غلام! من أبوك؟ فنزع الغلام فاه من الثدي وقال: أبي راعي الضأن -فيُحمل هذا على أنه مسح برأس الصبي أولاً، ووضع إصبعه، طعن بإصبعه في بطنه، وسأله بعد ذلك- فنطق الغلام فأبرأ الله جريجاً، وأعظم الناس أمر جريج، فسبح الناس وعجبوا، قالوا: نبني صومعتك من ذهب؟ قال: لا.

إلا من طين، ابنوها طيناً كما كانت.

وفي رواية: قالوا: نبني ما هدمنا من ديرك بالذهب والفضة، قال: لا.

ولكن أعيدوه كما كان.

وفي رواية: فقال له الملك: نبنيها من ذهب؟ قال: لا.

قالوا: من فضة؟ قال: لا.

إلا من طين.

وفي رواية: فردوها كما هي فرجع في صومعته، فقالوا له: بالله مِمَّ ضحكت؟ فقال: ما ضحكت إلا من دعوة دعتها أمي).

(11/3)

فوائد حديث جريج

في هذا الحديث:

(11/4)

إيثار إجابة الأم على صلاة التطوع

إيثار إجابة الأم على صلاة التطوع إذا نادته أمه: الواحد منا إذا نادته أمه أو ناداه أبوه، وهو يصلي صلاة نافلة، فإن كان يعلم أن أمه ستغضب إذا لم يجبها فإنه يقطع الصلاة ويجيبها، وإذا علم أنها تتحمل لو أتمها خفيفة، أتم النافلة خفيفة وأجاب أمه وأباه وإذا كانت صلاةَ فريضة خَفِّفْ الفريضة، قَصِّر القراءة والركوع والسجود ثم سلم وأجب أمك أو أباك.

إذاً: يؤخذ من هذا الحديث: - تقديم إجابة الأم على صلاة النافلة، وإذا أمكن التخفيف فليخفف ثم يُجب.

- الفرض يخففه ويجيب أمه.

(11/5)

تقدير شعور الأم

ثانياً: أن الأم تشتاق إلى ولدها فتزوره وتقتنع برؤيته وتكليمه وأن مناها في رؤية ولدها هو الكلام والحديث إليه: ولذلك فينبغي على الابن أن يقدر شعور الأم، ولا يقول: وماذا يفيدها النظر إلى وجهي؟! وماذا يفيدها الكلام معي؟! فنقول: هذا قلب أم والأم تشتاق إلى ولدها، وتحن إليه، وهي متعلقة به، ورؤياه عندها تساوي الدنيا وما فيها، وحديثها إلى ولدها جد مهم بالنسبة لها، ولذلك ينبغي على الإنسان أن يقدر شعور أمه.

وبعض الناس إذا كبروا وانشغلوا بالحياة والوظائف والسفر من بلد إلى بلد، أصبحوا لا يقدرون شعور الأم، وربما لا يقدر إلا إذا صار أباً أو صارت البنت أماً في المستقبل، فتتذكر وتقول: رحمة الله على أمي، أو رحم الله أمي، كانت تقنع بنظرة وتريد الرؤيا واللقيا والكلمة، فعند ذلك يحس الإنسان بشعور الأب أو الأم إذا صار هو أباًَ أو صارت هي أماً.

ولذلك ينبغي أن ينتبه قبل فوات الأوان، وأن الإنسان لو طلبَت منه أمه أن يأتي إليها، كأن تتصل به من بلدها وهو -مثلاً- من الجنوب ويسكن في الشرقية، أو كانت أمه في مصر وهو يعمل هنا، فطلبت منه أن يأتي لرؤيتها، فلا يقل: أنا أين وهي أين! أنا في شغل وأشغال مهمة وهي تريد رؤيتي! وماذا تستفيد من رؤيتي؟! فنقول: الأم هكذا قلبها، معلق بولدها، تريد رؤيته والحديث إليه، وتقر عينها عندما يكون ولدها عندها، ولذلك لا يقول الإنسان: أسافر الآن من أجل أمي؟! فنقول: إذا كان السفر ممكناً ولا يضرك فسافر من أجلها والقَها وانزل إليها ومُرَّ بها فإن في ذلك البركة.

ولذلك فإن الإنسان إذا كان عند والديه في البلد لا أقل من أن يمر بهما يومياً من الباب ويسلم عليهما، وأن يحييهما في المساء، أو في الصباح تحية، والرؤيا فيها فائدة عظيمة للأم، فلا يصح أن تُفَوَّت عليها بحال.

(11/6)

كراهية دعاء الأم على ولدها بشر

الفائدة الثالثة من فوائد الحديث: أن الأم لا ينبغي أن تدعو على ولدها بشر: لأن دعاء الأم مستجاب، ولو دعت عليه بشر ربما وقع ذلك فتتأسف وتقول: يا ليتني لم أدعُ عليه: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس:11] من رحمة الله أنه لا يستجيب لنا كل دعاء دعونا به على أنفسنا أو على أولادنا، ولو أن الله يستجيب لنا كل دعاء ندعو به على أنفسنا أو أولادنا لهلكنا وهلك أولادنا منذ زمن بعيد، ولكن قد توافِق الدعوة وقت استجابةٍ وسماءٍ مفتوحةٍ فيقع المكروه بسبب الغضب والاستعجال.

ولذلك فإنه لا ينبغي للأب أو الأم الدعاء على الولد، إنما يدعو للولد بالهداية والصلاح.

ثم إن أم جريج كان دعاؤها أن يجري على ولدها ما يؤدبه، دعت دعاء خاصاً، ما دعت عليه بأن يقع في الفاحشة، وما دعت عليه بأن يقتل ويموت، دعت عليه بأن يريه الله وجوه المومسات، حتى ينتبه ويعي ويرجع ويعرف قدر الأم ودعوة الأم إلى أين تصل.

(11/7)

دعوة الوالدة على ولدها مستجابة

والفائدة الرابعة: أن دعوة الوالدة مستجابة: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوة الوالد لولده ودعوة الوالد على ولده كلاهما مستجاب).

(11/8)

صاحب الصدق مع الله لا تضره الفتن

والفائدة الخامسة: أن صاحب الصدق مع الله لا تضره الفتن: فنلاحظ أن جريجاً لما كان متفرغاً للعبادة مقبلاً على الله كان صاحب قلب قوي، وإيمان سوي، ولذلك ما ضرته المرأة لما تعرضت له، والإنسان لو كان إيمانه ضعيفاً، فدعته امرأة وهي ذات جمال ربما يقع، لكن عندما يكون الإنسان صاحب دين وصاحب عبادة، ليس فقط لا يقع، وإنما لا يلتفت أصلاً، ولذلك جاء في القصة أن جريجاً رحمه الله تعالى لم يلتفت إليها، قال في الحديث: (وكانت امرأة بغي يُتَمَثَّل بحسنها فقالت: إن شئتم لأفتننه، فتعرضت له فلم يلتفت إليها) فلم يلتفت، فالإنسان إذا كان صاحب دين قوي عصمه الله من الفتن.

(11/9)

سد الذرائع

سادساً: سد الذرائع: لا يكفي أن الإنسان ينظر بعينه ويقول: لا.

أنا أخاف الله رب العالمين، وإنما لا يلتفت أصلاً.

فيستفاد من القصة: غض البصر، وأن الدفع أسهل من الرفع، يعني: إذا دفعتَ عنك المنكر من أوله، فقد قطعت الطريق من أوله، وذلك أسهل من أن تتمادى فيه ثم تريد أن تخرج، نضرب مثالاً: لو أن إنساناً معه فرس، فأراد الفرس أن يدخل في دهليز ضيق، لو أنه منع الفرس من دخول هذا الدهليز الضيق لسهل عليه توجيه الفرس إلى أي جهة يريد؛ لأنه لم يدخل بعد، لكن إذا دخل الفرس في الدهليز الذي لا يكاد يتسع لدخول فرس واحد فما رأيكم بسهولة إخراجه؟! يصعب على الفرس أن يلتفت يميناً، وشمالاًَ؛ لأن رأسه صار إلى الداخل، وكذلك إذا توجه الشخص فالخروج صعب، وكلما أوغل في هذا الدهليز، يصعب إخراجه أكثر وأكثر.

ولذلك إذا منعه من الدخول كان توجيهه أسهل ما يكون، أما إذا دخل فإن توجيهه من أصعب ما يكون.

ولذلك ينبغي قطع الطريق عن الوقوع في المعصية من أولها بمسألة غض البصر.

فإن قال لك قائل: هذه الشهوات طرائق وسبل، على كل سبيل شيطان، يدعونا للدخول في هذه الشهوات.

ما هي الطريقة لكي ننقذ أنفسنا من الشهوات، فلا نستجيب للشهوات، ولا نتأثر بها، ولا نجري وراءها، ولا تستقر في نفوسنا وقلوبنا، ولا تتشرب قلوبنا هذه الشهوات؟ نقول: أسهل طريقة أن تغض بصرك، ولذلك الأعمى من منة الله عليه في كثير من الأحيان أنه لا يرى، يعني: لا يُفْتَن بالنظر؛ لأنه لا يرى، والمبصر مبتلى بالنظر، ولذلك كلما قوي الإيمان كان حجز النفس عن المعصية أقوى، ولذلك جريج لم يلتفت إليها أصلاً.

(11/10)

الفزع إلى الصلاة عند حدوث المكروه

الفائدة السابعة: الفزع إلى الصلاة عند حدوث المكروه: فإن جريجاً لما ضربوه وسبوه وشتموه واتهموه بأنه هو الذي زنى بالمرأة قال: (دعوني أصلي) فصلى حتى تقوى الصلة بالله، ويكون الدعاء أحرى بالإجابة، ثم دعا الله.

وهذا فيه تأكيد وإعادة لما سبق استخراجه من أحاديث متقدمة وقصص: أن الفزع إلى الصلاة عند الملمات من الأمور المهمة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153]، (كان إذا حزبه أمر صلى)

(11/11)

قوة اليقين والرجاء بالله تعالى

الفائدة الثامنة: قوة اليقين والرجاء بالله تعالى، وأن الإنسان إذا كان يقينه بالله قوياً خرق الله له العادة: وقد انخرقت العادة من قوة يقين جريج قال: (يا غلام! من أبوك؟) ما أنزل عليه وحي بأن الغلام سينطق: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} [البقرة:60]! {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء:63]! لا.

هو أقبل عليه وقال: (يا غلام! من أبوك؟) بكامل اليقين بالله والتوكل على الله، فأنطق الله الولد، وانخرقت العادة بقوة إيمان جريج ويقينه بالله تعالى، ولولا صحة رجاء جريج بالله وتعلقه به ورجائه من الله أن ينقذه ما نطق الغلام، ولكن لصحة رجاء جريج نطق الغلام.

(11/12)

إثبات كرامات الأولياء

تاسعاً: إثبات كرامات الأولياء: وقد مر معنا هذا سابقاً، إثبات كرامات الأولياء، وجريج من أولياء الله، ومن كرامات جريج نُطْق الغلام ببراءته.

(11/13)

بعد كل شدة مخرج

عاشراً: أن الله يجعل لأوليائه عند الابتلاء مخارج:-

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فُرِجت وكنت أظنها لا تُفْرَجُ

ولرُبَّ نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرجُ

فإذا استحكمت حلقاتها وضاقت يأتي الفرج، متى يأتي الفرج؟ حين يظن الشخص أنه لا حيلة، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:110] فيأتي الفرج عندما تضيق الأمور وتصل إلى القمة في الشدة، وعند ذلك يأتي الفرج، ضربوه وشتموه وسبوه وكسروا صومعته واتهموه وبعدها جاء الفرج.

(11/14)

إذا تعارض أمران بدئ بأهمهما

والحادي عشر: إذا تعارض أمران بُدِئ بأهمهما: إذا تعارض عندك أمران ولا تستطيع أن توفق بينهما، تبدأ بالأهم.

تؤخذ هذه القاعدة من قول جريج في الحديث: (أمي أو الصلاة).

قلنا: إن الإنسان إذا كان في فريضة خففها.

وإذا كان في نافلة: فإن كان تخفيفها لا يغضب أمه خففها وأتمها وأجاب.

وإن كانت تغضب أمه قطعها.

فإذا علم تأذي الوالد وجب عليه الترك وإجابة الوالد، وإلا فالأصل إتمام الصلاة، يقول الله: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33] فالإنسان لا يقطع الصلاة لأي سبب ويمشي، وإنما إذا وُجِد سبب قوي قطع الصلاة، وإذا لم يجد سبباً أقوى من الصلاة فيستمر في الصلاة، ولا يبطل عمله؛ لأن الصلاة تلزم بالشروع، يعني: إذا كبرت تكبيرة الإحرام وجب عليك إتمامها، مثل الحج والعمرة إذا أحرم الإنسان وجب عليه الإتمام لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] حتى لو كان نفلاً يجب عليه أن يتمه، فالصلاة إذا دخل الإنسان فيها ولو كانت نافلة فإنه يجب إتمامها؛ لأن قطعها فيه دلالة على اللامبالاة بالدين وبأمره، ولو كانت نافلة، ما دام أحرم بها يجب عليه أن يتمها، ولذلك قال العلماء: تلزم بالشروع.

هل هذا الحكم -كما قلنا- يختص بالأم؟ ذهب إلى ذلك بعضهم، ولكن الصحيح أن الأب والأم في هذا الحكم سواء.

فإذاً: نرجع إلى القاعدة وهي: إذا تعارض عندك أمران فإنك تبدأ بالأهم.

مثال آخر: إذا شرعت في نافلة اللحظة وأقيمت صلاة الفرض: هذا تعارض ولا يمكن أن تتم الفرض وتتم النافلة وقد أقيمت الفريضة، فعند ذلك ماذا تفعل؟ تقطع النافلة بالنية، بدون تسليم، وتدخل مع الإمام في الفريضة؟ مثال آخر: حلول الدين والحج: فإذا صار الإنسان مطالباً بالدين يقدم الدين على الحج؛ لأن الحج يجب عند الاستطاعة، وحيث أنه مطالبٌ فلا استطاعة.

وإذا تعارض الزواج والحج فأيهما يقدم؟ فيها تفصيل: إذا كان يخشى العنت، ويخشى الوقوع في الإثم، أو في الحرام، ففي هذه الحالة يقدم الزواج.

أما إذا علم من نفسه أنه يستطيع أن يصبر فيقدم الحج.

مثال آخر على التقديم إذا تعارض أمران: الجهاد وبر الوالدين: يقدم بر الوالدين، ولا يذهب للجهاد إلا بإذنهما، لكن إذا دهم العدو بَلَدَه وجب عليه الخروج للجهاد ولو ما أذن الوالدان؛ لأن هذا أهم، في الحالة الأولى كان بر الوالدين أهم، وفي الحالة الثانية أصبح الجهاد أهم.

إذاً: هناك حالات تتغير الأمور فيها، في نفس القضية الحكم يتغير بحسب الحال.

مثال آخر على تعارض أمرين، وتقديم الأوجب! لكن كيف نتصور التعارض؟ مثال: امرأة عليها من رمضان عشرة أيام، وولدت في العشرين من رمضان، وطهرت في العشرين من شوال، ولو أنها أرادت أن تقضي الصيام لا يتوفر لها ستة أيام من شوال؛ لأن القضاء سيأتي على بقية الشهر، ولو قدمت صيام ستة أيام من شوال لقدمت النفل على الفريضة.

في هذه الحالة ماذا تقدم؟ تقدم الفريضة؛ لأن الوقت لو كان مُتَّسِعاً لقلنا لها: صومي عشرة أيام قضاء أولاً، ثم صومي ستاً من شوال.

لكن الشهر لم يبق منه إلا عشرة أيام فتقدم إذاً صوم رمضان.

ثم إن الأجر في الحديث مقيد: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال) فلا بد أن يستوفي أول شيءٍ عدة رمضان كاملة، ثم يصوم ستاً من شوال، وليس: (مَن صام عشرين يوماً من رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال)! فيشترط استيفاء رمضان كله.

مثالٌ آخر! الصلاة ومدافعة الأخبثين، وكذلك إذا حضر العِشاء والعَشاء: إذا حضر العِشاء والعَشاء فيقدم العَشاء وليس هذا دليلاً على أن الأكل أهم من الصلاة، لا.

لكن الخشوع أولى من عدم الخشوع.

فإذاً: صلاة بخشوع مقدمة على صلاة بغير خشوع.

وكذلك يقدم قضاء الحاجة على الصلاة.

مثال آخر: رجل اكْتُتِب في غزوة وامرأته قد ذهبت للحج بغير محرم فكيف يصنع؟ عليه أن يلحق بامرأته؛ لأن هذا أهم وأوجب وأولى من ذاك، وقد يغزو غيرُه؛ ولكن زوجته هو المحرم الوحيد لها.

وكذلك لو تعارض -مثلاً- إنقاذ نفس معصومة مع الصيام: فيقدم إنقاذ النفس المعصومة، ويقضي بعد ذلك هذا اليوم.

المهم أن هناك أمثلة عديدة يتعارض فيها واجبان مع بعضهما البعض، فيقدم الإنسان الأهم، لكن هذا يعتمد على ماذا؟ على الفقه؛ كيف يعرف الأهم؟ هنا السؤال، إدراك التعارض ممكن، يعني: قد يدرك بعض الناس التعارض، لكن ما هو الأهم؟ وكيف تعينه؟ هذا يحتاج إلى علم، ويحتاج إلى فقه.

(11/15)

جواز الأخذ بالأشد في العبادة لمن علم من نفسه القدرة على ذلك

الفائدة الثانية عشرة: جواز الأخذ بالأشد في العبادة لمن علم من نفسه القدرة على ذلك: فمثلاً الانقطاع للعبادة إذا كان الإنسان سيصبر ولا يسأل الناس، ويكتفي بالقليل ويقنع بما عنده، وما عنده يكفيه لو أن إنساناً تصدق بماله كله في سبيل الله، ما هو الحكم؟ جائز، وكيف لا يجوز وقد فعله أبو بكر الصديق؟!.

نقول: إذا كان يطيق ويصبر، يتصدق بماله كله، أما أن يتصدق بماله كله اليوم، وغداً نلقاه عند باب الجامع، فهذا لا يمكن، ولم يفعل الشيء المستحب ولا الأفضل.

فإذا كان سيصبر ويقينه بالله قوي، وأن الله يرزقه غداً أو بعد غدٍ، وأنه لو جاع اليوم ستنفرج غداً، فيتصدق بماله كله لا مانع، قال أبو بكر: [أبقيت لهم الله ورسوله] هو نفسه قال: [أبقيت لهم الله ورسوله] فالنبي صلى الله عليه وسلم سكت، وأقر على ذلك؛ ولكن قال لـ كعب بن مالك: (أمسك عليك بعض مالك) لما نذر أن يتصدق بماله كله اكتفى منه بالثلث.

(11/16)

مرتكب الفاحشة لا تبقى له حرمة

الثالثة عشرة: أن مرتكب الفاحشة لا تبقى له حرمة: ولذلك ضربوه وسبوه وشتموه وكسروا صومعته، ولكن كان بريئاً، لكن لو عُثِر عليه وهو يرتكب الفاحشة فيشتم ويُسَب ويُضْرَب ويُهان ويُذَل؛ لأنه ارتكب فاحشة.

(11/17)

ابن الزنا ينسب لأمه

الرابعة عشرة: أن ابن الزنا في شريعتنا ينسب لأمه، وفي شريعتهم الله أعلم ماذا كان الأمر: هو قال أنه ابن الراعي، قال: (يا غلام! من أبوك؟ قال: الراعي).

ويُحتمل أن يكون تجري بينهم أحكام الأبوة والبنوة، ولكن في شريعتنا لا يُنسب الولد للزاني وإنما يُنسب للزانية.

(11/18)

اتخاذ مكان للعبادة

الفائدة الخامسة عشرة: اتخاذ المكان للعبادة: لو أن إنساناً جعل في بيته مكاناً نظيفاً هادئاً طاهراً يصلي فيه، فهذا أمر طيب، ولا بأس بذلك.

(11/19)

جواز التفكير أثناء الصلاة في أمرٍ مشروع

الفائدة السادسة عشرة: أن الإنسان قد تتنازعه مسألة علمية وهو في الصلاة، قال: (يا ربِّ! أمي وصلاتي)، (أيْ ربِّ! أمي وصلاتي) فلا بأس أن يفكر بجوابها إذا كان لا بد أن يخرج بقرار الآن وهو في الصلاة، مثل أن يتردد هل يسجد للسهو أو لا، وجلس يفكر في الصلاة، هل يسجد قبل السلام أو بعده؟ وظل يتذكر أقوال العلماء ونحو ذلك، فهذا لا يضر بالصلاة؛ لأنه من مصلحة الصلاة.

(11/20)

دعاء الله بالتوفيق والصواب

الفائدة السابعة عشرة: أن الإنسان المسلم يحتاج أن يدعو ربه بالتوفيق للصواب؛ لأن جريجاً قال: (أيْ ربِّ! أمي وصلاتي) فالإنسان إذا تعارضت عنده مسألتان أو قولان أو رأيان ولم يدر أيهما أصوب، ماذا عليه أن يفعل بالإضافة إلى البحث والسؤال؟ أن يسأل الله أن يوفقه للقول الصواب، (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) هذا الدعاء قاله النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل، يدعو الله عز وجل، وهو النبي الذي يوحى إليه وهو أرجح الأمة عقلاً، وأعلمها بما علمه الله ومع ذلك يقول: (اهدني لما اختلف فيه) لاحظ! سبحان الله! النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك) نحن أولى؛ لأن الأمور تختلف علينا أكثر بكثير، فأولى أن نسأل الله إصابة الصواب.

وكان شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني الدمشقي رحمه الله تعالى إذا استشكل عليه الأمر، وصَعُب عليه يقول: يا معلم إبراهيم! علمني، ويا مفهم! سليمان فهمني، ولا زال يلح على الله ويدعو الله عز وجل حتى تنجلي له المسألة.

فأحياناً لا تكفي قضية البحث والتمعُّن وإمعان النظر، فإذا لم يأت من الله عون لا يمكن للإنسان أن يدرك الراجح.

(11/21)

وجود الحسدة في كل زمان ومكان

الفائدة الثامنة عشرة: أن هناك حَسَدَة.

بنو إسرائيل لما تذاكروا جريجاً وعبادته حسدوه، والبَغِيُّ لما قالت: (إن شئتم لأفْتِنَنَّه! قالوا: شئنا) {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] فحسد الصالحين على صلاحهم شيء موجود، وبعض الناس يُحْسَدون على أموالهم، ويُحْسَدون على ثيابهم، وعلى سياراتهم وبيوتهم، يعني: حسد على الدنيا، وبعض الناس يُحْسَدون على دينهم، فإن كان حسداً بمعنى الغبطة، يعني: أن يتمنى الإنسان أن يكون عنده إيمان قوي وعبادة مثل ما عند فلان من العباد، أما إن كان حسداً كأن يتمنى أن هذا الصالح يُفْتَن ويَضِل، كما قال بنو إسرائيل للبغي: (شئنا) يعني: تعرضي له، فهذه من المصائب، وهي موجودة، وقد يُبْتَلى بها بعض عباد الله الصابرين، يبتلون بمن يريد أن تزول عنهم الهداية، أن تزول عن هذا العابد الهداية وعن طالب العلم العلم، والعياذ بالله، فليس إلا الصبر والاعتصام بالله عز وجل.

(11/22)

وجود من يستغل إمكانياته في إضرار الناس

الفائدة التاسعة عشرة: أن بعض الفجرة يستعملون إمكاناتهم في إضرار الناس: انظر إلى المرأة هذه، فهي تستطيع أن تفجر مع أي إنسان، يعني: الباب مفتوح، تذهب إلى الراعي مباشرة من غير شيء؛ لكن قد يستجريها الشيطان ويجعلها تتفنن وتريد إضلال الإنسان التقي، يعني: هناك بعض الفاجرات يمكن أن تتخصص وتوجه جهودها لفتنة الصالحين، فالمسألة عندها ليست فقط مسألة قضاء وطر وشهوة مع فاجر مثلها وتنتهي القضية وإنما قضية كيد أيضاً.

(11/23)

كيد النسوة عظيم

الفائدة العشرون: أن كيد النسوة عظيم: والدليل على هذا أن هذه البغي خططت وذهبت إلى راعٍ يأوي إلى صومعة جريج، ما ذهبت إلى شخص بعيد، لا.

بل إلى راعٍ عند صومعة جريج، وأمكنته من نفسها، وأتت بالغلام بعد ولادته، ومرت به عند بني إسرائيل وقالوا: من أبوه؟ قالت: ذاك الرجل الذي في الصومعة، يعني: كأنها لا تعرف اسمه، فهذا من كيدهن، (إن كيدهن عظيم) وإذا استخدمت المرأة كيدها في الشر، فإنها تأتي بما لا يستطيعه الرجال طبعاً، مع أنها ضعيفة؛ لكن إذا كادت ابتعد عنها.

فهذه المرأة كادت له لتغويه، وتعرضت له، أول شيء قامت به أنها تزينت وتعطرت وتجملت وكشَفت وتعرضت له، يعني: وقفت في مكان يراها.

ولما لم يلتفت إليها انتقلت إلى الخطة رقم [2] أمكنت نفسها من الراعي، ولما حملت وولدت جاءتهم، ما قالت: أنا أحمل جنيناً، لا.

وإنما انتظرت حتى تلد، وهذا كله من أجل الكيد لهذا الرجل الصالح وتشويه سمعته.

وهذه القضية من القضايا المعاصرة، أن بعض الفاجرات تريد تشويه سمعة داعية أو رجل صالح، أو كذا، فتسارع إلى اتهامه، وتخطط لإيقاعه في حبائل الشر، فعلى الصالحين أن يحذروا، ولا يكون الإنسان مغفلاً.

حكى لي شخص قال: اتصلت بي فتاة، فأغلقت السماعة، ثم اتصلت مرة أخرى فأغلقت السماعة، وفي المرة الثالثة قالت: أيقظنا الفجر، فانظر إلى المداخل، المدخل هو الشيطان: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] والخطط يعني: مكر الليل والنهار، شيء متواصل، يدخلون من باب العبادة، أيقظني الفجر! وكذلك لو قالت مثلاً: لماذا لا تأتي إلى وتصلح بيني وبين زوجي؟! مَن التي دعته؟ هي التي دعته، إذاً هذا فخ، فالإنسان لا يذهب، ويكون مغفلاً! ويدخل، ويقول: أريد الإصلاح بين المتخاصمَين، ويقول في نفسه: هذه عبادة! انظر! المرأة الصالحة بنت الرجل الصالح، لما جاءت إلى موسى ماذا قالت له؟ هل قالت: تفضل معي، أريدك في موضوع؟ لا.

وإنما قالت: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25] من هو صاحب الدعوة؟ أبوها، ما هو السبب؟ ليجزيك أجر ما سقيت لنا، إذاً جاءت بكل وضوح، لو كان الرجل الصالح قادراً على الإتيان لأتى، لكنه كبير في السن وعاجز، فجاءت البنت، ما قالت له بوقاحة وقلة حياء: تعال معي، أريدك في موضوع، تفضل عندنا في البيت بل قالت: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} [القصص:25] ولِمَ الدعوة؟! ما هو الهدف؟! حتى يكون كل شيء واضحاً! {لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25] ولذلك قيل: إنه لما مشى وراءها وهبت الريح قال: سيري خلفي وانعتي لي الطريق، أو قال: ارمي بحصاة، يعني: إن كنت تريدين مني أن ألف يميناً ارمي الحصاة يميناً، وإن تريدين أن ألف شمالاً ارمي الحصاة شمالاً، حتى لا يراها ولا يسمع شيئاً.

وينبغي أن أقول: هذا درس مهم جداً؛ لأن هذه سبب مصائب كبيرة، أن الإنسان لا يُسْتَدْرج إلى الفخ الذي تنصبه الفاجرة، ثم تلبسه التهمة فتقول: هو الذي تعرض لي، هو الذي جاءني، مع أنها هي التي جاءته، لكن تقول: هو الذي جاءني.

وكذلك هناك من الشياطين من الرجال من يوقعون النساء بطرق ملتوية، وربما يزينون لهن الفجور، وكما أن المرأة تكيد للرجل فكذلك الرجل أيضاً كما هو مُشْتَهَر الآن، ويُسجل لها مكالمات ويهددها بإرسال الأشرطة إلى أبيها حتى تعطيه مفتاح البيت، وغيرها من القصص التي تسمعونها.

لكن المقصود: أن الإنسان يحذر أن يُسْتَدْرَج، ثم لو أنه وقع في أول الفخ لا يكمل الطريق؛ لأن العودة أسهل من الفضيحة التي ستكون بعد ذلك، سواء كان في الدنيا عندما يستفحل الأمر ويصل إلى الفاحشة والعياذ بالله، أو في الآخرة.

(11/24)

حرمة بناء المساجد من ذهب أو فضة

الفائدة الواحدة والعشرون: أن أماكن العبادة لا يجوز أن تكون من ذهب أو فضة أو أشياء تلهي الناس: يجب أن تكون بسيطة ما فيها تكلف ولا زينة ولا زخرفة ولا نقوشات ولا ألوان ولا كتابات.

فتتعجب من محاريب بعض المساجد مكتوب فيها: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران:37] من هو الذي في المحراب؟ مريم أم إمام، هذا الرجل الذي في المحراب؟! ما هي علاقة الآية بالمحراب الذي في المسجد؟! أولاً: الكتابة في المساجد وزخرفتها حرام وتضييع الأموال فيها حرام فبعض المساجد لا يحنث الإنسان إذا حلف أن قيمة الزخرفة التي فيها يمكن أن تبني بها عشرة مساجد في بعض دول المسلمين الفقراء.

(11/25)

ابتلاء الله للأولياء

الفائدة الثانية والعشرون: أن أولياء الله يبتلَون: كما ابتلي جريج بالضرب والسب وكسر بيته أو مكان عبادته.

وقد ابتلي بعض العلماء بحرق مكتبته.

وابتلي بعض الصالحين بأشياء كثيرة، أنواع من الابتلاءات يُبتلى بها الصالحون.

وقد كان ابتلاء جريج ابتلاء مادياً ومعنوياً، وذلك بأنهم كسروا صومعته وضربوه وشتموه وسبوه.

(11/26)

الحُسن قد لا يأتي بخير

الفائدة الثالثة والعشرون: أن الحُسْن قد لا يأتي بخير، الجمال يمكن أن يكون نقمة على صاحبه، قال في الحديث: (وكانت امرأة بَغِيٌّ يُتمَثَّل بحسنها) يعني: يُضْرَب المثل بجمالها، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فاظفر بذات الدين) والمرأة قد تكون جميلة؛ يمكن أن يوقعها الحسن والجمال في المعصية والفاحشة، وتكون هدفاً تُسْتَهْدَف، وبالتالي تقع، ولذلك الإنسان يكون حكيماً ولا يجري وراء الجمال، لا بد أن يكون الأساس هو الدين، وإن حصل الجمال فالحمد لله نعمة إلى نعمة، لكن إن تعارض الجمال والدين أيهما الأولى؟ تعارض الأولويات، فيقدم الدين بطبيعة الحال.

فالجمال قد يكون نقمة على صاحبه، وربما يكون إنسانٌ معرضاً للوقوع في الفواحش، وربما يستهدف من قبل الآخرين إذا كان عنده جمال، بينما إذا كانت خلقته عادية أو قبيح المنظر لا يتعرض له أي أحد، ولذلك الجمال ربما يكون نقمة وأحياناً قد يكون عدم الجمال نعمة في بعض المواضع.

(11/27)

تمسح الجهلة بالأولياء

وكذلك من فوائد الحديث: أن الجهلة إذا رأوا أمامهم كرامة يتمسحون بصاحبها: فإنه قال في الحديث: (فأقبلوا على جريج يقبلونه ويتمسحون به).

فيجب على الإنسان لو حصل منه شيء من ذلك ألا يفتح المجال لقضية التمسح وأن يبعد هؤلاء، ولكن قد يغلبونه بسبب كثرتهم، ولكن ينبغي أن يبين لهم الحكم وأن البركة من الله.

بعض الناس يتمسح بشخص ويقول: بركاتك يا سيدنا الشيخ، والبركة من الله، وليست موجودة في فلان ولا فلان، فمن هو مصدر البركة؟ الله عز وجل.

ثم قد يجعله الله في ماء زمزم؛ فيكون ماءً مباركاً.

وقد يجعله في ماء السماء؛ فيكون ماءً مباركاً.

وقد جعله في البيت الحرام؛ فكان بيتاً مباركاً.

وقد يجعله في بقعة؛ فتكون بقعة مباركة، مثل المسجد الأقصى وما حوله في بلاد الشام.

وقد يجعله في نوع من الطعام؛ {شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النور:35].

وكذلك قد يجعل الله البركة في أشياء قليلة فيكون القليل منها يكفي الكثير.

لكن مصدر البركة من الله، الناس ليسوا هم مصدر البركة، وإنما البركة من الله؛ لأن الكثرة والنماء والزيادة من الله، لأنها أشياء غير محسوسة، يعني: أنها لا تحس وإنما ترى نتائجها وآثارها، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (البركة وسط الطعام فكلوا من أطرافه) يأتي رجل ويقول: أنا أريد البركة، فيأكل من وسط الطعام، كل من حوافه؛ فإن البركة تنزل من الوسط على الجوانب؛ فإذا أذهبتَ الوسط ما الذي سينزل؟

(11/28)

تواضع العابد

ومن الفوائد كذلك تواضع العابد: فإنه قال: (أعيدوها من طينٍ كما كانت) ما قال: أريد تعويضاتٍ، وذهباً وفضةً، وأريد أمولاً، وما قال: ردوا اعتباري، قبِّلوا يديَّ، تمسحوا بي، ابنوها ذهباً، ما فعل ذلك، وإنما قال: فقط أنا عندي مطلب: (أعيدوها من طين كما كانت) وهذا يدل على تواضعه رحمه الله تعالى.

(11/29)

التذكر بعد حدوث مصيبة أو كارثة

وكذلك من الفوائد: أن الإنسان قد لا يتعلم إلا إذا نزلت به مصيبة أو كارثة: عند ذلك يتغير، فهو ضحك (قالوا: مِمَّ ضحكت؟ قال: من دعوة دعتها أمي) الآن عرف ما يمكن أن تصل إليه الأمور.

فالإنسان أحياناً لا يتعلم إلا بدرس يتلقنه، وما يعرف الصواب إلا بعد أن يُمْتَحن، وعندها يعلم ما كان ينبغي عليه أن يفعله.

فهذا بعض ما اشتملت عليه هذه القصة من الفوائد.

وننتقل بعد ذلك إلى الأسئلة.

(11/30)

الأسئلة

(11/31)

جواز الوقف قبل إتمام الآية إذا كان هناك عذر

السؤال

ما هو سر وقوفك في منتصف سورة الحمد، هل هناك دليل على ذلك؟

الجواب

ليس عندنا أسرار وإنما قد يحدث ضيق في النفس أو كتمة في الصدر أو في الصوت فأضطر إلى الوقوف، وإلا فلا فيها دليل ولا سنة معينة في الوقوف في موضع معين في الفاتحة، السنة الوقوف عند رءوس الآي فقط.

(11/32)

إعلام فاعل الخير فيما ينفق ماله

السؤال

أتى رجل بمائة ريال وقال للمؤذن: اشترِ بهذه سجادة للإمام، والجامع الحمد لله مفروش ولا يحتاج؟!

الجواب

يعيدها إليه ويقول: يا فلان! لا يُشرع أني أشتري سجادة للإمام؛ لأنها متوفرة ولكن وكلني أتصرف بها في شيء للمسجد أو طعام لمساكين ونحو ذلك.

(11/33)

التحذير من الفتوى بغير علم

السؤال

صلى نساء في مسجد فقرأ الإمام: {وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص:24] فسجد الإمام وسجد المأمومون، وركعت امرأة والمأمومون ساجدون، فلما قضيت الصلاة أخذت المرأة تقول: يا أخوات! لماذا سجدتن ولم تركعن؟ ألم تسَمْعَن عن ركوع التلاوة؟!

الجواب

ماذا تعني كلمة خَرَّ؟ تعني: من أعلى إلى أسفل، {وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص:24] فالسجود قد يطلق عليه ركوع، والخرور من أعلى إلى أسفل، وليس هناك شيء اسمه ركوع التلاوة، وإنما سجود التلاوة، فهذه المرأة عليها ألا تفتي بغير علم.

(11/34)

جواز قطع الصلاة للحاجة

السؤال

إذا سقط شخص مغشياً عليه أثناء تكبير الإمام تكبيرة الإحرام، هل يخفف الصلاة أحد المأمومين أو يقطعها؟

الجواب

إذا رأى الوضعَ خطيراً يقطع الصلاة لإسعاف الشخص.

(11/35)

(حال حديث: (لا يدخل الجنة ولد الزنا

السؤال

ما صحة حديث: (لا يدخل الجنة ولد زنا)؟

الجواب

حديث: (ولد الزنا شر الثلاثة) محمول على أنه إذا عمل بعمل والدَيه، وإذا صح الحديث؛ فإنه لا يدخل إذا عمل أو وقع في هذه الفاحشة، أما أن ولد الزنا في ذاته لا يدخل الجنة أو محروم من الجنة فهذا كلام باطل؛ لأن الله يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] ما له ذنب، فهو إنسان آدمي مثله مثل غيره، {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10] فإن كان صالحاً تقياً فإنه يدخل الجنة، وإن كان فاجراً شقياً يدخل النار.

(11/36)

كراهية وضع المباخر أمام المصلين

السؤال

هل المباخر في المساجد تشبهٌ بالمجوس؟

الجواب

إذا وضعت أمام المصلين، فإن ذلك يُكره؛ لئلا يكون فيها تشبهٌ بالمجوس أثناء الصلاة.

(11/37)

الواجب على من ترك قضاء أيام رمضان التي أفطر فيها

السؤال

والدتي تقول: إنها كان يمضي عليها شهر رمضان -قبل الزواج- وتأتيها الدورة الشهرية فتفطر، ولكنها لم تكن تعلم بأنها ملزمة بالقضاء، ولذلك لم تقضِ ما فاتها، وسألتها عن عدد الأيام التي أفطرتها فلم تستطع إحصاءها لمرور السنين العديدة!

الجواب

عليها التوبة إلى الله؛ لأنها لم تسأل مع إمكان السؤال، والمرأة المسلمة يجب عليها أن تتفقه في الأحكام الشرعية؛ الطهارة، الصلاة، الصيام، وإذا أرادت أن تحج تسأل عن الحج، وإذا أرادت أن تعتمر سألت عن العمرة، وهكذا، أما أن تبقى هكذا في جهل تنتظر الصدفة التي تتيح لها معرفة شيء، هذا خطأ.

فهذه المرأة عليها أن تقدر ما فاتها وتقضيه، وتطعم مسكيناً عن كل يوم كفارة التأخير.

(11/38)

نهي الوالدين عن المنكر بالتي هي أحسن والصبر على أذاهما

السؤال

إذا غضب علي والداي لإخراج منكر من البيت؟

الجواب

لا يستجاب لهما فيك ما دام أنك اتقيت الله، ومن أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، وبالحسنى وبالمعاملة الطيبة وبالكلمة الحسنة لعلك إن شاء الله تستجلب رضاهما.

(11/39)

ثبوت الوضوء في الشرائع السابقة

السؤال

هل الوضوء في الأمم السابقة نفس الوضوء الآن؟

الجواب

لا يشترط؛ لكن كان عندهم وضوء.

(11/40)

دعاء الأم ليس دائماً مستجاباً

السؤال

هل دعاء الأم دائماً مستجاب؟

الجواب

لا.

قد لا يستجاب، لكن في كثير من الأحيان يستجاب، ومظنة استجابة دعاء الأم والأب أكثر من غيرهما في الولد، ولذلك قال: (دعاء الوالد لولده، ودعاء الوالد على ولده) فدعاء الوالد والوالدة للولد وعلى الولد مظنة الاستجابة.

(11/41)

عدم وجوب الغسل عند الميقات

السؤال

هل الغسل عند الميقات واجب؟

الجواب

لا.

(11/42)

جواز الإحرام بدون غسل إذا كان هناك عذر

السؤال

في شدة البرد نحرم بدون غسل؟

الجواب

نعم.

(11/43)

دفع زكاة الفطر قبل وقتها

السؤال

دفعت زكاة الفطر يوم خمسة عشر من رمضان؟

الجواب

إذا دفعتها لشخص وكلته في إخراجها في الوقت الصحيح وهو ثقة فيجزئك ذلك.

(11/44)

قصة خشبة المقترض

أيها الأحبة: هذه رسالة تتعلق بعدة أبواب من أبواب الفقه، قد ساق الشيخ حفظه الله فيها حديث خشبة المقترض الذي أخرجه البخاري في صحيحه، وقد ذكر الشيخ الأحكام المستفادة من هذا الحديث، ثم تعرض لذكر طرق الشريعة في توثيق الدَّين، وحفظ الحقوق، وأحكام أخرى تتعلق بالدَّين.

(12/1)

حديث خشبة المقترض

الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فهذه القصة التي سنتحدث عنها الليلة -أيها الإخوة- تتعلق بباب من أبواب الفقه الإسلامي، أو عدة أبواب من أبواب الفقه.

وهذه القصة قد أخرجها الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، في كتاب: الكفالة، وكتاب: الزكاة، وكتاب: الاستقراض أو القرض.

وروى هذه القصة أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيداً، قال: فائتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلاً، قال: صدقت، فدفعها إليه على أجل مسمى -فدفع إليه الألف دينار على أجل مسمى- فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركباً يركبها ليقدم عليه للأجل الذي أجَّله، فلم يجد مركباً، فأخذ خشبة فنقرها، فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أني كنت تسلفتُ من فلانٍ ألف دينارٍ فسألني كفيلاً فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بك، وسألني شهيداً فقلت: كفى بالله شهيداً، فرضي بذلك، وإني جَهَدْتُ أن أجد مركباً أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني استودعكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف وهو في ذلك -يعني: مع هذا الإجراء- يلتمس مركباً يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه -على حسب الموعد- ينظر لعل مركباً قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطباً، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قَدِم الذي كان أسلفه، فأتى بالألف دينار -أخرى- فقال: والله ما زلتُ جاهداً في طلب مركبٍ لآتيك بمالك، فما وجدت مركباً قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إليَّ بشيء؟ قال: أخبرك أني لم أجد مركباً قبل الذي جئتُ فيه، قال: فإن الله قد أدَّى عنك الذي بعثتَ في الخشبة فانصرف بالألف الدينار راشداً).

هذا الحديث فيه ذكر رجل من بني إسرائيل، جاء في بعض الروايات أن الذي سلفه هو النجاشي، وأنه أُلْحِق ذكره ببني إسرائيل ونُسب إليهم بطريق الاتباع لهم لا أنه من نسلهم، فالله أعلم هل هو النجاشي أم غيره! رجل من بني إسرائيل كان يُسَلِّف الناس إذا أتاه الرجل بكفيل سلفه، جاءه شخص يريد أن يستلف ألف دينار، والألف دينار مبلغ باهظ، وإذا أردنا أن نحسبها الآن، فالدينار أربعة غرامات وربع من الذهب، أي: (1000 × 4.

25) أربعة كيلوات ذهباً وربع كم تكون، إذا حسبنا الكيلو بخمسين ألفاً؟ حوالي ربع مليون (225.

000)، يريد أن يستلف منه ربع مليون، قال: هات كفيلاً، (فأتني بالكفيل) -هذا ما عنده كفيل، رجل صادق لكن ما عنده كفيل- قال: كفى بالله كفيلاً -يعني: جعلت الله كفيلي، كفى بالله كفيلاً بيني وبينكم، لما لمس هذا صدق صاحبه- قال: صدقتَ.

وفي رواية: سبحان الله! نعم، والشهيد؟ قال: كفى بالله شهيداً

(12/2)

طرق توثيق الدَّين في الشريعة الإسلامية

الدَّين يوثَّق في الشريعة بأربعة أشياء هي طرق توثيق الدَّين في الشريعة: أولاً: الكتابة.

ثانياً: الشهود.

ثالثاً: الكفيل.

رابعاً: الرهن.

والأجل مجرد موعد.

وهذا من عِظَم الدَّين في الشريعة وحفظ حقوق الناس.

قال: (فائتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلاً.

قال: ائتني بالشهيد، قال: كفى بالله شهيداً، قال: صدقت، فدفعها إليه، فخرج في البحر فقضى حاجته) ركب هذا الرجل المستلف البحر بالمال يتاجر فيه، ويضارب ويتاجر به، فلما قضى حاجته وحل الأجل.

وفي رواية: (أنه لما جاء ليرجع أُرْتِج البحر بينهما) اضطرب البحر ولا يمكن ركوب البحر، أو أنه لم يجد مركباً يوصله إلى صاحبه على حسب الموعد، فالرجل ملتزم بالموعد، حريص على الموعد، رجل مؤمن، ما قال: كفى بالله شهيداً وكفى بالله كفيلاً إلا وهو صادق، فلما جاء ليرجع اضطرب البحر، أو أنه ارتج البحر بينهما، أو أنه لم يجد مركباً.

وفي رواية: (وغدا رب المال إلى الساحل يسأل عنه) على حسب الموعد كان في الشاطئ الآخر من البحر صاحب المال يسأل عنه ويقول: (اللهم أَخْلَفَني وإنما أعطيت لك) أنا أعطيت لك يا الله وهذا صاحبي أخلفني، والرجل الصالح -المستلِف- لم يجد سفينة يركبها، ولا مركباً يوصله، (فأخذ خشبه فنقرها -يعني: حفرها-.

وفي رواية: فنَجر خشبةً، وجعل فيها الألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه.

وفي رواية: وكتب إليه صحيفة: من فلان إلى فلان، إني دفعت مالك إلى وكيلي الذي توكل بي -لاحظ! لا توجد حيلة؛ فأنا وضعتها وعلى الوكيل -أن يؤديها إليك- ثم زجج موضعها) يعني: أصلح موضع النقر والحفر، أصلحه وسده؛ ليحفظ ما فيه، وجعل فيه شيئاً يغلقه ورماه في البحر متوكلاً على الله؛ لأن هذه الطريقة الوحيدة حتى يصل المال في الموعد، مع هذا دعا الله تعالى قائلاً: (اللهم إني تسلفتُ من فلان فسألني الكفيل وسألني الشهيد، ورضي بك وإني جهدت أن أرد إليه ما استطعت، اللهم أدِّ حَمالَتك) ودفعها حتى ولجت في البحر، وعلى الشاطئ الآخر كان الرجل ينتظر حسب الموعد، فلم يجد صاحبه، لكنه في النهاية وجد خشبه تتهادى على سطح الماء حتى ألقاها اليم بالساحل، فبدلاً من أن يعود بخفي حنين أخذ هذه الخشبة حطباً لأهله، فلما نشرها وقطعها بالمنشار وجد المال.

وفي رواية: (وغدا رب المال يسأل عن صاحبه كما كان يسأل، فيجد الخشبه فيحملها إلى أهله فقال: أوقدوا هذه، فكسروها فانتثرت الدنانير منها والصحيفة فقرأها وعرف -قرأ الرسالة ووصلت الأمانة- ثم قدم الذي قد كان أسلفه -وجد مركباً بعد ذلك وجاء- فأتى بالألف دينار، فأتاه رب المال -في رواية- فقال: يا فلان، مالي؟ قد طالت النظرة -الانتظار طال لم تأتِ- فقال: أما مالك فقد دفعته إلى وكيلي -الله - وأما أنتَ فهذا مالك -وأعطاه ألفاً أخرى.

وفي رواية: هذا ألفك، فقال: لا أقبلها منك حتى تخبرني ما صنعتَ، فأخبره بالذي صنع فقال: لقد أدى الله عنك، انصرف بالألف الدينار راشداً) يعني: ألفك هذا أمسكه؛ لأن الألف الأولى وصلت.

وفي رواية: قال أبو هريرة: (ولقد رأيتنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبُر مراؤنا ولغطنا أيهما آمَن) أيهما أكثر أمانة؟ الأول أم الثاني؟! الأول الذي كان حريصاً على دفع المال حسب الموعد أم الثاني الذي قال: ألفك وصلت.

(12/3)

ما يستفاد من الحديث

هذا الحديث فيه فوائد عظيمة للغاية منها: أولاً: مشروعية الاقتراض عند الحاجة.

ثانياً: أن الأجل في القرض جائز.

وكتابة الأجل في القرض جائز، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282].

ثالثاً: وجوب الوفاء بالدين.

أي: وجوب الوفاء بالموعد الذي حدده الإنسان لنفسه فيما بينه وبين صاحبه.

وكثير من الناس الآن الذين يعَدِون بإرجاع المبالغ في الوقت المعين لا يرجعونها في الوقت المعين، فإما أن يؤخروه وإما أنهم لا يعيدوه أصلاً؛ وهذا حال كثير من الناس مع الأسف.

رابعاً: اتخاذ كافة الوسائل والأسباب لإعادة الدَّين إلى صاحبه في الوقت المعين.

ولنا في هذا الرجل مثلٌ وقدوة، كيف أنه لما لم يجد مركباً ولا يريد أن يتأخر عن صاحبه، والمسألة فيها الله شهيداً وكفيلاً، فوضعها في الخشبة، وأرسلها في البحر مع احتمال الوصول وعدمه؛ خشبة في البحر ربما تغرق، أو تذهب إلى شاطئ آخر، ولو وصلت إلى الشاطئ نفسه ربما يظهر عليها شخص آخر ويأخذها.

خامساً: أن الله إذا استودِع شيئاً حفظه.

قال: (اللهم إني أستودعكها) والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن الله إذا استودِع شيئاً حفظه) قال تعالى: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64] والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا ودع رجلاً يقول: (أستودِع اللهَ دينَك وأمانتَك وخواتيمَ عملك) لأن الله إذا استودِع شيئاً حفظه.

سادساً: التوكل على الله، وأن من صح توكله على الله تكفَّل الله بعونه.

ودليل ذلك في الخشبة لأنها وصلت في الوقت السليم؛ ربما تضيع، أو تصل بعد شهر، لكن عناية الله جعلتها تصل في الوقت المعين، والموعد عند الرجل الذي كان ينتظر على الشاطئ.

سابعاً: أن لقطة البحر تؤخذ:- فلقطة البحر طبعاً حكمها حكم اللقطة وهذا الرجل وجد الرسالة وعرف أنه هو المقصود، وأن المال ليس لشخص آخر، وإنما المال له ولذلك أخذها.

ثامناً: مشروعية الكفالة.

وأن النبي صلى الله عليه وسلم تحدث بذلك وقرره.

تاسعاً: فيه التحديث عن أنباء الأمم ممن قبلنا مما كان لديهم من العجائب؛ لتتعظ هذه الأمة وتتأسى.

فنحن ننقل أخبار مَن قبلَنا لكي نتأسى بها، ونستفيد، من هذه الخبرات والتجارب.

عاشراً: فيه أن الكاتب يبدأ بنفسه في الكتابة.

إذا شرع الإنسان بكتابة مكتوب يقول: من فلان؛ يعني: هو الكاتب الآن، من فلان إلى فلان.

والبخاري رحمه الله وضع هذا الحديث في كتاب: الاستئذان في باب: بمن يُبدأ في الكتاب؟ باسم المرسِل أم باسم المرسَل إليه؟! ونحن الآن عادتنا نقول: الأخ فلان الفلاني، السلام وعليكم ورحمة الله.

والطريقة التي كان النبي عليه الصلاة والسلام يكتب بها الرسائل، وكان العلماء يكتبون بها الرسائل: من فلان إلى فلان، فالمرسِل يكتب اسمه أولاً ولعلها قد حصلت بعض الظروف التي جعلت بعض الصحابة يكتبون المسألة بالعكس، مع أن السنة أن يبدأ الكاتب بنفسه، وهو مستحب وليس بواجب أن يبدأ الكاتب بنفسه.

وغالب أحوال ابن عمر أنه كان يفعل ذلك، ولكن جاء بإسناد صحيح أن ابن عمر أراد أن يكتب حاجة إلى معاوية فأراد أن يبدأ بنفسه من عبد الله بن عمر إلى معاوية، فلم يزالوا به حتى كتب: [بسم الله الرحمن الرحيم، إلى معاوية].

وكتب عبد الله بن عمر إلى عبد الملك يبايعه: [بسم الله الرحمن الرحيم، لـ عبد الملك أمير المؤمنين من عبد الله بن عمر، سلام عليك] فالأصل والسنة في الكتابة أن يكتب اسمه أولاً.

الحادي عشر: ومن فوائد هذا الحديث: أن ما يلفظه البحر مما نشأ في البحر أو عطب وانقطع ملك صاحبه فإنه يجوز للإنسان أن يأخذه ودليل ذلك أن الرجل الذي وجد الخشبة قد أخذها حطباً.

والبخاري رحمه الله وضع هنا الحديث أيضاً في كتاب: الزكاة في باب: ما يستخرج من البحر، ما يستخرج من البحر من اللؤلؤ والمرجان والياقوت ليس فيها زكاة عند جمهور العلماء.

الثاني عشر: كذلك من فوائد هذا الحديث: أن الإنسان المسلم يتعامل مع الناس بحسب الناس.

فإذا رأى ملامح الصلاح وتفرس في وجه مَن يطلب منه طلباً الصدق هون معه في المعاملة ولان، وإذا رأى في ملامح وجهه أنه يتعامل معه شيء من الغدر أو اللؤم أو الخبث، فإنه يحتاط، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا تستجاب دعوتهم: … ذَكَرَ منهم: ورجل آتى سفيهاً مالاً ولم يُشهد عليه) والمقصود لا يستجاب لدعوتهم في خصومهم، فلو أنه أعطى مالاً لفاسق ولم يُشهد عليه، يستحق إذا ضاع ماله.

ولو ادعى عليه فلا يستجاب له لأنه هو المقصر، فكيف يعطيه مالاً ولا يشهد عليه؟! فإذاً إذا كان الإنسان يتعامل مع صاحب دين وأمانة فيمكن أن يخفف معه في الشروط، ويتسامح معه في الشهود والكتابة أما إذا تعامل مع واحد صاحب فسق وفجور وخيانة، أو إنسان مجهول فيحتاط، وإذا لم يأخذ الاحتياطات استحق ما يأتيه بعد ذلك، فبعض الناس يقولون: والله أنا وثقت في فلان وجاءني وأعطيته، ولا يوجد لديه كتابة ولا شهود إذاً بأي وجه تطالب الآن؟! أنت المقصر في كتابة الدين والإشهاد عليه، والشريعة جعلت لك أربعة طرق لتوثيق الدين، ولم تستخدم واحداً منها.

إذاً: الإنسان لا بأس عليه أن يكتب، وبعض الناس يظنون ويعتبرون أن الكتابة عيب؛ وهذه من المشاكل التي تواجه بعض الناس فإذا جئت تستلف منه، ويريد أن يقول لك: اكتب، يستحي، ولو طلب تجد الآخر يقول له: عيب يا أخي، ليس بيننا كتابات، وأوراق.

فنذكرهم بقول الله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة:282] لأنه سيشهد على نفسه، فالمستلف هو الذي يملي، قال الله: {وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا} [البقرة:282].

وهذه الإجراءات شديدة لأجل حفظ حقوق الناس، والحيلولة في وقوع الناس في الشحناء، والبغضاء، والعداوات، والمقاطعات، والهجر.

فلذلك تُكتب الأشياء حفظاً لها من الضياع، ومنعاً للخصومات والكتابة تمنع هذه العداوات وقد يكون كلا الطرفين ثقة لكن لما يأتي يطلب منه يظن أن المبلغ شيء آخر، وكلاهما أمين وصادق، لكن يقول: يا أخي أنا الذي أذكر أنك أعطيتني ثلاثة آلاف، يقول: لا.

يا أخي، ثلاثة آلاف وخمسمائة، فالآن تظهر فائدة الضبط والكتابة وهي ليست فقط قضية أني لا أثق فيه، أو قضية أني خائف أن يخونني، أيضاً هي قضية قطع الخصومات والجدال؛ لأننا إذا كتبنا عَرَفَ كل من الطرفين ما عليه وما له، وإذا لم نكتب فإنه مع الزمن وتوالي الأيام ينسى الإنسان والذهن معرَّض للنسيان.

وما سمي الإنسان إلا لِنَسْيِهِ ولا القلب إلا أنه يتقلبُ

فما دامت المسألة معرضة للنسيان، فالعمل بالكتابة أحوط.

وكثير من الحقوق ضاعت بسبب عدم الكتابة فعندما يأتي إلى الساعة الحرجة، وليس عنده إثبات، ويقول: نحن إخوان، ولقد استحيت أن أطلب منه.

وقالوا الجماعة: عيب أن تكتب.

والله سبحانه وتعالى أمر بالكتابة وهذا يقول: الكتابة عيب، يقولون: عيبٌ الكتابة، والله أمر بالكتابة: {فَلْيَكْتُبْ} [البقرة:282] وبعض العلماء ذهب إلى وجوب كتابة الدَّين، وجمهور العلماء على أن الكتابة مستحبة؛ وهي غير قضية التوثيق والضبط حتى لا يختلفا في المبلغ، وكم أدت هذه إلى مشاحنات ومقاطعات بين الناس!

(12/4)

أحكام القرض في الشريعة

بعد هذا تعالوا نلقي نظرة على الدَّين، وأحكام القرض في الشريعة الإسلامية.

أما الدَّين: فإنه القرض، أَدَنْتُ فلاناً، أي: أَقْرَضْتُهُ، والدَّين لزوم حقٍ في الذمة.

والقرض: القطع؛ لأن المقرض يقطع شيئاً من ماله ليعطيه للمقترض.

وتعريف القرض شرعاً: دفع مالٍ لمن ينتفع به، ويرد بدله.

(12/5)

ألدين أعم أم القرض؟

وهناك مسألة هل الدَّين أعم أم القرض أم كلاهما بنفس المعنى؟ الدَّين أعم.

لأنه يشمل المال والحقوق غير المالية أيضاً؛ كالصلاة الفائتة، والزكاة، والصيام، حتى ديون الله، فلو أن واحداً مثلاً لم يصم لسبب، فيكون عليه دين لله فيقضيه في أيام أخر.

الدين ما ثبت بسبب قرض، أو بيع، أو إجارة، أو إتلاف، أو جناية، ويشمل حقوق الله وحقوق الآدميين، ويشمل الأشياء المالية وغير المالية.

أما القرض فهو خاص بالأشياء المالية؛ سُمِّي القرض قرضاً؛ لأن المقرض يقطع شيئاً من ماله ليعطيه للمقترض.

إذاً القرض هو: دفع مالٍ لمن ينتفع به، ويرد بدله.

لماذا قلنا: يرد بدله؟ لأنه ليس المطلوب أن يرده هو وإنما يرد مثله، وإلا لو كان يرده هو لتحول القرض إلى عاريَّة، لكن القرض أن يأخذ شيئاً فيرد مثله؛ وهو من باب الإرفاق، وهو مستحب وفيه أجر عظيم: (ما من مسلم يُقرِض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقة مرة) والقرض يجري مجرى شطر الصدقة، وإذا سلفه وحل الوقت له مثله، وتجاوز الوقت له مثليه من الأجر، وفيه تفريج كربات المسلمين، ومنع لهم من الاستدانة بالربا ونحو ذلك.

ولا يصح القرض إلا من إنسان جائز التصرف.

ولا يجوز الاقتراض من: مجنون: المجنون لا يقرض، لأنه غير مؤهل.

الصغير الذي لا يميز.

وكذلك ولي اليتيم: لا يجوز له أن يُقرض من مال اليتيم.

وكذلك الأمانات: لا يجوز الإقراض منها؛ وهذا خطأ يقع فيه عدد من الناس، يقرضون من الأمانات المودوعة عنده لرجل ثانٍ من غير إذن صاحب الأمانة؛ وهذا حرام، فالأمانة تُحفظ ولا يستلف منها.

وبعض الناس يقرضون من التبرعات مثل: رجل عنده أموال لبناء مسجد، فيذهب يقرض منها، بأي حق؟! هذه لبناء مسجد فلا يجوز الإقراض منها، وما حصل هذا إلا بسبب الجهل الذي جعل بعض الناس يتورطون في مثل هذا.

(12/6)

كل قرض جر نفعاً فهو ربا

كذلك من قواعد القرض: أن (كل قرض جر نفعاً فهو ربا)، هذا ليس حديثاً صحيحاً مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه قاعدة شرعية صحيحة، (كل قرض جر نفعاً فهو ربا)، فلو شرط القارض على المقترض زيادة، أو شرط عليه فائدة، أو شرط عليه هدية، أو شرط عليه خدمة، قال: أقرضك بشرط أن توصلني إلى كذا، نقول: حرام لا يجوز، اشترط عليه: أن يسكنه داره سنة، قال: أقرضك بشرط أنك تعطيني سيارتك سنة، فهذا حرام؛ (كل قرض جر نفعاً فهو ربا) لأن القرض عقد إرفاق وإحسان يبتغي فيه المقرض وجه الله، إذا جاء يشترط على الناس ويأخذ مقابلاً، ويأخذ خدمات على ذلك يبتغي به وجه الله، وخرج عن موضوعه الذي هو التقرب إلى الله، وصار يريد استفادات دنيوية، والربا شديد (كل قرض جر نفعاً فهو ربا).

ولو تساءلنا ما هي الزيادة الممنوعة؟ والخدمة الممنوعة المشروطة؟ أما إذا كانت غير مشروطة فلا بأس بأخذها، كأن يكون أقرض الآخر مالاً فلما جاء ليعيده إليه أعاده إليه مع هدية، ولا يوجد شرط سابق أبداً، إذا كانت العادة جرت بينهما على هذا فلا بأس أن يأخذها.

(جرت العادة) هذا متعلق بمسألة أخرى غير هذه المسألة: هل يجوز للمقترض أن يؤدي شيئاً من الخدمات، أو من الهدايا إلى المقرض قبل أداء القرض؟ الآن عرفنا إذا اقترض إنسان منك مبلغاً ثم أعاده إليك زائداً بهدية؛ سواء الهدية مالاً أو غير مال، ولم يكن مشروطاً من قبل، فإنه يجوز لك أن تأخذه، و {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [الرحمن:60] إنما جزاء السلف: (خياركم أحسنكم قضاءً) وقد استسلف النبي صلى الله عليه وسلم بكراً فرد خيراً منها، (خيركم أحسنكم قضاءً) هذا من مكارم الأخلاق، ما دام أنه لم يكن شرطاً ولم يتواطئوا، وإنما هو تبرع وهدية من المقترض من باب الإحسان والشكر والعرفان، فلا بأس أن تأخذها وليست رباً ولا حراماً.

ما حكم أن يعطيك شيئاً قبل أن يرده؟ يعني: الآن الموعد بعد سنة، وبعد ستة أشهر أعطاك هدية، ما حكمها؟ إن جرت العادة بينك وبينه بأخذ هذه الهدية، أو مثل هذه الهدية، بينك وبينه مثل هذه التعاملات قبل القرض، فلا بأس أن تأخذ هذه الهدية، وإلا فلا.

ويجب على الإنسان أن يلتزم بالموعد الذي حدده بالأجل بينهما، وإلا كان ظالماً، وهذه المماطلات التي يأتي الإنسان يطلب حقه، يقول: ما عندي، فيما بعد، ويكذب، يعد ويُخلف، ونحو ذلك؛ هذا الذي جعل كثيراً من الناس يحجمون عن الإقراض، وبالتالي اضطر أناس آخرون أن يقترضوا بالربا.

(12/7)

الدين بالعملات

من الأحكام المتعلقة بالقرض أيضاًَ: أن الإنسان إذا استلف بعملة فما دامت العملة معمولاً بها ولها قيمة فإنه لا يرد إلا بها طلعت أو نزلت، لا يرد إلا بالعملة التي استلف بها إلا إذا كانت العملة هذه صارت لا تساوي شيئاً، كانت الألف ريال بليرة، صار مثلاً الريال بمليون ليرة، إذاًَ: صارت الليرة هذه تقريباً ما لها قيمة، فإذا كانت العملة ألغيت أو صار لا قيمة لها، فعند ذلك ننظر مثلاً: المبلغ الذي اقترضه كم يساوي من الذهب؟ مثلاً: مائة غرام، نقول: رد عليه مائة غرام ذهباً، أما إذا كان لها قيمة ولا زالت موجودة فإنه لا يرد إلا بالعملة التي اقترض بها طلعت أو نزلت، فكما أنها معرضة للنزول فهي معرضة للصعود.

كذلك فإن الدين -كما تقدم- منه ما هو دَين لله عز وجل؛ كصدقة الفطر، وفدية الصيام، والنذور، والكفارات.

ومنها: ما هو دَين للعباد؛ كأجرة الدار، ومقابل الإتلاف، وأرش الجناية.

وكذلك فإن الدين ينقسم إلى قسمين باعتبار وقت الأداء: فمنه ما هو دين حالٌّ: وهو ما يجب أداؤه عند طلب الدائن ويسمى الدين المعجل.

ومنه ما هو دين مؤجل: وهو الذي لا يجب أداؤه قبل حلول الأجل.

مثل: أن يقول: سلفني، يقول: هذه ألف، ومتى ما طلبتُها منك تعطيني إياها، مفتوحة الأجل وهذا معجل.

والدَّين المؤجل أن يقال: هذا الدين إلى سنة، قبل السنة لا يطالب به صاحب المال، لا حق له بالمطالبة؛ لأنه أعطاه سنة، وأجلاً معيناً.

وكذلك فإن التوثيق بالكتابة المذكور في قوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] يتأكد فيمن يخشى ضياع الدَّين، أو النسيان، أو الإنكار.

وكذلك: فإن الشهادة تكون بشهادة رجلين، أو رجل وامرأتين ممن ترضون من الشهداء من العدول الثقات.

وكذلك: فإن الإنسان إذا استلف مالاً يجوز له أن يتصرف فيه كما يشاء؛ لأن القاعدة تقول: (الدين عقد تمليك) عقد تمليك يعني: بمجرد ما استدنت أنت ملكت المال، وصار ملكك، ولذلك عليك الزكاة، لو بقي المال في ملكك، سنة فعليك زكاته؛ لأنك ملكت المال، ودار عليه الحول فوجبت فيه الزكاة.

(12/8)

حكم بيع الدين

وكذلك من الأحكام: أن الدَّين لا يجوز بيعه، مثلاً: أقول: أنا مقترض من واحد مثلاًَ مائة ألف، أو أقرضتُ واحداً مائة ألف، فأذهب وأقول لشخص: هات تسعين، واذهب أنت وحصِّل الدَّين، أبيعك المائة المؤجلة هذه بتسعين، هات التسعين، بعتُك الدَّين، الذي لي على فلان بِعْتُكَهُ بتسعين؛ هذا بيع للديون ولا يجوز.

فهذه بعض الأحكام المتعلقة بالدَّين.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الأوفياء الذين يوفون بالعهد.

(12/9)

الأسئلة

(12/10)

حكم من أحرم بالعمرة ثم تركها

السؤال

شخص أراد العمرة وعند وصوله إلى مكة هو وزوجته مع ابنه الرضيع خاف على ابنه من الزحام ورجع ولم يعتمر فما الحكم؟

الجواب

كان وضع الابن مثلاً مع الزوجة، وكونه رجع الآن فهو لا زال على إحرامه وعليه أن يعود، ويحرم عليه قربان الزوجة، يجب عليه أن يعود، ولا ينفك الإحرام إلا بالعمرة.

(12/11)

إدراك الصلاة الثلاثية وراء إمام يصلي رباعية

السؤال

هل يمكن أداء صلاة ثلاثية وراء إمام يصلي رباعية؟

الجواب

نعم.

إذا قام إلى الركعة الرابعة، تجلس أنت وتنتظر حتى يسلم وتسلم معه.

(12/12)

حكم ترك الصلاة في المسجد المجاور

السؤال

هل يجوز أن يَتَعَدَّى المسجد الذي في الحي؟

الجواب

نعم، يحوز أن يتعدى المسجد الذي في الحي إلى مسجد آخر لسبب، كأن يحضر درساً، أو أن يكون يرتاح إلى ذلك الإمام أكثر، أو يخشع وراء قراءته أكثر، لكن بشرط ألا يؤدي ذلك إلى مفسدة كعداوة بينه وبين إمام الحي، أو أن يقول له: أنت لا تصلي وراءنا، أنت مثلاً تشك فينا، أنت كذا، أو لا يؤدي إلى هجر مسجد الحي بحيث لا يكاد يصلي فيه أحد، أما إذا كان في مسجد الحي جماعة ولا يُخشى من وجود سوء علاقة بينه وبين الإمام فإن له أن يتخطاه.

(12/13)

حكم استخدام مال فائض جمع لصيانة مسجد

السؤال

جمعنا تبرعاتٍ لصيانة المسجد ثم زاد بعض المال من التبرع، هل نجعله لصالح تحفيظ القرآن؟

الجواب

لا بد من استئذان المتبرع، وإذا لم يأذن، أو لم تجده تُجْعَل وتَبْقَى للصيانة، وربما في المستقبل يحتاج إلى صيانة، أو يُنقل إلى صيانة مسجد آخر مثلاً، إذا تعطل لا يمكن الانتفاع به في صيانة هذا المسجد، أقرب ما يمكن لنية المتبرع.

(12/14)

موقف المأموم من الإمام في الصلاة

السؤال

إذا صلى اثنان جماعة أين يقف المأموم بالضبط؟

الجواب

يقف بمحاذاة الإمام بالضبط، لا يتقدم عنه ولا يتأخر، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام في الليل قام ابن عباس بجانبه فتأخر عنه، فالنبي عليه الصلاة والسلام قدمه إلى جانبه، فتأخر، بعد الصلاة قال له عليه الصلاة والسلام: (ما لي أجعلك حذائي في الصلاة فتخنس؟! -لماذا أجعلك بجانبي في الصلاة وأنت ترجع إلى الخلف؟! - فذكر له ابن عباس رضي الله عنه أنه لا يليق به أن يكون بجانب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه عند صاحب المقام المعلوم فتأخَّرَ عنه فدعا له النبي عليه الصلاة والسلام بالخير).

والمقصود: أن الإنسان إذا صلى بجانب إمام يصلي بجانبه بالضبط لا يتقدم عنه ولا يتأخر.

(12/15)

جمع الصلاة الفائتة

السؤال

سوف أذهب إلى مكة ثلاثة أيام، هل أجمع في الفندق إذا نمت عن الصلاة؟

الجواب

نعم، إذا لم تصل مع الجماعة وفاتت عليك الصلاة تجمع.

(12/16)

حكم لبس القفازات للمرأة

السؤال

هل لبس القفازات للمرأة واجب؟

الجواب

إذا سترت يديها بأكمام العباءة لا بأس، وإذا لك تستر يديها لا بد أن تلبس شيئاً كالقفاز.

(12/17)

حكم مال الربا للوارث

السؤال

رجل يتعامل بالربا هل ماله للورثة حلال؟

الجواب

إذا علموا منه الربا أخرجوه من ماله.

(12/18)

معنى: (اللهم لا مانع لما أعطيت)

السؤال

ما معنى: (اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ)؟

الجواب

يعني: إذا أعطيتَ شيئاً لا يمنع أحدٌ عَطِيَّتَك، ويعني: إذا منعتَ أحداً لا يمكن لشخص أن يعطيه، والجَدُّ هنا معناه: الحظ والنصيب والمال، يعني: صاحب الجاه والمال لا ينفعه جاهه ولا ماله عندك، لا ينفعه إلا عمله الصالح، (ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ) وهذا من أدعية الاستفتاح.

(12/19)

السنة في المضمضة والاستنشاق

السؤال

ما هي السنة في المضمضة والاستنشاق؟

الجواب

أن يأخذ بكفٍ واحدة، جزء للمضمضة وجزء للاستنشاق، ثم يعيد العملية ثلاث مرات.

(12/20)

حكم قراءة سورة (الكافرون والصمد) في صلاة المغرب

السؤال

هل قراءة (الكافرون) و (الصمد) في ركعتي المغرب والفجر ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم؟

الجواب

نعم، وكذلك هي ثابتة في ركعتي الطواف، والسنةٌ أن يقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] في الركعة الثانية.

(12/21)

كيفية دفن المرأة الكافرة وبها جنين

السؤال

ما هي كيفية دفن امرأة ماتت على الكفر وبها جنين على الفطرة؟

الجواب

طبعاً الجنين يُلْحَق بوالدَيه، تُدفن في أرض الكفار، لكن إذا كان زوجها مسلماً؛ وهي كتابية محصنة، وعقد الزواج صحيح، وحملت ثم ماتت والجنين في بطنها، فالجنين يتبع أباه؛ لأن الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه، والجنين تابع للأب؛ وتجري عليه أحكام المسلمين، والأم كافرة يهودية أو نصرانية، قال العلماء: تُدفن في أرض ثالثة، لا هي من مقابر المسلمين، ولا هي من مقابر الكفار، أرض خاصة معدَّة لمثل هذه الحالات، لا تُدفن في أرض المسلمين لأنها كافرة، ولا تدفن في مقبرة الكفار لأن فيها جنيناً لرجل مسلم فتُخَصَّص قطعة في المقبرة خاصة لمثل هذه الحالات تُدفن فيها.

(12/22)

حكم المسابقات التي يكون فيها جوائز

السؤال

ما حكم المسابقات التي يكون فيها جوائز؟

الجواب

سبق الكلام أنه لا يجوز جعل جوائز عن مسابقات إلا إذا كانت مسابقات فيها تدريب على أمور الجهاد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا سبق إلا في نَصْلٍ، أو خُفٍّ، أو حافِر) يعني: الجياد والخيل والإبل، والنصال: السهام، وما يُقاس عليها من الأسلحة الحديثة، وأَلْحَقَ شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم المسابقة في حفظ القرآن والسنة؛ أما المسابقات الأخرى المباحة غير ما يُعِين على نشر الدين فلا يجوز أن تُجعل فيها جوائز؛ وهذا قول جمهور العلماء وإن خالف الملايين في عصرنا!

(12/23)

ترتب الإثم على المماطلة في سداد الدَّين

السؤال

إذا كان شخص عليه دين وفي وقت التسديد لم يحضر لأنه لا يستطيع السداد وظل يعد ويماطل، فهل عليه إثم؟

الجواب

عليه إثم في المماطلة، يقول: يا أخي ليس عندي، لا أستطيع أن أعدك، حالما يتوفر آتي لك بالمال، أما أن يعد ويعلم أنه لا يستطيع فلا يجوز.

(12/24)

حكم استعمال السواك الأخضر في رمضان

السؤال

ما حكم استعمال السواك الأخضر في رمضان؟

الجواب

من المفطرات، ولا يجوز استعمال السواك الأخضر؛ أما السواك العادي الطبيعي المعروف فيجوز استعماله، والسواك الأخضر؛ هو الغصن.

(12/25)

مذهب أهل السنة والجماعة في القدر

السؤال

ما مذهب أهل السنة والجماعة في القَدَر؟

الجواب

نؤمن أن الله سبحانه وتعالى قدَّر الأقدار قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وأنه عَلِمَ ما كان وما يكون وما لو كان كيف سيكون، وأنه خلق أفعال العباد سبحانه وتعالى، عِلْمُ الله الأزلي الكامل من جميع الجهات، تقدير الله للمقادير، التقدير الذي قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة أن الله خلق أفعال العباد.

(12/26)

تغيير الرأي بعد الاستخارة

السؤال

هل يجوز للإنسان أن يغير رأيه بعد الاستخارة؟

الجواب

نعم، ممكن، يريد أن يغير رأيه إلى نية أخرى وشيء آخر ويستخير مرة أخرى.

(12/27)

الوقف في القراءة

السؤال

الوقف الذي حصل في الصلاة في قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]!

الجواب

هذا تنبيهٌ طيب بلفت النظر إلى موضع الوقف الصحيح، وأي وقف يغير المعنى فإنه وقفٌ خاطئ؛ إلا إذا انقطع النَّفَس فإن الإنسان يرجع إلى موضعٍ مناسب ويبدأ منه، أي: قبل هذا المكان الذي وقف فيه، ويبدأ منه، وأنا قد يحصل معي في الصلاة في سورة الفاتحة بالذات أحياناً شيء من الانحباس في النَّفَس فأقف لا لأجل وجود سنة في هذا الموضع ولا شيء؛ لكن لأجل احتباس النَّفَس فقط، أما السنة فهي الوقوف عند رءوس الآيات، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:1] تقف، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2] تقف.

(12/28)

حكم من مات وعليه دين

السؤال

إذا استلف رجل من آخر فمات؟

الجواب

على ورثته أن يؤدوا دَينَه من تركته، أو يتحملوها هم؛ يؤدونها مأجورين.

(12/29)

حكم ترجمة الخطبة إلى غير العربية

السؤال

نحن من مسلمي بنغلاديش، وهناك في بعض المخيمات مساجد يصلي فيها بنغلاديشيون، نترجم لهم بالبنغالية قبل الخطبة بالعربية، فما حكم ذلك؟

الجواب

لا بأس بذلك، ولكن لو جَعلتم الترجمة بعد الخطبة أحسن، يعني: تكون البداية في الخطبة بالعربية ثم تترجمون لهم بعد ذلك بالبنغلاديشية بعد الصلاة.

(12/30)

قصة صاحب الحديقة

إن أولياء الله عز وجل يعرفون حق الله عليهم؛ فيؤدون أعظم ما طلب الله منهم، ويتنافسون في الخير والقربى إلى الله عز وجل؛ لذلك كانوا يستحقون أن يكونوا أولياء، وأن تقع لهم الكرامات الإلهية؛ جزاء أعمالهم الطيبة، وقد تناول الشيخ حديث صاحب الحديقة، وما له من كرامات، ثم تطرق بعد ذلك لبيان أحكام النفقة، ومن تجب عليهم ومن لا تجب.

(13/1)

نص حديث صاحب الحديقة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فهذه قصة عظيمة تتعلق بالصدقة والنفقة، يرويها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بينا رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتاً في سحابة يقول: اسقِ حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرَّة، فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحوِّل الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله ما اسمك؟ قال: فلان، للاسم الذي سمع في السحابة، فقال: يا عبد الله! لِمَ تسألني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسقِ حديقة فلان لاسمك، فما تصنع فيها؟ قال: أمَّا إذا قلتَ هذا، فإني أنظر إلى ما يَخرج منها فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثاً، وأردُّ فيها ثلثه) هذا حديث صحيح أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى وأحمد في مسنده في كرامة وليٍّ من أولياء الله كان مشهوراً بالصدقة، والإنفاق في سبيل الله.

وقد حصل أن رجلاً كان يمشي بفلاةٍ من الأرض فسمع صوتاً في سحابة، ولعل هذا الصوت صوت ملَك من ملائكة الله عز وجل، يقول: (اسقِ حديقة فلان) -يأمر السحاب، فالسحاب تنحَّى إلى حرَّة؛ وهي الأرض الملبسة بالحجارة السوداء، تنحَّى السحاب إليها، وأفرغ ماءه فيها كله- (فإذا شرجة من تلك الشراج) شرجة من تلك الشراج، وهي: مسايل الماء في الحِرار أو الحرَّة، فيها طرق وأخاديد تمشي فيها المياه وتسيل، إحدى الشراج استوعبت الماء الذي أُمطر على الحرَّة كله، فتتبع الماء إلى أين يذهب؛ فإذا الماء يذهب إلى حديقة وبستان معين، وإذا رجل في البستان يحوِّل الماء بمسحاته، صاحب الحديقة يحوِّل الماء بالمسحاة وهي: المجرفة من الحديد.

فالذي سمع الصوت في السحابة يقول: (اسق حديقة فلان) جاء إلى صاحب الحديقة وقال له: (يا عبد الله -وهذا الذي ينادَى به الشخص غير المعروف الاسم، قال له بدل ما يقول: يا فلان قال: يا عبد الله- ما اسمك؟ قال: فلان) سمَّى نفسه، فإذا بالاسم يطابق الاسم الذي سمعه في السحابة، الصوت الذي قال: (اسق حديقة فلان).

ثم إن صاحب البستان استغرب من سؤال هذا الرجل عن اسمه، فسأله: (لماذا تسأل عن اسمي؟) -فأخبره أنه سمع صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه لأنه تتبع المطر الذي نزل من هذه السحابة حتى وصل إلى هذا البستان- (فقال له: إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسقِ حديقة فلان باسمك -نفس الاسم، تطابَقَ الاسم- فما تصنع فيها؟) لماذا الماء الذي نزل من السحابة على الحرَّة نَزَل كلُّه في إحدى الشراج التي تؤدي إلى بستانك أنت بالذات؟ ماذا تصنع في هذه الحديقة؟ (قال: أمَّا إذا قلتَ هذا -أمَّا وقد قلتَ ما قلتَ وغُلِبْتُ ولا طريقة لإخفاء عملي- فإني أنظر إلى ما يَخرج منها -ثمار هذا البستان- فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثه، وأرد فيها ثلثه) فقسَّم الغلة ثلاثة أقسام.

(13/2)

فوائد حديث صاحب الحديقة

يؤخذ من هذا الحديث:

(13/3)

إثبات كرامات أولياء الله

أولاً: إثبات كرامات أولياء الله تعالى: وأن الله عز وجل قد يسخر سحاباً لسُقيا حديقة معينة وبستان معين من بين جميع البساتين في المنطقة؛ وذلك لصلاح صاحبه، ونفقته في سبيل الله.

(13/4)

فضل الإنفاق في سبيل الله وعلى الأهل والولد وأن الله يخلفه

ثانياً: فضل الإنفاق في سبيل الله، والإنفاق على الأهل والأولاد.

الفائدة الثالثة: أن الله سبحانه وتعالى يخلف النفقة ولا يضيع أجر المحسنين لا في الدنيا ولا في الآخرة: ولذلك فإنه سبحانه يعوِّض هذا الرجل كلما أنفق بماء يسقي بستانه من غير حفر من صاحبه ولا تعب، ماء يسيل بالذات لأجل إكرام هذا العبد.

(13/5)

إمكان سماع صوت الملائكة

ورابعاً: أنه يمكن شرعاً أن يسمع بعض الناس صوت الملائكة: وقد حدث أن الله سبحانه وتعالى أرسل بعض الملائكة لبعض الناس مثل: الملَك الذي أرسله الله على مدرجة رجل ذهب ليزور أخاً له في الله، فسأله واستوثق منه عن سبب ذهابه إليه، ثم أخبره أن الله يحبه على هذا الفعل.

وكان عمران بن حصين من الصحابة رضوان الله تعالى عنهم يسمع تسليم الملائكة عليه.

فإذاً: يمكن لبعض الناس البشر أن يسمع صوت الملائكة.

(13/6)

للسحاب ملائكة موكلون

وخامساً: أن الله تعالى قد وكل بالسحاب ملائكة يسوقونها إلى المكان الذي قدر الله عزوجل وشاء أن تمطر فيه فتمطر.

(13/7)

الحكمة في التصرفات المالية

والفائدة السادسة: أهمية الحكمة في التصرفات المالية:- فإن بعض الناس سفهاء، لا يجوز أن يوضع المال في أيديهم أصلاً، قال الله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]؛ لأنهم لا يحسنون التصرف فيها، ولذلك جُعل على مال السفيه وليٌّ في الشريعة، يشرف على إنفاق ماله وتنميته له: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء:5] فالمال قوام الحياة والعيش.

هذا الرجل يحسن ما لا يحسنه كثير من الناس.

هذا الرجل قد قسم غلة بستانه إلى ثلاثة أقسام: - قسم يتصدق به: وهذا الذي بدأ به في الحديث، قال: (فإني أنظر إلى ما يَخرج منها فأتصدق بثلثه) هذا أولاً.

- (وآكل أنا وعيالي ثلثاً).

- (وأرد فيها ثلثاً).

فانظر إلى حكمة هذا الرجل وحسن تصرفه، كيف قسَّمها أثلاثاً.

إذاً توزيع الدخل إلى نسب معينة هذا من الحكمة وحسن التخطيط؛ أن يعرف الإنسان الراتب الشهري الذي يأخذه مثلاً، العائد الذي يعود عليه، الرزق الذي يُرْزَقَه يقسم أقساماً، فتقسيم الراتب، أو تقسيم العائد ليست عمليةً مبتدَعة جديدة جاء بها الاقتصاديون الجدد أبداً، وإنما هو شيء قديم ومعروف فعله هذا الرجل الصالح من قبلِنا، فعله هذا الرجل الصالح الذي قسَّم دخل بستانه إلى هذه الثلاثة أقسام.

فإذاً تقسيم المدخول إلى أقسام معينة يُصرف كل قسم في مصرف معين لا شك أنه من الحكمة، وبُعد النظر، وحسن التصرف، وهذا شيء مطلوب شرعاً.

(13/8)

لا بد من رعاية المال

الفائدة السابعة: أن الإنسان عليه أن يرعى ماله: ولذلك قال الرجل: (وأرد فيها ثلثاً) فالمزرعة والبستان تحتاج إلى نفقة؛ قيمة بذور، أجرة عمال، ونحو ذلك من الأشياء، وهذه النفقة قد أخذها هذا الرجل من الغلة التي تعود عليه لإصلاح ماله وتنميته والقيام عليه، وهذا من الحكمة أيضاً.

(13/9)

(الشخص الذي لم يعرف اسمه ينادى بـ (عبد الله

وثامناً في هذه القصة: أن الإنسان إذا لم يعرف اسم شخص فإنه يناديه: بعبد الله: إذا أردت أن تنادي شخصاً في الشارع لسبب من الأسباب، أو في محل وأنت لا تعرف اسمه فلا تقل يا بعض الناس يقول: يا بدون شيء؛ وهذا من قلة الأدب، أو يقول: أنت يا هاء؛ وهذا أيضاً ليس من الأدب، فما هو الأدب الشرعي في هذه الحالة؟ الأدب الشرعي كما ورد في عدد من الأحاديث: أن ينادَى بعبد الله، فيقال: يا عبد الله، وهو فعلاً عبدٌ لله، فأنت صادق في إطلاق هذا الاسم عليه لأنه عبدٌ لله، وبعد ذلك يمكن سؤاله عن اسمه: (يا عبد الله! ما اسمك؟ قال: فلان).

(13/10)

رفع الحرج في سؤال الشخص عن اسمه

وفيه أنه لا حرج شرعاً مطلقاً في سؤال الشخص عن اسمه بهذه الطريقة: (يا عبد الله! ما اسمك؟) فأجابه.

وأنه لا حرج على الإنسان أن يسأل السائل عن اسمه لماذا يسأله عن اسمه، فيقول له: (لِمَ تسألني عن اسمي؟) كما فعل هذا الرجل.

(13/11)

الإخبار بالكرامة مع عدم أمن الفتنة

الفائدة العاشرة: أنه لا بأس بإخبار الشخص عن كرامة الله له إذا كان يؤمن عليه من الفتنة: فمن باب البشارة يقال له: حصل كذا وكذا من الأشياء الصالحة، أو النعم، أو الكرامات التي أكرمه الله بها.

(13/12)

الأصل والأفضل إخفاء الأعمال الصالحة

الفائدة الحادية عشرة: أن على الإنسان أن يخفي عمله الصالح: وألا يجاهر به، وألا يعرضه للبطلان والحبوط بالرياء السمعة.

والفرق بين الرياء والسمعة: أن الإنسان يفعل العمل أمام الناس ليراه الناس، هذا الرياء.

السمعة: أن يتحدث الإنسان عن أعماله الصالحة، العبادات مثلاً ليسمعه الناس؛ كلا هذين الأمرين خطير جداً ويُبطل العمل، والله يقول يوم القيامة للعبد هذا: (اذهب خذ أجرك من الذين راءيتهم، أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عمل عملاً أشرك معي فيه أحد غيري تركته وشركه).

فإذاً إخفاء الأعمال مطلوب.

ولكن الإنسان إذا اضطر إلى الإجابة عن شيء معين تطييباً لخاطر شخص، أو أن يُقتدى به فلا بأس أن يُخبِر عن عمله الصالح، ما دام لا يقصد الرياء والسمعة واحتيج إلى ذلك، دعت الحاجة إليه، لا بأس أن يُخبِر بما عمل إذا كان هناك مصلحة شرعية في هذا العمل.

(13/13)

جواز التحديث عن أخبار من قبلنا

وفي هذا الحديث أيضاًَ من الفوائد: التحديث عن أخبار من قبلَنا حتى يكون في ذلك عبرة لنا وقدوة:- وهكذا دائماً دأب الصالحين الاقتداء بمن قبلَهم: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ} [يوسف:111] {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].

(13/14)

تعريف النفقة وأحكامها

وبعد هذا نأتي إلى ذكر بعض الأحكام الفقهية المتعلقة بالنفقة وهو أحد الأشياء التي ذكرها هذا الرجل فقال: (وآكل أنا وعيالي ثلثاً).

فما هي أحكام النفقة؟ وعلى من يجب على الإنسان أن ينفق؟ وكم ينفق؟ أما النفقة فهي في اللغة: الدراهم ونحوها من الأموال، هذه تسمى نفقه لأنها تنفَق.

تعريف النفقة شرعاً: كفاية من يمونه بالمعروف قوتاً، وكسوةً، ومسكناً، وتوابعه.

أنت مسئول عن شخص معين؛ زوجة أو ولد؛ كفايته أن تعطيه ما يكفيه بالمعروف من الكسوة والقوت وتوابع ذلك المسكن، هذه هي النفقة الشرعية، النفقة.

وأول ما يجب على الإنسان النفقة بعد نفسه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ابدأ بنفسك) ثانياً: زوجته، فيلزم الزوج نفقة زوجته قوتاً، وكسوةً، وسكنى بما يصلح لمثلها.

(13/15)

الزوجة ومراعاة النفقة عليها

فإذاً يراعي في الإنفاق حال الزوجة، البيت الذي هي منه، كيف كانت تعيش عند أبيها، القوم الذين هي منهم، فإذاً يراعى في الإنفاق على الزوجة ما يصلح لمثلها، قد تكون مثقفة تحتاج إلى نفقة غير الأمية، قد تكون من عائلة غنية غير العائلة الفقيرة، ونحو ذلك.

إذاً لا بد من مراعاة حال الزوجة عند الإنفاق عليها، ما هو الدليل؟ قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق:7] وقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف).

إذاً لو أن أحداً قال: كم أنْفِق عليها؟ أعطيها شيئاً بيدها، هي تصرف على نفسها؟ أو أن أُنْفِق أنا عليها؟ وكم أنفق عليها؟ وكم يجب عليَّ؟ وما هي النسبة؟ وما هو المقدار؟ فالآية أجابت عن ذلك بقول الله تعالى: {بِالْمَعْرُوف} [البقرة:241] ما تعارف عليه الناس بينهم من الأمور المقرَّة بينهم.

فإذاً ينفق عليها بالمعروف، مثلاً: تحتاج إلى طعام لا بد أن يعطيها الطعام، تحتاج إلى شراب لا بد أن يوفر لها الشراب، تحتاج إلى فستان، تحتاج إلى جورب، تحتاج إلى خمار، حجاب، فلا بد أن يعطيها ذلك، فإذاً مرد الإنفاق إلى العرف وليس هناك مقدار معين للنفقة حددته الشريعة، وإنما جعل ذلك إلى العرف وإلى يسار الزوج وإعساره.

إذاً هناك أمران يتحكمان في النفقة على الزوجة: الأول: العرف.

والثاني: حال الزوج من الغنى والفقر، واليسار والإعسار.

هل هو متوسط الحال، هل هو فقير الحال، هل هو غني.

وعند النزاع يقدر القاضي مقداراًَ معيناً يوجب على الزوج أن ينفقه على زوجته عند النزاع، ويُراعي القاضي هذين الأمرين، مثلاً: إذا كان حال الزوج مع العرف ينفق عليها ألفاً في الشهر إذاً ينفق عليها ألفاً، يفرض لها ألفاً، سبعمائة، خمسمائة، فيُفرض للموسرة تحت الموسر من النفقة قدر كفايتها، مما تأكل الموسرة تحت الموسر في محلهما، ويُفرض لها كذلك من الكسوة، والفرش، والأثاث، ما يليق بمثلها في البلد، وكذلك المتوسط مع المتوسطة، والفقير مع الفقيرة، ونحو ذلك.

وعلى الزوج نفقة نظافة زوجته.

وكذلك فإن عليه أن ينفق عليها إذا طلقها طلاقاً رجعياً لأنها ما زالت في عصمته، أما طلاق البينونة الكبرى فلا نفقة لها، ولا سكنى، لحديث فاطمة بنت قيس عندما طلقها زوجها البتة -يعني: بالثلاث انتهت- فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (لا نفقة لها ولا سكنى) إلا إذا كانت حاملاً فإنه لو طلقها الطلقة الأخيرة وهي حامل فلها النفقة لأجل الجنين الذي في بطنها الذي هو ولده وهو مكلف بالإنفاق عليه، ولا يمكن فصل الولد عن الأم؛ لأنه ما زال في بطنها، قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6] فإذاً لها سكنى ولها نفقة طيلة حملها حتى لو كان الطلاق مبتوتاً بالثلاث.

(13/16)

أسباب تسقط بها نفقة الزوجة

تسقط نفقة الزوجة بأسباب: - منها: إذا امتنعت عن تسليم نفسها له، أو حُبست عنه؛ لأنه لا يمكن أن يستمتع بها، والنفقة واجبة مقابل الاستمتاع.

- كذلك من الأحوال التي تسقط نفقة المرأة فيها: إذا نشزت عنه، نشزت أي: خرجت من البيت ورفضت الرجوع، امتنعت عن الفراش، امتنعت من الانتقال معه من بيت إلى بيت، أو من بلد إلى بلد ما لم يكن هناك شروط، فامتنعت من الانتقال معه فإنها تعتبر ناشزاً، ولا يمكن أن يستمتع بها، ولذلك لا نفقة لها.

- كذلك من الحالات التي لا تجب فيها النفقة على الزوجة: إذا سافرت لحاجتها لا لحاجته، فإذا كان لها حاجة هي وسافرت فلا يجب الإنفاق عليها، إعطاؤها من باب الإكرام، من باب التودد، من باب البر، لكن الوجوب إذا سافرت لحاجتها هي فعند ذلك يسقط الوجوب، ولكن الإحسان والبر والمعاشرة بالمعروف أن يعطيها، أما إذا سافرت لحاجته، هو الذي أرسلها، فإن النفقة باقية عليه.

والمرأة المتوفى عنها زوجها لا نفقة لها من تركة الزوج؛ لأن المال انتقل من الزوج إلى الورثة، فالنفقة عليها، وكذلك هي من الورثة، فإذا كانت المتوفى عنها حاملاً وجبت النفقة في حصة الحمل من التركة إن كان للمتوفى تركة.

ويجوز تعجيل النفقة كأن يعطيها نفقة سنة مقدماً ويقول: أنفقي على نفسك من هذا المال، وتجب لها الكسوة كل عام من أوله؛ كسوة الشتاء وكسوة الصيف.

ومن غاب عنها زوجها ولم يترك لها نفقة، أو كان حاضراً ولم ينفق عليها لزمته النفقة عما مضى لأنه دين في عنقه، لها أن تطالبه به، وإن أعسر فبعد اليسار يعوضها عما فات.

(13/17)

وقت إيجاب النفقة على الزوجة

متى يجب الإنفاق؟ من حين تسليم الزوجة نفسها له، وليس بمجرد العقد؛ فإذا عقد عليها لا زالت النفقة على أبيها.

مثلاً: فإذا صارت حفلة الزفاف وسلَّمت نفسها له، من تلك اللحظة يجب الإنفاق، ويجوز للمرأة أن تطلب فسخ النكاح إذا امتنع الزوج الإنفاق عليها، أو أعسر، يجوز لها أن تطلب الطلاق وإذا صبرت عليه فهي مأجورة.

وكذلك لها أن تستدين على حسابه في حال غيابه إذا لم يترك لها شيئاً، تأخذ من البقَّال مثلاً الأغراض، أغراض البيت وما تحتاجه على حسابه إذا غاب عنها.

وكذلك يجوز لها أن تأخذ من جيبه خفية إذا بخل عليها بالنفقة لكن بالمعروف، لحديث هند: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف).

وهذه الأحكام تدل على عدل الشريعة وكمالها.

(13/18)

النفقة على الأقارب غير الزوجة

أما غير الزوجة فعلى من؟ ينفق الإنسان؟ ينفق على أقاربه ومماليكه.

وأقارب الإنسان: كل من يرثه بفرض أو تعصيب.

والمماليك: العبيد، الإماء، ويدخل كذلك البهائم فيجب على الإنسان شرعاً أن ينفق عليها، نحن سبقنا جمعية الرأفة بالحيوان، الذين يحتاجون إلى الرأفة بالإنسان.

ويجب على الإنسان أن ينفق على كل من تحت ملكه من إنسان وبهيمة، بالإضافة إلى الأقرباء كما ذكرنا.

(13/19)

الأقارب الذين ينفق عليهم

ومَن هو القريب الذي يجب الإنفاق عليه؟ الأقرباء كُثر.

ف

الجواب

إذا كان القريب من عمودَي النسب تجب نفقته عليك، إذا احتاج وما عنده ما يسد حاجته.

فعمودا النسب: الآباء والأجداد وإن علَو، والعمود الثاني: الأبناء والأحفاد وإن نزلوا.

فيجب عليك أن تنفق على أبيك إذا احتاج وأمك والجد وأبو الجد إذا احتاج وما عنده، وأنت تستطيع يجب عليك أن تنفق عليه، ابنك، وبنتك، وحفيدك، حفيدتك، إذا كنت قادراً واحتاجوا يجب أن تنفق عليهم.

فإذا كان القريب من عمودَي النسب، وكان المنفق غنياً؛ عنده ما يستطيع أن ينفق على هؤلاء، وكان المنفَق عليه محتاجاً، فقيراً، لا يملك شيئاً، أو لا يملك ما يكفيه، أو لا يقدر على الكسب، وكان على دِين واحد؛ أما إذا كان كافراً لا تجب النفقة، إذا كان ولده كافراً، أبوه كافراً، فالنفقة تجب على الإنسان لقريبه إذا كان على دِين واحد.

والدليل على وجوب النفقة على الوالدين قول الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [البقرة:83] والإنفاق عليهما من أعظم الإحسان.

والدليل على وجوب النفقة للأولاد على أبيهم قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] مَن هو المولود له؟ الأب: {رِزْقُهُنَِّ} [البقرة:233] طعام الوالدات: {وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة:233] لباسهن: {بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] بما جرت به العادة: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:233] يدل على أن المتوارثين من القرابات، هناك حقوق ومنها: النفقة، فإذا كان هناك إنسان أنت ترثه لو مات فيجب عليك أن تنفق عليه إذا كان فقيراً محتاجاً، وقال الله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء:26] فإذا كان أخوك فقيراً وأنت قادر إذاً يجب أن تنفق عليه، {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء:26].

فنفقة الأقارب المحتاجين على قريبهم الغني واجبة إذا كان قادراً، وجاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (مَن أَبَرُّ؟ قال: أمَّك وأباك وأختَك وأخاك) وفي رواية: (وابدأ بمن تعول؛ أمَّك وأباك وأختَك وأخاك، ثم أدناك أدناك) هذا يفسر قول الله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء:26] ذا القربى عام، وهذا تفصيله في السنة.

والوالد تجب عليه نفقة الولد كاملة ينفرد بها، ما يوزع هذا، يقول: فقط عليَّ الطعام، أكلك عليَّ، لبسك ما لي دخل فيه، سكنك عليَّ، وكذا، يجب عليه أن ينفق على الولد نفقة كاملة.

والفقير الذي له أقارب أغنياء وليس لديهم أب حتى نحمِّل الأب النفقة كاملة، هل يتحملها الأكبر منهم؟ ليس عدلاً، نقول: يشتركون في الإنفاق عليه كلٌّ بقدر إرثه منه، فإذا كان -مثلاً- كل واحد يرث منه الثلث، نقول: ثلث النفقة على كل واحد منهم هذا يرث السدس، نقول: أنت سدس النفقة عليك، وهذا يرث النصف، نقول: نصف النفقة عليك، وهكذا.

وأما نفقة المماليك من الأرقاء والبهائم فإنها تجب بالمعروف أيضاً: (إخوانكم خَوَلُكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه -يعني: العبد- تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم).

وإن طلب الرقيق نكاحاً زوجه سيده أو باعه حتى لا يمنعه من الزواج، وكذلك إن طلبت الأمة خُيِّر سيدُها بين وطئها، أو تزويجها، أو بيعها؛ لئلا يضر بها، وكذلك الدابة؛ العلف والسقْي وكل ما يصلحها لا بد من ذلك: (عُذبت امرأة في هرة) الحديث، فكل حيوان عندك لو كان عندك عصفور يجب عليك الإنفاق عليه، ولا يجوز تعذيب البهيمة، ولا حلبها بما يضر ولدها، ولا لعنها، ولا وسمها في وجهها، فإن عجز عن الإنفاق عليها أُجبر على بيعها، أو تأجيرها، أو ذبحها إذا كانت مما تؤكل؛ لأن بقاءها مع رجل لا ينفق عليها ظلم لها، هذا معلوم من الفقه الإسلامي، والذي قلنا أنه سبق الغربيين في الرأفة بالحيوان منذ قديم الزمان.

هذه بعض الأشياء المتعلقة بالنفقة، وهذا كان له علاقة بحديث اليوم والقصة التي سبق ذكرها.

وأيضاً: فإن من الأشياء المتعلقة: الصدقة؛ والصدقة التي ذكرها الرجل هي: إعطاء الفقراء والمساكين وغير ذلك من وجوه البر لأن أبواب الصدقة كثيرة جداً، ولا يجوز للإنسان أن يرجع في صدقته إذا سلمها للفقير أو للشخص الذي تصدق به عليه، وكذلك لا يشتري صدقته، ويُخفي الصدقة، كما أن هناك آداباً تتعلق بهذا الموضوع، ربما نأتي عليها مرة أخرى إن شاء الله.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

(13/20)

الأسئلة

.

(13/21)

وجوب إخراج الزكاة الماضية

السؤال

رجل لم يُخرج زكاة الفطر العام الماضي، هل تبقى في الذمة؟

الجواب

نعم، تبقى في الذمة ديناً عليه لله تعالى، ويتوب من تأخيرها، وعليه الإخراج.

(13/22)

قضاء صلاة العيد

السؤال

هل صلاة العيد تُقضى؟

الجواب

قال بعض العلماء: إن من فاتته صلاة العيد فإنه يصليها، من الممكن أن يصلوها جماعة مثلاً إذا فاتتهم بعد صلاة الإمام، لا بأس بذلك.

(13/23)

حكم إخراج زكاة الفطر مالاً يشترى به طعاماً

السؤال

في بعض المساجد هناك إعلان عن قبول قيمة عشرة ريالات زكاة الفطر يقومون هم بشراء الأرز أو التمر!

الجواب

لا بأس بذلك، ما دام أن الشخص هذا ثقة أو هذه اللجنة موثوق بها تُعطَى المال لتشتري به الطعام.

(13/24)

حكم الصلاة في مسجد بجواره قبور

السؤال

يوجد في بلدتنا مسجد، ومجاورٌ لهذا المسجد قبور أهل البلدة التي يَدفنون بها!

الجواب

ما دام خارج المسجد فلا بأس من الصلاة في المسجد، الأحسن أن يُجعل بينهما وبين المسجد طريق لكي يتم الفصل التام بين المقبرة والمسجد، وجداران؛ جدار للمقبرة، وجدار للمسجد.

(13/25)

حكم ملاعبة الزوجة دون الإيلاج

السؤال

صائم عمل كل شيء مع زوجته ما عدا الإيلاج والإنزال!

الجواب

عليه أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، وهو قد جرح هذا الصيام، ونقص منه بقدر ما وَلَغَ في هذا الأمر المحرم.

(13/26)

مقدار نصاب زكاة المال

السؤال

كم هو النصاب الواجب في المال اليوم، في الزكاة؟

الجواب

إذا كانت العملة مقوَّمة أصلاً بالذهب فهو نصاب الذهب، وإذا كان العملة مقوَّمة بالفضة فهو نصاب الفضة.

(13/27)

حكم صلاة المرأة إذا زاد حيضها على عادتها

السؤال

امرأة دورتها الشهرية سبعة أيام وعندما ظهر لها علامة الطهر بين قوسَين (الكُدْرة) -وهذا خطأ، علامة الطهر ليست الكُدْره، علامة الطهر هي السائل الأبيض النقي الذي يدفعه الرحم بعد العادة- الذي يخرج وارء العادة، تطهرت وصامت، وفي اليوم الثامن رأت الدم ثم الكُدْرة فقالت: ربما لم تنتظر فتطهرت وصامت، تكرر ذلك في التاسع والعاشر والحادي عشر!

الجواب

إذا رأت الطهر فلا يضرها ما خرج بعد ذلك من الكُدْره، وأما إذا لم تر الطهر فالكُدْره المتصلة بدم الحيض من الحيض، ولو استمر الدم لا تصلِّي ما لم يبلغ خمسة عشر يوماً فإذا بلغ خمسة عشر يوماً اعتبرناها مستحاضة وقلنا لها: اعتدي بعادتك الأصلية إذا كانت سبعة أيام، أو ستة أيام، أو ثمانية أيام، واقضي ما مضى من الصلاة والصيام.

(13/28)

حكم سفر الخادمة مع العائلة

السؤال

سفر الخادمة مع العائلة بَراً؟

الجواب

لا يجوز سفر الخادمة بغير محرم لأنها امرأة، امرأة تدخل في الأحاديث، وعليهم أن يبحثوا عن مكانٍ آمن يضعوها فيه عائلة مأمونة، إذا ما وجدوا فإن أخذها في هذه الحالة يكون من باب الحاجة الشرعية، أو الضرورة الشرعية، إذا خُشي عليها أو خشي منها، إذا تُركت وحدها تؤخذ من باب الضرورة، ولكن ليس هذا هو الأصل.

(13/29)

حكم الخروج بالأهل إلى السوق

السؤال

هل يجوز للرجل أن يذهب بأهله إلى السوق مع ما فيه من الفجور والفساد العظيم؟

الجواب

هو لا بد من الذهاب إلى السوق، لأنه لا يمكن للواحد كيف يوفر الأغراض؟ لكن ماذا يفعل؟ ينتقي أولاً: الأسواق التي لا يغلب عليها، أو التي هي أقل سوءاً من غيرها، هناك بعض الأسواق أقل سوءاً من غيرها، حتى المجمعات التجارية تختلف؛ بعض المجمعات بالتجربة وبالخبرة تعرف أنها فيها نوع من المحافظة، وفيها نوع من الحراسة مثلاً، فالذهاب إليها أولى من الذهاب إلى غيرها ولا شك.

ثانياً: انتقِ الوقت المناسب، فمثلاً: في هذه الأيام الذهاب بعد الظهر وبعد العصر وفي الصباح أحسن من الذهاب في الليل بآلاف المرات، ولذلك الذهاب في هذه الأوقات مناسب.

ثم بعد ذلك ثالثاً: التزام الشروط الشرعية: غض البصر، الحجاب الكامل للأهل.

ثم الإنسان يتجنب مضايق الزحام الشديد، الأماكن المكتظة، الأماكن المليئة بالنساء أو التبرج، ربما يدخل المكان وبعد قليل تغيِّر وضع المكان، وهكذا.

(13/30)

حكم زواج الشاب بدون علم أبيه وأمه

السؤال

شخص يريد أن يتزوج دون علم والدته ووالده، ويريد أن يبقى الزواج سراً؟

الجواب

لا.

ما يمكن أن يبقى الزواج سراً عاجلاً أم آجلاً، فهو لا بد أن يعلنه ويشهره، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وعليه أن يرضي والديه، يسترضيهما قدر الإمكان، وإذا كانا يرضيان بفتاة دون فتاة ينتقي الفتاة التي يرتضيانها إذا كان ليس بها عيبٌ من دين أو خلق، وأما إذا احتاج للزواج وهو طالب وهما يرفضان زواجه فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والحال حاله يعرفها، فإذاً يتزوج مع الإحسان إليهما.

(13/31)

حكم إعطاء العطية مع مقابلتها بمكافأة أكبر

السؤال

هل يجوز لي أن أعطي لشخص لعلمي أنه سيعطيني هدية أكبر منها؟

الجواب

هذا من الطمع في الدنيا ولا شك، وليس من باب (تهادوا تحابوا) وليس من الأخوة، لكن هل نقول له: يحرم؟ إذا كان الشخص الآخر لا يُحرج، ولا يَشق عليه، أو لا يستدين من أجلك، فلا يَحرم؛ لكنه ليس من العبادات والطاعات أن الإنسان ينوي بأن يعطي بهذه النية.

(13/32)

حكم وطء العبد سيدته

السؤال

إذا كان الرجل عنده أمَة من حقه أن يطأها شرعاً، فإذا كانت الحرة عندها عبدٌ فهل تمكنه من نفسها؟

الجواب

لا يجوز حتى بالفطرة، فهي تتصرف فيه، وعليه الخدمة والزراعة والبيع والشراء وكل شيء من الأشياء يقوم بها، ولها أن تبيعه أو تؤجره؛ ولكن الوطء لا، بل عليها أن تحتجب منه ما تكشف عليه كمَحْرَم، لا.

(13/33)

حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره في القرآن

السؤال

أقرأ القرآن، فذُكِر النبي صلى الله عليه وسلم، هل أصلي عليه؟

الجواب

نعم.

لا بأس بذلك، صلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم.

(13/34)

هل تقطع المرأة الصلاة في الحرم؟

السؤال

حديث: (أن المرأة تَقْطَع الصلاة) كيف يطبَّق في الحرم؟

الجواب

في حالات الزحام الشديد التي لا يمكن فيها تجنب مرور الناس أمام بعضهم بعضاً عند ذلك يسقط الحكم لتعذر تطبيقه لأنك كلما مرت بين يديك امرأة كبرت للإحرام فلن تصلي إلا بعد خروج الوقت في بعض الحالات، الزحام الشديد، ولذلك {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فأولاً: إذا كنت وراء إمام فلا يضرك من مر بين يديك، لكن إذا كنت تصلي وحدك، فأنت ترد المرأة التي تمر، فإذا كان الزحام شديداً جداً، تمنع من؟ وتُبْقِي من؟ فعند ذلك صلاتك صحيحة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] مثل الزحام هذا في ليلة السابعة والعشرين، في الحرم، وليلة ختم القرآن، هذا قد لا يتيسر مطلقاً، بل ربما ما يجد الواحد مكاناً يصلي فيه أصلاً.

(13/35)

المقصود بالنفقة على الزوجة

السؤال

بعض النساء لا يفهمن النفقة بمعناها الشامل ويقصدن بها النفقة الخاصة مثل: الملابس وما شابهها، ويقولون: أعطنا نفقتنا الشهرية؟

الجواب

إذا لم ترد الطعام فهذا شأنها، وإذا كانت تريد ملابس، فتزيد في الطلب لأجل التفاخر أو المباهاة أو المغالاة، فتريد الشيء المرتفع الثمن الذي يقصم ظهر الزوج ويأتي على راتبه؛ فهذا طبعاً ليس من حقها أن تشق على زوجها وإنما ينفق عليها بالمعروف، فلا إفراط ولا تفريط.

وبعض النساء عاقلات يعني: تدرك أن هناك أشياء مهمة يحتاج مثلاً الزوج إلى بيت وهو الآن يستأجر بيتاً وهو يريد أن يبني بيتاً فهي تقتصد معه من أجل البيت لأن البيت بيتهما، لأن هذا البيت سيكون بيتاً لهما جميعاً فهي تساعد زوجها.

وبعض النساء ليست بعاقلة جداً فهي تريد أن تبذر وتسرف في الأموال ولو كان على حساب الأشياء المهمة والضرورية للبيت وللأولاد أو للزوج والأولاد، وهذا ليس من الحكمة في شيء.

فإذاً ينبغي أن تنظر، وفي نفس الوقت ليس معنى هذا أنه كلما طلبت منه لباساً قال: نريد أن نبني بيتاً، كلما جاءت تطلب منه شيئاً، قال: نريد أن نبني بيتاً، هذا الشيء لا ينتهي، فلا يجعل هذا حجة لرد كل طلباتها، وفي نفس الوقت هي لا تتمادى في الطلبات بحيث تشق على الزوج.

(13/36)

كيفية كفارة اليمين

السؤال

في كفارة اليمين هل يجزئ أن يطعم خمسة مساكين مرتين بدلاً عن عشرة؟

الجواب

لا، لا بد من عشرة مختلفين.

(13/37)

جواز صلاة القيام في أكثر من مسجد

السؤال

هل يجوز أن يصلي في مسجد القيام ثم يذهب إلى مسجد آخر يصلي معهم؟

الجواب

نعم.

لا بأس بذلك، لكن لا يعيد الوتر: (لا وتران في ليلة).

(13/38)

حالات الجمع والقصر في السفر

السؤال

في صلاة المسافر أيهما أولى: الجمع، أم القصر؟

الجواب

إذا كان متحركاً في سفره في السفر في الطريق يجمع ويقصر، إذا نزل بلداً يوماً أو يومين أو ثلاثة يعني: لا زال مسافراً فهو يقصر من غير جمع؛ هذه هي السنة، في مكة أو في غير مكة.

(13/39)

أجر من صلى صلاة القيام كلها مع الإمام

السؤال

كيف يطبَّق أجر حديث: (إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف)؟

الجواب

يعني: من كل الصلاة، سواء كانت الصلاة جزءاً واحداً أو جزأين، إذا صلى معهم حتى ينصرف من كل الصلاة، كذلك لو كان في المسجد به أكثر من إمام، حتى ينصرف يعني: حتى تنقضي كل الصلاة.

هذا والله تعالى أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

(13/40)

قصة عائشة رضي الله عنها وقبر البقيع

زيارة القبور تذكر بالآخرة، وترقق القلب، وتزكي النفس، ولكن قد طال على المسلمين الأمد كما طال على الذين من قبلهم، فقست قلوبهم فلم يعودوا ليتعضوا إلا مَنْ رحم الله، وحل الابتداع محل التذكر والاتباع، وقد وضح الشيخ ذلك من خلال شرحه لحديث عائشة في زيارة النبي صلى الله عليه وسلم بقيع الغرقد، وذكر بعض أحكام المقابر.

(14/1)

حديث زيارة البقيع وشرحه

الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فالقصة التي سنتحدث عنها هي من القصص التي لها علاقة بما يزيد الإيمان، وهو زيارة المقابر.

وسنتعرض إن شاء الله بعد هذه القصة لبعض أحكام وآداب زيارة المقابر.

والقصة: قصة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، التي رواها الإمام أحمد ومسلم وغيرهما: عن محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب أنه قال يوماً: (ألا أحدثكم عني وعن أمي؟ فظننا أنه يريد أمه التي ولدته، قال: قالت عائشة -وهي أمه لأنها أم المؤمنين، وهي كذلك أمنا جميعاً- قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: ألا أحدثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: بلى، قالت: لما كانت ليلتي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي انقلب فوَضَع رداءه) انقلب، أي: رجع إلى بيته من صلاة العشاء، وكان عادتهم النوم بعد صلاة العشاء مباشرة، فلا سمر عندهم إلا في حالات خاصة، وكانوا يؤخرون العشاء كما هي السنة، ثم ينامون بعدها استعداداً لقيام الليل؛ هكذا كان المجتمع الأول في استعداده لقيام الليل.

(انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه -صلى الله عليه وسلم- وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أني قد رَقَدْتُ -في رواية أحمد، أي: لبث عليه الصلاة والسلام على فراشه فترة ظن أن عائشة قد نامت واستغرقت في النوم- فأخذ رداءه رويداً -أي: برفق لئلا يزعجها- وانتعل رويداً، وفتح الباب رويداً، فخرج، ثم أجافه رويداً -أي: أغلقه وراءه- فجعلتُ درعي في رأسي واختمرتُ، وتقنعتُ إزاري -لبِسَتْ إزارها واستترت- ثم انطلقتُ على إثره) أي: تَبِعْتُه، خرجت من باب البيت وتَبِعَتْه خفية وهو لا يدري صلى الله عليه وسلم، (حتى جاء البقيع)، وهو: بقيع الغرقد؛ مقبرة المسلمين بـ المدينة، سُمِّي بـ بقيع الغرقد لغرقد كان فيه، وهو ما عَظُمَ من نبات العوسج.

(فقام عليه الصلاة والسلام عند المقبرة فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفتُ، وأسرع فأسرعتُ، فهرول فهرولتُ، فأحضر فأحضرتُ، فسبقته فدخلتُ).

ومعنى الإسراع والهرولة واضح.

وأما أحضر: فمن الإحضار، وهو العدو، فكأنه أسرع ثم زاد سرعته؛ ولكن عائشة سبقته في الظلام، فدخلت الحجرة قبل أن يدخلها عليه الصلاة والسلام.

(فأَحْضَر فأحضرتُ، فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعتُ، فدخل صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لكِ يا عائش حشيا رابية؟!) رأى النبي صلى الله عليه وسلم صدر عائشة متهيجاً، يسرع في الارتفاع والانخفاض، والنفس متزايد عندها، فسألها قال: (ما لكِ يا عائش حشياً رابيةً) ما لكِ حشيا، الحشا، وهو: الربو والتهيج الذي يحدث للمسرع في مشيه من ارتفاع النفَس وتواتره، رابية: مرتفعة البطن؛ يعني: هذا الذي يحدث لمن أسرع، أو هرول، أو جرى.

قالت: (قلت: لا شيء يا رسول الله! قال: لَتُخْبِرِنِّي أو لَيُخْبِرَنِّي اللطيف الخبير قالت: قلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، فأخبرته الخبر، قال: فأنت السواد الذي رأيته أمامي؟ قلت: نعم فلهزني في صدري لهزةً أوجعتني) -واللهز هو: الضرب بجمع الكف في الصدر- (وقال عليه الصلاة والسلام: أظَنَنْتِ أن يحيف عليكِ الله ورسوله؟!) هذه اللهزة الشديدة كانت تأديباً من النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة من سوء الظن.

وذلك أنها أساءت الظن، وخافت أن يكون قد ذهب في ليلتها إلى زوجةٍ أخرى، ولذلك خرجت وراءه، وكانت عائشة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم شديدة الغيرة جداً، فلما رأته خرج من بيتها في ليلتها خشيَت أن سيذهب إلى زوجة أخرى في ليلتها، فلَهَزَها في صدرها لهزةً أوجعتها، وقال: (أظننتِ أن يحيف عليكِ الله ورسوله؟!) أظننت أن الرسول صلى الله عليه وسلم يظلمك ويذهب في ليلتك إلى امرأة أخرى من زوجاته، وهو أعدل الناس؟! الإنسان إذا كان عند زوجة في ليلة فلا يذهب إلى غيرها، لأن لكل واحدة قسماً.

فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن يفعل ذلك دون أمر من الله، لا يمكن أن يذهب إلى امرأة أخرى في ليلة واحدة، إلا بأمر من الله، قالت عائشة رضي الله عنها: (مهما يكتم الناس يعلمه الله، نعم).

فـ النووي رحمه الله ذكر في شرح الحديث: أنها قالت هذا وقررته: (مهما يكتم الناس يعلمه الله، نعم) يعني: نعم كذلك، أنه مهما كتم الواحد شيئاً فالله يعلمه.

قال: (نعم.

وفي رواية: قال: نعم، فإن جبريل عليه السلام أتاني حين رأيتِ فناداني، فأخفاه منكِ، فأجبتُه فأخفيتُه منكِ، ولم يكن ليدخل عليكِ وقد وضعتِ ثيابك، وظننتُ أنكِ قد رقدتِ، فكرهتُ أن أوقظكِ، وخشيتُ أن تستوحشي) -يعني: إذا تركتُ البيت وأنتِ مستيقظة؛ وخرجتُ بقيت في وحشة في الظلمة، فما أحببت أن أوقظكِ لئلا تبقي في وحشة، وظننتُ أنكِ قد نمتِ فخرجتُ.

ماذا قال جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام؟ قال له: (إن ربك جلَّ وعز يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم، قالت عائشة رضي الله عنها: كيف أقول لهم يا رسول الله لو أنا ذهبتُ؟ فقال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله لَلاحقون).

(14/2)

من فوائد حديث زيارة البقيع

هذا الحديث فيه فوائد متعددة:-

(14/3)

أن نساء النبي أمهات للمؤمنين

فمن ذلك: أن أمهات المؤمنين أمهاتٌ للجميع، وأن احترام أمهات المؤمنين واجب: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً} [الأحزاب:53] فهن محرماتٌ علينا، والذي يقذف واحدة من أمهات المؤمنين بالفاحشة فهو كافر؛ لأنه مكذب لله تعالى الذي أخبر أن الطيبات للطيبين، والنبي صلى الله عليه وسلم أطيب الطيبين، ولا يمكن أن يجعل الله تحت نبيٍّ امرأةً بغياً.

ولذلك بعض الكفار يقولون: إن عائشة -والعياذ بالله- قد ارتكبت الفاحشة.

ويقولون: إن مهديهم سيخرج آخر الزمان، ويستخرجها من قبرها ويقيم عليها حد الرجم، لعنة الله عليهم آمين.

ولذلك فاحترام أمهات المؤمنين واجب، ومن قذف عائشة بما برأها الله منه فهو كافر؛ لأن الله برأها مما رماها المنافقون به من فوق سبع سموات في سورة النور، فمن قذف عائشة فهو كافر.

(14/4)

حسن معاشرة النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه

ثانياً: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان رفيقاً لطيفاً حسن العشرة لزوجته:- ولذلك بقي في الفراش حتى ظن أن عائشة قد نامت لئلا تستوحش إذا أيقظها وخرج، أو خرج قبل أن تنام وتركها في الظلمة تستوحش، فبقي حتى ظن أنها قد نامت ثم خرج؛ وهذا من حسن العشرة مع المرأة، وأن من حسن العشرة ألا تترك المرأة وحيدة في الظلمة، ولكن ينبغي على المرأة كذلك ألا تكون جبانةً تخشى من ظلها، وينبغي أن يكون عندها شيءٌ من التحمل خصوصاً عند خروج الزوج لحاجة، كهؤلاء الذين يخرجون في النوبات الليلية في الأعمال، وأنه ينبغي على الزوج أن يجعل من يؤنس وحشة زوجته، أو يجعل في المكان شيئاً من أسباب الأمن مما يكون فيه حماية لزوجته بإذن الله تعالى إذا بقيت في البيت وحدها في الليل.

(14/5)

استحباب إطالة الدعاء عند زيارة القبور

ثالثاً: استحباب إطالة الدعاء:- لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف هناك وأطال الدعاء.

رابعاً: استحباب رفع اليدين في الدعاء:- وقد ورد هذا في أكثر من مائة حديث.

خامساً: استحباب زيارة القبور:- وسنأتي على ذلك إن شاء الله.

سادساً: أنه لا بأس من زيارة القبور في الليل.

سابعاً: أن الدعاء في المقبرة واقفاً أفضل من الدعاء فيها جالساً.

(14/6)

العدل بين الزوجات وتأديب الزوجة بالمشروع

ثامناً: وجوب العدل بين الزوجات، وأنه لا يجوز للإنسان أن يذهب في ليلة زوجة إلى زوجة أخرى إلا بإذن صاحبة القسم، أما الطوارئ والأشياء الضرورية فلها حكم آخر، وهذا حكم شرعي من أحكام العدل بين الزوجات.

تاسعاً: مشروعية تأديب الزوجة إذا أساءت الظن بزوجها، أو أساءت العشرة، أو نشزت.

عاشراً: أن تأديب الزوجة لا يكون بما يجرح، ويسيل الدم، أو يكسر العظم، أو يفقأ العين، أو بضرب الوجه، فإن ذلك حرام، وإنما يكون بشيء مؤثر دون أن يكون مؤذياً أو مسبباً لأمرٍ من الأمور المحرمة، ككسر أو جرحٍ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لهزها في صدرها لهزة أوجعتها، ولكن لم تكن قاسية بحيث تكسر مثلاً، أو تُقْعِد.

(14/7)

علم الله تعالى بكل شيء

الحادي عشر: أن الله سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى.

(14/8)

السلام المشروع على أهل المقابر

الثاني عشر: أن الدعاء المستحب للإنسان إذا ذهب إلى المقبرة أن يسلم على الموتى بقوله: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منكم ومنا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لَلاحقون، هذا أحد الألفاظ التي تقال عند الذهاب إلى المقبرة.

(14/9)

حرمة المقابر وأحكام ذلك

الثالث عشر: أن الموتى هم أهل المكان وساكنوه، فلا يجوز الاعتداء عليهم، فالميت إذا سبق الحي إلى الأرض فهو ساكنها مثل الأحياء، فلا يجوز لإنسان نبش القبور، ولا إخراج جثث المسلمين، أو يبني في المقبرة بيتاً أو يزرعها مثلاً؛ لأن الميت سبق الحي إلى المكان؛ وهذه حرمة للميت لا يجوز انتهاكها.

فالمقبرة بيوت الأموات؛ وبيوت الأموات لا يجوز انتهاك حرمتها، ولا يجوز إخراجهم منها إلا للأمر الطارئ والضروري كما إذا جاء سيل أخرج العظام عن مكانها، أو صار المكان ليس فيه حرمة مثلاً، فتُنْقَل عند ذلك الجثث والعظام إلى مكان آمن.

ونَبَّاش القبور عند بعض العلماء سارق تقطع يده، وبعض الناس يسرقون الجثث ويبيعونها على كليات الطب في بعض البلدان، فحكم نباش القبور عند بعض العلماء سارق تقطع يده، لأنه سرق من حرز؛ وهو الأرض، فإنها حرز للجثة، واستدل العلماء على ذلك بقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} [المرسلات:25 - 26].

فالأرض حرز للجثة، فمن سرق الجثة قطعت يده، وهو مرتكب لكبيرة من الكبائر.

وبعض الناس يتساهلون في إخراج جثث الأموات ليبنوا بيوتاً أو للزراعة ونحو ذلك؛ وهذا حرام لا يجوز فعله مطلقاً، وهذا خاص بمقابر المسلمين.

وأما مقابر الكفار فليس لها حرمة، فإذا حصلت حاجة للأرض أُخْرجت جثث الكفار ونُقِلَت إلى أي مكان آخر.

والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبني المسجد النبوي المعروف، أخرج جثث قبور المشركين التي كانت موجودة، فدل ذلك على جواز إخراج جثث الكفار ونقلها للمصلحة.

أما قبور المسلمين لا يجوز العبث بها مطلقاً، ويجب أن تسوَّر المقبرة حتى تكون مصانة عن أيدي العابثين.

ولا يجوز أن تجعل مَجْمَعاً للقمامة أو النفايات.

ويجب أن تصان القبور عن كل شيء يفسدها أو يضر بها، كالمشي فوقها، أو المشي بينها بالنعال، أو القعود عليها، أو جعلها مجمع نفايات، أو مأوى للكلاب الضالة، ونحو ذلك.

كذلك يؤخذ من هذا الحديث: زيارة النساء للقبور:- ولكن عدداً من العلماء ذهب إلى تحريم ذلك؛ لحديث: (لعن الله زوَّارات القبور.

وفي رواية: لعن الله زائرات القبور) وقالوا: إن أحاديث الإذن منسوخة، الأحاديث التي يؤخذ منها ذهاب النساء إلى المقابر منسوخة، والمسألة فيها كلام طويل.

وذهب إلى تحريم زيارة القبور للنساء شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ لأن المرأة قليلة الصبر شديدة الجزع، ولا يؤمن من ذهابها إلى المقبرة حصول شيء من النياحة أو المحرمات.

كما أن عموم ما يحدث منهن من التبرج لا يشجع مطلقاً على القول بزيارة القبور للنساء.

لكن المرأة إذا مرت بمقبرة دون أن تدخلها كأن تكون ماشية في الشارع مثلاً، أو في سيارة، فإنها تسلم على الموتى بهذا الدعاء، لكن لا تأتي المقبرة وتدخل فيها.

(14/10)

الإيمان بالغيب

كذلك في هذا الحديث: الإيمان بالغيب، والملائكة، وجبريل عليه السلام:- وكيف جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكلَّمه دون علم عائشة مع أنها كانت مستيقظة.

(14/11)

أحكام زيارة المقابر

أما بالنسبة لموضوعنا الموضوع الأساسي وهو مسألة زيارة المقابر، فإن زيارة القبور مشروعة للاتعاظ وتذكر الآخرة، شريطة ألا يقول عندها ما يغضب الرب، وكثيراً ما يقع إغضاب الرب، بل الشرك بالله في المقابر، كدعاء المقبورين، والاستغاثة بالموتى من دون الله، كهذه الأضرحة والقباب المبنية على القبور، والخرق المعقودة بشبابيك القبور، والأموال، وحلق الرأس عند القبر، والطواف بالقبر، وغير ذلك، وتقبيل الأعتاب؛ وغيرها من مظاهر الشرك بالله، ونداء الموتى.

أما الزيارة الشرعية التي ليس فيها شرك ولا بدعة ولا أمر محرم فإنها للرجال عبادة وقربة إلى الله، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنها تذكركم بالآخرة، ولتزدكم زيارتها خيراً، فمن أراد أن يزور فلْيَزُر، ولا تقولوا هجْراً) لا تقولوا هجْراً: لا تقولوا شيئاً محرماً، والهجْر: الكلام الباطل، وكان من عادة أهل الجاهلية أن يتكلموا بكلام الجاهلية عند القبور، وربما ندب بعضهم فقال: وافلاناه! ونحو ذلك.

نُدِبْنا لزيارة القبور لأن فيها موعظة، وقال عليه الصلاة والسلام: (إني نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها؛ فإن فيها عبرة) وهذه العبرة هي تذكر الموت، تذكر الآخرة.

وفي رواية: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها؛ فإنها تُرِقُّ القلب، وتُدْمِع العين، وتذكِّر الآخرة، ولا تقولوا هُجْراً) ومعنى: تُرِقُّ القلب أي: تزيل قسوته.

(14/12)

زيارة المقابر خاصة بالرجال ويزار الكافر للاتعاظ

وكذلك فإن زيارة القبور كما قلنا: خاصة بالرجال على الراجح؛ لحديث: (لعن الله زوَّارات القبور) والأحاديث التي فيها قد يُفهم من ظاهرها جواز زيارة النساء للقبور منسوخة بأحاديث النهي، ولم يُستثنَ إلا الرجال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها) أي: يا أيها الرجال، أما النساء: (لعن الله زائرات القبور، أو لعن الله زوَّارات القبور) وهذا يدل على التحريم ولا شك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلعن على شيء مباح أو مكروه، ولا يكون اللعن إلا على شيء محرم.

ولكن كما قلنا: لو مرت بجانب قبر النبي صلى الله عليه وسلم وهي خارجة من باب الحرم، أو داخلة باب الحرم، أو مرت بمقبرة من غير قصد زيارتها فلتسلم عليها بما سبق.

هذا ويجوز زيارة قبر من مات على غير الإسلام للعبرة فقط، وقد جاء في هذا أحاديث: منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنتُ ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت).

وفي رواية: عن بريدة رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فنزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب، فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان، فقام إليه عمر بن الخطاب ففداه بالأب والأم، يقول: يا رسول الله! ما لَكَ؟ قال: إني سألت ربي عزوجل في الاستغفار لأمي فلم يأذن لي، فدمعت عيناي رحمة لها من النار، واستأذنتُ ربي في زيارتها فأَذن لي، وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، ولْتَزِدْكم زيارتها خيراً) ففي هذا الحديث جواز زيارة المشركين في الحياة، وقبورهم بعد الوفاة؛ لأنها إذا جازت زيارتهم بعد الوفاة ففي الحياة أولى.

وفي الحديث النهي عن الاستغفار للكفار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤذن له بالاستغفار لأمه؛ لأنها ماتت على الشرك.

والعرب كان عندهم دين إبراهيم، وعرفوه، وأقيمت عليهم الحجة به، وإسماعيل كان من الأنبياء في العرب.

وأبو النبي صلى الله عليه وسلم وأمه ماتا على الشرك، وكذلك عمَّاه وجده، ماتوا على الشرك، والله عزوجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113].

إذاً: لا يجوز الاستغفار للكافر، والآية نزلت في وفاة أبي طالب على الشرك.

وكذلك فإن القصد من زيارة القبور شيئان: الأمر الأول: انتفاع الزائر.

والثاني: انتفاع المزور.

انتفاع الزائر: بذكر الموت والموتى والمآل بعد الموت.

انتفاع المزور: بالدعاء له، والاستغفار له، والإحسان إليه في هذه الزيارة.

وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى البقيع فيدعو لهم، فسألته عائشة عن ذلك فقال: (إني أمرت أن أدعو لهم).

وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الصحابة إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لَلاحقون، أنتم لنا فَرَط -يعني: سبقتمونا- ونحن لكم تَبَع -نأتي على إثركم- أسأل الله لنا ولكم العافية) فهذا دعاء آخر.

وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: (السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددتُ أنا قد رأينا إخواننا، قالوا: أوَلَسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين يأتون بعدُ) الحديث.

(14/13)

قراءة القرآن في المقابر

أما قراءة القرآن عند زيارة المقبرة والفاتحة: فمما لا أصل له في السنة أبداً، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح أنه قرأ القرآن في المقبرة للموتى، ولا أنه قرأ الفاتحة وأهداها للموتى مطلقاً، ومن أبى فعليه الدليل، وليأتِ بعلم إن كان صادقاً: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام:143] {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4] ولما علَّم النبي صلى الله عليه وسلم عائشة السلام والدعاء، لم يعلمها أن تقرأ الفاتحة أو غيرها من القرآن.

وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان يفر من البيت الذي يُقرأ فيه سورة البقرة) فقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن القبور ليست موضعاً لقراءة القرآن شرعاً، ولذلك قال: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر) اقرءوا فيها سورة البقرة، ما معنى الكلام هذا؟ الآن المقابر ما فيها قراءة قرآن، (لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان يفر من البيت الذي يُقرأ فيه سورة البقرة) أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه.

وقال عليه الصلاة والسلام: (صلوا في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً) لأن المقابر لا يجوز الصلاة فيها، إلا صلاة الجنازة لمن فاتته صلاة الجنازة، يجعل القبر بينه وبين القبلة ويصلي الجنازة على القبر فقط، أما صلاة أخرى في المقبرة فلا تجوز.

وكان مذهب جمهور السلف كـ أبي حنيفة، ومالك، وغيرهما، كراهة القراءة عند القبور.

قال أبو داود رحمه الله: سمعت أحمد سئل عن القراءة عند القبر، فقال: لا، لا توجد قراءة عند القبر.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم: ولا يُحْفَظ عن الشافعي نفسه في هذه المسألة كلام، وذلك لأن ذلك كان عنده بدعة.

وقال مالك -الذي مذهبه مالكي يسمع كلام مالك -: [ما علمتُ أحداً يفعل ذلك] يعني: يقرأ القرآن في المقبرة.

فعُلِم أن الصحابة والتابعين ما كانوا يفعلونه.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الاختيارات العلمية: والقراءة على الميت بعد موته بدعة.

وجاء في بعض الآثار عن الصحابة قراءة يس على المحتضر وليس على الميت، وليس ذلك حديثاً مرفوعاً، أما الميت فلا يُقرأ عنده؛ لا يس ولا غير يس؛ لا قبل الدفن ولا بعد الدفن، فلا يُقرأ عنده شيء البته.

وكذلك فإن الإنسان إذا جاء يدعو في المقبرة يرفع يديه في الدعاء لأجل الحديث الذي مر معنا.

(14/14)

استقبال القبلة في الدعاء لا القبر

نقطة مهمة: إذا جئت تدعو في المقبرة فاستقبل القبلة لا القبر، والدعاء عبادة، ويجب أن يُفْعَل وفق الطريقة الشرعية.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهذا أصل مستمر؛ أنه لا يستحب للداعي أن يستقبل إلا ما يُستحب أن يصلي إليه، ألا ترى أن الرجل لما نُهي عن الصلاة إلى جهة المشرق وغيرها فإنه يُنهى أن يتحرى استقبالها وقت الدعاء، ومن الناس من يتحرى وقت دعائه استقبال الجهة التي يكون فيها الرجل الصالح سواءً كانت في المشرق أو غيره، وهذا ضلال بيِّن، وشر واضح.

كما أن بعض الناس يمتنع من استدبار الجهة التي فيها بعض الصالحين، وهو يستدبر الجهة التي فيها بيت الله، وقبر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وكل هذه الأشياء من البدع التي تضارع دين النصارى.

فإذاً: لا يستلم القبر بيده، ولا يقبِّله، ولا يستقبله في الدعاء، بل يستقبل القبلة، فهو إذا قصد السلام على ميت جاءه فسلم عليه من قِبَل وجهه، وإذا أراد التحول للدعاء فإنه يقصد الكعبة.

قال شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب: قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة: ومذهب الأئمة الأربعة مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وغيرهم من أئمة الإسلام أن الرجل إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يدعو لنفسه فإنه يستقبل القبلة؛ لأنك إذا جئت إلى المسجد النبوي وأردت أن تسلم على قبر النبي عليه الصلاة والسلام، فإنك تستقبل القبر لأجل السلام، فتقف أمام القبر وتقول: السلام عليك يا رسول الله، وعندئذٍ يكون ظهرك إلى القبلة، إذا أردت أن تدعو فعليك أن تستدير وتستقبل القبلة لا القبر، ولذلك ترى بعض هؤلاء المغفلين، أو بعض الجهلة، أو بعض الصوفيين المتعمدين الأفاكين؛ يستقبلون القبر ويستدبرون الكعبة، ويدعو إلى القبر تاركاً الكعبة وراءه.

قال شيخ الإسلام: فقال الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد: يستقبل الحجرة ويسلم عليه من تلقاء وجهه.

وقال أبو حنيفة: لا يستقبل الحجرة وقت السلام كما لا يستقبلها وقت الدعاء.

فـ أبو حنيفة حتى السلام عنده يستقبل فيه القبلة، وهؤلاء يقولون: مذهبهم حنفي.

فالدعاء لم يتنازع الأئمة الأربعة في أنه يستقبل فيه القبلة لا الحجرة، لكن في السلام على النبي صلى الله عليه وسلم الأئمة الثلاثة قالوا: يستقبل الحجرة، وأبو حنيفة قال: الكعبة، فمذهبه فيه قولان: قيل: يستدبر الحجرة.

وقيل: يجعلها عن يساره عند السلام.

(14/15)

قبر الكافر يزار ولا يدعى له

وأما بالنسبة لزيارة قبر الكافر فإنه لا يسلم عليه، ولا يدعو له، بل يبشره بالنار، كما جاء الدليل في حديث سعد بن أبي وقاص، قال: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أبي كان يصل الرحم، وكان، وكان، فأين هو؟ قال: في النار، فكأن الأعرابي وَجَدَ من ذلك، فقال: يا رسول الله، فأين أبوك؟ فقال في رواية قال: أبي وأبوك في النار.

في هذه الرواية قال: حيث ما مررت بقبر كافرٍ فبشره بالنار، قال: فأسلم الأعرابي بعدُ، فقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعباً؛ ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار) رواه ابن ماجة والطبراني وغيرهم.

(14/16)

الانتعال في المقبرة

ولا يجوز للإنسان أن يمشي بين قبور المسلمين بنعليه، لحديث بشير بن الخصاصية قال: (بينما أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على قبور المسلمين، فبينما هو يمشي إذ حانت منه نظرة، فإذا هو برجل يمشي بين القبور عليه نعلان -بين القبور- فقال: يا صاحب السبتيتين، ألْقِ سبتيتيك، فنظر، فلما عرف الرجلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خلع نعليه فرمى بهما) والسبتيتان: نوع من النعال.

المقابر اليوم مثل المقبرة التي عندنا هنا فيها شوارع عريضة بين القبور فلا بأس أن تمشي فيها بالنعال؛ لأن الشارع ليس فيه قبور، لكن إذا ذهبت يميناً أو شمالاً فينبغي أن تخلع نعليك إذا أردت أن تمشي بين القبور، ولا تمشي بالنعال، كل هذا من احترام الإسلام للميت، وقد ثبت أن الإمام أحمد رحمه الله كان يعمل بهذا الحديث، فقال أبو داود في مسائله: رأيت أحمد إذا تبع الجنازة فقرُب من المقابر خلع نعليه.

(14/17)

وضع غصن رطب على القبر

هل يُشرع وضع جريد نخل، أو غصن شجرة رطب على القبر؟ لا يجوز ذلك، فإن قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم وضعه، فنقول: إن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يفعل ذلك في كل زيارة مقبرة وإنها هي حالة نُقِلَت وضعه فيها لسبب، قال: أرجو أن يُخَفَّف عنهما ما لم ييبسا؛ وهذه مسألة غيبية لا نعلمها، أي: لا نعلم هل يُخَفَّف أو لا يُخَفَّف، ولذلك فإن هذه المسألة غيبية، خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والدليل على ذلك أن الصحابة ما فعلوها ولا السلف، وبعض الناس في بعض البلدان يضعون الأغصان الخضراء، وبعضهم يزرعون أشجاراً عند المقبرة، وهذه كمقابر النصارى خضراء كأنها غابة أو حدائق وجنات، فهي لا تيبس وهم في النار، وهذا يدل على أن حديث: (يُخَفَّف عنهما ما لم ييبسا) خاص بالحالة التي كان فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فهناك مقابر كفار فيها أشجار خضراء طيلة العام ولا يغني عنهم ذلك شيئاً.

وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إني مررت بقبرين يعذبان، فأحببتُ بشفاعتي أن يُرَدَّ عنهما ما دام الغصنان رطبين).

فالسبب للتخفيف هو الشفاعة لا وضع الغصن لما سبق في الحديث، لو كان السبب رطوبة الغصن لكانت هذه الأشجار الخضراء الغناء الموجودة في مقابر الكفار نفعت؛ لكن القضية بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.

فالسر ليس في النداوة والرطوبة، ليست هي السبب في تخفيف العذاب؛ وإنما بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه.

فتأمل الآن ما يفعله بعض المسلمين من الذهاب إلى المقابر ووضع أكاليل الزهور والرياحين ونحو ذلك على قبورهم أو قبور الآخرين، أو الجندي المجهول، أو الجندي المعلوم، أو الكلام الفارغ الذي يفعلونه تقليداً للنصارى؛ وهذا حرام ولا شك، فوضع الرياحين والورود وأكاليل الزهور على القبور بدعة ضلالة، وتقليد للكفار، ولا يجوز لمسلم أن يفعله.

هذه بعض الفوائد المأخوذة من حديث عائشة مع شيء من التوضيح في مسألة زيارة المقابر.

نسأل الله أن يتغمدنا برحمته.

(14/18)

الأسئلة

(14/19)

لا تسن الاستراحة بعد سجود التلاوة في الصلاة

يقول

السؤال

هل توجد جلسة استراحة بعد سجود التلاوة في الصلاة؟

الجواب

لا.

جلسة الاستراحة تكون في الانتقال من الركعة الأولى إلى الثانية ومن الثالثة إلى الرابعة، أما بعد سجود التلاوة فلا.

(14/20)

تحديد ليلة لزيارة القبور

السؤال

أهل بعض البلدان لهم ليلة للدعاء عند القبور، ويستدلون بحديث عائشة في زيارة البقيع، فما الحكم؟

الجواب

تعيين ليلة معينة لزيارة القبور بدعة، بل يزور في أي وقت تيسر، وإذا كانت المقبرة لا تفتح إلا يوم الجمعة، فليزرها يوم الجمعة لا لأجل يوم الجمعة تحديداً، بل لأنه لا يتيسر ذلك إلا يوم الجمعة فقط، أما أن يحدد ليلة معينة يزور فيها القبر ويعتقد أن لهذه الليلة خاصية في الزيارة؛ فهذا حرام، وبعضهم يقول: الزيارة يوم العيد، يعيد على الأحياء وعلى الأموات؛ وهذه أيضاً من البدع، زيارة القبور في أي وقت، وليس هناك وقت محدد؛ لا لجمعة ولا العيد.

(14/21)

الإحرام من بلد الحاج

السؤال

هل يجوز أن أغتسل في بيتي وألبس الإحرام ثم أذهب إلى الميقات؟

الجواب

نعم، يمكن ذلك.

(14/22)

قيام العشر من رمضان كاملة

السؤال

بعض البلدان يصلون آخر العشر من رمضان كلها من بعد العشاء مباشرة لوجود أعمال وأشغال.

فما الحكم؟

الجواب

لا بأس، لكن قد لا يكون هناك راحة، والناس قد لا يستطيعون مواصلة ساعتين قياماً، فالأفضل أن تجعل قسمين، لأجل أن يصيب في النصف الأخير من الليل الثلث الأخير من الليل.

(14/23)

حكم الكفارة إذا تعددت الأيمان

السؤال

رجل حلف أيماناً متعددة في وقت واحد على شيء واحد، فهل تكرر الكفارة؟

الجواب

الكفارة واحدة.

(14/24)

التبرع بالأعضاء بعد الموت

السؤال

هل يجوز التبرع بالأعضاء بعد الموت؟

الجواب

نعم، بشروط ذكرها العلماء في الفتاوى المعاصرة.

(14/25)

فضيلة القبر في البقيع

السؤال

هل ثبتت سنة في فضيلة القبر بمقبرة بقيع الغرقد؟

الجواب

النبي صلى الله عليه سلم دعا لأهل بقيع الغرقد، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استطاع منكم أن يموت بـ المدينة فليفعل) فهذا يدل على أن الموت فيها له فضل، والبقيع مقبرة أهل المدينة إلى الآن.

(14/26)

تغميض الينين في الصلاة

السؤال

هل يجوز تغميض العين في الصلاة؟

الجواب

يجوز إذا لم يخشع إلا بذلك، أما إذا كان يخشع بغيره فالسنة النظر إلى موضع السجود، وإلى السبابة في التشهد، أما إغماض العينين دون سبب فلا، وقيل: إنه من فعل اليهود، لكن إذا كان هناك زخارف، أو لا يخشع إلا بذلك فلا بأس.

(14/27)

الشحناء بين الزوجين ورفع الأعمال

السؤال

( تُرفع الأعمال يوم الإثنين والخميس) فهل يدخل في ذلك شحناء الزوج على زوجته؟

الجواب

إذا كان بحق فلا يدخل، وأما إذا كانا يتشاحنان بغير حق فهما من ضمن المتشاحنين.

(14/28)

حكم من كان يفطر ولا يدري

السؤال

تعمَّد الإفطار في وقت الصِّغَر ولا يذكر إذا كان مكلفاً آنذاك أم لا، فهل عليه القضاء؟

الجواب

يعمل بغلبة الظن، إذا كان مكلفاً فعليه القضاء.

(14/29)

من نوى السفر لعمرة فالإحرام من الميقات

السؤال

أنوي الذهاب إلى جدة لغرض العمل حوالي خمسة أشهر، وأنوي عمل عمرة متى ما تيسر، فكيف الإحرام؟

الجواب

ما دام سيسافر بنية العمرة فالإحرام من الميقات.

(14/30)

هيئة القبر الإسلامي

السؤال

اذكر لنا هيئة القبر الإسلامي؟

الجواب

أن يُجْعَل مُسَنَّماً مرتفعاً عن الأرض بمقدار شبر، ولا يزاد على ذلك، ولا تجوز الكتابة عليه، ولا تجصيصه، ولا البناء عليه، ولا وضع الأنوار عليه.

(14/31)

هجر الزوجة

السؤال

ما صفة هجر الزوجة؟

الجواب

تُهجر الزوجة بالكلام، وتُهجر في الفراش، ويهجرها في البيت حتى تستجيب.

(14/32)

العقيقة عمن ولد ميتاً

السؤال

هل للذي يولد ميتاً عقيقة؟

الجواب

إذا نُفِخ فيه الروح ومات بعد ذلك فيعق عنه.

(14/33)

التوبة من بدع القبور

السؤال

قبل الالتزام بالدين ذهبت إلى السيد البدوي وضريح آخر، وفعلتْ ما يفعله الآخرون من الدعاء والطواف، والنذور بالنجاح وبالزواج، والآن عرفت والحمد لله أن كل هذا حرام، فماذا يلزمني؟

الجواب

يلزم التوبة من هذا الشرك العظيم، وتحقيق التوحيد، والقراءة في كتب التوحيد، والتحذير من الشرك، ونصيحة الآخرين.

(14/34)

حكم نقل القبر

السؤال

ما حكم نقل القبر من مكان إلى آخر؟

الجواب

لا يجوز نقل القبر من مكان إلى آخر إلا إذا وجدت حاجة للنقل، مثل: أن يصبح بمنطقة ليس فيها حرمة للمقابر، أو يخشى عليه، كمنطقة سيول، أو منطقة سرق، فعند ذلك ينقل، وإلا فلا يجوز أن ينقل.

(14/35)

لم يُصلِّ النبي عند القبر

السؤال

فهمتُ من الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قام عند المقابر، هل يعني هذا أنه صلى؟

الجواب

لا، قام أي: قام على رجليه يدعو.

(14/36)

حكم خروج المرأة متعطرة ولا تمر على الرجال

السؤال

زوجتي تخرج متعطرة إلى بيت أهلها، وأنا أقوم بتقريب السيارة حين خروجها ونزولها، وكذلك بيت بعض الأقرباء دون مرورها على الرجال، فهل في ذلك بأس؟

الجواب

إذا كنت تضمن ألا تمر على الرجال فلا بأس، لكن كيف تضمن؟!

(14/37)

زيارة القبر النبوي الشريف

السؤال

إذا ذهبت إلى المدينة المنورة لأزور قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فهل يجوز ذلك؟

الجواب

لا يجوز أن ينوي بالسفر زيارة القبر، لكن ينوي بالسفر الصلاة في المسجد، فإذا صار هناك زار القبر.

(14/38)

الزيادة في رفع القبر ذريعة للشرك

السؤال

كم يكون رفع القبور؟

الجواب

السنة أن تكون شبراً فقط، ورفعها زيادةً على ذلك ذريعةٌ للشرك.

(14/39)

وضع النقود عند القبر

السؤال

في البلد وعلى الطريق قبر، ولا يستطيع أن يتجاوزه إلا بعد السلام عليه، والدعاء عنده، وإعطاء بعض النقود تحت إلحاح العائلة والزوجة.

الجواب

يقف ليدعو أما أن ينزل إليه ويدفع النقود فلا، فإعطاء النقود ووضعها عند القبر بدعة؛ وهذه النقود هي نقود ليس لها صاحب، بمعنى: لو جاء واحد وأخذها فهي حلال له، لا هي للقبر، ولا لها حرمة، ولا شيء.

(14/40)

جمع حلي المرأة وبناتها لأجل الزكاة

السؤال

عندي بنات وزوجة ولديهن ذهب لا يكمل النصاب إلا إذا جمعته.

الجواب

ليس فيه زكاة، ولا يجب جمعه.

(14/41)

معنى الحيوان في آية العنكبوت

السؤال

{ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] ما معنى الحيوان؟

الجواب

معناه: الحياة الحقيقية المستمرة المستقرة الدائمة.

(14/42)

التوجه في سجود التلاوة

السؤال

إلى أين يتوجه في سجود التلاوة؟

الجواب

في سجود التلاوة يتوجه إلى القبلة.

(14/43)

حكم اتباع مذهب فقهي

السؤال

هل المسلم ملزم باتباع مذهب من المذاهب الأربعة؟

الجواب

لا، إذا كان عامياً فمذهبه مذهب مفتيه، وإذا كان طالب علم فيبحث عن القول الراجح بدليله، ولا حرج من تقليد أحد الأئمة بشرط: أن يَتْبَع الحق إذا عرف أن الحق في غير المذهب.

(14/44)

التراجع عن التعليق في الطلاق

السؤال

رجل جعل على امرأته الطلاق إذا سافرت إلى جدة وإلى أهلها، وبعد مرور مدة غير رأيه.

الجواب

تغيير الرأي لا ينفع، ولا يخرجه من الموضوع بسلام، إذا قصد الطلاق وقع الطلاق لو ذهبت، وإذا قصد اليمين فعليه كفارة يمين لو ذهبت.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

(14/45)

قصة مسجد أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه

فضائل أبي بكر لا تحصى، عرفها من عرفها وجهلها من جهل، فإنه كان صاحب فضل وخير على الناس في الجاهلية والإسلام، ولا أعظم من أن يكون أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولذا استبقاه للهجرة معه، وفي هذه المحاضرة شرح لحديث الهجرة، ومنه يتبين فضل أبي بكر، وتوضيح لقصة بنائه لمسجده الذي جعل كفار قريش يفزعون منه، ويخشون على نسائهم وأطفالهم من أن يدخلوا في دينه.

(15/1)

سياق حديث الهجرة وشرحه

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فهذا الدرس سيكون عن قصة مسجد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (لم أعقل أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفيَ النهار بكرةً وعشية).

وأبوها أبو بكر وأمها أم رومان رضي الله تعالى عنهما؛ ومعنى: يدينان الدين تعني: يدينان بدين الإسلام، فهي منذ أن وعت في هذه الدنيا وعرفت أبويها؛ عرفتهما مسلمَين.

وعائشة رضي الله عنها تقول: (لم أعقل أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يومٌ إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفَي النهار بكرة وعشية، فلما ابتُلي المسلمون) يعني: بأذى المشركين من كفار قريش وحاصروهم في الشعب، وآذوا المسلمين بالضرب والسجن والقتل والنفي (خرج أبو بكر مهاجراً قِبَل الحبشة) أي: ليلحق بمن سبقه من المسلمين إلى الحبشة، وهؤلاء المسلمون المهاجرون إلى الحبشة ساروا أولاً إلى جدة، وهي ساحل مكة ليركبوا منها البحر إلى الحبشة، بعدما أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم.

(فخرج أبو بكر مهاجراً قِبَل الحبشة حتى إذا بلغ بَرْك الغَماد) وبَرْك الغَماد: موضع على خمس ليالٍ من مكة إلى جهة اليمن.

فلما ابتعد أبو بكر من مكة مسيرة خمس ليالٍ وبلغ هذا الموقع، وهو بَرْك الغَماد (لقيه ابن الدَّغِنَة، وهو سيد القارَة) من هو ابن الدَّغِنَة هذا؟ هو رجلٌ مشركٌ كافرٌ يُنسب إلى أمه، وقيل: إلى أم أبيه، والدَّغِنَة معناها في اللغة: المسترخيه، وأصلها الغمامة الكثيرة المطر، ابن الدَّغِنَة هذا هو سيد القارَة؛ والقارَة قبيلة مشهورة من خزيمة بن مدركة بن إلياس، وكانوا حلفاء بني زهرة من قريش، وكان يُضرب بهم المثل في قوة الرمي، ولذلك يقول الشاعر:

قد أنصف القارَة من رماها

فـ أبو بكر لقي ابن الدَّغِنَة في هذا الموضع بعدما خرج من مكة يريد الهجرة إلى الحبشة.

(فـ ابن الدَّغِنَة قال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي) أخرجني قومي أي: تسببوا في إخراجي من بلدي مكة، وأنا أريد أن أذهب متوجهاً إلى الحبشة.

والسياحة في اللغة: أن لا يقصد الإنسان موضعاً بعينه ليستقر فيه، فهو في سياحة يسافر ويرحل بدون قصد موضع معين للإقامة، هذه هي السياحة في اللغة.

فيقول أبو بكر: (فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، قال ابن الدَّغِنَة: إن مثلك لا يَخرج ولا يُخرج؛ فإنك تكسب المعدوم.

وفي رواية: المعدَم، وتصل الرحم، وتحمل الكلَّ -ومعنى الكل: العاجز الفقير الذي يحتاج من يعوله- وتقري الضيف -يعني: تكرم الضيف- وتعين على نوائب الحق) وهذه الصفات مثل الصفات التي وَصَفَت بها خديجة النبي عليه الصلاة والسلام.

فهذا الرجل المشرك يثني على أبي بكر الصِّدِّيق بأنه يعين في النائبات، وأنه كريم، وأنه يساعد ويغيث الملهوف.

يقول: (وأنا لك جارٌ -أي أجيرك وأمنعك ممن يؤذيك- فارجع فاعبد ربك ببلادك، فارتحل ابن الدَّغِنَة ورجع مع أبي بكر فطاف في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرج، أتخرجون رجلاً يُكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكلَّ، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟! فأنفذت قريش جوار ابن الدَّغِنَة) فلم تكذب قريش جوار ابن الدَّغِنَة، وأقرت بجواره، وقبلت شفاعته؛ لأن ابن الدَّغِنَة كان سيداً في قومه, وكان له مكانة عند قريش، ولذلك قبلوا شفاعته في أبي بكر، وكفوا عن أبي بكر الأذى.

قالت عائشة: (وآمنوا أبا بكر، وقالوا لـ ابن الدَّغِنَة: مُرْ أبا بكر فليعبُد ربه في داره، فليصلِّ وليقرأ ما شاء، ولا يؤذنا بذلك، ولا يستعلن به) أي: ليس عندنا مانع أن نبقي أبا بكر؛ بشرط أن يخفي دينه في بيته ولا يظهره، ولا يتكلم بشيء من دينه جهراً (فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فقال ذلك ابن الدَّغِنَة لـ أبي بكر فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره فترة، ولا يستعلن بالصلاة ولا القراءة في غير ذلك، ثم بدا لـ أبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره وبرز، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقَصَّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم؛ يعجبون منه، وينظرون إليه، وفي رواية: فيتقذَّف إليه) ومعنى ذلك: أنهم يزدحمون عليه حتى يسقط بعضهم على بعض فينكسر، ومعنى يتقصفون: يجتمعون اجتماعاً عظيماً حتى إنهم يتساقطون من الزحام والرغبة في السماع، قالت عائشة: (وكان أبو بكر رجلاً بكَّاءً، لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين) وذلك لما يعلمونه من رقة قلوب النساء والشباب من أولادهم، وقد يميلون إلى دين الإسلام (فأرسلوا إلى ابن الدَّغِنَة، فقدم عليهم، فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، وإنه جاوز ذلك فابتنى مسجداً بفناء داره، وأعلن الصلاة والقراءة، وقد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فائته، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فَعَلَ، وإن أبى إلا أن يُعلن ذلك فسَلْه أن يرد إليك ذمتك، فإنا كرهنا أن نخفرك).

أي: إذا رضي أن يعود إلى داخل الدار فله ذلك، وإذا رفض وأصر على الجهر بدينه فاطلب منه أن يرد الأمان الذي أعطيناه بسببك.

(فإنا كرهنا أن نخفرك) أي: نحن لا نريد أن نغدر وقد أعطيناه الأمان بسببك، لا نريد أن نغدر به ونخفر الذمة، فاطلب من أبي بكر أن يرد إليك الجوار إذا كان يريد أن يستمر على هذا الإعلان.

() فإنا كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لـ أبي بكر الاستعلان.

قالت عائشة: فأتى ابن الدَّغِنَة أبا بكر فقال: قد علمتَ الذي عقدتُ لك عليه -أي: الشرط بيني وبينك- فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إليَّ ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أُخفرت في رجلٍ عقدتُ له) أي: لا أحب أن يكون صيتي بين العرب وسمعتي أنني أعطيت إنساناً جواراً ثم إن هذا الإنسان غُدِر به، وأن جواري لا قيمة له، فإنني أكره ذلك، فماذا كان جواب الصِّدِّيق رضي الله عنه؟ قال أبو بكر: (إني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله) ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ بـ مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد أُرِيت دار هجرتكم، رأيت سبخة ذات نخلٍ بين لابَتين) أي: أرض مالحة لا تكاد تنبت، وبين لابتين: هما الحرتان، فهاجر مَن هاجر قِبَل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع إلى المدينة بعض مَن كان هاجر إلى أرض الحبشة، وتجهز أبو بكر مهاجراً، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على رسلك! فإني أرجو أن يؤذن لي، قال أبو بكر: هل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السَّمُر أربعة أشهر).

هذه رواية مختصرة لحديث الهجرة ساقها الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الحوالة من صحيحه، وهو قد ساق هذا الحديث في عدد من الأبواب من صحيحه، ومنها ما هو في المناقب.

وهكذا كان من شأن أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه.

(15/2)

الفوائد المستفادة من حديث الهجرة

هذه القصة فيها عدد من الفوائد:

(15/3)

جواز النزول في جوار المشرك ما لم يكن ذلاً

أولاً: فمن المسائل الفقهية المتعلقة بهذا الموضوع: أن الإنسان المسلم يجوز له أن ينزل في جوار مشرك إذا لم يترتب على ذلك محظور شرعي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بكر رضي الله تعالى عنه نزوله في جوار هذا المشرك، ولأن دخول الصِّدِّيق رضي الله عنه في حماية هذا الرجل الكافر لم ينبنِ عليه وقوع معصية من أبي بكر، أو وقوع شرك، أو تنازل عن شيء من الدين، وإنما كان ذلك حماية مجانية من ابن الدَّغِنَة، ولم يكن فيها كذلك ذلٌ للصديق رضي الله عنه، ولذلك فإن القبول بمثل هذا في هذه الحالة جائز، بخلاف ما لو ترتب على دخول المسلم في أمان مشرك أو جوار مشرك أن يتنازل عن شيء من دينه؛ كأن لا يقيم شيئاً من الدين، أو ترتب عليه وقوع في معاصٍ، أو ذل، أو أنه يعطي الدنية في دينه.

(15/4)

جواز بناء المسجد في مباح لا يضر بالناس

ثانياً: وكذلك من فوائد هذا الحديث الفقهية ما عنون البخاري رحمه الله عليه في كتاب الصلاة، باب: المسجد يكون في الطريق من غير ضرر بالناس.

فيجوز للإنسان أن يبني مسجداً في مِلكه، ويجوز أن يبني مسجداً في منطقة مباحة بحيث لا يضر بأحد، وأما بناؤه في مِلك الغير فهو ممنوع بالإجماع.

فإذاً: المسجد يمكن للإنسان أن يبنيه في ثلاثة أماكن: يبنيه في مِلكه.

الثاني: أن يبنيه في مِلك غيره.

الثالث: أن يبنيه في مكان ليس لأحد.

فأما بالنسبة لبنائه في ملكه فهذا جائز بالإجماع.

وأن يبنيه في ملك غيره فهذا ممتنع بالإجماع.

وأن يبنيه في مكان مباح ليس لأحد، هذا جائز إذا لم يكن فيه ضرر على أحد.

وأبو بكر رضي الله عنه قد بنى المسجد بفناء داره، فهو مِلكه يفعل فيه ما يشاء.

ويجوز للإنسان إذا كان عنده بيت كبير أن يبنى مسجداً في جانب منه ويجعل له باباً إلى الخارج ليدخل إليه الناس؛ وهذا لا بأس به ولا حرج، وقد فعله الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه.

(15/5)

جواز الأخذ بالشدة في الدِّين

ثالثاً ومن الفوائد الأخرى في هذا الحديث: جواز الأخذ بالشدة في الدين: فإنه كان يجوز لـ أبي بكر الصِّدِّيق في هذا الوضع أن يبقى في حماية ابن الدَّغِنَة، ويعبد ربه في داره، ولكنه أخذ بالشدة، وأخذ بالأمر الشاق، ورد جوار المشرك، وقبل أن يتحمل الأذى، وقال له: (أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار الله) فهذا دال على قوة يقين أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، وعلى الأخذ بالأشد في الدين، وأن عنده قدرة على التحمل، ولذلك رد جوار المشرك، ورضي أن يتعرض للأذى في مقابل أن يعلن دينه.

(15/6)

أهمية التزام الأبوين لبناء شخصية الطفل

رابعاً: أهمية نشوء الطفل في أول أمره بين أبويَن مسلمَين في بيت مسلم، وأن هذه النشأة لها أثر بالغ عليه في المستقبل: فـ عائشة رضي الله عنها من أعقل النساء، وأفضل النساء، وأعلم النساء، بل هي أعلم نساء المؤمنين على الإطلاق.

ومن أسباب ذلك: أنها نشأت في أول أمرها بين أبوَين صالحَين، لم يضع من عمر عائشة فترة من الزمن وهي في جاهلية أو شرك أو جهل، أو كفر أو فسق، تقول: (لم أعقل أبويَّ قط إلا وهما يدينان الدين) ولذلك كلما كان التزام الأبوين بالدين مبكراً كان ذلك في صالح الولد أكثر.

وأي تأخر في التزام الأب أو التزام الأم بالدين؛ إنما يكون على حساب الولد؛ لأنه سيضيع فترة من عمر الولد بدون اهتمام أو تعليم؛ لأن الأب جاهل أو بعيد عن الدين، وكذلك الأم.

فلا شك أن الولد

وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوَّده أبوهُ

فكلما كان التبكير بالأخذ بالدين والالتزام به، كلما كان ذلك في منفعة الولد ومصلحته.

(15/7)

شدة علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بالصديق

خامساً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان وثيق الصلة بـ أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه: وكان يشاوره في أمور الدعوة ولا شك، ولذلك كان لا بد أن يمر على الصِّدِّيق يومياً: (ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرَفي النهار بكرة وعشية) وهذا يدل على منزلة الصِّدِّيق من النبي عليه الصلاة والسلام، فهو وزيره الأول.

(15/8)

الهجرة بالدين

وسادساً: أن الإنسان إذا لم يستطع أن يظهر شعائر الدين في بلده فإنه يُشرع له أن ينتقل إلى بلد آخر.

فلما ابتلي المؤمنون خرج الصِّدِّيق مهاجراً، وانتقال الإنسان من بلد إلى بلد آخر لإقامة الدين أمر مهم، بل يجب على المرء إذا لم يستطع أن يقيم شعائر الدين في بلده ما لم تكن في البقاء مصلحة أكبر من مصلحة الهجرة، وأن سلامة الدين أهم من سلامة المال، أو البقاء في البلد، أو الديار، أو الأهل، أو الوطن، وأن الغربة في سبيل الله مطلوبة، ولذلك رضي بها الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهاجر قسم كبير منهم؛ لأجل أنهم لم يكونوا يستطيعون إقامة شعائر الدين في مكة.

(15/9)

أهمية السمعة الطيبة للمسلم

وسابعاً: مكانة وأهمية سمعة الإنسان المسلم بين الناس: فإن الصِّدِّيق رضي الله عنه لا نفاقاً ولا رياءً، وإنما هذا من طبعه رضي الله عنه أنه كان كريماً صاحب معروف، يعطي المعدوم، يصل الرحم، يقري الضيف، يعين العاجز الفقير في النوائب، وهذه الأعمال الخيرية التي كانت في الصِّدِّيق كان لها انتشار بين الناس حتى عُرِف بها الصِّدِّيق، ولذلك لما رأى ابن الدَّغِنَة الصِّدِّيق خرج من مكة قال: (إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرج) أي: لا يمكن أن مثل هذا يَخرج أو يُخرج إنسان هذه صفاته، وذكر لهم صفات الصِّدِّيق.

فسمعة الإنسان المسلم بأعمال الخير التي يعملها تكون سبباً في نجاته بإذن الله، وييسر الله له من الناس، ولو من الكفرة والمشركين مَن يحميه أو يدافع عنه بسبب أعماله الخيرية، فيجب أن يحرص المسلم على أن يكون له باعٌ في عمل الخير، لا من أجل أن يحمي نفسه، أو من أجل أن يكون له شافع من الناس، أو جار يجيره، ولكن ذلك من طبيعة هذا الدين، والله تعالى يوصلها إلى الخلق، ويصبح هذا الشخص صاحب سمعة طيبة بين الناس، وعمل الخير ينفع صاحبه دائماً، وفي أوقات الشدة يكون هذا العمل من الأشياء التي تعين الإنسان على إقامة دينه.

(15/10)

نصر الله الدين بالرجل الفاجر

ثامناً: أن الله تعالى قد يقيض من الكفار من يحمي المسلم: إن من الغرائب أن يوجد كافر يحمي مسلماً؛ لكن الله عز وجل يقيض لبعض المسلمين مَن يحميه من الكفار، كما حصل من جوار ابن الدَّغِنَة لـ أبي بكر رضي الله تعالى عنه.

(15/11)

أهمية إعلان الدعوة

الفائدة التاسعة: خطورة وأهمية إعلان الدين والصدع بالحق: وأن إعلاء كلمة الدين والوصول بها إلى المنابر، وإلى الأماكن التي تنفُذ من خلالها إلى الناس أمرٌ في غاية الأهمية, وأن تلك الوظيفة الإعلامية المهمة في نقل الدين إلى الناس لها شأن تأثيري عظيم لا يُستهان به، وأن الكفار كانوا يخشون من مجرد قراءة القرآن، والإعلان بالدين، يخشون على نسائهم وأطفالهم أو شبابهم من وصول كلمة الحق إليهم.

فوجود أماكن ومنابر ووسائل يُنْقَل بها الدين للناس أمر في غاية الأهمية.

(15/12)

قبول الحق والتأثر به ولو كان السامع كافراً

والفائدة العاشرة: أن هناك من الكفار من يسمع الحق ويقبل به، ويتأثر بالحق: فإن هؤلاء النساء والشباب الصغار من الكفار؛ كانوا يجتمعون لدرجة أن بعضهم يركب بعضاً، ويزدحمون على دار الصِّدِّيق، حتى ربما سقط بعضهم من الزحام، ولذلك قال الراوي: (فيتقذَّفوا.

وفي رواية: يتقصَّفوا -يزدحمون عليه- حتى يسقط بعضهم على بعض فيكاد ينكسر) فهذا من شدة الاجتماع والحضور، قد يوجد من الكفار من يستمع.

(15/13)

الإخلاص عامل تأثير في السامعين

والفائدة الحادية عشرة: أن الإنسان المسلم إذا كان مخلصاً تأثر بكلامه الآخرون، وازدحموا عليه وسمعوا منه، وليس مجرد اجتماع وتجمهر، فإن ذلك يمكن تحصيله بوسائل جمع الناس، لكن التأثير في الناس مسألة قلبية، فأنت ترى في مناسبات كثيرة في الأرض يتظاهرُ آلافٌ مؤلفةٌ، وعشرات الآلاف، ومئات الآلاف؛ ويُجمَعون بوسائل كثيرة من ترغيب أو ترهيب؛ لكن مَن الذي يتأثر ويؤثر، التأثير إنما يكون بناءً على الصدق والإخلاص، فإن الصِّدِّيق رضي الله عنه كان صاحب تأثيرٍ بصِدْقِه وقلبه النقي في الآخرين، حتى خشي الكفار على أولادهم وشبابهم من أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، وقالوا: (فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا).

(15/14)

أثر القرآن في الدعوة إلى الله

والفائدة الثانية عشرة: أن هذا القرآن له أثر كبير في نفوس الناس: ماذا كان يفعل الصِّدِّيق غير قراءة القرآن؟ لا شيء، إنما كان يجهر بالقرآن، كل الذي كان يفعله أبو بكر الصِّدِّيق هو أنه كان يجهر بالقرآن؛ ولكن القوم كانوا عرباً فصحاء يفهمون معاني القرآن، ويتأثرون به، وهكذا ارتضعوا اللغة منذ نعومة أظفارهم، ولذلك كان نساؤهم وشبابهم وصغارهم يتأثرون بالقرآن.

فإذاً: ينبغي أن لا يُغفل دور القرآن في الدعوة إلى الله أبداً، بل ربما يخطب الإنسان خطبة كلها من القرآن، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب بسورة ق.

ومن أثر القرآن، ومكانة القرآن وخطورة شأن القرآن في الدعوة إلى الله، قال الله تعالى في كتابه العزيز عن القرآن: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:52] جاهدهم به: الهاء ترجع إلى القرآن، فيقول للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} [الفرقان:52] أي: بهذا القرآن {جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:52] فَعُلِمْنا بهذه الآية أن القرآن وسيلة عظيمة للجهاد.

(15/15)

مكانة الجوار والذمة عند العرب واستغلال القرابة في خدمة الدعوة

الفائدة الثالثة عشرة: أن الجوار والذمة كان لها عند العرب شأن كبير: ولا زال الأمر كذلك عند كثير من أهل البادية؛ أنهم يقيمون وزناً للجوار والذمة، وأن هذه المسألة يمكن أن يستفاد منها في الدعوة إلى الله تعالى كما حصل هنا في حماية الداعية إلى الله وهو أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنه.

والنبي صلى الله عليه وسلم قد استفاد من علاقاته القَبَلِيَّة، واستفاد من قراباته؛ فمَنَعَه قومُه وأقرباؤه، وبنو هاشم كان لهم دور، وعهد الصحيفة وحصار الشعب إنما انتهى بأن قام ناس من الكفار فأنهوه لقرابتهم من بني هاشم.

إذاً: فالقرابات والعلاقات لها أثر في حماية الدعوة أو الداعية، فإنه لا ينبغي أن يُستهان بها، ولولا أن علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بأقربائه كانت قوية لِحُسْنِ معاملته لما دافعوا عنه، ولا ردوا عنه، ولا أُنْهِي حصار الشعب.

فإذاً: ينبغي أن تُقَدَّر هذه القضية حق قدْرها.

(15/16)

فضل أبي بكر الصديق وخشيته لله

وكذلك يؤخذ من هذا الحديث: فضل البكاء من خشية الله: وأن أبا بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه من مناقبه: أنه كان رجلاً بكاءً، إذا قرأ القرآن لم يملك عينه، يعني: من الدمع والبكاء، وهذا من مناقبه رضي الله عنه، وكثير من الناس مع الأسف لا يعرفون مناقب الصِّدِّيق جيداً، ولا يتعرفون على شخصيته جيداً، وربما بعضهم يعرف بعض الأشياء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أو عن علي بن أبي طالب؛ لكن لا يعرفون كثيراً عن الصِّدِّيق، مع أن الصِّدِّيق أفضل الجميع بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فينبغي معرفة شأن الصِّدِّيق رضي الله عنه في رقة قلبه وإيمانه، وسبقه في الخير والدعوة، وعموم أفعال البر التي كان يعملها، ومكانته عند النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يمر عليه في اليوم مرتين بكرة وعشية، وأنه الذي أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبقى حتى يهاجر معه، وأخبره عليه الصلاة والسلام أنه يرجو أن يؤذَن له بالهجرة، فيبقى الصِّدِّيق لكي يهاجر معه، ولذلك حبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلف الراحلتين وجهزهما، وحماه، وخاف عليه، وأصيب بالحزن لما اقترب الكفار من الغار، وهو الذي حلب له اللبن وبرَّده، وكان يضع له ذلك الشيء في الظل حتى يستريح عليه، وكان يورِّي، فكان يقول إذا سئل في الهجرة: (هذا رجل يهديني الطريق) حتى لا يعرف النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الذي أتى بغلامه ليدل على الطريق، وهو الذي أتى بابنه يرعى الغنم، وهو الذي أتى بابنته أسماء التي كانت تأتي بالطعام وتربطه بنطاقَيها، حتى سميت بـ ذات النطاقين.

ففضل الصِّدِّيق في الدعوة إلى الله وفي الإسلام، ومكانة الرجل في الإسلام عظيمة ينبغي أن تحفظ له، وأن ندعو الله سبحانه وتعالى لهذا الرجل العظيم أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، لما قدم وأعان في نصرة هذا الدين.

وهذا الحديث من تأمل فيه يجد مزيداً من الفوائد؛ خصوصاً في مجال الدعوة والتعامل مع الآخرين، وكيف يستفيد الإنسان من الواقع، ومن الإمكانات المتاحة في الدعوة إلى الله عزوجل.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرفع الصِّدِّيق في الدرجة العالية وأن يجزيه خير الجزاء.

والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(15/17)

قصة مقتل خبيب بن عدي

كثير هم الذين يموتون بأسباب شتى، لكن التاريخ لا يُسطَّر إلا لمن مات مدافعاً عن دينه وعقيدته، ومن أولئك النفر خبيب بن عدي رضي الله عنه وأصحابه في غزوة الرجيع، وهنا بيان لقصة مقتله مع ذكر فوائد مستقاة من تلك الأحداث.

(16/1)

قصة غزوة الرجيع

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فهذه القصة التي سنذكرها -إن شاء الله تعالى- هي قصةٌ من قصص الصحابة رضي الله عنهم مما حصل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تبين شيئاً من تضحيات أولئك النفر العظام في سبيل هذا الدين، وكيف اصطفى الله منهم شهداء.

وقد روى هذه القصة الإمام البخاري رحمه الله تعالى في كتاب: المغازي من صحيحه، وفي كتاب: الجهاد والسِّيَر، وأبو داوُد رحمه الله في كتاب: الجهاد من سننه، وكذلك أخرجها الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (بعث النبي صلى الله عليه وسلم سريةً عيناً -عشرة رهط- وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت، فانطلقوا حتى إذا كانوا بـ الهدَأة بين عُسْفان ومكة -اسم موضع- ذُكِروا لحي من هذيل يقال لهم: بنو لِحْيان -وبنو لِحْيان كانوا مشركين- فتبعوهم بقريب من مائة رامٍ، فتتبعوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما انتهى عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد) وهو المكان المرتفع عن الأرض، حيث حاصر المشركون هؤلاء العشرة المسلمون في هذه الغزوة وهي غزوة الرجيع.

(وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا -أي: المشركون-: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا ألا نقتل منكم رجلاً، فقال عاصم -وهو أمير السرية-: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا نبيك، فقاتلوهم حتى قتلوا عاصماً في سبعة نفر بالنبل، وبقي خبيب، وزيد، ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق، فلما أعطوهم العهد والميثاق، نزلوا إليهم) نزل المسلمون الثلاثة إليهم، وقد عنون البخاري رحمه الله على هذه القصة ب

السؤال

هل يستسلم المسلم للكفار أم لا؟ هل يرضى بالأسر أم لا يرضى، أم يقاتل حتى يُقتل؟ (فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم، فربطوهم بها -ربطوا المسلمين بوتر القوس- فقال الرجل الثالث -المسلم- الذي معهما: هذا أول الغدر -ربطنا معناه: غدر- فأبى أن يصحبهم، فجروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل -رفض الانقياد- فقتلوه، وانطلقوا بـ خبيب وزيد حتى باعوهما بـ مكة -من كفار قريش- فاشترى خبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث يوم بدر، فأهل الحارث المشرك اشتروا خبيباً لينتقموا منه ويقتلوه- فمكث عندهم أسيراً حتى إذا أجمعوا على قتله استعار مُوسَىً من بعض بنات الحارث - موسىً ليستحدَّ بها -أي: ليحلق العانة- فأعارته، قالت المرأة -التي كانت مشركة-: فغفلت عن صبي لي فدَرَج إليه -حبا إلى مكان موضع الأسير المسلم- فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعةً عرف ذاك مني -عرف أني الآن فزعةٌ على الولد- وهو في يده الموسى، فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذاك إن شاء الله، وكانت تقول: ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بـ مكة يومئذٍ ثمرة، وإنه لموثق في الحديد، وما كان إلا رزق رزقه الله، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه، فقال: دعوني أصلي ركعتين، ثم انصرف إليهم، فقال: لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدتُ -أي: على ركعتين- فكان أول من سن الركعتين عند القتل، ثم قال: اللهم احصهم عدداً، ثم قال:

ولست أبالي حين أُقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزَّعِ

ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله، وبعثت قريش إلى عاصم -أمير السرية الذي قُتل في الطريق- ليؤتَوا بشيء من جسده يعرفونه -يقطعوا قطعة من جسده وهو ميت- وكان عاصم قد قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبْر -سحابة من زنابير النحل تغطي جسده، وتظله- فحمته من رسلهم فلم يقدروا منه على شيء) ما استطاعوا مطلقاً أن يأخذوا قطعة من جسده.

(16/2)

شرح قصة غزوة الرجيع

هذه القصة هي قصة غزوة الرجيع، والرجيع: اسم موضع كانت هذه الوقعة بالقرب منه، وغزوة الرجيع هذه غير غزوة بئر معونة، هؤلاء عشرة والذين في بئر معونة كان عددهم سبعون رجلاً من القراء.

وحديث عَضْل -وهم بطن من بعض قبائل العرب- والقارَة أكمة سوداء فيها حجارة نزلوا عندها، ويُضرب بهم المثل في الرمي.

وقصة العضل والقارَة كانت في غزوة الرجيع في أواخر السنة الثالثة من الهجرة.

وبئر معونة كانت في أوائل السنة الرابعة من الهجرة.

(16/3)

وقوع أصحاب الرجيع في كمين ومقتل أمير السرية

أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عاصم بن ثابت مع هؤلاء الصحابة العشرة فغدر بهم بنو لِحْيان.

ما هو السبب في إرسالهم؟ النبي صلى الله عليه وسلم أرسلهم سريةً -وقيل: إنه أرسلهم يأتون له بأخبار قريش، أي بعثهم عيوناً له صلى الله عليه وسلم- وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت -لما كانوا في الطريق بين عُسْفان ومكة خرج لهم هؤلاء القوم من بني لِحْيان المشركين- فتبعوهم بقريب من مائة رامٍ.

وفي رواية: مائتي رجل -مائة رماة، ومائة من غير رماة- فتتبعوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه، فوجدوه نوى تمر هؤلاء الصحابة نزلوا بـ الرجيع في هذا المكان في السحر، وأكلوا تمر عجوة فسقطت نواة في الأرض وكانوا يخفون آثارهم.

كان عيون النبي عليه الصلاة والسلام يسيرون بالليل، ويكمنون بالنهار؛ لكن {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} [الأنفال:42] {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140] سقطت نواة من نوى تمر يثرب؛ لأن التمر الذي كان معهم من تمر المدينة فجاءت امرأة من هذيل ترعى غنماً فرأت النواة، فأنكرت صغرها -صغر النواة بالنسبة لحجم النوى في تلك المنطقة- فقالت: هذا تمر يثرب، فصاحت في قومها: أوتيتم فجاءوا في طلبهم، فتتبعوا آثار الصحابة حتى لحقوهم، ففوجئ الصحابة بهؤلاء القوم قد غشوهم وحاصروهم، فلجأ هؤلاء الصحابة العشرة إلى مرتفع من الأرض، وبدأ المشركون بالخداع، وقالوا: نعطيكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا مستسلمين ألا نقتل رجلاً منكم ولا نريد أن نقاتلكم.

فقال عاصم أمير السرية أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر ولا أقبل عهد مشرك هؤلاء الناس لا يخافون الله، وليس لهم عهد ولا ميثاق: {لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8] فرفض أن يستسلم وقاتل، وقبل أن يموت قال: اللهم أخبر عنا رسولك، دعا عاصم الله عز وجل أن يبلغ خبر حصار المشركين لهم؛ وما حصل لهم للنبي عليه الصلاة والسلام، فاستجاب الله لـ عاصم وأخبر رسوله بالخبر، فأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه في المدينة بالخبر في اليوم نفسه، أن عاصماً قتل ومعه سبعة بنبل الرماة المشركين، وبقي خُبيب بن عدي، وزيد بن الدَّثِنة، وعبد الله بن طارق.

(16/4)

مقتل خبيب وأصحابه

رأى هؤلاء المسلمون الثلاثة أن يَستأسروا -أي: ينزلوا أُسارى- فلما نزلوا ربطوهم، ولما أرادوا ربطهم رفض الثالث أن يستسلم، وجرُّوه وحاولوا أن يأخذوه، فما طاوعهم، فقتلوه، فبقي خُبيب بن عدي وزيد، فأخذوهما حتى باعوهما بـ مكة، وانتهزوا فرصة أن قريشاً تريد الثأر من قتلاها يوم بدر، فباعوا خبيب بن عدي وزيداً إلى الكفار، باعوهما أسيرين، خبيب -كما تقدم- قتل الحارث بن عامر يوم بدر وكان من المشركين، فأهله أرادوا الانتقام واشتروا خبيباً ليقتلوه ويكون ذلك انتقاماً لمقتل أبيهم.

فمكث عندهم خبيب رضي الله عنه أسيراً حتى إذا أجمعوا على قتله عندما انقضت الأشهر الحرم أخرجوهما إلى التنعيم لقتلهما.

وجاء في رواية: أنهم أساءوا إليه في أول الأسر، فقال لهم: [ما تصنع القوم الكرام هذا بأسيرهم] فأحسنوا إليه، وجعلوه عند امرأة تحرسه.

وفي رواية: أنهم جعلوه عند موهب مولى آل نوفل، فقال له خبيب: يا موهب! أطلب إليك ثلاثاً: أن تسقيني العذب؟ وأن تجنبني ما ذُبح على النصب، أي: لا تعطني طعاماً مذبوحاً على النصب، أي: للأصنام والآلهة.

وأن تُعْلِمَني إذا أرادوا قتلي.

حتى إذا أجمعوا على قتله أراد أن يتهيأ رضي الله عنه للقتل، فيحتاج إلى إزالة الشعر الذي لا بد من إزالته- فاستعار موسىً) طلب موسى لأجل حلق العانة من هذه المرأة، زينب بنت الحارث، أخت عقبة بنت الحارث، وعقبة بن الحارث هو الذي قَتل خبيباً، وقيل: إن المرأة التي تحرس خبيباً هي أخته أو زوجته، فاستعار منها موسى، فدرج ولد لها - كان عندها صبي غفلت عنه، فالصبي هذا درج- حتى وصل إلى مكان الأسير الموثق بالحديد -المربوط- وبيده الموسى، فنظرت إليه -وانتبهت- فزعةً، وظنت أنه يريد أن يقتله؛ لأنه ما دام هو مقتول فلينتقم منهم بقتل الولد ما دام قد قُدِر عليه، ولكن الأسير المسلم ما كان ليقتل الأطفال، وما ذنب الأطفال؟! فتركه وقال: أتخشين أن أقتله؟! لا أقتله إن شاء الله -تقول هذه المرأة في ذكرياتها عن خبيب: إنها رأته وهو في الأسر وهو مقيد- في يده عنقود عنب مثل رأس الرجل -أي: في الحجم يأكل منه -ومكة كلها ما فيها عنب ولا ثمر أصلاً، فهي تذكر هذا المشهد جيداً، وأن خبيباً رُزِق من الله بهذا القطف من العنب- ولما خرجوا بـ خبيب من الحرم، أي: من منطقة الحرم إلى التنعيم؛ لأن التنعيم خارج الحرم في الحل، ولذلك يحرم منها من أراد العمرة من أهل مكة أو من في حكمهم ممن ذهب إليهم إذا أراد أن يعتمر لابد أن يحرم من الحل، وأقرب موضع من الحل إلى الحرم هو: التنعيم، والمكان الذي أحرمت منه عائشة وفيه مسجدها إلى اليوم يحرم الناس عنده، فإن الحل الذي يخرج الإنسان إليه في عدة أماكن؛ الجعرانة والتنعيم وغيرها.

أخرجوه خارج الحرم؛ لأن قريشاً كانت تعتقد أنه لا يجوز القتل داخل منطقة الحرم وفي الأشهر الحرم، فانتظَروا الأشهر الحرم حتى تمضي، وأخرجوا خبيباً إلى خارج منطقة الحرم إلى التنعيم ليقتلوه، فلما أرادوا قتله، قال: دعوني أصلي، فصلى ركعتين -في موضع مسجد التنعيم - وقال للكفار: لولا أنكم تظنون أني أخشى الموت لزدتُ -صليتُ ركعتين أخريين، لكنه اكتفى بهاتين الركعتين- ثم دعا الله، قال: (اللهم احصهم عدداً واقتلهم بدداً -أي: متفرقين- ولا تبقِ منهم أحداً).

وفي رواية: قال: (اللهم إني لا أجد من يبلِّغ رسولك مني السلام فبلِّغه).

وفي رواية: فلما رفع على الخشبة استقبل الدعاء، قال: فلبد رجل بالأرض خوفاً من دعائه، وكانت قريش تعتقد أن الإنسان المدعو عليه إذا نزل بالأرض وألصق جنبه بها فاتته الدعوة -أي: ما أصابته الدعوة- وأحد الكافر عندما دعا خبيب لبد بالأرض مباشرة.

وجاء عند ابن إسحاق: أن معاوية بن أبي سفيان كان مع أبيه، وكان أبوه مشركاً في ذلك الوقت، قال: [كنتُ مع أبي، فجعل يُلقيني إلى الأرض حين سمع دعوة خبيب] أول ما سمع أبو سفيان الدعاء ألقى معاوية إلى الأرض مخافة أن تصيبه الدعوة بحسب ما كانوا يعتقدون، فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بخبر خبيب -فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ذلك اليوم وهو جالس: وعليك السلام يا خبيب! قَتَلَتْه قريش.

وقال هذه الأبيات العظيمة:

ولست أبالي حين أُقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزَّع

الأوصال: جمع وصل، والوصل: هو العضو.

والشلو: الجسد.

ممزَّعِ: مقطع.

وقد ساق ابن إسحاق في روايته عدة أبيات قالها خبيب، ربما تصل إلى ثلاثة عشر بيتاً، وبعضهم ينكر أن تكون له، والذي في صحيح البخاري هذان البيتان، وعند ابن إسحاق:

لقد جمع الأحزاب حولي وألَّبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمعِ

وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم وقُرِّبتُ من جذع طويل ممنعِ

إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي وما أرصد الأعداءُ لي عند مصرعي

فذا العرش صبرني على ما يراد بي فقد قطعوا لحمي وقد يئس مطمعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزَّعِ

وقد خيروني الكفر والموت دونه وقد همَلَت عيناي من غير مجزعِ

وما بي حذارُ الموت إني لميتٌ ولكن حذاري جحم نار ملفَعِ

فوالله ما أرجو إذا مت مسلماً على أي جنب كان في الله مضجعي

على أية حال! هذان البيتان في صحيح الإمام البخاري رحمه الله، ومنها الأبيات التي قالها خبيب، وقيل: إن حسان بن ثابت رضي الله عنه قد رثاه بأبيات منها:

ما بال عينك لا ترقى مدامعها صحاً على الصدر مثل اللؤلؤ الفلقِ

على خبيب فتى الفتيان قد علموا لا فََشِلٍ حين تلقاه ولا نزقِ

فاذهب خبيب جزاك الله طيِّبةً وجنة الخلد عند الحور في الرُّفُقِ

ماذا تقولون إن قال النبي لكم حين الملائكةُ الأبرارُ في الأفقِ

فيمَ قتلتم شهيد الله في رجلٍ طاغٍ قد أوعث في البلدان والرُّفَقِ

فرثاه حسان بن ثابت وكان لسان إعلام المسلمين.

(16/5)

إكرام الله لجسد عاصم بن ثابت

وأما بالنسبة لـ عاصم بن ثابت -رضي الله تعالى عنه- الذي هو أمير السرية، فإنه لما قُتل أراد الكفار قطعة من جسده، وقيل: إنهم أرادوا أن يأخذوا رأسه؛ لأن قريبة له نَذَرَت أن تشرب الخمر في قحف رأسه -قريبة للمقتول المشرك الذي قتله عاصم في بدر أرسلوا رسلاً منهم ليأتي برأس عاصم -فأرسل الله الظلة السحابة- من الزنابير -أي: ذكور النحل- فحمته منهم، ولم يستطيعوا أن يمدوا أيديهم ليأخذوا شيئاً من جسده، فلم يقدروا منه على شيء.

(16/6)

فوائد من غزوة الرجيع

هذه القصة العظيمة فيها فوائد كثيرة للغاية: هذه القصة العظيمة فيها فوائد كثيرة للغاية: 1 - منها: تضحية صحابة النبي صلى الله عليه وسلم وخروجهم لنصرة الله ورسوله بالرغم من الأخطار التي كانت موجودة.

2 - أن العلماء قد تكلموا في مسألة المسلم هل يجوز له أن يستأسر أم أنه لا يمكِّن من نفسه ولو قُتل أَنَفَةً من أجل أن يجري عليه حكم الكافر؟ فقال العلماء: هنا عزيمة ورخصة: فالعزيمة: أن المسلم يمتنع من الأسر حتى لو قتلوه.

والرخصة: أنه يجوز له أن يقع أسيراً.

فإذا رأى أن من المصلحة أن يوقع نفسه أسيراً أوقع نفسه أسيراً، وإذا أخذ بالعزيمة، وقال: أقاتلهم حتى يقتلوني، وأرفض الوقوع في الأسر؛ فإنه مأجور على فعله ذلك.

3 - الامتناع عن قتل أولاد المشركين وأطفالهم.

4 - كرامات أولياء الله تعالى واضحةً جداً في هذه القصة: أ- أن قِطْف العنب عند خبيب كرامة من الله، ولا يوجد في مكة عنب، والمرأة فوجئت بعنقود من العنب كبير بحجم رأس الرجل بين يدي خبيب.

ب- أن عاصم بن ثابت حماه الله بالظلة -السحابة- من النحل تظله، وهذه كرامة من كرامات الله تعالى.

جـ- تبليغ الخبر للنبي صلى الله عليه وسلم لما دعا الله أن يبلغ نبيه الخبر، ووصول الخبر في الوقت نفسه من كرامات الله لهم.

إذاً كرامات الله عز وجل ثابتة ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أننا نوقن ونعتقد أن الله يخرق العادة لبعض أوليائه، ويجري الله تعالى كرامات على أيدي أوليائه، ويكرمهم بخرق العادة لهم.

فقد يكون خرق العادة بأن يأتيهم بطعام لا يوجد في البلد مثله.

يأتيهم بفاكهة الصيف في الشتاء أو العكس، مثلما كان لمريم عندما كان يأتيها رزقها وهي في مكان صلاتها {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران:37] وهذا الرزق من الله وليس من أحد من البشر.

ربما يكرمهم الله بالمشي على الماء، بأن تخوض الخيول الماء مع أن العادة جرت بأن الخيل لا يركب البحر أبداً ويغرق، ومع ذلك ركبت خيول المسلمين البحر في بعض الغزوات، وما غرق أحد منهم، وما فقدوا شيئاً، حتى إن بعضهم فقد مطهرة، فلما عبروا إلى الشاطئ الآخر، قال: ربِّ مطهرتي، فرماها البحر بعد قليل إلى الشاطئ، وأخذ المطهرة؛ وهي الإناء الذي يتطهر به.

وكان في يد بعض الصحابة نور، جعل الله له نوراً في يده في الظلام يضيء له الطريق، الأول أسيد بن حضير، والثاني عباد بن بشر.

وسلمت الملائكة على عمران بن حصين.

وطعام أبي بكر الصديق كفى أعداداً من الناس، كلما أكلوا لقمة ربا من تحتها مكانها، فتركوه أكثر مما بدءوا.

وهذه الكرامة منة من الله يعطيها من يشاء من أوليائه.

إن قال قائل: ما هو الفارق بينها وبين الخارقة التي تكون للساحر والكاهن والمشعوذ؟! ربما يفعلون كرامات، ربما يطير الساحر والمشعوذ في الهواء، ربما يمشي على الماء، إذاً هذه خوارق وهذه خوارق! نقول: نعم.

والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: أولاً: أن حال ولي الله الذي يُجري الله على يديه الكرامات أنه متمسك بشرع الله، صحيح العقيدة، يقوم بالواجبات، ويمتنع عن المحرمات.

أما المشعوذون والسحرة: فإنهم مشركون عقائد فاسدة، يتعاملون مع الشياطين، ربما لا يصلون، يمتنعون عن الواجبات، ويفعلون المحرمات، وربما يشربون الخمور، ويزنون، ويرتكبون الموبقات.

ولذلك لا يغتر أحد بخرق العادة، فالعادة قد تنخرق، فالدجال من فتنته أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تخرج كنوزها فتخرج كنوزها، يَقسم رجلاً قسمين -يضربه بالسيف نصفَين- ثم يرده، ويقول: قم، فيقوم بأمر الله، الناس يشاهدون معه جنة ونار متنقلة، فالدجال معه خوارق عظيمة جداً؛ لكنه مع ذلك كافر يهودي بن يهودي، ولذلك فإن الفارق الأساسي بين الولي وبين المشعوذ أو الدجال: حال هذا وحال هذا، هذا أعظم شيء؛ ولذلك لا بد أن ننظر في حال الشخص الذي يدعي الخوارق، أو الذي حصلت له خارقة، هل هو مستقيم على الشريعة أم هو رجل منحرف؟ صحيحُ العقيدة أم رجل مشرك أو مبتدع؟ هل يقوم بالواجبات ويمتنع عن المحرمات أم إنسان يرتكب الموبقات؟ ثم إن الولي إذا حصلت له الخارقة لا يخبر الناس يقول: يا أيها الناس! حصل لي كذا وكذا، وإنما يظهرها الله بطريقة، أو تنتقل وتنتشر، وربما ما عرفت إلا بعد وفاته، أما الدجال المشعوذ فيقول لك: تعال انظر، ويدعوك إلى رؤية ما عنده، ويتظاهر ويتباهى بما عنده، أما أولياء الله إذا حصل له شيء لا يخبر الناس، ويقول: أنا كنت في الصحراء وعطشت وأوشكت على الموت، فأرسل الله لي قربة ماء بين السماء والأرض فشربت منها، لا يقول هذا، وإن حصل له يكتمها من باب الإخلاص حتى لا يدعي الولاية ويتباهى بذلك بخلاف ذلك المشعوذ.

ثم إن هؤلاء كثيراً ما يكون خرق العادة بالنسبة لهم من جهة التعاون مع الجن، الجن -مثلاً- يخدعون أعين الناس، فمثلاً: قد يجعلوا سيخ الحديد يخترق جسد هذا المشعوذ بدون قطرة دم يمشون على المسامير الحادة جداً، يدخل النار فلا يصيبه شيء، وقد يكون هذا الشيء الذي يفعله بحيلة، مثلاً: يطلي جسده بنوع من زيت النارنج أو ببعض الأشياء التي لها مقاومة للنار.

الآن هناك كراسي وجلود وأشياء مصنَّعة مقاومة للنار وللاحتراق، يقول لك: هذه قاعة المحاضرات كلها ضد الاحتراق أي: لا يحترق لا السجاد ولا المقاعد ولا السقف ولا الجدران؛ لأنها مطلية كلها بمادة مقاومة للاحتراق، كما ناظر ابن تيمية رحمه الله فرقة البطائحية الصوفية المنحرفين، قالوا: نحن ندخل النار ولا يضرنا، قال: أولاً: نغتسل كلنا، تغتسلون أمامي، ثم أدخل أنا وأنتم إلى النار، فرفضوا ذلك، وقصة مناظرته لهم معروفة مشهورة.

والخلاصة: أن هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم حصلت كرامة الله عز وجل لهم.

5 - كذلك في هذه القصة من الفوائد: أن الله سبحانه وتعالى يبتلي العباد بما يشاء، مع أن هذه كانت مصيبة -ولا شك- في المجتمع المسلم أن يُفقد عشرة من أفضل أفراده؛ لكن الله سبحانه وتعالى له حكمة: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140] يريد الله عز وجل أن يكرم هؤلاء المسلمين، ويريدهم لهذا الجزاء، والله يعلم أن ذهابهم إليه أفضل من بقائهم في الدنيا.

الآن حياة خبيب بعد الموت أفضل له من حياته قبل الموت، فمن ناحية الهم والغم والحزن والمرض والشقاء والتعب لا يوجد، فما بعد الموت لمثل هؤلاء نعيم، فهو الآن في قبره يُملأ عليه خَضِراً إلى يوم يبعثون، يُنَوَّر له، يأتيه عمله الصالح في أحسن حال، يُفتح له باب إلى الجنة، وفتَحْةُ الباب إلى الجنة تكفي عن كل الذي في الدنيا، ونظرته إلى أهله وماله من هذه النافذة التي في القبر إلى الجنة، ينظر إلى أهله والحور العين، وماله الذي هو في الجنة وهو في القبر أحسن له من كل هذه الدنيا، ولذلك ليس شيئاً محزناً من جميع النواحي أن يقتل خبيب وأصحابه؛ لأن في المقابل توجد كرامة ونعيم عند الله أحسن من هذه الدنيا، فالله عز وجل من محبته لأوليائه أن يعجل بأخذهم وبرحيلهم عن الدنيا، هذا سر مهم؛ أن الله يحبهم فيريدهم أن ينتقلوا عنده بسرعة.

ذهب أبو بكر وعمر ليزورا أم أيمن كما كان النبي عليه الصلاة والسلام يزورها في حياته، قالوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام مات وكانت له عادة حسنة في زيارة هذه العجوز -المرأة الكبيرة- أمه من الرضاعة، فنواصل عادة النبي عليه الصلاة والسلام، فذهبا إلى أم أيمن، ولما جلسا عندها رضي الله عنها؛ بكت، فظنَّا أنها بكت حزناً على فراق النبي عليه الصلاة والسلام وموته، فقالا لها: [أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله؟!] أي: ما عند الله أفضل للنبي عليه الصلاة والسلام من بقائه عندنا في الدنيا، هموم وغموم وأحزان وأمراض، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [القصص:60] فقالت: [نعم!] تعلم ذلك؛ ولكنها تبكي أن الوحي قد انقطع، لأجل هذا حزنت.

6 - وكذلك في هذا الحديث: أن من سنن الفطرة حلق العانة: والفطرةُ سننٌ كثيرة، جاء مجموع عشرٍ منها في حديث واحد، وبمجموع الأحاديث قد تصل إلى أكثر من عشر سنن.

- فالمضمضة من سنن الفطرة.

- والاستنشاق من سنن الفطرة.

- والسواك من سنن الفطرة.

- واللحية من سنن الفطرة.

- وغسل البراجم والأشاجع؛ غسل ما بين الأصابع، وما في هذه الانثناءات الموجودة في الأصابع، هذا من الفطرة؛ لأنه يتجمع فيها الزءومة والوسخ؛ فغسلها والاعتناء بغسلها من هذه الفطرة.

- الختان من الفطرة.

- نتف شعر الإبط من الفطرة.

- قص الأظافر من الفطرة.

- حلق العانة؛ ما حول القُبُل من الشعر الخشن من الفطرة.

هذا الذي أراد أن يفعله خبيب رضي الله عنه، وقد ذكر العلماء أن الحلق بالموسى أفضل من القص بالنسبة للعانة، كما أن النتف للإبط أفضل؛ لكن لو أزاله بأي مزيل جاز، أي: لو قال شخص: أنا لا أقوى على نتف الإبط؛ لأنه يؤلمني جداً، فهل يجوز لي أن أستخدم مزيلاً لإزالة الشعر الذي في الإبط؟ نقول: نعم، لا بأس بذلك، المهم: الإزالة؛ منعاً للروائح الكريهة؛ لأن الإسلام يعتني بنظافة المسلم في جسده، فتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، وغسل البراجم، والاستنشاق، والاستنثار، هذه كلها نظافة للمسلم.

وأيضاً حفاظاً على الهيئة الحسنة: اللحية.

وكذلك الختان؛ حتى لا تتجمع الأوساخ والأشياء الضارة، فلذلك صار الختان واجباً للذكور، مستحباً للإناث، فالختان أيضاً من الفطرة.

إذاً: الدين يأمر بكل ما فيه تنظيف وتطهير وتطييب لجسد المسلم.

فالشاهد أن الاستحداد -استخدام الحديدة والموسى أو الشفرة في حلاقة العانة- أفضل من قصه أو إزالته بأي مزيل، مع أن الإزالة بأي مزيل آخر جائز.

7 - كذلك في هذا الحديث: أن التجسس في الحرب من الأش

(16/7)

الأسئلة

(16/8)

نهج البلاغة في الميزان

السؤال

ما رأيك في كتاب نهج البلاغة؟

الجواب

كتابٌ مسمومٌ يُحذرُ منه، منسوبٌ إلى علي رضي الله عنه، وعلي رضي الله عنه بريء من كثير مما فيه.

(16/9)

حكم رد المرأة على الهاتف

السؤال

ما حكم إذا رَدَّت المرأة على الهاتف، وأجابت عن سؤال؟

الجواب

إذا لم يكن خضوعاً بالقول وكان لحاجة فلا بأس.

(16/10)

آداب زيارة العديل لعديله

السؤال

ما هي آداب زيارة العديل لمنزل عديله؟

الجواب

المقصود بالعديل هنا عند الناس هو: زوج أخت الزوجة، فيقولون مثلاً: هذان عديلان، أو هؤلاء عدلاء، أي: أزواج لأخوات؛ فإذا زاره في بيته، فلا يجوز الخلوة بالمرأة؛ لأنها ليست من المحارم، وهي من المحرمات عليه على التأبيد، ولا يجوز له النظر إليها بطبيعة الحال، ولا يجوز الاختلاط.

(16/11)

حكم من ترك الطواف بالبيت أثناء العمرة بسبب المشقة

السؤال يقول: بعد فراغي من أداء مناسك العمرة أردت أن أطوف بالبيت، وحين أنهيت الشوط الثالث ازداد الزحام، فخرجت ولم أتمكن من الطواف، فهل يجب علي شيء؟

الجواب

طَيِّبٌ! ما عرفنا ما فعلتَ الآن بعد هذا! هل أكملت الطواف مثلاً من السطح، أو الدور الثاني؟! هل خرجت خارج الحرم ثم رجعت وأكملت؟! هل أعدت من الأول؟! هل رجعت طفت، أتيت بربع عمرة وجئت؟! ماذا فعلت؟! فما عرفنا الآن ماذا فعلت.

فعلى أية حال لو فرضاً على أسوأ الحالات أنك رجعت ولا زلت باقياً على إحرامك حتى هذه اللحظة، لا بد أن تعود وتلبس ملابس الإحرام وتذهب تكمل وتأتي بالعمرة، وتأتي بالطواف من جديد.

وإذا صار ما هو أسوأ وأتيت زوجتك يعني: أفسدت العمرة الأولى، فعليك بالتوبة، وعليك بالذهاب بالإحرام والطواف والسعي لإتمام العمرة الفاسدة، وتعود إلى الميقات الأول وتحرم منه لعمرة جديدة بدل العمرة الفاسدة، ثم تدفع دماًَ في مكة يوزَّع على فقراء الحرم.

أما إذا كنت -مثلاً- طفت ثلاثاً من تحت، ثم صعدت إلى الدور الثاني فأتيت بالأربعة تكملة السبعة ففعلك صحيح؛ لأنه ما دام أنه رجع، فأكيد أنه الآن أكمل السبعة أو رجع بدون إكمال السبعة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

(16/12)

قصة يوم الوشاح

خصص البخاري رحمه الله في صحيحه عدة أبواب من كتاب الصلاة للمساجد وأحكامها وآدابها.

وقد جاءت هذه المادة لتسلط الأضواء على تلك الآداب والأحكام من خلال الشرح والتعليق على أحاديث من تلك الأبواب.

وقد ظهر من خلال ذلك: أحكام الإقامة في المسجد تنظيف المسجد بناء المساجد آداب الكلام فيها وكذلك بيان لمن يستعان به في بناء المساجد، وغير ذلك من الأحكام المتناثرة في ثنايا هذه المادة.

(17/1)

حديث صاحبة الوشاح في صحيح البخاري

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: فهذه القصة التي بين أيدينا في هذه الليلة قصةٌ رواها الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه سنتحدث عنها، ثم نتحدث عن بعض الأحكام المتعلقة بالمساجد لمناسبة هذه القصة، ولعل هذه الأحكام تفيدنا في مسألة الاعتكاف.

روى البخاري رحمه الله تعالى عن عائشة رضي الله عنها، قالت: [أسلمت امرأة سوداء لبعض العرب، وكان لها حفشٌ في المسجد، -أي: بيت صغير ضيق- قالت: فكانت تأتينا فتحدث عندنا، فإذا فرغت من حديثها، قالت:

ويوم الوشاح من أعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني

فلما أكثرت، قالت لها عائشة: وما يوم الوشاح؟ قالت: خرجت جويرية لبعض أهلي وعليها وشاح من أدم، فسقط منها، فانحطت عليه الحدية وهي تحسبه لحماً، فأخذته، فاتهموني به -أي: بسرقة الوشاح- فعذبوني حتى بلغ من أمري أنهم طلبوه في قبلي، فبينما هم حولي وأنا في كربي، إذ أقبلت الحدية حتى وازت برءوسنا، ثم ألقته، فأخذوه، فقلت لهم: هذا الذي اتهمتموني به وأنا منه بريئة].

وروى الحديث البخاري أيضاً رحمه الله في صحيحه، في كتاب: الصلاة، عن عائشة: [أن وليدة كانت سوداء لحي من العرب، فأعتقوها، فكانت معهم، قالت: فخرجت صبيةٌ لهم عليها وشاحٌ أحمر من سيور، قالت: فوقع منها، فمرت به حديات وهو ملقىً، فحسبته لحماً، فخطفته، قالت: فالتمسوه، فلم يجدوه، قالت: فاتهموني به، قالت: فطفقوا يفتشون حتى فتشوا قبلها، قالت: والله إني لقائمة معهم إذ مرت الحديات، فألقته، فوقع بينهم، فقلت: هذا الذي اتهمتموني به زعمتم وأنا منه بريئة وهو ذا هو، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، قالت عائشة: فكان لها خباء في المسجد أو حفش، قالت: فكانت تأتيني، فتحدث عندي، قالت: فلا تجلس عندي مجلساً إلا قالت:

ويوم الوشاح من أعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني

قالت عائشة: فقلت لها: ما شأنك لا تقعدين لي مقعداً إلا قلتي هذا؟! قالت: فحدثتني بهذا الحديث].

هذه القصة من القصص التي حدثت في أيام الجاهلية لامرأة كانت (وليدة) والوليدة هي: المولودة، ثم أطلقت على الأمة وإن كانت كبيرة -هذه الوليدة عندما كانت مع هؤلاء العرب وأعتقوها، خرجت يوماً مع صبيةٍ لهؤلاء، والصبية كان عليها وشاح أحمر؛ والوشاح: ينسج من جلد عريض، ويرصع باللؤلؤ، تشجه المرأة بين عاتقها وكشحها، نوعٌ من الزينة، فلما خرجت هذه الصبية وعليها الوشاح الأحمر، وضعته ودخلت إلى مغتسلها وكانت عروساً، فجاءت الحدية؛ والحدية هي: الحدأة الطائر المعروف الذي أبيح قتله في الحل والحرم، ويقال لها: الحدا، أو الحدو أو الحدأة، وجاء في هذا الحديث تصغيرها حديات، فحسبته لحماً فخطفته، فجاء قوم هذه الصبية، فظنوا هذه الوليدة هي التي أخذته، فاتهموها به، ففتشوا منها كل شيء، وصارت هذه المرأة في كرب عظيم وهي مظلومة، فأرسل الله الحدية مرة أخرى وهي في هذا الموقف العصيب، وكانت قد دعت الله تعالى في هذا الموقف العصيب كما جاء في رواية، قالت: "فدعوت الله أن يبرئني"، فجاءت الحدية وهم ينظرون، حتى إذا وازت برءوسهم ألقت الوشاح أمامهم، فقالت لقومها: هذا الذي اتهمتموني به هاهو أمامكم الآن، ثم إن هذه المرأة جاءت إلى المدينة وأسلمت، وسكنت في هذا البيت الصغير في المسجد، وكانت تتحدث عند عائشة وكثيراً ما تقول هذا البيت:

ويوم الوشاح من أعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني

(17/2)

الفوائد المنتقاه من قصة صاحبة الوشاح

يؤخذ من هذا الحديث: 1 - استجابة دعوة المظلوم ولو كان كافراً؛ لأن المرأة لم تسلم إلا بعد قدومها إلى المدينة.

2 - مشروعية الخروج من البلد الذي يحصل للمرء فيه محنة، ولعله يتحول إلى ما هو خير منه، كما وقع لهذه المرأة {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100] إرغاماً لأنف الذين اضطهدوه، وسعةً له في الرزق، {مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100].

3 - الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.

4 - إباحة المبيت والقيلولة في المسجد لمن لا مسكن له من المسلمين رجلاً كان أو امرأة بشرط أمن الفتنة، وإباحة الاستظلال في المسجد بخيمة ونحوها.

من هذه الفائدة ننطلق في ذكر بعض ما يتعلق بالمساجد من الآداب والأحكام الشرعية التي تعين على احترام بيوت الله تعالى، وتوقيرها، ومعرفة حقها الذي أهمله كثيرٌ من المسلمين.

(17/3)

بعض الأحكام الشرعية الدالة على احترام بيوت الله تعالى

يؤخذ من هذا الحديث: 1 - استجابة دعوة المظلوم ولو كان كافراً؛ لأن المرأة لم تسلم إلا بعد قدومها إلى المدينة.

2 - مشروعية الخروج من البلد الذي يحصل للمرء فيه محنة، ولعله يتحول إلى ما هو خير منه، كما وقع لهذه المرأة {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100] إرغاماً لأنف الذين اضطهدوه، وسعةً له في الرزق، {مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100].

3 - الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.

4 - إباحة المبيت والقيلولة في المسجد لمن لا مسكن له من المسلمين رجلاً كان أو امرأة بشرط أمن الفتنة، وإباحة الاستظلال في المسجد بخيمة ونحوها.

من هذه الفائدة ننطلق في ذكر بعض ما يتعلق بالمساجد من الآداب والأحكام الشرعية التي تعين على احترام بيوت الله تعالى، وتوقيرها، ومعرفة حقها الذي أهمله كثيرٌ من المسلمين.

(17/4)

حك البصاق باليد من المسجد

لقد خصص البخاري رحمه الله عدة أبواب من كتاب الصلاة في صحيحه للمساجد لبيان آدابها وأحكامها، فمن العناوين التي عنونها رحمه الله، وفقه البخاري في عناوينه، قال: باب حك البصاق باليد من المسجد، وذكر فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم (لما رأى نخامةً في القبلة، فشق ذلك عليه حتى رؤي في وجهه، فقام فحكه بيده) هذه النخامة بقية البلغم، أو البصاق الموجود، لما رآه النبي صلى الله عليه وسلم حكه بيده الشريفة وأزاله تطييباً للمسجد، وطيب مكانه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلم ألَّا يبصق قبل وجهه في الصلاة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قبل وجهه إذا صلى، وأخبر أن هذا من أسباب إعراض الرب.

(17/5)

حك المخاط بالحصى من المسجد

ثم قال رحمه الله: باب: حك المخاط بالحصى من المسجد، وذكر حديثاً أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نخامة في جدار المسجد، فتناول حصاة فحكها، وكلُّ هذا يدل على عدم جواز البصق في المساجد وتقذير المساجد.

وكذلك فإنه لا يجوز البصق تجاه القبلة في الصلاة، ثم إنه ينبغي إزالة القذر من المسجد وتنظيف المسجد، وكفارة البصق في المسجد عندما كانت المساجد من الرمل والحصى، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (البصاقة في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها).

إذاً: لا يجوز الصق في المسجد أصلاً، لكن إذا حصل ذلك فما هو العلاج؟ دفنها إذا كانت المساجد من الرمل والحصى، والآن يبصق الإنسان في منديلٍ أو ما أشبه ذلك.

(17/6)

هل يقال: مسجد بني فلان؟

كذلك عنون البخاري رحمه الله تعالى في هذه المواضع باب: هل يقال مسجد بني فلان؟ وساق حديث عبد الله بن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل إلى مسجد بني زريق) ففيه جواز إضافة المساجد إلى بانيها، أو المصلي فيها، أو المصلون فيها، إذا كانوا من قوم معينين أو قبيلة معينة، يقال: مسجد بني فلان، ولا حرج في ذلك.

وكذلك ربما تضاف إلى من بناها إذا أمن من ذلك الرياء؛ لأن بعض الناس ربما يسمون المساجد بأسمائهم، ويكون في ذلك رياء، لأن المسألة تعتمد على النية، والمساجد لله تعالى، فلا يجوز أن يشرك مع الله سبحانه وتعالى أحدٌ في بناء المساجد، ولعل الأولى ألَّا يقال: مسجد فلان الذي بناه ابتعاداً عن الرياء، لكن إذا أمن الرياء كما إذا مات الشخص لم يعد يخشى عليه بعد موته، فيقال: مسجد فلان ولا بأس بذلك.

(17/7)

حكم القسمة وتعليق القنوان في المسجد

ثم قال رحمه الله: باب: القسمة وتعليق القنوان في المسجد، وذكر حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بمال من البحرين، فقال: انثروه في المسجد) وأن الصحابة كانوا يعلقون القنوان -أي: العذوق التي فيها التمر في المسجد- لأجل إطعام أهل الصفة، أو غيرهم من الفقراء، فيجوز جمع الأموال، أو الصدقات في المساجد، ومنها: صدقة الفطر، وحراستها كما جاء في حديث أبي هريرة مع الشيطان، فجعلوا توزيع الأطعمة على المساكين في المساجد، وجمع الأطعمة في المساجد لا حرج فيه، بشرط ألَّا يضايق المصلين، ولا يخل بصفوف الصلاة.

(17/8)

حكم الدعوة لطعام في المسجد حكم الإجابة

ثم قال رحمه الله: باب: من دعا لطعام في المسجد ومن أجاب معه، وساق حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه، قال: (وجدت النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد معه أناسٌ، فقمت، فقال لي: آرسلك أبو طلحة؟ قلت: نعم.

فقال: لطعامٍ؟ قلت: نعم.

فقال لمن معه: قوموا الحديث).

فيؤخذ منه: جواز توجيه الدعوة للوليمة في المسجد، فلو أن إنساناً قال لجماعة في المسجد: اطعموا عندنا، أو هلموا إلى بيتنا، أو دعاهم إلى الطعام وهم في المسجد، فذلك جائزٌ ولا حرج فيه، فهذه الأمور المباحة التي يقصد منها إكرام المسلمين، والدعوة إلى الطعام لا بأس بها لو كانت في المسجد، سواءً وجهت الدعوة إلى الناس لحضور وليمة في المسجد، أو وجهت الدعوة وهم في المسجد.

(17/9)

حكم القضاء واللعان في المسجد بين الرجال والنساء

ثم قال رحمه الله: باب: القضاء واللعان في المسجد بين الرجال والنساء، وساق حديث سهل بن سعد رضي الله عنه وأرضاه أن رجلاً قال: (يا رسول الله! أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً، أيقتله؟ -في قصة طويلة- قال: فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد).

فيؤخذ منه: 1 - جواز الحكم بين الرجل والمرأة في المسجد.

2 - جواز البت بين المرأة وزوجها في الطلاق أو اللعان في المسجد.

والملاعنة: أن يأتي الرجل الذي قذف زوجته بالزنا والعياذ بالله، فيشهد على نفسه أربع مرات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، والمرأة إذا أقرت رجمت، فإذا لم تقر تدفع عنها الحد بأن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، وهذا يجوز أن يكون في المسجد، بل لتغليظ الأمر للوصول إلى الحقيقة يكون في المسجد، حتى يكون في الحرم، حتى قالوا: إذا كانا في مكة، يتلاعنا عند الحجر الأسود، وإذا كانا في المدينة يتلاعنا عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كانوا في البلد بمحضر القاضي يتلاعنا بمسجد البلد؛ لأجل أن يكون الجو مهيأ لبلوغ الصدق في هذه القضية الخطيرة.

ويشبه هذا مسألة المباهلة؛ كأن يتباهل إنسان مع آخر على مسألة كل يدعي الحق فيها، فيدعو كل أحد على نفسه إن كان كاذباً.

ومنها: مباهلة أهل البدع كـ الخوارج والمعتزلة والرافضة وغيرهم، وقد حدثت من علماء المسلمين عدة مواقف من المباهلات مع المبتدعة، وذكر ابن حجر رحمه الله أنه وجد بالتجربة أن صاحب الباطل إذا باهل ودعا على نفسه إن كان على باطل أن يميته الله فلا يمر عليه سنة إلا ويموت، لا يعيش أكثر من سنة، إذ إن الذي يباهل صاحب حق، صاحب دين، والآخر صاحب باطل، ما يمر عليه سنة إلا ويموت.

(17/10)

حكم التيمن في دخول المسجد

وكذلك عنون البخاري رحمه الله باباً بعنوان: التيمن في دخول المسجد، وعلق حديث ابن عمر [كان يبدأ برجله اليمنى، فإذا خرج بدأ برجله اليسرى] ولعله ليس هناك حديثٌ مرفوعٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بفعل ذلك، وليكن يؤخذ من عموم التيامن تقديم الرجل اليمنى واليد اليمنى في الأمور الحسنة، والرجل اليسرى أو اليد اليسرى في الأمور المستقذرة، فكما أنه يدخل الخلاء بشماله كذلك فإنه يدخل المسجد بيمينه.

(17/11)

حكم نبش قبور المشركين واتخاذ مكانها مساجد

ثم ساق -رحمه الله تعالى- باباً: هل تنبش قبور المشركين والجاهلية ويتخذ مكانها مساجد؟ وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبني مسجداً، كان في ذلك المكان قبور للمشركين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين، فنبشت؛ لأن قبور المشركين لا حرمة لها، ولذلك إذا كان مكان المسجد، في ناحية منها -مثلاً- قبور للكفار، أو من أيام الجاهلية، فإنها تنبش وتخرج العظام، وبعد ذلك يبنى المسجد ولا حرج، وليس في هذه الحالة في بناء المسجد محذور شرعي كالبناء على القبور؛ لأن المقصود هنا ليس هو تعظيمها؛ لأنها نبشت، أما بناء المساجد على قبور الأولياء والصالحين والأنبياء، فإنه ملعونٌ من فعل ذلك: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) فأي مسجد يبنى على قبر نبي، أو ولي، أو رجل، فإنه باطل، ويهدم، ولا تجوز الصلاة فيه.

إذا كان المسجد أولاً ثم دفن فيه ميت، نبشنا القبر وأخرجناه إلى المقبرة.

وإذا كان القبر أولاً ثم بني المسجد، هدمنا المسجد؛ لأنه بني على باطل، وكل ما بني على باطل فهو باطل، وإذا كان القبر في القبلة فلا يجوز الصلاة إليه مطلقاً، ويجب أن يخرج القبر خارج المسجد، ويجعل بينه وبين المسجد جدار أو شارع، ليعزل عن المسجد تماماً؛ لأن بناء المساجد على القبور حرام، بل من مظاهر الشرك والوثنية، وهذا عمل اليهود والنصارى، مع أنه منتشر في كثير من بلدان العالم الإسلامي، كما هو معروف في قبر زينب، وقبر الحسين، وقبر العيدروس وغيرها من الأماكن التي فيها مساجد مبنية فوق القبور، فنقول: النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وكان قبر النبي صلى الله عليه وسلم خارج مسجده، ولما جاء الوليد بن عبد الملك أدخله في المسجد، فهو من فعل الوليد، وليس من فعل الصحابة، ولم يرضه السلف، بل أنكروا ذلك، ولكنهم لم يستطيعوا تغييره، ولما جاء عمر بن عبد العزيز رحمه الله جعل على القبر مثلثاً مبنياً بحيث لا يمكن استقبال القبر والقبلة معاً، ولا يمكن الوصول إلى القبر وهو مفتوح من الأعلى كما سبق أن ذكرنا ذلك.

(17/12)

حكم النوم في المسجد

ثم ذكر البخاري -رحمه الله تعالى- باباً آخر بعنوان: نوم المرأة في المسجد، وقلنا: إذا أمنت الفتنة، كأن يُجعل مكان، أو خيمة خاصة للنساء، واحتج فيه بحديث المرأة التي سبق أن ذكرنا قصتها في أول هذا الدرس.

ثم قال رحمه الله: باب: نوم الرجال في المسجد، وأتى بحديث ابن عمر: أنه كان ينام وهو شابٌ أعزب لا أهل له في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ولما كان بين علي وفاطمة شيء، خرج علي إلى المسجد واضطجع فيه ورقد، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يمسح صدره يداعبه ويقول: (قم أبا تراب قم أبا تراب) وكان علي رضي الله عنه يحب هذه الكنية جداً؛ وذلك لأنه عندما اضطجع أصابه تراب، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قم أبا تراب قم أبا تراب).

فيؤخذ من هذا الحديث: جواز النوم في المسجد إذا أمن انكشاف العورة، ولم يكن هناك فتنة، ولا مفسدة، فإن النوم في المسجد ليس حراماً، ولا خطيئةً، والمعتكف يحتاج إلى النوم في المسجد بطبيعة الحال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في المسجد العشر الأواخر، وهذا يحتاج إلى نوم ولا شك، وأهل الصفة كانوا ينامون في المسجد، لكن لا يتحول المسجد إلى فندق يقذر بحجة النوم فيه.

(17/13)

حكم الصلاة في المسجد إذا قدم من سفر

قال رحمه الله تعالى بعد ذلك: باب: الصلاة إذا قدم من سفر، وباب: إذا دخل المسجد فليركع ركعتين، وقد كانت عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا رجع من سفر، أولاً أن يبدأ بالمسجد، فيصلى فيه ركعتين، قال النووي رحمه الله: "هذه الصلاة مقصودة للقدوم من السفر، وليست تحية المسجد".

من السنة إذا جاء الإنسان من السفر أن يبدأ بالمسجد فيصلي فيه ركعتين، أما تحية المسجد، فإنه إذا دخل أي مسجد يصلي ركعتين، سواءً قدم من سفر أو لم يقدم من سفر، وذهب بعض أهل العلم إلى وجوبها، وجمهور العلماء على استحبابها، وهذا خاص بالمساجد؛ بمعنى أن مصليات الشركات والدوائر الحكومية ليست مساجد؛ لأنها لم تبن بنية أن تكون مسجداً موقوفاً لا يغير ولا يبدل إلى قيام الساعة، فإن تحية المسجد خاصة بالمسجد وليست للمصليات.

(17/14)

حكم الحدث في المسجد

ثم قال رحمه الله: باب: الحدث في المسجد، وساق حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه).

ما معنى: ما لم يحدث؟ فسرها بعض العلماء بالمعصية أو البدعة.

وبعضهم قال: الحدث هو: الريح.

والصواب: أن خروج الريح من الإنسان في المسجد ليس محرماً -بمعنى أنه يأثم وأنها معصية وبدعة- ولكن ينبغي له أن يخرج من المسجد لئلا يؤذي المسلمين والملائكة؛ لأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، والإنسان يؤجر على جلوسه في المسجد طيلة جلوسه إلا إذا أحدث، فعند ذلك ينقطع أجره، ولا تدعو له الملائكة إذا أحدث، ولذلك إذا خرج منه شيء، يذهب ويتوضأ ويرجع ويكمل اعتكافه، وكذلك إذا نام -مثلاً- يقوم ويتوضأ ويرجع، أما المعصية في المسجد والبدعة فيه فهي من المصائب العظيمة.

(17/15)

بنيان المساجد

ثم قال رحمه الله: باب بنيان المسجد، وأمر عمر ببناء المسجد، وقال: [أكن الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس]، وقال ابن عباس: [لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى] فأما بنيان المساجد فهو من علامات الإيمان، وهو أمرٌ مأمورٌ به شرعاً أن تبنى بيوت الله تعالى للعبادة فيها، ولكن المحذور هو التباهي بها والمفاخرة، كما قال أنس رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي على أمتي زمانٌ يتباهون في المساجد، ثم لا يعمرونها إلا قليلاً)، وفي رواية أبي داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد) يشيدون مساجد كبيرة وعظيمة ضخمة سقوفها مرتفعة، فيها زينات ونقوش، ولكن من الذي يصلي فيها؟ قلة من الناس: (يأتي على أمتي زمانٌ يتباهون في المساجد، ثم لا يعمرونها إلا قليلاً) تجد المسجد الضخم لكن فيه نصف صف، وعمارة المساجد طاعة وقربة لله: (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة) لكن زخرفة المسجد سواءً ما وضع فيه من الأشياء المذهبة، أو المفضضة، أو الألوان، أو النقوش، والزخارف المحفورات الكتابات كل ذلك من الأمور المنهي عنها، وهذا من التشبه باليهود والنصارى، لأن اليهود والنصارى في كنائسهم ومعابدهم هكذا يفعلون، ولذلك ينبغي أن تكون المساجد نظيفة مبنية مسقوفة تحمي الناس من المطر! نعم، مثل: التكييف الآن مهم، والإنارة مهمة للقراءة، لكن أن نجعلها مزخرفة ملونة مكتوباً فيها كتابات في الجدران خطوط، فهذا كله لا يجوز؛ لأنه إضاعة للمال في غير طاعة وقربة، بل في شيء من البدع، ثم إشغال المصلين بالزخارف والنقوش.

(17/16)

التعاون في بناء المساجد

وكذلك عنون رحمه الله باباً بعنوان: التعاون في بناء المسجد، وساق حديثاً لـ ابن عباس أنه قال لـ عكرمة ولابنه علي: انطلقا إلى أبي سعيد فاسمعا من حديثه، فانطلقنا، فإذا هو في حائطٌ يصلحه، فأخذ رداءه فاحتبى، ثم أنشأ يحدثنا حتى أتى على ذكر بناء المسجد، فقال: كنا نحمل لبنةٍ لبنة، وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فنفض التراب عنه، وقال: (ويح عمار! تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار).

التعاون في بناء المساجد سواءً كان مادياً؛ كأن يجتمع مجموعة من الناس وكل إنسان يتبرع بشيء، أو يتعاونون في نفس البناء بمعنى أن كل واحد يتولى شيئاً من الأشياء في البناء، فهذا من التعاون على البر والتقوى، وهذا الذي حدث على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حيث تعاون الصحابة في بناء المسجد ونقلوا الحجارة.

(17/17)

الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد

وقال البخاري رحمه الله: باب الاستعانة بالنجار والصناع في أعواد المنبر والمسجد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى امرأة أن (مري غلامك النجار يعمل لي أعواداً أجلس عليهن) أي: المنبر، فاستعان بنجار المرأة لأجل أن تعمل أعواد المنبر ليجلس عليها النبي صلى الله عليه وسلم.

وكذلك جاء في حديث طلق بن علي، قال: (بنيت المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يقول: قربوا اليمامي من الطين، فإنه أحسنكم له مساً، وأشدكم له سبكاً) رواه أحمد، وفي لفظٍ له: (فأخذت المسحاة، فخلطت الطين فكأنه أعجبه، فقال: دعوا الحنفي والطين، فإنه أضبطكم للطين) أي: أنه في الصنعة متقن في الطين وفي البناء، ولذلك قال: أنت عليك الخلط، أنت ماهرٌ فيه، وفي رواية: قلت: (يا رسول الله! أأنقل كما ينقلون؟ فقال: لا، ولكن اخلط لهم الطين، فأنت أعلم به) و (ومن بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة) ومهما كان صغيراً، ولو شارك في بناء مسجد بشيء يسير في الموضع الذي بني بماله من المسجد يؤجر عليه في الجنة أيضاً.

(17/18)

هل يأخذ بنصول النبل إذا مرّ بالمسجد؟

ثم ساق رحمه الله: باب: يأخذ بنصول النبل إذا مرَّ بالمسجد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معه نبل، فقال: (أمسك بنصالها) وفي رواية: (فليأخذ على نصالها لا يعقر بكفه مسلماً) أي: لا يجرح، هذا إذا كان نصال السهام التي معه مكشوفة -الحد- فأمره أن يأخذ عليها حتى لا يجرح مسلماً وهو مار في المسجد.

(17/19)

حكم إنشاد الشعر في المسجد

وتحت عنوان: باب: الشعر في المسجد، فإن البخاري رحمه الله قد أتى بحديث حسان: (يا حسان! أجب عن رسول صلى الله عليه وسلم، اللهم أيده بروح القدس) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم له.

إذاً: الأشعار التي يجوز أن تُقال في المسجد هي الأشعار المشتملة على الحق الأشعار التي في نصرة الدين، أما أشعار الجاهلية أشعار السوء أشعار الفحش، فلا يجوز أن تقال في المساجد.

(17/20)

أصحاب الحراب في المسجد

ثم ساق البخاري رحمه الله حديث الحراب لـ عائشة، ولعب الحبشة بالحراب، ونظر عائشة إليهم تحت عنوان: باب: أصحاب الحراب في المسجد، والحبشة لما لعبوا بالحراب لم يكن لعب لهو، ولكنه كان لأجل التدرب على القتال، والتمرن، وهو من تدريب الشجعان على مواقع الحروب، والاستعداد للعدو.

(17/21)

حرمة البيع والشراء ونشدان الضالة في المسجد

ومن أحكام المسجد: أنه لا يجوز البيع والشراء فيه: (من رأيتموه يبيع فيه أو يشتري، فقولوا: لا أربح الله تجارتك).

وكذلك لا يجوز أن تنشد في المسجد الضالة، أو يسأل عن الشخص أو يسأل عن أشياء من وجد ساعةً؟ من وجد محفظتي؟ من وجد بطاقتي؟ فقدت كذا، ويجهر بهذا، أو تعلق إعلانات داخل المسجد، فلا يجوز إنشاد الضالة في المسجد.

(17/22)

من السنة كنس المسجد وتنظيفه

ومن السنة: كنس المسجد، والتقاط الخرق والقذى والعيدان؛ كما جاء عن أبي هريرة: (أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، فماتت، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها؟ فقالوا: ماتت، قال: أفلا كنتم آذنتموني بها، دلوني على قبرها، فأتى قبرها فصلى عليها).

إذاً النبي عليه الصلاة والسلام اهتم بهذه الأمة السوداء، ولام الصحابة لماذا لم يخبروه، وأتى إلى القبر وصلى تكريماً لها، هذا المحتسب في تنظيف المسجد.

كذلك من رأى شيئاً في المسجد التقطه؛ عيدان، خرق، قذى، أذى، كنس المسجد، كل هذا يؤجر عليه الإنسان المسلم، واتخاذ الخادم للمسجد -أيضاً- يؤخذ من نفس الحديث، وإذا كان متبرعاً فهذا له أجرٌ عظيمٌ.

(17/23)

ربط الأسير الكافر في المسجد

يجوز ربط الأسير الكافر في المسجد، كما ربط النبي صلى الله عليه وسلم ثمامة يسمع القرآن يرى الصلوات لعله يتأثر، ويجوز دخول الكفار إلى المسجد لأجل المصلحة، غير المسجد الحرام، لينظروا إلى المصلين إذا كانوا لا يؤذون لا ينجسون لا يوسخون لا يدخلون بمناظر سيئة، ملابس قصيرة، أو نساء متبرجات، أو كاميرات للتصوير، إذا كان يريد أن ينظر، قال: أنا أريد أن أرى مساجدكم، أرى كيف تصلون، لا بأس أن نقول له: تعال، يأتي نظيفاً ويدخل ويجلس -مثلاً- يشاهد الناس كيف يصلون؟!

(17/24)

حكم استعمال غير المسلمين في بناء المساجد

كذلك استعمال الكفار في بناء المساجد، إذا لم يكن هناك مسلمين فإنه يجوز، وإذا وجد مسلمون يقدم المسلمون للبناء؛ لأننا لا نأمن من الكفار.

وكذلك بنى النبي صلى الله عليه وسلم، أو جعل خيمة للمرضى في المسجد، كما أنه جعل سعد بن معاذ فيها، فتمريض المريض في المسجد وجعله في خيمة أيضاً جائزٌ.

(17/25)

النهي عن رفع الأصوات في المسجد

رفع الأصوات في المساجد مما يُنهى عنه، وعمر -رضي الله عنه وأرضاه- لما سمع صوت رجلين ارتفعا، قال: [اذهب فأتني بهذين، فجئت بهما، قال: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم] فالمسجد لا يرفع فيه الصوت؛ لأجل الحفاظ على العبادة فيه وتهيئته، ويكون مكاناً هادئاً ليس مكان ضوضاء صخب.

بعض الناس يرفعون الأصوات فيه ويتشاجرون، ويحدثون نقاشات مرتفعة وصياح، هذا بيت الله، وإذا كان المسجد النبوي من باب أولى عدم جواز رفع الصوت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه من سوء الأدب {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:4].

(17/26)

حكم الاستلقاء في المسجد والنهي عن تشبيك الأصابع

يجوز الاستلقاء في المسجد ومد الرجل إذا أمن انكشاف العورة.

وينهى عن تشبيك الأصابع عند الذهاب إلى المسجد، وعند انتظار الصلاة، ثم إذا أراد أن يمثل مثلاً فشبك بين أصابعه لمصلحة أو لحاجة فلا بأس بذلك.

وهذه المساجد بيوت الله تعالى إذا عرف الإنسان أحكامها وآدابها، أجر أجراً عظيماً؛ لأنه يعطي المسجد حقه، فأما إذا عاش في جهل وعمل في جهل، فإنه ربما اعتدى على حرمات المساجد من حيث يدري ولا يدري.

نكتفي بهذا القدر من الأحكام والله تعالى أعلم.

(17/27)

الأسئلة

(17/28)

حكم أداء التراويح في مسجد والقيام في مسجد آخر

السؤال

لو صلى رجل تراويح في مسجد، ثم صلى القيام في مسجد آخر فما الحكم؟

الجواب

لا بأس بذلك، لكن الصلاة مع إمام المسجد نفسه حتى ينصرف يكتب له قيام ليلة، يصلي جميع الصلاة، ولو كان المسجد له أكثر من إمام يصلي الصلاة مع جميعهم.

(17/29)

حكم تقدم المأموم على الإمام خارج المسجد

السؤال

بعض الناس يتقدمون على الإمام من الخارج فهل يجوز ذلك؟

الجواب

لا يجوز إلا إذا ازدحموا جداً وصار للضرروة.

(17/30)

حكم إخراج زكاة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين

السؤال

ما حكم إخراج زكاة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين؟

الجواب

إخراج زكاة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين جائز، أما قبل ذلك فلا.

(17/31)

مخالفة أصوات الهاتف النقال لآداب المسجد

السؤال

لوحظ في الفترة الأخيرة كثرة أصوات أجهزة النداء الآلي والهاتف الجوال في المساجد فما رأيكم في ذلك؟

الجواب

هذا بطبيعة الحال من عدم الأدب مع المساجد، فعلى الإنسان إذا أراد أن يدخل مسجداً أن يغلق الجرس، لأنه هل سيتكلم بالهاتف في المسجد؟! إذاً ماهي الفائدة يغلق الجرس.

(17/32)

حكم من خرجت منه ريح في المسجد

السؤال

الريح في المسجد إذا خرجت فما الحكم؟

الجواب

يخرج ويتوضأ، وكثيراً ما تخرج ريح من غير تحكم من الشخص.

(17/33)

حكم طواف الوداع في العمرة

السؤال

هل يجب طواف الوداع في العمرة؟

الجواب

قول الجمهور وهو الراجح أنه مستحب وليس بواجب.

(17/34)

حكم خروج المعتكف للاتصال بأهله

السؤال

هل للمعتكف أن يخرج للاتصال بأهله والاطمئنان عليهم؟

الجواب

نعم إذا دعت الحاجة إلى ذلك.

(17/35)

حكم خروج المعتكف للاغتسال وتغيير الملابس

السؤال

ما حكم خروج المعتكف للاغتسال وتغيير الملابس؟

الجواب

يجوز ذلك، لأنه إذا احتلم مثلاً، أو أصابه عرق أو شيء يخرج ليغتسل ويرجع، أما الأكل إذا لم يتيسر أن يحضر معه طعاماً يخرج يأكل ويرجع ويكون خروجه بقدر الحاجة.

(17/36)

حكم إتيان المعتكف زوجته في المنزل

السؤال

ما حكم إتيان الزوجة في المنزل؟

الجواب

يبطل الاعتكاف {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187].

(17/37)

حكم اتصالات المعتكف المتعلقة بعمله

السؤال

ما حكم اتصالات المعتكف المتعلقة بالعمل؟

الجواب

لا.

لأنه ليس لها علاقة بالمسجد بالعبادة، ولذلك على الإنسان أن يحاول قطع كل الأشغال في فترة الاعتكاف، أما الأشياء الطارئة والضرورية التي لا بد منها إذا دعت الحاجة الشرعية إليها فإنه يخرج من أجلها.

(17/38)

حكم رفع الأيدي أثناء دعاء الإمام في القنوت

السؤال

ما حكم رفع المأمومين أيديهم عند دعاء الإمام في القنوت؟

الجواب

في خطبة الجمعة لا ترفع الأيدي، إلا في الاستسقاء.

(17/39)

حكم مسح الوجه بعد الدعاء

السؤال

ما حكم مسح الوجه بعد الدعاء؟

الجواب

لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.

(17/40)

حكم تحية المسجد الحرام

السؤال

إذا دخلت المسجد الحرام، هل أصلي ركعتي المسجد؟

الجواب

نعم، والطواف تحية يغني عن تحية المسجد.

(17/41)

زكاة الفطر لمن ولدت

السؤال

من صامت شيئاً من رمضان ثم وضعت هل عليها زكاة الفطر؟

الجواب

نعم.

(17/42)

حكم لبس البنطلون بالنسبة للمرأة

السؤال

ما حكم لبس المرأة البنطلون؟

الجواب

أفتى بعض العلماء المعاصرين بحرمة ذلك، خصوصاً وأن أكثر البنطلونات الضيقة ما بين السرة والركبة، وليست فضفاضة، ولا واسعة، وأن في بعضها تشبه واضح بالرجال، ولذلك يسد هذا الباب تماماً، أما أن المرأة تلبس لزوجها فتلبس ما شاءت ما دامت ليست متشبهة تلبس ضيقاً تلبس قصيراً تلبس شورتاً، ما دام لزوجها، فإنها لا بأس أن تفعل أي شيء من ذلك.

(17/43)

ضابط دم الحيض

السؤال

امرأة خرج منها دم بسيط لمدة ثلاثة أيام فهل هو دم حيض؟

الجواب

إذا كان الدم في وقت الحيض فهو حيض، أما إذا كان في غير وقت الحيض، لا الكمية مثله، ولا الرائحة، ولا الأوجاع المصاحبة، ولا الوقت، ولا اللون، فإنه ليس بحيض.

(17/44)

حكم تحية المسجد في مصلى العيد

السؤال

مصلى العيد هل له تحية مسجد؟

الجواب

لا، إلا إذا كان مسجداً، إذا صلوا العيد في المساجد، أما إذا صلوا في المصليات الخارجية في الصحراء، فهذا ليس له تحية مسجد على الراجح.

(17/45)

فضل إتيان مسجد قباء وصلاة ركعتين

السؤال

ما فضيلة إتيان مسجد قباء يوم السبت وصلاة ركعتين؟

الجواب

يعادل أجر عمرة.

(17/46)

مصير أولاد الكفار

السؤال

ما مصير أولاد الكفار؟

الجواب

اختلف العلماء فيهم، قال بعضهم: هم في النار، وقال بعضهم: هم في الجنة، وقال بعضهم: هم خدم أهل الجنة، وقال بعضهم: يمتحنون يوم القيامة مثل المجانين وغيرهم، فإذا ثبت حديث: (أطفال المشركين خدم أهل الجنة) وجب المصير إليه، وإلا نقول: إن أمرهم إلى الله سبحانه وتعالى.

(17/47)

حرمة الانتفاع بالخمر

السؤال

هل للخمر منافع؟

الجواب

نعم.

فيها منافع، وربما أكسبت حرارة في البلدان الباردة، وفي تجارتها منافع مادية، لكن إثمها أكبر من نفعها، فهي حرام، حرام، حرام.

(17/48)

زكاة أسهم الشركات

السؤال

كيف تخرج زكاة أسهم الشركات؟

الجواب

إذا اتخذتها للتجارة ويبيع ويشتري فيها إذا ارتفع سعرها، فالزكاة على الأصل وعلى الأرباح، وإذا كان قد اتخذها ليتعيش من ربحها فقط، وليس ليتاجر بأصلها، فالزكاة على الربح إذا حال عليها الحول.

(17/49)

قصة بني إسرائيل مع البقرة

ما ذكر الله قصص أنبيائه في القرآن إلا عبرة لأولى الألباب، ومن هذه القصص قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل وأمرهم بذبح البقرة، فقد عرضت في القرآن بأسلوب يظهر فيه مدى تلكؤهم وسوء أدبهم مع أنبياء الله، وتعديهم لحدود الله عز وجل، وقد ذكر الشيخ في آخر الدرس مجموعة من الفوائد المتعلقة بهذه القصة، ومن أبرزها أن اليهود قوم بهت مماطلون مخادعون حتى لأنبياء الله عليهم السلام.

(18/1)

فوائد من قصص الأنبياء

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120].

لقد جاءت هذه الآية التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في فترةٍ هي من أحرج الفترات التي مرت بها الدعوة في مكة، فاحتاج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون إلى مواساةٍ وأنس وتثبيت، فجاءت هذه القصص لتثبتهم في غمرة هجوم أهل الباطل الشرس ضد جنود الحق، وكذلك فإن هذه القصص عبرة لأولي الألباب كما قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111].

(18/2)

القصص توجد عند أهل الكتاب من حيث العموم

وهذه القصص التي في القرآن يوجد بعضها عند اليهود والنصارى، بل الكثير منها موجود من جهة العموم، يعرفون قصة يوسف من جهة العموم، يعرفون قصة أصحاب الكهف من جهة العموم، لكن التفصيلات التي جاءت في القرآن لا توجد عندهم، بل إنهم قد اختلفوا في أشياء، وجاء القرآن يفصل بينهم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76].

فأكثره قد فصل بينهم فيه في هذا الكتاب العزيز، ولذلك فإننا لسنا بحاجة إليهم: {وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف:22] لا تستفتِ في أهل الكهف أحداً من أهل الكتاب، فعندك المرجع، وعندك الكفاية.

(18/3)

موقفنا مما عند أهل الكتاب من العلم

ولذلك فإن اللجوء إلى الإسرائيليات في معرفة التفاصيل ليس من الحكمة في شيء، فهذه الإسرائيليات كثيرٌ منها كذبٌ وافتراءٌ على الأنبياء، وفيه ما لا يليق بهم، والقصص عن الماضين غيب فإننا لم نكن معهم، كما قال الله تعالى بعد سياق قصة نوح: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود:49] وقال في ختام قصة يوسف: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف:102]، وقال في قصة مريم: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُون} [آل عمران:44] فإذاً هذه القصص بالنسبة لنا غيب؛ لأننا لم نشهدها، ولم نسمعها، ولم نعاصرها من قبل، ولذلك لا يجوز أن نأتي على الغيب بشواهد من الإسرائيليات الموجودة عند الكفار في كتبهم من أهل الكتاب، فإن الله سبحانه وتعالى قد أغنانا عنها، وهذه الإسرائيليات الموجودة ثلاثة أقسام: القسم الأول: ما يوافق ما عندنا فهذا نأخذه بطبيعة الحال.

والقسم الثاني: يخالف ما عندنا ويصادمه ويضاده، فهذا نرفضه ونكذب به.

وقسم ثالث: لا يوافق ولا يخالف، فقد يكون فيه تفصيل معين ليس مذكوراً في القصة التي وردت في الكتاب والسنة، كذكر بعض البقرة الذي ضرب به القتيل من بني إسرائيل فحيي، مثل هذا نحن لا نصدق به ولا نكذب؛ لأنه قد يكون حقاً فنكذبه، وقد يكون باطلاً فنصدقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم رخص لنا في رواية أخبارهم -غير المصادمة للشريعة- لكنه قال: (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإنه قد يكون حقاً فتكذبونهم به، وقد يكون باطلاً فتصدقونهم به) ولذلك فهذا موقفنا من الإسرائيليات.

(18/4)

الفائدة من سرد هذه القصص في القرآن

وبالنسبة لهذه القصص فإنها بديعة الطريقة، عجيبة الأسلوب، صادقة الخبر، بتدبرها تظهر السنن الربانية، فإنه في نهاية كل قصة يكون فيه خبر التمكين والنصر للمؤمنين والهلاك والعذاب للمكذبين، كما قال الله تعالى: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120] وهذه القصص ليست مخترعةً، بل إنها واقعة حقاً وحقيقة كما أخبرنا ربنا عز وجل، وينبغي أن يكون موقفنا منها الاعتبار والتفكر كما تقدم.

وما نعجبه أشد العجب: ما الذي أصاب هذه الأمة حتى غضت النظر عن القصص التي قصها ربها عليها في كتابه، وأهملت أمرها، وظن أهلها أنها أمور تاريخية لا تفيد إلا المؤرخين، وحتى إن بعض المرتدين في هذا العصر زعم أن في القرآن خرافات مثل عصا موسى وقصة الكهف، ولا شك أن هذا الكلام كفرٌ وردة وخروج عن ملة الإسلام.

وكذلك فإن هذه القصص فيها نوعٌ من التربية عظيم، فإن التربية بالقصة من ألوان التربية المهمة، فإن الحادث المرتبط بالأسباب والنتائج تهفو لها الأسماع، فإذا تخللتها مواطن العبرة في أخبار الماضي كان حب الاستطلاع لمعرفتها من أقوى العوامل على رسوخ عبرتها في النفس، وكذلك نستفيد منها الإيمان بالرسل، فإننا وإن كنا نؤمن بجميعهم على وجه العموم والإجمال، لكن لما تأتي تفاصيل قصة بعض الأنبياء بالدقائق والأحداث فإن ذلك يزيدنا إيماناً بهم على إيمان، وكذلك فإن في هذه القصص تقريراً للإيمان بالله وتوحيده وإخلاص العمل له عز وجل، وكذلك فإن فيها عبرة للمؤمنين يقتدون بها في سائر المقامات، كالعبودية والدعوة والصبر والثبات والطمأنينة والسكون والصدق والإخلاص لله رب العالمين.

ويوجد في كثيرٍ من القصص أحكامٌ فقهية وشرعية يعرفها أهل العلم، كما استدل أهل العلم من قوله: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72] على جواز عقد الجعالة والكفالة؛ بابان من أبواب الفقه دليلهما في هذه الكلمات من الآية في قصة يوسف.

وكذلك فإن في هذه القصص التسلية عن المؤمنين فيما يلاقونه من أنواع التكذيب والاتهام الباطل من الكفار، وفيها إبراز أن الأنبياء كلهم جاءوا بشيءٍ واحد وهو التوحيد والإسلام وإن اختلفت شرائعهم.

وكذلك فيها أن الابتلاء لابد أن يحدث للمؤمنين وأن هذه سنة الله فيهم، وأن وظيفة رسل الله البلاغ، وأنهم لا يملكون للناس نفعاً ولا ضراً، وقد يوجد لنبيٍ ولدٌ كافر لا يغني عنه شيئاً، وقد يوجد لنبي أبٌ كافر لا يغني عنه شيئاً، وقد يوجد لنبي زوجة كافرة لا يغني عنها شيئاً.

وكذلك فإننا نستفيد من القصص التي ذكرها ربنا عز وجل مواعظ، الآفة التي وقع فيها كل قوم فنستفيد معرفة عيب قوم نوح في غوايتهم وغرورهم، وقوم فرعون في ثروتهم وعتوهم، وقوم لوط في فاحشتهم، وقوم عاد في قوتهم وبطشهم، وقوم ثمود في أشرهم وبطرهم، وقوم مدين في تطفيفهم للمكيال وإخسارهم للموازين، وبني إسرائيل في تمردهم وتحايلهم ونكوصهم.

وكذلك فإننا نستفيد من هذه القصص بمقارعة أهل الكتاب الحجة بالحجة والبيان، وكذلك فإننا سنكون شهداء لكل نبي على أمته يوم القيامة.

ومن شروط الشاهد: أن يعلم ما يشهد به، والدليل على هذه الشهادة قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم.

فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك، فيقول: محمد وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيداً) كذلك قوله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143].

ثم إن في هذه القصص بياناً لبلاغة القرآن الكريم، وهذه الخصيصة العظيمة كيف جاء هذا النسق وهذا الأسلوب البديع في القرآن الكريم وهو ولا شك معجزةٌ من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.

فهذه طائفة من فوائد القصة وشيء من التربية في القصة، ولنشرع الآن في ذكر قصة من القصص في هذا القرآن وهي قصة البقرة.

(18/5)

طبيعة اليهود من خلال نظرتهم إلى أوامر الله عز وجل

كنا قد مررنا بهذه القصة في تلاوتنا في سورة البقرة في التراويح، قال الله تعالى: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] الآيات.

(18/6)

خلاصة القصة

وهذه القصة خلاصتها: أنها وقعت جريمة قتل في بني إسرائيل في زمن موسى، ولم يعرف القاتل، وتدافعوا في ذلك وصارت الاتهامات متبادلة، وأراد الله تعالى أن يكشف لهم القاتل بواسطة معجزة مادية محسوسة، فأوحى الله إلى موسى عليه السلام أن يأمرهم بذبح بقرةٍ، أي بقرة كانت بدون تحديدٍ لمواصفاتها، ولكن طبيعة اليهود في التلكؤ والمماطلة والجدال جعلتهم يسألونه عن عمر البقرة أولاً، ثم عن لونها ثانياً، ثم عن عملها ثالثاً، وأخيراً ذبحوها وما كادوا يفعلون، وأمروا بضرب القتيل ببعضها فضرب، فأحياه الله فأخبر عن قاتله وقال: قتلني فلان، ثم قيل: إنه قد مات في وسط دهشة بني إسرائيل.

وهذه القصة ولا شك من القصص العظيمة التي قصها علينا ربنا في القرآن الكريم عن بني إسرائيل لنأخذ منها العبرة والعظة.

وهذه القصة لا شك قد اكتنفتها إسرائيليات، وجاءت في بعض تفاصيلها أخبار، لكننا على الموقف السابق لا نحتاج إلى هذه التفصيلات؛ لأنه لو كان لنا فيها خير وفائدة لذكرها ربنا عز وجل، فنحن لا نستفيد شيئاً إذا عرفنا أن البعض الذي ضرب منه القتيل من البقرة هو الذَّنب أو غضروف الكتف، أو الرجل، أو الرأس، هذا التفصيل لا يفيدنا، فإن كان ورد في بعض الإسرائيليات فإننا في غنية عنه.

هذه القصة توضح بجلاء تنطع بني إسرائيل وتشددهم في الأحكام، وكيف أن الله شدد عليهم، وقد كره لنا كثرة السؤال.

(18/7)

أسلوب القرآن في عرض القصة

وجاءت هذه القصة بأسلوب يأخذ بمجامع القلوب، ويحرك الفكر في النظر إليها تحريكاً، ويهز النفس للاعتبار بها هزاً، وقال الله تعالى فيها: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة:72] هذا ذكرت فيه المخالفة أو الاختلاف (فادارأتم فيها) ثم المنة في الخلاصة بقوله فقلنا: (فاضربوه ببعضها) ولكن وسيلة الخلاص من هذه الاتهامات وهذا اللغط، الوسيلة ذكرت قبل السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة، فإننا أول ما نطالع الآيات: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] نحن لا نعرف لماذا في البداية، لكن عندما نقرأ التكملة: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} [البقرة:72] ثم قال: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة:73] عرفنا السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة.

فإذاً: تقديم ذبح البقرة كان فيه تشويق للسامع إلى معرفة ما وراء القصة، وما هو السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة، ثم يفاجأ الشخص وهو يقرأ بحكاية السبب، وقد حصل عنده تشويقٌ سابق لمعرفة السبب الذي من أجله أمروا بذبح البقرة، فتتوجه الفكرة بأجمعها لتلقي ذلك، وتظهر الحكمة في أمر الله تعالى لأمةٍ من الأمم بذبح بقرة خفية.

(18/8)

تنطعهم في تنفيذ الأوامر

وظاهر الأمر أن نبيهم موسى عليه السلام أمرهم بذبح بقرةٍ غير معينة، ولكنهم تنطعوا وتشددوا فشدد الله عليهم، فقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] أي بقرة كانت، وكونهم بحثوا في صفاتها تكلفاً منهم، كان ينبغي لهم أن يتنزهوا عنه، وأن يمتثلوا الأمر بذبح البقرة، ولو كان هناك صفة معينة في هذا لذكرها لهم ربهم على لسان نبيهم، ولذلك عنفهم الله تعالى بقوله: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68]، وفي قوله: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] وعلمنا تقصيرهم في الإتيان بما أمروا به أولاً، وجاء عن ابن عباس بإسنادٍ صحيح أنه قال: [لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأت منهم، لكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم] وقد كانوا محتاجين إلى ذبح البقرة لمعرفة القاتل، والله تعالى لم يذكر لهم صفة معينة في أول الأمر، فدل ذلك على أنه يجزئ أي بقرة، ولو كان البيان متعيناً لجاء، إذ لا يجوز من الله أن يؤخر البيان عن وقت الحاجة، فكلفوا في البداية بذبح أية بقرة كانت، وثانياً كلفوا ألا تكون لا فارضٌ ولا بكر، بل عوان بين ذلك، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون بقرة صفراء، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون لا ذلول، تثير الأرض ولا تسقي الحرث، كلما تشددوا في السؤال، شدد الله عليهم بصفات إضافية في هذه البقرة.

ولما أمرهم بذبح البقرة قالوا له: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة:67] يعني: أتجعلنا مكاناً للهزأ والسخرية؟ أتهزأ بنا؟ أتتخذنا سخريةً؟

(18/9)

سوء أدبهم مع نبي الله عليه السلام

بهذا يواجهون نبيهم، نبي يأمرهم بأمر يقولون: أتهزأ بنا؟ أتسخر منا؟ هل هذا خطاب يليق بنبي؟ هل هذا أدب ينبغي للنبي؟ هذا من شأن بني إسرائيل الذين تمردوا على نبيهم، وظنوا أنه يلاعبهم، ظنوا أنه يهزأ بهم، وأشعر جوابهم هذا ما ثبت من فضاضتهم وسوء أدبهم، ولذلك رد موسى عليهم بقوله: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] لأن الاستهزاء في أثناء التبليغ لا يليق بنبي، كيف يهزأ نبي وهو يبلغ قومه؟! كيف يجعل في التبليغ مجالاً للسخرية والاستهزاء والمزاح والضحك والعبث؟! لا يمكن، ولذلك تجلى سوء أدبهم، لما قالوا له: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة:67].

وفي قول موسى: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] فائدة بديعة في دفاع الداعية عن نفسه إذا اتهم بشيءٍ باطل، وهذا الهزأ في أثناء تبليغ أمر الله تعالى جهلٌ وسفه نفاه موسى عن نفسه، وأكد أنه جاد غاية التأكيد، وقال: أعوذ بالله، ألتجئ وأعتصم به أن أكون من الجاهلين الذين يتقدمون في الأمور بغير علم، فرموا موسى بالسفه والجهالة، ودافع موسى عليه السلام عن نفسه، وقال: ألتجئ إلى الله وأعتصم بتأديبه إياي من الجهالة والهزأ بالناس.

وكان موسى عليه السلام حكيماً لما قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} [البقرة:67] لم يقل: أنا آمركم، أو اذبحوا بقرة؛ لأن موسى يعلم طبيعة هؤلاء القوم، ويعلم تلكؤهم وتباطؤهم وتمردهم، ولذلك قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} [البقرة:67] بيَّن لهم أن الأمر من الله حتى يقطع عليهم الطريق على التأخر في التنفيذ أو التحايل، ويقطع عليهم الطريق في المناقشة.

ربما قالوا له: إنما أتيت به من عند نفسك، هذا رأيك الشخصي أن نذبح بقرة، لكنه قال لهم بكلمات واضحة ومحددة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] وقوله: (بقرة) هذه نكرة في سياق الأمر تفيد العموم، اذبحوا أي بقرة، التنكير هنا يفيد العموم، لا يهم لونها ولا حجمها ولا عمرها، ولا عملها، ولا ثمنها، المهم أن تذبحوا بقرة، لكن اليهود قومٌ بهت، لم ينقادوا للأمر ولم ينفذوه فوراً، ولم يطيعوا الله ورسوله، وأنى لهم أن يفعلوا ذلك؟ فلذلك بدلاً من أن يوقروا نبيهم وينفذوا أمره، تواقحوا عليه وأساءوا الأدب واعترضوا قائلين: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة:67] وكأنهم يقولون: عجيب! ما هي الصلة بين ذبح البقرة وبين كشف هوية القاتل؟ نحن جئناك في حل قضيتنا نريد أن نعرف القاتل، وبما أنك نبي تعلم الغيب بإذن الله فأخبرنا من هو القاتل، ثم أنت تطلب منا أن نذبح بقرة بدلاً من أن تكشف لنا عن القاتل؟! وهذا طلبٌ مريبٌ يدل على أنك تريد أن تتخذنا هزواً.

(18/10)

خطورة الاستهزاء والمزاح في الأمور الدينية

أولاً: هذه طبيعة نفسية بني إسرائيل، يعتبرون أمر الله تعالى نوعاً من الهزأ والسخرية، وثانياً: يظنون أنه بهذا الطلب يريد أن يشغلهم عن قضيتهم الأساسية لمعرفة القتيل، وثالثاً: يظنون أن موسى الجاد عليه السلام الذي هو من أولي العزم من الرسل يظنون أنه يسخر ويهزأ ويلعب من خلال الأوامر التي يوجهها لهم، وهذا يشبه ما فعله قوم إبراهيم لما قالوا له: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء:55] ونفى موسى التهمة عن نفسه، وقال: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] وهذا دليل على أن السخرية والاستهزاء جهل.

وفيه فائدة تربوية مهمة: وهي أن الإفراط في المزاح وعدم الجدية من الجهل.

وأن الشخص المزاح اللعوب الذي يكثر السخرية والاستهزاء إنسانٌ جاهل، وبذلك نعلم أيضاً من هذه الآية خطورة الاستهزاء والطرف التي يرويها بعض الناس التي يسمونها نكتاً في قضايا عقدية أو شرعية، وأن هذا أمرٌ خطير يؤدي إلى الكفر والخروج عن الملة، كما ينسب بعضهم الجنة والنار ويعملون (نكت) وطرائف على بعض أحكام الشريعة.

وكذلك نعلم أن الذين حولوا حياتهم وحياة الآخرين إلى ضحكٍ دائم فيما يسمونه (بالكوميديا) اليوم، ويعملون لها مسرحيات وأفلاماً ويكون هم الشخص هو الضحك واللعب، يتبين لنا أن هؤلاء الناس من الجاهلين.

وكذلك يتبين أن المسلم الصادق جاد وملتزم، قد يمزح ولكنه لا يقول إلا حقاً، وقد يضحك ولكن بأدبٍ ووقار، وليس المعنى تحريم الضحك أو المزاح، بل إن المقصود هو منع تحويل الحياة إلى ضحكٍ كلها ومزاحٍ وعدم الجدية، فإن المسلم الجاد لا يرضى أن يكون من الجاهلين.

(18/11)

تجرؤهم بقولهم: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ)

قالوا له بعد ذلك لما قال: {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة:67 - 68] قولهم (ادع لنا ربك) كأنهم يقولون: ربك أنت وليس بربنا نحن، وهذا ربما دل على سوء أدبهم مع الله تعالى، وقد قالوا أشياء كبيرة مثل هذا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24].

وهذا يكشف عن طبيعتهم ويبين الفرق بينهم وبين الصحابة في الأدب مع الله، فإن صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] لما نزل قول الله عز وجل: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284] شق ذلك على الصحابة، لكن لم يتمردوا ولم يرفضوا، قالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] فلما زلت بهم ألسنتهم أنزل الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] إلى آخر الآية التي فيها تجاوز عن الناسي والجاهل والمخطئ، الجاهل الذي لا يعلم الحكم وهو معلومٌ بجهله.

لكن بنو إسرائيل يختلفون عن الصحابة تماماً، لم يقولوا: سمعنا وأطعنا، قالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة:68] قالوا: أنت حيرتنا، أنت أبهمت علينا الأمر، كلامك غير واضح، يحتاج إلى زيادة تفصيل، حدد لنا عمر هذه البقرة وكأنهم يقولون: لو حددت لنا عمر البقرة نكتفي وننفذ، فأجابهم بقوله: (إنه يقول) مرة أخرى يعزو الأمر إلى الله، والتفصيل من الله، والحكم من الله لا من عنده: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68] لا فارض يعني: غير مسنة انقطعت ولادتها، ولا بكرٌ لم تلد بالمرة، وإنما المراد من ولدت قليلاً ولم تلد كثيراً، عوانٌ بين ذلك: يعني: سنها لا هو صغيرٌ ولا هو كبير فهي متوسطة، حتى قيل: إن العوان معناها: النصف في السن من النساء والبهائم تسمى عوان، ولما ضيقوا ضيق الله عليهم، وجاءهم بهذا القيد الإضافي على البقرة، وقال لهم نبيهم وهو يحس بطبيعتهم ويعلمها: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68] أكد عليهم الفعل؛ لأنه يعلم حالهم، كأنه يقول: اذبحوها الآن على هذه الصفات ولا تكرروا السؤال، وإنما اندفعوا للتنفيذ فوراً.

ويستفاد من هذا أن الوسط هو الطيب، ولذلك الآن في الأضحية والعقيقة لا يجزئ أقل من ستة أشهر في الضأن وسنة في المعز، وأن ما كان وسطاً في عمره هو أجود اللحوم، فلحم الحيوان الصغير الذي لا يزال في بداية نموه قد تنقصه بعض الفوائد والكمية، ولحم الحيوان الكبير يكون قد قسا ويبس وفقد بعض فائدته الغذائية فيكون الوسط هو الأفضل.

قال لهم نبيهم: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68] اتركوا المزاجية والاعتراض والتلكؤ، والسؤال الذي نهيتم عنه، واشرعوا في التنفيذ، لكن هل فعلوا ذلك؟ وهل امتثلوا الأمر؟

الجواب

لا.

(18/12)

فائدة أصولية في باب الأمر

وفي قوله: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة:68] دليلٌ لما ذهب إليه أهل العلم من أن الأمر يقتضي الوجوب، أي أمر في القرآن والسنة يقتضي الوجوب إلا أن يصرفه صارف عن الوجوب إلى الاستحباب، وهذا هو الصحيح في أصول الفقه.

وكذلك من هذه الآية يستدل أيضاً على قاعدة أصولية أخرى تتعلق بالأمر، وهي: الأمر على الفور لا على التراخي، فإذا أمرنا بشيء يجب أن ننفذ فوراً، وهذه حجة من ذهب من العلماء إلى أن الواجب الحج فوراً: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا) أول ما تتمكن تحج، لا يجوز لك التأخير بدون عذر، فإذاً الأمر يفيد الوجوب، والأمر على الفور لا على التراخي، وهذا مذهب أكثر الفقهاء، لكن هل هم نفذوا على الفور؟

الجواب

لا.

(18/13)

مواصلة العناد وزيادة التشديد عليهم

قالوا: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة:69] انتقلوا إلى السؤال عن اللون، كان السؤال الأول عن عمر البقرة، الآن صار السؤال عن اللون، دائماً اللجاجة تقود إلى سؤالٍ جديد، فالذي لا يريد الحق دائماً يخرج لك أسئلة جديدة، والذي من طبيعته التلكؤ والنكوص يخرج أسئلة جديدة.

كانوا يزعمون أن الإبهام في الأمر الذي أمروا به في العمر، فإذا بهم الآن يرونه إبهاماً من وجهٍ آخر، ويقولون: إننا لا نعرف ما لونها، ما اللون المطلوب؟ وكأنهم يقولون: لو عرفنا اللون ذبحناها، ما لونها؟ {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة:69].

فلما شددوا شدد الله عليهم، ووضعهم في ضيقٍ أشد، فأمرهم بذبح بقرةٍ صفراء فاقع لونها مع أن اللون الأصفر الفاقع في البقر نادر، لكن لما شددوا شدد الله عليهم، ولعل أهلها لا يبيعونها إلا بثمن مرتفع -هذه البقرة الصفراء الفاقع لونها التي تسر الناظرين- ولا شك أن هذا من التضييق عليهم.

قال لهم: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] والفقوع أشد ما يكون من الصفرة وأنصعه، ويقال في التوكيد: أصفر فاقع، وأسود حالك، وأبيض يقق، وأحمر قانٍ، وأخضر ناظر، فالمقصود في قوله: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} [البقرة:69] يعني: شديدة الصفرة، نقية ما فيها إلا اللون الأصفر، ولا شعرة إلا صفراء، {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69] يعجب الناظرون إليها، حتى إن جمهور المفسرين أشاروا إلى أن الصفرة من الألوان السارة، ولذلك قالوا في أحكام المعتدة: إنها تترك الزينة في الذهب والحلي والملابس الجميلة، فقالوا: تترك الملابس الصفراء والحمراء إلخ، فيعتبرونه من الألوان السارة (تسر الناظرين) حتى إن بعضهم ربما كان يلبس الأصفر من النعال، ويقول: اتركوا لبس النعال السود لأنها تغم، فاللون الأسود قد يدل على الغم، ولكن الأصفر يدل على السرور، فهو لونٌ جميل محببٌ إلى النفوس.

ومحبة الألوان الجميلة ليس مما ينافي الشريعة سواء كان حيواناً، أو فاكهةً، أو طعاماً، أو لباساً، أو أثاثاً، فالشريعة لا تحرم الاهتمام بالألوان الجميلة، لكن الفنون الجميلة هذه مما ينبغي أن تضع تحتها خطوطاً حمراء؛ لأنهم قد شغلوا بها عباد الله عن ذكر الله وسموها (فنون جميلة) وصار الواحد ينفق في الساعات والأيام والشهور في لوحة يرسمها ويتعب فيها، ويقولون: هذه أشياء تشجع عليها الشريعة والفن الإسلامي، قاتلهم الله! أشغلوا الناس عن ذكر الله بالفنون الجميلة.

الشريعة لا تحرم أن تستمع وأن تمتع ناظريك ونفسك بالأزهار وألوانها، وتتأمل فيما خلق الله، وأن تسبح ربك على هذه الخلقة التي تسر الناظرين، لكن إنفاق الأوقات والنحت والتصوير والرسم بدعوى أن هذه فنون جميلة والإسلام لا يحرم الفنون الجميلة، وليس للإسلام موقف من الفنون الجميلة، فأشغلوا الناس عن ذكر الله بهذه الهوايات السخيفة الفارغة المضيعة للأوقات.

نعود إلى قصتنا: لما بين لهم أنها بقرة صفراء فاقعٌ لونها، هل نفذوا ذلك؟ وهل سارعوا إلى ذبحها؟

الجواب

لا.

بل إنهم عمدوا إلى سؤال ثالث في مشوارهم من المماطلة والتلكؤ والتباطؤ عن تنفيذ أوامر الله.

(18/14)

ما يستفاد من العِبر في التلكؤ وسؤالهم عن عمل البقرة

قالوا: كان الإبهام في العمر، ثم صار الإبهام في اللون، الآن يقولون: ما عمل هذه البقرة؟ ماذا تعمل؟ تحرث تزرع تسقي تعمل؟ ثم إنهم لما أرادوا أن يسألوا سؤالاً ثالثاً وكأنهم استثقلوا الثالث أبدوا عذراً فقالوا: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:70] كرروا السؤال عن الحال والصفة، ولا شك أنه تنطع بعد تنطع، ولذلك قيل: إن بعض الخلفاء كتب إلى عامله يقول: اذهب إلى القوم الفلانين فاقطع أشجارهم وهدم بيوتهم، فكتب إليه العامل يقول: بأيهما أبدأ بتخريب البيوت أم بقطع الأشجار؟ فرد عليه الخليفة يقول: إن قلت لك بقطع الشجر ابدأ ستقول لي بسؤالٍ آخر: بأي نوعٍ من الشجر أبدأ؟ وكذلك كتب أحد الأمراء إلى وكيله يقول: إذا أمرتك أن تعطي فلاناً شاةً سألتني أضأنٌ أم ماعز؟ فإن بينت لك قلت: أذكرٌ أم أنثى؟ فإن أخبرتك قلت: أسوداء أم بيضاء؟ فإذا أمرتك بشيءٍ فلا تراجعني.

فهؤلاء قالوا: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة:70] ما عمل هذه البقرة؟ وضح لنا وظيفة هذه البقرة؟ لقد تشابه الأمر واختلط ولا ندري أي بقرة هي المطلوبة من بين البقر.

وهذا فيه فائدة كبيرة وهي: أن الاشتباه والالتباس نتيجة طبيعية للحيرة، ضريبة يدفعها كل من يترك التشريع الرباني الميسر ويذهب للتشديد والتعقيد، مثال: الموسوسين، الشخص الموسوس الذي تقول له: توضأ بهذه الكيفية ترى أنه يأتي لك بأشياء شديدة، اغسل النجاسة، المطلوب إزالة النجاسة، يقول: وهل يلزم نتر الذكر، أو عصره، أو القفز، أو النحنحة، أو الربط، والقيام والقعود، أو النزول من درجات السلم، كل هذا من تشديدات الموسوسين.

إذاً هذه القضية وهي قضية الحيرة والاشتباه والالتباس تحدث نتيجة طبيعية للتشديد والتعقيد والبحث عما لا يلزم شرعاً، ولذلك ترى الموسوس يعيش في عذاب وحيرة وهم وغم؛ بسبب تشديده على نفسه.

فلما أخبروا بهذه الصفات المطلوبة منهم في البقرة، يا ترى أين سيجدونها؟ ومتى سيجدونها؟ وكم سيكون ثمنها؟ وهل هم مستعدون لدفع الثمن؟ ولذلك: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] وقالوا لنبيهم بعبارة يشتم منها رائحة سوء الأدب، قالوا: {الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة:71] يعني: بعد البيان الثالث (الآن جئت بالحق) كأنهم يقولون: الذي قبل هذا لم يكن حقاً، الآن هذا حق، وكأنه موسى عليه السلام كان يتكلم بالباطل.

وحاشاه.

قال لهم في الصفة الثالثة: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة:71] أما قوله: (إنها بقرة لا ذلول) الذلول: من الدواب بينة الذل التي ذللها الذين يستخدمونها، (تثير الأرض) يعني: تقلبها للزراعة، يعني: أن هذه البقرة التي أمرتم بها ليست ذلولاً تثير الأرض، ولا تسقي الحرث، ولا يستقى عليها الماء لسقي الزرع ويحمل عليها الماء ويستقى بها الماء، وإنما هي (مسلَّمة) يعني: خالية ومسلَّمة من العيوب، مسلَّمة من العمل، يعني: كأنها عند أهلها للنظر والاستمتاع لا للعمل والكد، (لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث) وإنما هي (مسلَّمة لا شية فيها) يعني: لا عيب، ولا خلط في الألوان، فلما سمعوا هذه الأوصاف ولم يبق متسع لمزيدٍ من التساؤلات، العمر واللون والعمل، فماذا بقي؟

(18/15)

التباطؤ في التنفيذ طبيعة اليهود والمنافقين

كان الأمر يسيراً فعسروه، وكان واسعاً فضيقوه، وفي النهاية فذبحوها، لكن بعد ماذا؟ (فذبحوها وما كادوا يفعلون) ما كادوا يفعلون ما أمروا به، ولذلك فإن الله تعالى ذمهم وعابهم على هذا الفعل، وشدد عليهم وجعل الأمر شاقاً عليهم، وكذلك شق عليهم في اللحوم وما يؤكل منها والشحوم، وحرَّم عليهم أشياء، {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:160] وهذا التباطؤ والتلكؤ يدل على نفسية لا تريد العمل، ولا تريد التنفيذ.

إن نفس المؤمن فيها شوقٌ ولهفة وهمة وحيوية للتنفيذ؛ لأن هذا هو أمر الله، فالمؤمن يتحمس لتنفيذ أمر الله، ولكن المنافق يتكاسل ويتباطأ ويتحايل ويتهرب، فإذا فشلت المحاولات نفذ مضطراً مكرهاً مرغماً {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] لكن المؤمن إذا نفذ الصلاة والحج ينفذ بطواعية وسرور نفس ومسارعة، واستسلام، لا اعتراض ولا تلكؤ، أما المنافق وطبائع اليهود هذا هو، {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142].

ولكن إذا رأى الإنسان أنه يجرجر نفسه إلى الطاعة جرجرةً، ومرة يفعل ومرة لا يفعل، ويسأل أهل العلم فإذا أجابوه اعترض بسؤالٍ آخر، وتراه يجادل لا للتعلم، ولكن لإضاعة الوقت، ولعله ينفذ من الحكم، ويجد له مخرجاً من هذه الفتوى، فهذه طبيعة يهودية إسرائيلية بغيضة من بني إسرائيل.

(18/16)

المبادرة للتنفيذ هي المقصود من أمرهم بالذبح

ومعلوم أنه ليس المقصود الآن مجرد الذبح، المقصود الأساسي المبادرة للتنفيذ، فالله عز وجل أمرنا بذبح الضحايا والهدايا، وقال: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36] يعني: طاحت بعد نحرها: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:36 - 37].

ولولا أنهم استثنوا ما ذبحوها، ولذلك لما قالوا: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:70] لو لم يستعملوا المشيئة كانوا ما ذبحوها أبداً كما قال المفسرون، وهذا من بركة المشيئة، فإنها معينة على تنفيذ الأمر، ولذلك قال الله: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24].

(18/17)

ذبح البقرة وما كان بعدها

بعدما انتهت قضية شروط البقرة وذبح البقرة أعلمنا الله لماذا أمروا بذبحها، وهذا تشويق في القصة، وجذب الانتباه، أنه أتى بالسبب ثم أتى بالقضية الأصلية: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:72] هذا أول القصة، حصل أولاً القتل للشخص ثم تنازع فيه الناس، فأراد الله أن يكشف الحقيقة، فأمرهم بذبح البقرة؛ ليضربوه ببعضها فيحيا القتيل فيخبر عن قاتله، ومعنى قوله تعالى: (فادارأتم فيها) يعني: تدافعتم خصام واتهام، كل واحد يدرأ عن نفسه التهمة ويلقيها على الآخر، يدعي براءة نفسه ويتهم غيره، والله تعالى يريد فضح سر القاتل والعارفين به، ولذلك قال: {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:72] لأنكم تريدون التغطية على القاتل والإيقاع بقومٍ أبرياء تتهمونهم بالقتل لإخفاء القاتل الحقيقي والله لا يخفى عليه مكركم، {وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة:72].

الجواب

=6000079> فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:73] (اضربوه ببعضها) قلنا: إنه ورد في الإسرائيليات ذكرٌ لهذا البعض الذي أمروا أن يضربوه به، لكن ماذا يفيدنا لو عرفنا؟ وماذا يضرنا لو لم نعرف؟ لا يضرنا شيء، ولذلك ما ذكره الله لنا، ولو كان فيه منفعة لنا لذكره لنا ربنا، فلما ضربوه ببعضها أحياه الله، فكان في ضربه حكمة بالغة في تقديم دليل واضح على بعث الله للناس بعد الموت، وأن الله قد بعث لكم أحد الأموات، فهو قادر على أن يبعث الأموات كلهم إذا ماتوا، {كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى} [البقرة:73].

فإذاً الكلام فيه حذفٌ وتقدير، (فقلنا اضربوه ببعضها) فأحياه الله (كذلك يحيى الله الموتى) مثلما أحيا هذا الشخص، (ويريكم آياته) علاماته الدالة على كمال قدرته.

فإن قال قائل: لِمَ لم تقص القصة على ترتيبها، وكان حقها أن يقدم ذكر القتيل أولاً، والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها، وأن يقال: وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها، فقلنا اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها؟ لكن لا شك أن في تقديم هذا وتأخير ذلك بلاغة واضحة في شد الانتباه والتشويق كما ذكرنا، وأنه أراد أن يظهر تباطؤ اليهود وتلكؤهم وتقاعسهم ويقرعهم على هذا الاستهزاء وترك المسارعة للامتثال، وأن هذه القضية أخطر من قضية التدارؤ في قتل هذا الشخص؛ لأن المبدأ يعني عدم تنفيذ الأوامر، هذه خطيرة، فكأنه قدم القصة المتعلقة بها على القصة المتعلقة بإحياء القتيل؛ لأن هذه المشكلة أكبر وينبغي بيانها وإيضاحها، وربما يكون تقديمها من هذه الجهة أحسن وأبلغ، وكأنه ذكر لنا قصتان: قصة التلكؤ وقصة القتيل، بينما لو ذكرت بالعكس لكانت قصة واحدة، فهو سبحانه وتعالى وصل لنا القصة الأولى بالثانية في قوله: {اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا} [البقرة:73] لما وحد الضمير، لكن لما ذكر ذلك أولاً ثم هذه ثانياً، {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً} [البقرة:72] وذكرها بعد: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] صارت كأنها قصتان، كل قصة لها مغزى، أبلغ من أن تكون قصة واحدة.

وعلى أية حال في القرآن أسرارٌ كثيرة قد تخفى، ويعلم كثيراً منها أهل العلم.

(18/18)

مجموعة من الفوائد في الآيات

وفي قوله تعالى: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67] دليل على منع الاستهزاء بالدين كما تقدم.

(18/19)

جواز بيع السلم

وفي قوله تعالى: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة:71] تكلم العلماء في هذه الآية على قضية بيع السلم، وأنه يجوز بيع الحيوان سلماً إذا ضبطت صفاته كما ضبطت في هذه الآية؛ لأن العلماء قد اختلفوا في حكم بيع السلم في الحيوان، فادعى بعضهم أنه لا يجوز؛ لأنه لا يمكن ضبطه، وهم الحنفية، وذهب الشافعي رحمه الله ومالك والأوزاعي والليث وغيرهم إلى جواز بيع السلم في الحيوان واستدلوا بالآية، فما هو بيع السلم؟ معلوم أنه في القاعدة الأصولية: لا يجوز بيع ما لا تملك، شيء لا تملكه لا يجوز لك أن تبيعه، لكن الحاجة تدعو أحياناً إلى أن يبيع الإنسان ما لا يملك، فأباحت الشريعة بيع السلم، يجوز أن تبيع شيئاً ليس عندك إذا كان يمكن ضبطه، وذكرت الصفات الضابطة له وقدم الثمن في مجلس العقد إلى آخر شروط بيع السلم.

فمثلاً: يجوز أن تقول لشخص أشتري منك ثمراً هذه صفته، ولم يكن قد ظهر الثمر، أولم يُزْرَع أشتري منك قمحاً على رأس الحول هذه صفته، وهذا وزنه وهذا ضبطه ونحو ذلك، وتقدم الثمن كاملاً يجوز بيع السلم في هذه الحالة، تقول لشخص مثلاً يسافر إلى أمريكا يأتي بسيارة، تقول: أشتري منك سيارة هذه صفتها كذا وكذا، وتقدم له الثمن كله في مجلس العقد، ثم يأتي لك بالسيارة على الصفات، ومن شروط بيع السلم تحديد مدة التسليم، على أية حال الآن موضوعنا ليس بيع السلم، لكن استدلوا بهذه الآية على جواز السلم في الحيوان.

(18/20)

حرمة الاستهزاء بالأنبياء

وهذه القصة فيها فوائد كثيرة ذكرنا بعضها سابقاً ومنها: إظهار العجرفة وسوء الأخلاق في بني إسرائيل يتجنبها المسلمون، وحرمة الاعتراض على الشارع، ووجوب المبادرة إلى تنفيذ أمره ونهيه، والندب إلى الأخذ بالمتيسر، وكراهية التشديد بالأمور، وفائدة الاستثناء، وإنهم لو لم يقولوا: إن شاء الله ما نفذوا أصلاً، وتحاشي الكلمات التي قد يفهم منها الاستهزاء بالأنبياء، وهناك جدل قائم الآن على فيلم قد صور ومثل فيه لمزٌ ليوسف عليه السلام، هذا الذي يثار فيه الجدل في هذه الأيام، الأفلام التي فيها تمثيل أدوار الأنبياء، ليس هناك شك أنها سخرية بالأنبياء، يظهر لك ممثل فاسق فاجر يمثل دوراً فيه الحب والغرام والعشق المحرم في تمثيلية وفيلم ثم يمثل دور نبي، ثم لو أتيت بأتقى الناس الآن هل يرقى أن يكون في مستوى نبي حتى يمثل دوره.

فلا شك أن تمثيل أدوار الأنبياء مما يقلل من شأنهم ويظهرهم بمظهر غير المظهر الذي أظهره الله تعالى في كتابه، فلذلك حرام تمثيل أدوار الأنبياء، وهم يحاولون المناورة والمداورة وأنه لم نقصد، ولم ولكن التفاصيل التي قدموها أنهم قصدوا ذلك، وهذا من محاربة الأعداء لنا في تاريخنا، هم حاربونا في أشياء كثيرة ومنها محاربتهم لنا في تاريخنا.

(18/21)

بيان كيف يحيي الله الموتى

وكذلك فإن من فوائد هذه القصة: بيان كيف يحيى الله الموتى بدليلٍ عجيب وآيةٍ باهرة ومعجزة ربانية: إنسان ميت لا روح فيه ولا حراك، وبقرة عجماء بكماء، ذبحتم أنتم البقرة وتحولت إلى جسدٍ أيضاً لا روح فيه ولا حراك، وأخذتم أنتم جزءاً ميتاً من أجزاء البقرة الميتة وضربتم به جسد الإنسان الميت، وفوجئتم بالمفاجأة المدهشة كيف دبت الحياة في هذا الإنسان الميت من تلك الضربة، وتحرك حركة الأحياء وتكلم كلام الأحياء.

فذبح البقرة إذاً كان فيه فوائد منها: الكشف عن القاتل الحقيقي، وتعريف اليهود عليه، وإقامة الدليل العملي على قدرة الله على إحياء الموتى، وتقديم آية من آيات الله ومعجزة من معجزاته، وتعريفنا على طبيعة اليهود من خلال نظرتهم لأوامر الله وتحذير المؤمنين من أخلاقهم.

لكن قصة البقرة وإحياء الميت بهذه الطريقة العجيبة هل كان ذلك مرققاً لقلوب بني إسرائيل؟

الجواب

كلا.

فإن الله أعقب ذلك مباشرة بقوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] مع أنهم من المتوقع أنهم لما رأوا هذه الآية الباهرة، وهذه المعجزة الربانية أن تلين قلوبهم، لكنها قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد؛ لأن من الحجارة ما يتشقق ويتحدر ويتفطر من خشية الله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21].

وفيه كذلك: جرم القاتل وخطورة إخفاء الحقائق، وكيف أنهم تدافعوا وحاولوا اتهام الأبرياء.

وكذلك: أن اللجاجة وكثرة الأسئلة فيما لا داعي له أمرٌ ممقوت، وأهمية الانشغال فيما ينفع والبحث عما يجدي وترك ما لا ينفع.

(18/22)

وجوب تقديم الأصول على الفروع

ثم نأتي إلى درسٍ آخر وهو: قضية عدم الانشغال بالهامشيات والثانويات والشكليات والفرعيات على حساب الأصول والأساسيات، يعني لا تقدم هذه على هذه.

ولا ينبغي أن يفهم من كلامنا ألبتة ترك الجزئيات التي جاءت بها الشريعة كتحريك الإصبع في التشهد مثلاً، بزعم أن هذه جزئية وسنة وأمر شكلي وجانبي، تقول: لا.

حاشا وكلا معاذ الله، وإنما سنة نبينا صلى الله عليه وسلم: (من رغب عن سنتي فليس مني) ولكن أن يشتغل الإنسان بالفرعيات ويترك الأصول هذا هو المذموم، كذلك بعضهم قد يشتغل بدقائق الفقه وهو لم يؤسس أسس العقيدة في نفسه، يأخذ المسائل المفرعة الجزئية وهو لم يضبط أصولها.

(18/23)

اليهود قوم بهت مماطلون

وأخيراً: فإننا نختم فوائد هذه القصة بفائدة تتعلق بعصرنا الذي نعيش فيه، فإن المداورة والمماطلة التي كشفتها لنا قصة البقرة في طبيعة اليهود، تدل على أن طبيعة هؤلاء القوم لا يملون ولا يضجرون ولا يسأمون من المفاوضات؛ لأنهم يتقنون فن التهرب والتملص والتحايل، بل ويتمتعون أثناء ذلك بنفس طويل وأعصاب باردة، وهم على استعداد لتضييع الجهود والأوقات في هذه الشكليات والفرعيات، وأن يوجدوا لأنفسهم مداخل، ويمكن أن يعمدوا إلى قضية شكلية هامشية يمضون فيها أوقاتاً طويلة تستغرق شهوراً وسنوات على حساب الطرف المظلوم، وعندهم فنٌ في عدم حل المشاكل وإبقائها معلقة، وتأخير الحل، وعندهم حرصٌ على عدم إظهار الحق وعدم الخروج بنتيجة وإبقاء القضية في غموض وضباب، وأن يبقوا خصومهم في ضياع وفراغ، وهم قضوا أكثر من عشرين سنة في جدال، هل ينسحبون من الأراضي المحتلة، عاشوا أكثر من عشرين سنة وهم ما حلوا القضية.

وكذلك فإنهم على استعداد بأن يجعلوا المفاوضات وهيئات التحكيم الدولية والخبراء والمحامين ينشغلون في قضية طويلة، وما شغلهم بقضية طابا التي لا تتجاوز مساحتها ملعب كرة قدم، جعلوا ذلك خصاماً إلى أكثر من عشر سنوات، وبقية المسائل في تعقيدات ومماطالات، وقصة البقرة تكشف لنا طبيعة هؤلاء جيداً.

ولذلك فلا يجوز لمسلم أن يغتر بهم، ولا يظن لحظة واحدة أنهم يحرصون على خيرٍ لنا، أو أنهم يريدون أن يحلوا مشكلة، فإن الله سبحانه وتعالى قد فضحهم في كتابه، وبين لنا طبيعتهم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا شرورهم ومكرهم وأن ينصرنا عليهم، ويخلص المسلمين من شرهم.

والحمد لله رب العالمين.

(18/24)

الأسئلة

(18/25)

تأجير العين المستأجرة وشروط ذلك

السؤال

هل يجوز تأجير المستأجَر؟

الجواب

يجوز إذا كان العقد لا زال ساري المفعول، إذا استأجرت شيئاً يجوز أن تؤجره إذا كان العقد ساري المفعول، وإذا لم يكن عليك شرط؛ لأنه قد يشترط في العقد ألا تؤجر الشيء الذي استأجرته، ثم من الشروط أنه لا يجوز لك أن تؤجره على من يستخدمه أكثر من استخدامك، فمثلاً: لو أجرت شقة على سكن عائلي، لا يجوز لك أن تؤجرها على عشرين عاملاً؛ لأنه معروف أنهم سيستعملونها أكثر من استعمالك، ولو استأجرته سكناً لا يجوز أن تؤجره ورشة.

فإذاً: من شروط تأجير الشيء المستأجر أن تؤجره على من يستخدمه مثل استخدامك أو أقل.

(18/26)

الشعور بالغثيان أثناء الصلاة

السؤال

يأتيني دوار في الرأس أثناء التراويح هل عليَّ خروج أم لا، مع العلم بأني أصلي التراويح كاملة؟

الجواب

إذا أصيب الإنسان بغشيان وغشي عليه -الغشي أقل من الإغماء- لا يجب عليه الوضوء، والإغماء يجب منه الوضوء، لذلك جاء في حديث أسماء في صلاة الكسوف: فغشي عليها وقامت ولم تتوضأ.

لكن لو أغمي عليه وجب عليه الوضوء، على أية حال إذا شعر بدوار لا بأس أن يخرج من الصلاة ويستريح أو يصلي قاعداً.

(18/27)

الرد على من يفسرون القرآن بأهوائهم

السؤال

ما موقفنا نحن المتبعين نهج السلف ممن يحللون القرآن تحليلاً إحصائياً من حيث عدد آياته وحروفه وكلماته وغير ذلك من التحليلات الإحصائية، ومن أقوالهم أن حذف البسملة من سورة براءة أتى لإتمام النسق الإحصائي العددي للقرآن؟

الجواب

في بحث مهم للرد على الدكتور محمد رشاد خليفة نشر في مجلة البحوث الذي تصدرها رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في العدد التاسع على ما أظن، فيه رد من العلماء على هذا الرجل.

فقد ادعى هذا الرجل أن هناك إعجازاً عددياً في القرآن وأن الإعجاز يدور على رقم (19) وأن (بسم الله الرحمن الرحيم) تسعة عشر حرفاً وشرع يحلل ويستنبط ويستخدم الكمبيوتر، فتاه عن التفسير، وذهب في متاهات لا أول لها ولا آخر.

وهذا كلام غير صحيح، فلا يوجد تسعة عشر ولا تسعة وعشرون ولا تسعون، والمسألة كلها خيالات وأوهام، والصحابة كتبوا القرآن ومات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتبين لهم هل سورة البراءة وسورة الأنفال سورة واحدة أم سورتان؟ فلذلك لم يكتبوا بينهما (بسم الله الرحمن الرحيم) ولا القضية هي إتمام النسق الإحصائي العددي، فالعرب أبلغ الأمم، نزل عليهم القرآن، فما حكوا من بلاغة الأعداد هذه شيئاً، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يبين في مزايا رقم (19) شيئاً، ولو كانت القضية بكل هذا الحجم لبينه صلى الله عليه وسلم، فإذاً هذه كلها أوهام وبناء في الهواء.

أيضاً من الذين أشاروا إلى قضايا الأخطار ما يسمى بالإعجاز العلمي كتاب: اتجاهات التفسير في القرن الثالث عشر، والمدرسة العقلية في التفسير للأستاذ فهد الرومي فهما كتابان جديران بالقراءة في هذا الموضوع، فنحن الآن نعيش في عصر طغت فيه الموجة العقلانية، فيريدون أن يحكموا عقولهم بعيداً عن العلم والعلماء في قضايا القرآن وإخضاع الآيات والتحليلات الكمبيوترية والمخبرية ونحو ذلك ليصلوا إلى ليِّ الأعناق من أجل أن توافق النظريات الموجودة عند الغربيين، وهذا طبعاً من آثار الهزيمة النفسية، فإذا وجد إعجاز ظاهر فالحمد لله، {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] لو تأمل جلده وشعره، لو تأمل ما في نفسه، إن الأطباء إذا درسوا التشريح رأوا آيات باهرة، والمعارك التي تدور بين الكريات البيضاء وما يدخل في الجسم من الأشياء الغريبة والجراثيم أو الميكروبات، أشياء عجيبة فعلاً، تسبح الله عندما تراها، لكن أن تقول: الآية تفسيرها كذا، مخالفٌ لتفسير السلف، فهذا ضلالٌ مبين، إن الله قال: تدبروا في الكون وسبحوا الله على ما ترون، ترون عظمته في خلقه، ما قال: فسروا الآيات على المخترعات الحديثة.

(18/28)

حكم صيام من أكل بعد أذان الفجر

السؤال

استيقظت أنا وزملائي أمس في رمضان والمؤذن يقيم صلاة الفجر فأكلنا قليلاً من التمر، فما حكم صومنا بالأمس؟

الجواب

إذا كنتم أكلتم وهو يقيم الصلاة، معنى ذلك أنكم أكلتم بعد الفجر، فمعنى ذلك أن صومكم باطل وأنكم أذنبتم ذنباً عظيماً، فإن ظاهر السؤال يفيد أنكم تسمعون الإقامة، ولذلك فهذا الصيام لا بد من إعادته مع التوبة إلى الله توبة عظيمة؛ لأنه أكل عامداً متعمداً في نهار رمضان.

(18/29)

هجر القرآن

السؤال

هل هاجر القرآن الذي لا يقرؤه كل شهر؟

الجواب

لا يكون هاجراً هجراً مذموماً، وهذه مسألة يتفاوت فيها الناس بحسب ظروفهم وانشغالاتهم، وجاء في الحديث: (اقرأ القرآن في كل شهر) وجاء في أربعين يوماً، لا شك أن الأربعين أكثر من شهر، فإذاً لو قرأه في شهر لا بأس، في أربعين لا بأس، والأفضل هو طريقة الصحابة وأن تكون قراءته في أسبوع.

(18/30)

وقت إفطار الصائم

السؤال

المساجد التي حول البيت بينها فرق دقيقتين بين أولهم وآخرهم، فعلى أيهما أفطر؟

الجواب

على المتوسط، ما دام أن هناك واحد ساعته تقدم وواحد ساعته تؤخر، إذاً خذ الوسط، على أية حال العبرة بغروب الشمس واختفاء القرص، إذا لم تعرف فعند ذلك تأخذ بمتوسط المؤذنين، وإذا علمت أن هذا المؤذن ضابطٌ للوقت حافظٌ له فإنك تفطر على أذانه.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب المختصر في أصول الحديث-الشريف الجرجاني

كتاب : المختصر في أصول الحديث-الشريف الجرجاني بسم اللَّه الرحمن الرحيم الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله أجمعين ...